مقدمة:

تأتي هذه الدراسة بعد مرور أزيد من سبع سنوات على انطلاق حركة 20 فبراير، وهي تسعى بالدرجة الأولى لفتح باب النقاش والبحث حول وضع الحركات الاجتماعية والاحتجاجية في نسق البحث السياسي والاجتماعي، وبخاصة بعد ظهور مزيد من الحركات الاحتجاجية المماثلة، على مستوى اهتماماتها وأشكالها التعبيرية، كان أبرزها، الاحتجاجات القوية التي شهدتها مدينة الحسيمة ونواحيها بشمال المغرب لشهور عديدة منذ تشرين الأول/أكتوبر عام 2016، والمعروفة بأحداث الريف، على خلفية مقتل شاب داخل شاحنة لنقل النفايات وهو يحاول استرجاع بضاعته المصادرة بشكل تعسفي من قبل السلطات. إضافة إلى ما عرفته مؤخراً مدينة جرادة في شرق المغرب في شهر كانون الأول/ديسمبر2017 من احتجاج للساكنة، نتيجة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية المزرية التي يعيشون فيها منذ عقود، ولما تسببه قلة فرص الشغل من مآسٍ للشباب المجبرين على العمل في مناجم بدائية لاستخراج مادة الفحم، غالباً ما تؤدي بحياتهم نتيجة الاختناق بداخلها.

ستتناول الدراسة كنقطة أولى، سياق تحرك حركة 20 فبراير عام 2011، في ظل الوضع الذي كان سائداً وقتها بالمغرب، سواء على المستوى السياسي أو على المستوى الاقتصادي والاجتماعي. وكنقطة ثانية سنناقش بنية الحركة. فرغم  أن حركة 20 فبراير، هي حركة جماهيرية وليست تنظيماً يتحرك وفق قنوات وهياكل مؤسسة، فإنها ملزمة بوضع تصورات سياسية وبرامج نضالية تتحرك وفقها وتحشد الأنصار على أرضيتها، كما أنها تحتاج إلى حد أدنى من التنظيم، بغية تنسيق حركتها وضبط طرق اشتغالها. وهي الترتيبات التي اتخذتها الحركة عبر أوراقها التـأسيسية ومنشوراتها، وترجمه نشطاؤها وأنصارها تنظيمياً في حدود دنيا على صعيد كل مدينة تحت مسمى «مجالس تنسيقيات المدن».

أولاً: سياقات التحرك على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي

لا يمكن الحديث عن أي حركة احتجاجية اجتماعية أو سياسية من دون أن تكون لها بيئة حاضنة، تشكل الأساس الموضوعي لعملية التفاعل العلائقي مع البناء الذاتي للحركة، تكون نتيجته تبلوراً وإفرازاً لديناميات جديدة محدثة أو مكنسة لما هو قديم[1].

دفع حدث وصول الملك محمد السادس للحكم عام 1999، ودخول المغرب قبل ذلك بعام في تجربة سياسية عرفت أو سميت تجربة «التناوب التوافقي»، أو كما يراها البعض بتجربة «التناوب الديمقراطي»، الكثير من المغاربة لعقد الآمال بقطع البلاد مع عهد الاستبداد والتحكم السائد إبان حكم الراحل الحسن الثاني، والسير نحو إرساء دعائم بناء المجتمع الديمقراطي وقيام الدولة المؤسساتية[2].

وقد جاءت تجربة التناوب عبر المشاركة الأولى لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في الحكم، وتنصيب أمينه العام عبد الرحمان اليوسفي، لقيادة الحكومة في 4 شباط/فبراير 1998،  كأبرز الأحزاب المعارضة لنظام الحكم، في نهاية حقبة حكم الملك الحسن الثاني، وقبل بداية عهد الملك محمد السادس بقليل، كتصور جديد للمؤسسة الملكية لتوازنات الحقل الحزبي والسياسي[3]، الذي يُبني أو مفروض فيه أن يبنى كدرجة أولى، على تجاوز وضعيات الجمود والخيارات التصادمية، التي سادت لعدة عقود في عهد مغرب الاستقلال[4].

ساهمت عدة عوامل داخلية وخارجية في انعطاف المغرب نحو ما سمي تجربة التناوب؛ فعلى المستوى الداخلي، أتى ذلك في إطار توافق أو تراضٍ تم التمهيد له منذ بداية التسعينيات بين نظام الحكم والمعارضة، والذي عجَّلت به مجموعة من المعطيات والظروف الداخلية، إذ إن الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتفاقم للمغرب في ذلك الوقت، لم يعد يسمح باستمرار أنماط التسيير السابقة، التي أجمع الكل على أنها أدخلت المغرب في «غرفة الإنعاش»، أو «السكتة القلبية» كما وصفها الحسن الثاني وقتها[5].

على المستوى الخارجي، مثَّل سقوط جدار برلين، المعلن عن نهاية زمن الاستقطاب الدولي بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، دافعاً لأصدقاء المغرب الغربيين وبخاصة الفرنسيين، لحثه على الانفتاح على الإصلاح السياسي والديمقراطي، بعدما كانوا يغمضون أعينهم عن سلطوية نظام الحسن الثاني في مواجهة خصومه السياسيين من المعارضة الاشتراكية، في إطار دعم الأنظمة السلطوية بالمنطقة المدافعة والمنخرطة في مصلحة النظام الرأسمالي وشركاته العابرة للقارات[6].

1 – الوضع على المستوى السياسي: مأزق تجربة التناوب وإشكالية التحول الديمقراطي

قبل انطلاق حركة 20 فبراير 2011، وأثناء المرحلة الممتدة تقريباً منذ بدء تجربة حكومة عبد الرحمان اليوسفي التوافقية وحتى انتخابات 2007 التشريعية، سيشهد المغرب تغييراً ملموساً وإن بشكل نسبي في جميع المستويات، سياسياً وحقوقياً، كما أن الفترة عرفت تحسناً اقتصادياً، عززته مجموعة من المؤشرات والأرقام، إضافة إلى إطلاق مجموعة من المشاريع والمبادرات (مدوّنة الأسرة 2003، إطلاق مسلسل العدالة الانتقالية 2004، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية 2005)[7].

الأمر هذا جعل المغرب، وإن لحين، يتجاوز سكتته القلبية، حيث استطاع النظام السياسي تحت قيادة محمد السادس تقديم نفسه بصورة جديدة للشعب، الباحث والداعم للإصلاح بعيداً من الصورة القاتمة المرسومة عنه أثناء سنوات الجمر والرصاص[8]، وبدأ ينظر إلى الملك كحاكم قريب من نبض وهموم شعبه، حتى صوِّر «كملك للفقراء»[9].

غير أن فرصة تحقيق التحول نحو مسار بناء الديمقراطية، انحرف عن المسار مرة أخرى، نتيجة إهمال الأطراف لأهمية تحديد الفهم الصحيح لموضوع التناوب، ذلك أن موضوعه لم يكن السلطة كما هو شأن التناوب أو الانتقال السياسي في الدول الديمقراطية، لأن هذا الموضوع حسمت فيه المؤسسة الملكية مبكراً بعد الاستقلال وصراعها المحتدم مع المعارضين، حين احتكرت جميع السلط، بل الموضوع تعلق فقط بتحمل مسؤولية الحكومة فقط وفي إطار إشراف الملك[10].

أ – مأزق تجربة التناوب

كان حديث أحد أبرز المعارضين لنظام الحكم، الوزير الأول السابق عبد الرحمان اليوسفي، قائد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومهندس تجربة التناوب التوافقي مع المؤسسة الملكية في السنوات الاخيرة لحكم الملك الراحل الحسن الثاني، في العام 2003 بالعاصمة البلجيكية بروكسيل، اثناء دعوته من طرف الحكومة ومجلس الشيوخ البلجيكيين، لتقييم تجربته الحكومية، وعرض وجهة نظره عن مسار الانتقال الديمقراطي بالمغرب، دالّاً وحاملاً لعدة رسائل، من رجل خبر معترك السياسة ودهاليز صنع القرار بالمغرب لعدة عقود، عندما قال «إن تجربة التناوب التوافقي التي قادها مع حزبه وبعض من المعارضين السياسيين السابقين، وعلق عليها جزء من الطبقات والفئات الشعبية أمالاً كبيرة، لم تؤدِّ إلى التناوب الديمقراطي الذي كان مرجواً منها»[11].

خيبة الأمل هذه الممزوجة بالغضب، التي عبَّر عنها اليوسفي، إنما تعكس المأزق الذي وجدت نفسها فيه الأحزاب السياسية ومكونات من النخبة السياسية المغربية، المؤمنة بأطروحة الإصلاح المتدرج أو «الإصلاح في ظل الاستقرار»، المتعاون مع المؤسسة الملكية، بعد تعيين الملك محمد السادس لإدريس جطو بعد انتخابات 27 أيلول/سبتمبر 2002 التشريعية، وهو غير المنتمي حزبياً، رغم  حصول حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية على الرتبة الأولى[12]، وهذا ما يسمح له وفقاً للمنهجية الديمقراطية، وأسس التوافق السياسي مع الملكية، باستمراره في الحكومة لولاية ثانية، ممثلاً بكاتبه العام اليوسفي أو شخص آخر من داخل الحزب[13].

هذا الشعور ربما لا تتقاسمه بالضرورة المؤسسة الملكية الحاكمة مع شركاء الحكم المفترضين، حيث كانت لها حساباتها المختلفة بلا شك عن رؤية ومتمنيات الأحزاب السياسية، وهي المؤسسة التي أبانت على مر تاريخها، أنها تنفر من مبدأ مشاركتها في الحكم وتقاسم السلطة[14]، فهي شبيهة في رسمها لحدود العلاقة مع التنظيمات والحركات المستقلة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الدينية، لشروحات كارل ويتفوكل لبنية المجتمعات الرعوية[15]، حيث تكون فيها السلطة تتغذى على شعور بأحقية الهيمنة والسيطرة على الجميع، والنظر لأطراف المجتمع كتوابع.

ب – إشكالية التحول الديمقراطي

الوضع السياسي بالمملكة خلال عهد محمد السادس، الذي تجاوز عقداً من الزمن قبل بروز حركة 20 فبراير الاحتجاجية، بمطالبها المنادية بالإصلاح الديمقراطي، وباستثناء السنوات الأولى التي عرفت عدة خطوات ومبادرات في طريق التصالح مع ماضي مغرب الجمر والرصاص وانتهاك حقوق الإنسان، والمتمثلة بالسماح بعودة ورفع الإقامة عن بعض السياسيين المعارضين[16]، وإعفاء وزير داخلية الحسن الثاني إدريس البصري، الذي كان يعَدّ الفاعل السياسي الثاني في النظام السياسي[17]، إضافة إلى تأسيس هيئة للإنصاف والمصالحة 2004 [18]، وإعطاء مفهوم جديد للسلطة[19] سيعرف تراجعاً ملحوظاً باتجاه عودة أساليب الهيمنة والتحكم في الحياة السياسية، حيث سنشهد اتجاهاً نحو إضعاف الأحزاب السياسية والتشكيك في وظيفتها، وإفراغ قيمة الانتخابات من أي مضمون أو محتوى دال على آلياتها الاختيارية[20].

ذلك أن رهان السلطات من الانتخابات وبخاصة في عهد محمد السادس، كان خارجياً بالحفاظ على صورة ديمقراطية تعمل وفق المعايير الغربية مع ملاءمتها الألوان المحلية، وداخلياً بضمان نسبة مشاركة مقبولة، وإن كانت المشاركة ليست مطلوبة في حد ذاتها، أو من أجل تحسين نوعي للمجال السياسي، ولكن بالأساس من أجل شرعنة بناء سياسي متحكم فيه، غير أن نتائج اقتراع 2007، ونسبة المشاركة الضعيفة بخرت هذا الحلم[21].

وإذا كان هذا الوضع السياسي المتردّي تتحمل فيه المؤسسة الملكية الجزء الأكبر، باعتبارها هي صاحبة الحل والعقد، والركيزة الأساس في النسق السياسي برمته، فإن هذا لا ينفي تحمل الأطراف الأخرى – من أحزاب سياسية ونخب سياسية وفكرية وباقي الفاعلين المجتمعيين، من نقابات وجمعيات مدنية – جزءاً من المسؤولية، من جراء تفويتها لعدة فرص للتحول الديمقراطي، وهو ما عبَّر عنه محمد بنسعيد آيت إيدر أحد رموز الحركة الوطنية[22].

ويمكن القول إن مسار الإصلاح الذي روّج منذ أواخر حكم الحسن الثاني، كان التحول الديمقراطي الزائف، حيث أسس لمرحلة التناوب المسدود مع حكومة عبد الرحمان اليوسفي، لتيسير انتقال العرش للوريث الجديد، قبل أن ينطلق عهد التحول الديمقراطي المجمد مع حكم محمد السادس، وكلها نماذج لوصف دايفيد هيلد (David Held)  لأبعاد التحول الديمقراطي، عندما تكون سيرورات الانتقال ملتبسة من نظام سلطوي إلى آخر ديمقراطي[23].

وقد ظهرت مؤشرات هذا المسار أكثر فأكثر بعد انتخابات 7 أيلول/سبتمبر2007 التشريعية والانتخابات الجماعية 12 حزيران/يونيو 2009، سواء في حجم العزوف أو في ظهور حزب وليد من رحم السلطة (الأصالة والمعاصرة 2008)، واحتلاله الرتبة الأولى في الانتخابات الجماعية  2009 [24]. انعكس هذا الوضع على صورة المغرب في جدول تصنيفات المنظمات الدولية المهتمة بالديمقراطية لعام 2010؛ فوفق «مبادرة تصنيف الديمقراطية العالمية» (Global Democracy Ranking) التي يوجد مقرها بالعاصمة فيينا، كان المغرب في الرتبة 90 خلف دولة كينيا والموزمبيق، بمجموع 43 نقطة من أصل 104 دول توافرت فيها معطيات وسمحت السلطات فيها بالبحث، بينما كانت تونس تحت حكم نظام زين العابدين بن علي قبل سقوطه، تحتل الرتبة 85 متقدمة 5 مراتب على المغرب وبمجموع 45.8 نقطة. وهو التصنيف الذي تبنيه المنظمة على مجموعة من المؤشرات: سياسية مرتبطة بطبيعة النظام السياسي الحاكم ودرجة قبوله بتنظيم انتخابات حرة ومستوى احترامه للحريات والحقوق، إضافة إلى مؤشرات أخرى متعلقة بالمساواة وشفافية النظام الاقتصادي وجودة التعليم والخدمات الصحية وتوافر بيئة سليمة[25].

كما أن تصنيف المغرب وفق مؤسسة «ذي إيكونوميست إنتيليجنت يونيت»(The Economist Intelligence Unit) البريطانية المعروفة، كان في الرتبة 116 بمعدل 3.79/10 نقطة، من أصل 167 دولة، خلف موريتانيا في الرتبة 115 وقبل الأردن الرتبة 117، بينما وضعت تونس في الرتبة 144 بمعدل 2.79/10 نقطة، وهي الرتب التي تضع كافة أنظمة هذه الدول العربية الأربع في خانة الأنظمة السلطوية، قياساً على عدد من المؤشرات (نسبة الانفتاح، مسار الانتخابات وتوافر التعددية، تفعيل دور الحكومات، نسبة المشاركة السياسية، انتشار الثقافة السياسية، احترام الحريات المدنية)[26].

وإذا كانت ملحاحية مطلب الإصلاح السياسي لبنية نظام الحكم، ولتموقع المؤسسة الملكية في النسق السياسي المغربي، محور الصراع الذي طبع مرحلة حكم الحسن الثاني بعقودها التي قاربت الأربعة مع الأحزاب السياسية المعارضة، فإن عهد الملك محمد السادس شهد خفوت هذا المطلب مقابل صعود الاحتجاجات، المرتبطة بغلاء الأسعار ومشاكل التعليم والصحة. فطوال عشر سنين أو أكثر من حكمه، تجنب في خطاباته المتعددة والمتنوعة، الخوض مباشرة في موضوع الإصلاح السياسي والدستوري[27].

لكن مطلب الإصلاح السياسي والتغيير الديمقراطي سيكون العنوان الأبرز والفارق لحركة 20 فبراير، التي استطاعت لأول مرة، وعلى غرار معظم الحركات الاجتماعية التي اجتاحت عدة بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أن تضم مزيجاً من التوجهات الأيديولوجية والسياسية المختلفة، التي توحدت فقط في معارضتها للحكم السلطوي بمختلف تجلياته، إذ إلى جانب الشعارت والمطالب المنادية بالعدالة الاجتماعية وبحق الحصول على خدمات في مجال الصحة والتعليم والسكن، كان مطلبهم الأول والجوهري مرتبطاً بالمسألة السياسية وبضرورة وضع دستور ديمقراطي، يستند في أساسه إلى الشعب وإلى استقلال القضاء وفصل السلطات. فقد ردد المتظاهرون شعار «الملك يسود وما يحكم»، كما طالبوا بالفصل الواقع بين قطاع الأعمال والسلطة[28].

2 – الوضع الاقتصادي والاجتماعي: اجتماع المال بالسلطة وغياب التنمية

تراجع المغرب، أو بالأحرى عدم إحرازه أي تقدم، على مستوى القطع مع ماضي دولة غياب القانون والمحاسبة، تجلت أيضاً في حجم انتشار ظاهرة الفساد، المتجلي في أرقام الرشوة والمحسوبية وعدم الشفافية في تدبير الموارد الاقتصادية والمالية؛ فعشية انطلاق الحراك الشعبي، وحسب مؤشرات منظمة الشفافية العالمية، لعام 2010، كان المغرب يحتل الرتبة 85 من أصل 187 بلداً، وبمعدل ضعيف نسبته 3.4/10 [29]. على الرغم من أن الملك محمد السادس، ومنذ اعتلائه العرش عام 1999 وحتى خطابه في 9 آذار/مارس 2011، ما انفك يطالب بتخليق الحياة العامة[30].

أ – اقتصاد المغرب وإشكالية الجمع بين المال والسلطة

كانت معادلة التخلص من شبح السكتة القلبية في العقد الأخير من حكم الملك الراحل الحسن الثاني (1989-1999)، مرتبطة بممارسة الدولة المغربية بنزعة الانتقال من ليبرالية مقنعة إلى ليبرالية أكثر وضوحاً، عبر نهج سياسة الخوصصة عام 1993، كخيار يؤطر السياسة الاقتصادية للبلاد وتوجه يرسم نموذجها التنموي، إلى حد أضحت معه هذه السياسة مكوِّناً أساسياً للفلسفة الاقتصادية للنظام السياسي[31].

سياسة تفويت القطاعات والمؤسسات العمومية للقطاع الخاص، التي رُوّجت رسمياً ومن جانب المؤيدين، باعتبارها الإجابة والحاجة الضرورية لحفظ التوازنات الماكرو اقتصادية للاقتصاد المغربي، بعد بروز جملة من المؤشرات الاقتصادية لفشل سياسة برنامج التكيُّف الهيكلي (1983-1993) في تحقيق النمو، وهو الفشل الذي اعترفت به المؤسسات المالية الدولية الحاثة عليه، قبل أن يؤكده الملك الحسن الثاني كرئيس للدولة والمسؤول الأول عن سياسة البلاد وقتها، في خطابه أمام البرلمان عام 1995 [32]، مرت بمرحلتين من حيث الصعود والنزول، وإن أخذت منحى واحداً سمته الأبرز: بقاء الاقتصاد المغربي حبيس منوال تنمية يخلط بين السلطة وتحقيق المنافع الاقتصادية، في مقابل تهميش الأغلبية.

(1) مرحلة الصعود: تمكنت الدولة المغربية بفضل سياسة الخوصصة والانفتاح على رأس المال الوطني والدولي، من تحقيق مجموعة من المكاسب الاقتصادية، وبخاصة بعد وصول الملك محمد السادس إلى الحكم عام 1999، وهو ما ترافق ونهجه في سياسة فتح وتسريع تجهيز البلاد ببنى تحتية حديثة واستقطاب للخبرات والتكنولوجيا المتقدمة، عبر وضع عدة مخططات ومبادرات استراتيجية لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية، التي بلغت مستوى قياسياً عام 2001 (33267.8 مليون درهم)، مقارنة بالتسعينيات الموالية لإطلاق سياسة الخوصصة، احتل المغرب بموجبها الرتبة الثانية بالقارة الأفريقية من حيث نسبة استقبال الاستثمارات الأجنبية، وفق أرقام تقرير للأمم المتحدة للتجارة والتنمية بالقارة الأفريقية[33].

استمر جنْي الاقتصاد المغربي للمكاسب حتى حدود عام 2009، أي بعد عام  من الأزمة الاقتصادية العالمية 2008، التي هزت الأسواق الدولية، وبخاصة السوق الأوروبية الشريك التجاري الأول والرئيسي للمغرب، إذ سجل الاقتصاد خلال هذه السنوات 1998-2008 نسبة نمو بلغت في المتوسط 4.4 بالمئة بعد أن كانت لا تتجاوز نسبة 2.4 بالمئة، في فترة العشرية السابقة 1988-1998، وارتفع الطلب الداخلي بمتوسط بلغ 5.1 بالمئة عوضاً من 2.4 بالمئة، كما انتقل معدل الاستثمار العام من 24.8 بالمئة عام 1999 إلى 32.6 بالمئة عام 2009، وسجلت نفقات الاستهلاك للأسر ارتفاعاً بـ 4.3 بالمئة كمتوسط سنوي، كتعبير عن تحسن القدرة الشرائية[34].

ساهم النمو في الاستثمارات الأجنبية وارتفاع مداخيل الدولة من بيع الفوسفات، الذي تضاعف ثمنه أكثر من ثلاث مرات في الفترة 2003-2009، في قدرة الدولة على رفع نسبة الاستثمار العمومي، وهو ما أثر في تطور وتيرة ولوج السكان إلى الخدمات الاجتماعية الأساسية، حيث تم تعميم الولوج لخدمات الكهرباء والماء في الوسط الحضري، إذ انتقلت النسبة من 9.7 بالمئة عام 1994 إلى 83.9 بالمئة عام 2009 عن الكهرباء، ومن 14 بالمئة إلى 90 بالمئة عن الماء الصالح للشرب. وفي مجال التعليم انتقل المعدل الصافي لتمدرس الأطفال المتراوحة أعمارهم بين 6 و11 عاماً من 52.4 بالمئة إلى 90.5 بالمئة عام 2009 على المستوى الوطني، وانتقل معدل الفقر النسبي من 16.3 بالمئة عام 1998 إلى 8.8 بالمئة، في هذه الأعوام عرفت نسبة البطالة انخفاضاً كذلك من 13.4 بالمئة إلى ما يقرب من 9 بالمئة وإن بقيت مرتفعة في صفوف حاملي الشهادات الجامعية العليا بمعدل تجاوز 16 بالمئة في عام 2008 [35].

(2) مرحلة النزول: هذه المعطيات والأرقام الإيجابية نسبياً للوضع الاقتصادي بالمغرب، مقارنة بالثمانينيات والتسعينيات، وهي العقود التي عاشت فيها البلاد على وقع الانتفاضات والحركات الاحتجاجية ذات المطالب الاجتماعية، كانت قد جعلت من البعض يظن أن المغرب في طريقه إلى التحول إلى بلد بازغ، متجاوزاً أزمته الاقتصادية البنيوية كما هي اقتصادات البلدان المرتبطة بالدوائر المالية العالمية[36]. لكن انفجار الأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، سرعان ما أسقط هذه الأوهام[37]، وكشف عن هشاشة الوضع الاقتصادي، حيث انخفض الطلب الخارجي على المواد الأولية ونصف المصنعة، وتراجعت الاستثمارات الأجنبية ومداخيل السياحة وتحويلات المغاربة بالخارج، الوضع الذي عمَّق العجز في ميزان الأداءات وزاد عجز الميزانية العامة، أمام ارتفاع مصاريف صندوق المقاصة وتغطية فوائد الدين العام الخارجي، الذي بلغ نسبة 15 بالمئة من الناتج الوطني الخام عام 2010 [38]. كل هذا في ظل اقتصاد يفتقر إلى شروط المنافسة والشفافية، وذلك لاعتبارين:

الأول، هيمنة القطاع الفلاحي ذي الارتباط بتساقط الأمطار، وتضخم في نسبة الأنشطة غير المنتجة والأعمال المضاربية والقطاعات الضعيفة التحويل، حيث بلغت نسبة قطاع الفلاحة والخدمات والبناء والأشغال العمومية ما مجموعه 69.2 بالمئة من حجم الناتج الداخلي الخام كمتوسط خلال الفترة 1999-2014، مقابل تسجيل تراجع في القطاعات ذات المردودية كقطاع الصناعة والمناجم والطاقة بنسبة 21 بالمئة خلال نفس الفترة[39].

الثاني، التداخل بين مواقع السلطة والمال، فإذا كان الاقتصاد التونسي في عهد بن علي يوصف باقتصاد رأسمالية النسايب والأقارب (Capitalisme de Copinage)[40]، فإن اقتصاد المغرب يمكن تسميته رأسمالية البلاط (Capitalisme de cour)[41] فمنذ انتصار مشروع القصر الملكي لمغرب ما بعد الاستقلال، بعد إسقاط تجربة حكومة عبد الله إبراهيم في عام 1960، وما تلاها من هيمنة للمؤسسة الملكية على الاقتصاد والسياسة، أصبحت هذه الأخيرة الفاعل الاقتصادي الرقم واحد في البلاد[42]، مع ما رافق هذه الهيمنة من ضرر على الاقتصاد ودرجة تدبيره للقطاعات الاستراتيجية ومن سيادة لروح التنافس والشفافية، بعيداً من سياسة الاحتكار وتبذير الموارد والإمكانيات لفائدة شركات ومجموعات اقتصادية جنت الأرباح الخيالية [43]. فقد كشفت سياسة الخوصصة للدولة وخلافاً لهدفها المعلن بالحد من الاحتكارات وخلق شروط المنافسة، أن العديد من الشركات والمقاولات التي تعود للأسرة الملكية وللمقربين منها، كمجموعة أونا (ONA) التي أصبحت تحمل اسم الشركة الوطنية للاستثمار (SNI) منذ عام 2010 والبنك التجاري المغربي الذي أصبح اسمه منذ عام 2003 التجاري وفا بنك، والبنك المغربي للتجارة الخارجية لصاحبه الملياردير عثمان بنجلون وبتحالف مع الرساميل الأجنبية، هي التي استفادت من تفويت معظم المقاولات والمؤسسات العمومية المحورية في الاقتصاد الوطني[44].

 

ب – الوضع الاجتماعي ومؤشرات التنمية الغائبة

أمام الأزمات الاقتصادية والمالية التي عرفها المغرب تاريخياً، واسمراراً لمنوال التنمية نفسه، المتماهي مع شروط المانحين الدوليين (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، باعتبارهم من الادوات الحقيقية لسيطرة رأس المال الصامتة حسب تعبير نورينا هيرتس (Nourina Hertz)، على سياسة الدول المنخرطة في السوق الدولية وعولمة التجارة[45]، لجأت الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال إلى مزيد من السياسات الليبرالية وحزمة من الإجراءات التقشفية، مستهدفة الطبقات الاجتماعية الأكثر فقراً وهشاشة (أكثر من 5 ملايين مغربي يعانون الفقر المدقع والهشاشة حسب الأرقام الرسمية أواخر عام 2010 والأول من عام 2011)[46]، والفئات والأسر المتوسطة الدخل (حسب أرقام المندوبية السامية للتخطيط لعام 2007، تبلغ هذه الفئات اكثر من 50 بالمئة من السكان، وهي تضم كل من يفوق دخله 3500 درهم).

كل هذا في مقابل ازدياد في نسبة الفئات والأسر الغنية والأكثر غنى (تبلغ نحو 13 بالمئة من السكان)، نتيجة ارتباطها وقربها من مراكز القرار ودوائر الحكم، وهذا ما يؤكده ارتفاع مؤشر جيني للفوارق في توزيع نفقات استهلاك الأسر الذي انتقل من 0.397 عام 1985 إلى 0.407 عام 2007، وفي ارتفاع حصة الـ10 بالمئة الأكثر يسراً في مجموع نفقات الأسر من 31.7 بالمئة إلى 33.2 بالمئة من نفس الفترة، بينما ظلت حصة الـ10 بالمئة الأقل يسراً في حدود 2.6 بالمئة، كما ارتفعت  نسبة الأسر التي تقل نفقاتها عن المعدل الوطني من 65.4 بالمئة إلى 68 بالمئة من الفترة ذاتها[47].

هذه الأرقام حول استهلاك وتوزيع الأسر، ربما لا تعطي الصورة الكلية عن حجم التفاوت الاجتماعي وما عرفته من اتساع بين الأغنياء والفقراء، خلال السنوات السابقة على ظهور حركة 20 شباط/فبراير، ومن قبلها من تفجر لحركات احتجاجية ذات المطالب في تحسين المعيشة وإيجاد فرص للشغل بمدينة صفرو عام 2007 وسيدي إفني عام 2008، وعدة مناطق أخرى خلال عامي 2009 و2010 [48]، في غياب معطيات عن توزيع الدخول (Revenus) والأصول (Patrimoines)[49]، أو بالنظر إلى أرقام ومعطيات المنظمات والهيئات الدولية بعيداً من الأرقام الحكومية الرسمية.

فحسب دليل التنمية البشرية وعناصره، الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لعام 2010، جاء المغرب في الرتبة 114 من أصل 163، وضمن خانة البلدان ذات التنمية البشرية المتوسطة، مقارنة مع تونس التي جاءت في الرتبة 81 والجزائر في الرتبة 84 والمصنفين في خانة البلدان ذات التنمية البشرية المرتفعة، حيث كان نصيب الفرد في المغرب من الدخل القومي 4628 دولاراً مقابل 7979 دولاراً و8320 دولاراً في تونس والجزائر توالياً[50].

ودائماً مع أرقام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، الذي يعتبر أكثر صدقية مقارنة بغيره من المؤسسات والهيئات الدولية، في بحث نشره حول دليل الفقر المتعدد الأبعاد في الحقبة  2000-2008، كانت نسبة المغاربة الذين يعانون فقراً متعدد الأبعاد تناهز 28.5 بالمئة من مجموع السكان مقابل 2.8 بالمئة في تونس، ونسبة الذين يعانون شدة الحرمان 48.8 بالمئة مقابل 37.1 بالمئة بتونس، 36.4 بالمئة من الحرمان في مرفق التعليم و31.5 بالمئة في مرفق الصحة و21.4 بالمئة في مستوى المعيشة، مقارنة بأرقام 1.1 بالمئة و13.1 بالمئة و6.9 بالمئة من الحرمان في ذات المرافق بالنسبة إلى التونسيين[51].

تتبع مسار المخططات الاقتصادية بالمغرب والمنطلقة منذ أواسط التسعينيات مع سياسة الخوصصة، التي أخذت منحى تصاعدياً وأكثر انفتاحاً على رأس المال الخاص الدولي والمحلي، وبمقاربة جديدة في عهد حكم الملك محمد السادس، باستهدافها خلق البنى التحتية لاقتصاد تنافسي وجاذب للاستثمارات، القادر على تحسين الوضعية الاجتماعية للفئات والطبقات العريضة من الشعب المغربي، وبخاصة الفئات الأكثر فقراً وحرماناً، يوضح وبالأرقام والمعطيات، أن ثمارها كانت مؤقتة ومحدودة في تحسين مستويات التنمية البشرية، من جودة في التعليم والخدمات الصحية وفي القضاء على مدن الصفيح وخلق مناصب شغل جديدة، مقارنة باتساع قاعدة الساكنة النشيطة والحد من التفاوت الطبقي الذي اتسع أكثر، بالرغم من الأموال الضخمة المخصصة لمشروع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية[52].

تشريحنا للوضعية الاقتصادية والاجتماعية للمغرب قبل الحراك الشعبي الذي أطلقته حركة 20 فبراير، والذي كان سيئاً، لا يعني تجاوز التحسن الملحوظ في البنية التحتية للمغرب، وفي نسبة انتشار الأمية وهي التي انخفضت حسب الأرقام الرسمية، من نحو 50 بالمئة عام 1998 لحدود 28 بالمئة عام 2009، وفي نسبة تزويد السكان بالكهرباء والماء سواء في المدن أو البوادي، إذ انتقلت النسبة من 9.7 بالمئة في العام 1994 إلى 83.9 بالمئة عام 2009 للكهرباء، ومن 14 بالمئة إلى 90 بالمئة للماء الصالح للشرب[53].

ثانياً: حركة 20 فبراير: التشكيل والحشد والتنظيم

أخذت حركة 20 فبراير مساراً تسلسلياً وزمنياً في تشكلها، انطلق بداية بمرحلة طرحت فيها مجموعات شبابية على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة الفيسبوك، مجموعة من التصورات والمطالب للحركة المزمع إطلاقها[54]، تلاها مرحلة التشكل التي تمت فيها عملية فرز بين القوى والتنظيمات المجتمعية الملتحقة والداعمة للحركة، وبين نظيراتها المشككة أو المناهضة للحركة. هذه المرحلة كانت مثلت المدخل لمعرفة وقياس حجم التفاعل الشعبي مع الحركة المحتجة ومطالبها المرفوعة، وكمرحلة ثالثة تمت صياغة هذه التصورات والمطالب في شكل وثائق وأوراق[55].

1 – التشكل والحشد

أ – مرحلة التشكل

بعد ظهور مجموعات الشباب الداعي لإطلاق الحركة الاحتجاجية 20 فبراير، أسوة بنظرائهم في تونس ومصر، ومع اتساع تداول الوثائق ونقاشها في المجال الافتراضي، التحقت مجموعات شبابية تنتمي إلى منظمات سياسية وحقوقية مهيكلة بالدعوة للتظاهر[56]، إضافة إلى ضم الحركة طلبةً وخريجين جامعيين[57]، وبعض من الشباب المنتسب إلى حزبي العدالة والتنمية والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، بالرغم من موقف قيادة حزبيهما المناهض للحركة الاحتجاجية[58].

كل هذا كان بعيداً وبمعزل عن المؤسسات التقليدية، مثل الأحزاب والنقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وهذا ما يفسر انتقاد شباب الحركة لأغلبية الأحزاب والتنظيمات النقابية والمدنية ورفض وصايتهم، في العديد من مسيراتهم وشعاراتهم المرفوعة، باعتبارهم مساهمين ومشاركين للنظام السياسي في الوصول بالمجتمع لحالة التردي المعاشة[59].

إن إصرار حركة 20 فبراير على التحرك خارج الأطر الحزبية والنقابية السائدة، هو ما يميزها عن مختلف الحركات الاحتجاجية والانتفاضات الحضرية التي عرفها المغرب الحديث، (1965، 1981، 1984، 1991)[60]، ويضعها ضمن الأطر النظرية المفسرة للحركات الاجتماعية، كما أن تأطير المطلب السياسي لما هو اجتماعي واقتصادي، هو ما يجعلها متقدمة على الحركات الاحتجاجية المطلبية العديدة التي ظهرت في شوارع المدن وساحاتها بعد التسعينيات من القرن الماضي[61]، ممثلة بحركة المعطلين أصحاب الشهادات الجامعية، وكذلك في حركات الاحتجاج الاجتماعية المنتشرة بعدة مدن وقرى، المطالبة برفع الحكرة والتهميش، وتحسين الولوج للخدمات الصحية والتعليمية والحصول على سكن لائق[62].

وقد كانت أعمق وأقوى موجات الاحتجاجات هاته، ما شهدته مدينة صفرو عام 2007 وسيدي أفني عام 2008، ومن قبلها الاحتجاجات المناهضة لغلاء الأسعار وفواتير استهلاك الماء والكهرباء، التي نظمت تحت مسمى التنسيقيات المحلية لمناهضة غلاء الأسعار منذ عام 2006 [63]، والتي كانت بدايتها عام 2005، بمدينة بوعرفة بالجنوب الشرقي للمملكة، حيث رفض السكان تأدية فواتير الماء والكهرباء، وهددوا أكثر من مرة برحيل جماعي نحو الجزائر المحاذية لحدود المنطقة[64].

ب – مرحلة الحشد

من خلال التتبع لمسار حركة 20 فبراير، منذ انطلاقتها وعلى مر التموجات والمحطات التي مرت بها لأزيد من سنتين من عمرها الاحتجاجي، وبخاصة في المدن التي كانت فيها الحركة أكثر دينامية واستمرارية (طنجة، الدار البيضاء، بني بوعياش…)، نلاحظ أن الحركة عاشت ومرت بمرحلتين بارزتين:

المرحلة الأولى، يمكن تسميتها بمرحلة جذب الانتباه، وقد بدأت هذه المرحلة في اليوم الأول من الاحتجاج، حيث خرج أزيد من  120 ألف مغربي في مسيرات جابت 53 مدينة وقرية[65]، ليتسع جذب وانتشار حركة 20 فبراير، بخروجها في أكثر من 100 مدينة وقرية مغربية أسبوعياً ولعدة أشهر، مع ما سجلته الحركة من فارق في النسب بين المدن وفي مختلف المحطات[66].

المرحلة الثانية التي تسمى مرحلة الحشد، فهي تلك المرحلة أو المحطة التي دخلت فيها حركة 20 فبراير، عبر نشطائها على صعيد كل مدينة في وضع البرامج النضالية الأسبوعية، مع ما يستلزمه هذا العمل من ترتيبات تنظيمية وجهود تعبوية وطرق للحشد في أحياء المدن وساحاتها، وهذا ما جعل من دينامية الحشد والتعبئة تنعكس على حجم التظاهرات والمسيرات تبعاً لكل مدينة ووفقاً لكل محطة نضالية، ذلك أن مدناً معينة كمدينة طنجة وبني بوعياش في الشمال ومدينة الدار البيضاء كبرى مدن المغرب، سجلت أعداداً كبرى للمتظاهرين (أزيد من 150 ألف متظاهر)، مقارنة بالمدن الأخرى، وبخاصة في محطات 20 شباط/فبراير (في 53 مدينة) و20 آذار/مارس (في 63 مدينة) و24 نيسان/أبريل (في 110 مدن) و15 أيار/مايو (في 30 مدينة) و22 أيار/مايو (في 100 مدينة) و5 حزيران/يونيو (في 80 مدينة) و12 حزيران/يونيو (في 40 مدينة) من العام 2011 [67].

إن قراءة أولية للأرقام أعلاه تكشف أن اتجاه تطور التظاهرات والاحتجاجات حصل على نحوٍ تصاعدي منذ أول يوم احتجاج وحتى يوم 15 أيار/مايو، حيث إن عدد المدن التي نظمت مسيرات بدأ في النزول إلى حدود 30، ثم عاود الصعود من جديد إلى  100 مدينة في 22 أيار/مايو، قبل أن تعاود النزول من جديد إلى 80 مسيرة يوم 5 حزيران/يونيو، وإلى نحو 40 مدينة يوم 12 يونيو، وهي المحطة التي كانت معبأة بدعوة «رفض الدستور الذي كان يطبخ في دهاليز القصر الملكي»، ولمطالبتها «بمجلس تأسيسي لوضع دستور جديد»[68].

2 – قراءة في بعض تجارب الحركة على المستوى التنظيمي

استكمالاً للبحث حول حركة 20 فبراير، وبعد أن قمنا بدراسة الجوانب النظرية والسياسية، كان لزاماً علينا أن نتطرق إلى الجانب التنظيمي للحركة، كعمل يهدف إلى معرفة طرائق اشتغال وتحرك الناشطين للتحضير للفعل الاحتجاجي، هذا العمل الذي وجدنا فيه صعوبة في الحقيقة، نظراً إلى أن الحركة ليست تنظيماً يتحرك وفق قنوات وهياكل مؤسسة، بل هي حركة جماهيرية، ودينامية مجتمعية، تسمح لكل فرد أو جماعة الانخراط والنضال من داخلها، بما يتمشى مع أهدافها.

ما تقدم جعلنا نلجأ إلى طرائق البحث الميداني[69]، عبر إجراء مقابلات نصف موجهة مع بعض الناشطين والمتتبعين لمسار الحركة منذ انطلاقاتها، إضافة إلى التواصل الإلكتروني مع بعض نشطاء الحركة في كل من مدينة الدار البيضاء وطنجة، عبر إرسال استبيان مكون من أسئلة تغطي مختلف جوانب اشتغال الحركة داخل هذه المدن[70].

وقد اخترنا أن نعمل على دراسة تجربة الحركة على المستوى التنظيمي، بالتعاطي مع تنسيقية الرباط، ومع تنسيقية الحركة بمدينة الدار البيضاء، وتنسيقية مدينة طنجة، ولعل السبب في اختيار هذه النماذج، يعود إلى الأسباب التالية:

تنسيقية الرباط، كونها تشتغل في عاصمة البلاد، حيث المركز السياسي، والحضور الإعلامي والمؤسسي، لجهة تخاطب الحركة مع صناع القرار.

تنسيقية الدار البيضاء، لتحركها وسط أكبر الحواضر ديمغرافياً واقتصادياً في البلاد، ومن هذه المدينة خرجت مجمل الانتفاضات، التي عرفها المغرب في تاريخه المعاصر.

تنسيقية الحركة بمدينة طنجة، كانت هذه المدينة وعلى مر تاريخ المحطات الاحتجاجية لحركة 20 فبراير، تعرف أكبر حضور من حيث أعداد المشاركين.

حركة 20 فبراير والحد الأدنى من التنظيم

بهدف مواكبة حركية الجماهير وضبط ممارسة النشطاء والمتعاطفين، وبما يميزها من الإطارات التنظيمية كالأحزاب والنقابات من جهة، وبما يجعلها تختلف عن الحركات الاحتجاجية والاجتماعية التي عرفها المغرب في السابق، العفوية والقصيرة الأمد، أو ذات المطالب الفئوية والمحدودة مناطقياً وجغرافياً، لجأت حركة 20 فبراير إلى ما يسمى الجمع العام، وهو يمثل هيئة أو برلماناً للحركة، يحضر فيه كل النشطاء والمناضلين المؤمنين بمطالب الحركة، وفيه يتم رسم التوجهات والمبادرات وتتخذ فيه كل البرامج والخطط النضالية عبر التوافق، وفق برنامج غالباً ما يكون أسبوعياً يبدأ من يوم الاثنين وينتهي يوم الأحد[71].

شكلت حركة 20 فبراير، من أجل تفعيل المبادرات والبرامج النضالية للحركة، مجموعة من اللجان الوظيفية، اختلفت من تنسيقية لأخرى، لكنها في أغلبها كانت تتمحور حول خمس لجان، هي:

لجنة المالية: مهمتها كما يدل اسمها هي جمع المال  وضبط الحسابات، والموافقة والإشراف على نفقات مختلف اللجان، ومتابعة كل ممتلكات الحركة. اللجنة ملزمة بتقديم تقاريرها المالية للجمع العام للحركة بهدف مراقبة المالية والموافقة عليها[72].

لجنة اللوجيستيك: تهتم بإعداد وطباعة كل اللافتات والمطبوعات الدعائية التي تحتاج الحركة إليها، إضافة إلى شراء وصيانة مكبرات الصوت وجميع الأدوات والمعدات الكفيلة بإنجاح سير التظاهرات وتغطية حسن سير اشتغال الحركة ونشطائها.

لجنة الشعارات: تقوم هذه اللجنة بتلقي الشعارات المقترحة من طرف المناضلين ومختلف الناشطين والمتعاطفين مع الحركة، ومن بعد يتم نقاشها وتحسينها وضبطها كتابياً، بهدف انتقاء المناسب والمتوافق منها مع الأرضية التأسيسية لحركة 20 فبراير وبما يصب في أهدافها ومطالبها، على أن تتم المصادقة على المقبول منها وتقديم المختلف بشأنها للجمع العام لمناقشتها. ويحق للجنة الشعارات رفض كل الشعارات التي لم يتم المصادقة والقبول بها أثناء سير المسيرات وخلال مختلف تجمعات الحركة، كما أنها تلزم كل من يريد أن يرفع الشعارات خلال التظاهرات، أن يقدم شعاراته مكتوبة قبل السماح له برفعها. وفي حال توافرت لدى أي متظاهر اقتراحات لشعارات جديدة، فالحركة في نهاية المطاف حركة جماهيرية وهي ملك لكل من يدافع عن مطالبها وأهدافها.

لجنة الإعلام: تسهر هذه اللجنة على نشر كل ما يقرره أو يوصي بنشره الجمع العام للحركة، لنقله للجماهير وللرأي العام، وذلك عبر كل الوسائل المتاحة، من بيانات وبلاغات، وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، ومختلف المواقع الإلكترونية والجرائد والمجلات الورقية.

لجنة اليقظة: تحرص هذه اللجنة على حسن التنظيم وسلامة المشاركين في مختلف أنشطة وتجمعات وتظاهرات الحركة، وتضم هذه اللجنة مجموعة من الفرق والمجموعات لا تتجاوز في الغالب خمسة أفراد من نشطاء الحركة، يتوزعون على مختلف جنبات المسيرات والتجمعات الجماهيرية حرصاً على سلامة المتظاهرين، وتفادياً لدخول بعض المندسين الذين يريدون إثارة الشغب والإساءة إلى صورة الناشطين والمتظاهرين، وهم في الغالب يتحركون وفق أجندة تابعة لأجهزة الاستخبارات أو بعض الأطراف المعادية لحركة 20 فبراير[73].

لجنة الابداع: كانت هذه اللجنة تواكب مختلف الأفكار والمبادرات التي تبتكر أشكالاً تعبيرية وفنية، أو تأتي باقتراحات وأساليب نضالية جديدة ومعبرة، قصد النهوض بها وتقديم الدعم والتشجيع لها، بهدف تقديمها في مختلف أنشطة الحركة سواء في التظاهرات أو في الساحات العمومية، وقد برزت هذه الأشكال الإبداعية التعبيرية أكثر بمدينة الرباط والدار البيضاء[74].

لجنة التنسيق: ومسؤوليتها هي التنسيق بين المجلس الوطني لدعم الحركة، ومختلف اللجان التابعة للحركة، وكذلك السهر على نقل قرارات الجمع العام لأعضاء المجلس الوطني لدعم الحركة، بهدف الاطلاع على التوجهات العامة لسير الحركة وللالتزام والامتثال ببرامجها النضالية، والحرص على توفير كل وسائل الدعم لإنجاح أنشطة ومسيرات الحركة[75].

خاتمة

إن حركة 20 فبراير جاءت نتيجة عجز وضعف الأحزاب السياسية ونخب المجتمع التقليدية، وبعد إدراك كثير من الفاعلين والنخب أن تحقيق مهام التحول الديمقراطي، هو رهين بخلق ميزان قوى جديد من داخل المجتمع، كعامل ضاغط وداعم لجعل النظام السياسي يقدم على تلبية مطالب المحتجين ويحقق تطلعاتهم.

ترى هذه الدراسة أن مخرجات النظام السياسي الدستورية والسياسية (الإصلاح الدستوري لفاتح يوليوز2011، انتخابات تشريعية مبكرة يوم 25 تشرين الثاني/نوفمبر من نفس العام)، صحيح أنها استطاعت تحقيق نجاح نسبي، تمثل بلجم وكبح تطور الحركة الاحتجاجية، وتدبير موجة الربيع العربي بأقل الخسائر، كخطوات تفاعلية منه مع مدخلات البيئة المجتمعية، التي أفرزها الشارع المحتج والمتمثلة بالمطالب المرفوعة من حركة 20 فبراير. لكنها تؤكد أن هذا النجاح سرعان ما سوف يتبدد أمام ظهور مزيد من الحركات الاحتجاجية، ذات المطالب المتعلقة بالتنمية والعدالة الاجتماعية والمناطقية، أو تلك الساعية لتحقيق مطلب الإصلاح السياسي والبناء الديمقراطي، ما دامت نفس الشروط الموضوعية المرتبطة بالمحددات الاقتصادية والاجتماعية للظاهرة متوافرة، وما دامت قضايا الإصلاح السياسي وتحقيق التحول الديمقراطي تجري بعيداً من قناعات واهتمامات الممسكين بالسلطة.

 

قد يهمكم أيضاً  من الاحتجاج على “التسلط” إلى “سلطة” الاحتجاج: حالة المغرب

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المغرب #الاحتجاج_السياسي #المظاهرات_الشعبية_في_المغرب #حركة_20_فبراير #الربيع_العربي #الاقتصاد_المغربي #الوضع_الاجتماعي_في_المغرب #تشكيل_حركة_20_فبراير_بالمغرب