لطالما أججتُ النقاش مع طلابي عن تلك المقولة التي سادت منتصف القرن العشرين عن عالم الاجتماع الأمريكي مارشال ماكلوهان (Marshal McLuhan) (1911 – 1980) في إطار مفهوم ودلالة «القرية الكونية» والمعبّر عن كثافة التواصل وتأثيراته العملية، بفعل قدرات وسائط التواصل المتعددة والفائقة السرعة التي اختصرت المسافات ولخصت معنى التواجد الإنساني في حدود فكرة «قرية» واحدة تختزل الوجود البشري، ومستفزًا قدراتهم الذهنية على إدراك معنى التحولات السريعة التي عصفت بالواقع السياسي والثقافي التواصلي في العالم بأسره في القرن العشرين، وبوجه خاص بعد الحرب العالمية الثانية ومع انطلاق عصر التدفق الشمولي للأخبار والمعلومات وبولادة وسائط تواصلية فائقة السرعة والانتشار، منها البث التلفزيوني الفضائي وتطور خدمة الإنترنت والهاتف الخلوي، واحتدام الصراع بين القوى الكبرى لبناء قدرات تقنية تواصلية ومؤسسات إعلامية عابرة للحدود، مضافًا إلى ذلك آفاق التطور التقني الشديد التسارع، والموجّه لاستخدام الفضاء الخارجي بكثافة كمنصة تواصلية لشبكات التلفزيون الفضائي والهاتف إضافة إلى تعزيز القدرات العسكرية والتواصلية لأغراض دفاعية أو غيرها[1].

وفي حدود تلك النقاشات بين طلاب دراسات الإعلام، يبرز الالتباس وتباين القدرات الفردية للإمساك بطرف الخيط لتفسير معاني وآثار تعدد الوسائط التواصلية وتأثيرها في الإنسان، فكان التشظي الفكري بين الطلاب يعكس الاختلاف في موارد الثقافات والبيئات التي تترك بصمتها على طريقة التفكير، وتلمس الإجابات بين مستسلم ومعارض للهيمنة التواصلية على البشرية، إلا أن الأغلبية كانت تميل إلى التماهي مع الإغراءات والإنجازات المتسارعة في ميدان تعاظم القدرات التقنية التواصلية وتنوع اتجاهاتها، بحيث يصعب التكهن بشكل ونوع القادم مستقبلًا في هذا الميدان، واختصار تأثيرها المباشر في بوتقة واحدة هي «القرية الكونية»، وما يعني ذلك في البعد الجغرافي كحيز ثقافي طبيعي، أو الكثافة السكانية للوجود البشري كمحتوى مادي، لتصور غائية الاتصال وماهيته وتأثيره في هذا الميدان في الإنسان الفرد أو المجتمعات.

المهم هنا هو إثارة انتباه الطلبة إلى أن ميدانهم البحثي سيبقى في جانب منه رهين ما يمكن إدراجه في معنى ما تقدمه التقنيات التواصلية من إنجازات تجعل فكرة ودلالة كثافة التواصل في إطار تلك الرمزية (القرية الكونية) قابلة للتحقق وملبّية للحاجات الإنسانية، أو أن تلك الفكرة ستكون في المقابل قيدًا على غائية التواصل الإنساني ومانعة أو معطلة لحاجات التطور الطبيعية في الحياة، وبضمنها صيانة الحق الطبيعي في الحصول على المعرفة[2]، وهي إشكالية ستبقى محورًا أساسيًا يواجه جهود البحث العلمي المنهجي في هذا الميدان الإنساني.

أولًا: في مواجهة الفيضان

رغم أن كل شيء كان يقينيًا من أن كثافة وسائط الإعلام وتنوعها وسهولة الارتباط بها، يمكن فعلًا أن يجعلنا نعيش في بوتقة تواصلية تختصر عالمنا في بيئة ما اصطلح على تسميتها «القرية الكونية»، إلا أن أحد الطلاب كسر هذه القاعدة بتساؤل مباشر ومختصر: ماذا لو أن هذه القرية أضحت (أو استخدمت قصدًا) كقيد على حرية الإنسان في اختيار طريقة حياته أو انتقاء موارد تكوينه السياسي أو الثقافي والاجتماعي؟

إن هذا التساؤل الاعتراضي على تطور إنجاز مكسب الوصول إلى معطى الكثافة التواصلية يذكرنا بما صاحب الانجاز العلمي باختراع أول مطبعة بخارية في العالم (نوتنبرغ عام 1450) والتحول الكبير في طباعة الصحافة وانتشارها إضافةً إلى طباعة الكتب وتوزيعها بإقدام السلطات الحكومية في أوروبا، والدولة العثمانية المهيمنة على أجزاء من الوطن العربي أنذاك، بالتوسع في اصدار التشريعات المتعلقة بالنشر والطباعة وفرض المزيد من القيود (الرقابة المسبقة واللاحقة) وتغليظ العقوبات المانعة لمواجهة الأفكار التنويرية التي تهدد تحالف «النظام القائم آنذاك» سلطة الكنيسة والإقطاع في أوروبا وتحالف المؤسسة الدينية والسلطان في إسطنبول.

لم يكن ذلك الاعتراض على مخاطر هيمنة الوسائل التواصلية وكثافتها قادمًا من فراغ فكري أو نقص في المعلومات، فقد تنبه علماء الاتصال في فترات لاحقة إلى مخاطر التطورات المتسارعة (وغير المسيطر عليها) لحماية الأفراد والمجتمعات من الاستخدام المقصود أو المبرمج وبضمن ذلك ما عرف اليوم بـ«الهجمات السيبرانية» التي لا تستهدف اختراق المنظومات الاتصالية للدول والشركات الكبرى فقط، بل تسيطر على حواسيب وتدفقات المعلومات لدى الأفراد أيضًا، وتجعل كل الأنظمة والأبواب المغلقة مشرعة ومفتوحة أمام الهيمنة والمصادرة وإعادة البرمجة وإشغالها بأوامر أو بأفكار ومعلومات مغايرة[3].

ثمة شيء جيد وإيجابي تربويًا وعلميًا يمكن استنتاجه من احتدام ذلك الجدل المستهدف بين الطلاب حول دلالة «القرية الكونية»، هو إدراك العلاقات القائمة بين الحاجات والحق في المعرفة والتواصل، وبين حماية هذا الحق والحرية الشخصية والدفاع عنهما إزاء أي تهديدات محتملة أو قائمة فعلًا، وذلك قد يفضي إلى إعادة رسم الحدود بين معنى ودور وسائل الإعلام في الحياة الإنسانية، والمسؤولية الاجتماعية لتلك الوسائل في إطار القيم والنظم السائدة، وتحقيق التوازن بين تلك المعطيات، وبوجه خاص حين تهدد الحروب، ومنها الحروب ضمن السباق المحموم دوليًا للتسلح وحيازة قدرات ووسائل التدمير الشاملة، وفي المقدمة منها السلاح النووي[4] أو تهديدات الكوارث الكونية ومنها ما هو راهن اليوم، تهديد جائحة كورونا ومسلسل أجيالها غير المنظور علميًا، والوقاية منها أو تحديد السقف الزمني لمواجهة تهديدها في الوقت الراهن.

…لم يهدر الجهد والوقت في ملاحقة تباين الآراء المختلفة إزاء معنى تلك «القرية الكونية» وتأثيراتها، التي وجد فيها علماء الاتصال في المقابل إجابات متعددة الأوجه لمعنى التسارع والتنوع الذي أفضى إلى الشمولية لقدرة ممكنات التواصل التقنية التي جمعت واختزلت الجغرافيا في حيز واحد له دلالة واضحة، فقد سبق لعلماء الاتصال الذين خرجوا بأفكارهم النظرية من أضلاع والمكامن الفلسفية لعلم الاجتماع للتعبير عن قوة الإعلام وتأثيره المستقبلي في حياة البشرية، وكانت تلك النظريات المستحدثة تسعى للإجابة عن تساؤلات مشروعة إزاء تداعيات الحرب الكونية الثانية (1939-1945) وبروز دور الإعلام وبضمنه الدعاية كعامل حاسم في التعبئة والتحشيد في الحرب. وكانت مدرسة شيكاغو لعلم الاجتماع تتبنى حينها مقولات عالم الاجتماع هارولد لاسويل (Harold Lasswel) في تحديد الوظائف الاجتماعية الثلاث للإعلام، والتي تتلخص في وظيفة مراقبة البيئة ووظيفة تحقيق الترابط الاجتماعي ووظيفة نقل الإرث الاجتماعي[5]، ثم تلاحقت الاجتهادات والنظريات المتعلقة بدور الإعلام، ومنها على سبيل المثال نظرية الحرية أو النظرية الليبرالية، ونظرية المسؤولية الاجتماعية، ونظرية المشارك الاجتماعي. وجميع هذه النظريات تعتمد على الدور الذي ينهض به الإعلام ضمن إطار المجتمع ومع الفرد مباشرة.

إلا أن الواقع اليوم يشي بأمر آخر، فقد أضحت وسائل الإعلام شريكًا أساسيًا في صناعة السياسات العامة، ووسيطًا يتموضع وسط الطريق بين القوى الكبرى المتصارعة على مواقع القوة والهيمنة أو الدفاع عن الحرية والسيادة الوطنية، وكذلك يمكن أن تعدّ عاملًا أساسيًا في نشوء القوى المجتمعية داخل البلدان ومحددًا لاتجاهاتها الفكرية أو برامجها ومشاريعها للتغيير، وأخيرًا ميدانًا واسعًا ومتنوعًا في إطار الصيغ المفترضة للاستثمار المادي، واعتبار ذلك الاستثمار عنصرًا من عناصر القوة ومستلزمات النفوذ والهيمنة.

وهو، أي الإعلام، من الأفضليات في ترتيب عناصر القوة لدى الدول كافة، وسلاح تحرص المؤسسات السياسية على توفير مستلزماته المادية والبشرية. وليس غريبًا أن دولًا نامية في العالم اليوم تستثمر أموالًا طائلة في بناء المؤسسات الإعلامية وصولًا إلى الاستثمار في إطلاق الأقمار الصناعية إلى الفضاء من أجل أن تجد منصة لتموضع قنواتها الفضائية، إلى جانب الأغراض الأخرى المتمثلة بخدمات متنوعة مثل توفير حزام الاتصالات الهاتفية ومراقبة التغيرات المناخية أو حماية الأمن الوطني وغيرها.

إلا أن هذا الفيضان الجارف بما يشبه التسونامي يجعل الإحاطة الفكرية بماهية العمل التواصلي أمرًا بالغ الصعوبة، ويعرض التساؤل المكرر: هل أن زخم تدفق التقنيات التواصلية بهذه الكثافة قد فتح أمام الإنسان مجالًا واسعًا للتعبير عن حريته، أم أن ذلك قد أعاد صوغ شكل القيود الآسرة لحرية الإنسان والمعطلة لقدراته الطبيعية في التعبير عن آرائه وأفكاره[6]؟ هذا السؤال يحضر اليوم بكثافة والعالم بأسره يواجه عدوًا مختلفًا هذه المرة، عدوًا لا نعرف الكثير عنه، ولا نملك القدرة على أن نصفه إرهابيًا – على سبيل المثال – وغير ذلك أننا لم نتعرف عن قرب إلى هيئته وأسلوب حياته وطريقة تفكيره، وأخيرًا عن مصلحته في استهدافه لتدمير الكيان البشري بأسره!

ثانيًا: صناعة التحولات أم تسويق الوهم؟

ثمة مقولة تفضي في مختصرها إلى الإشارة إلى أن نقص تدفق المعلومات يتماهى عمليًا مع ذلك السيل الجارف والمتنوع للمعلومات ذاتها، وهذا هو تمامًا ما حدث حين صُدم العالم في فترة قصيرة نسبيًا عند الأيام الأولى لانتشار جائحة فايروس كورونا (كوفيد 19) بترشح معلومات عن حجم التهديد المباشر الذي قد يواجه البشرية بأسرها، والحاجة العاجلة إلى بناء مصدّات للوقاية المباشرة منها، ومقابل ذلك كان هناك الغموض والجهل السائد عن أبعاد ذلك التهديد ومدياته، وقدرات الجسم الصحي للدول أو العالم بأسره على مواجهة انتشار الفايروس، وحجم الخسائر البشرية المتوقعة قبل أن يتحرك العالم متحدًا لوضع أسلحة دفاعاته حيز التنفيذ، ومنها تطوير اللقاح واختباره، وتوفيره للاستخدام الأمن والفاعل لكل إنسان على هذا الكوكب.

وليست كل القصة محصورة هنا تحديدًا ضمن دائرة الاندفاع السريع للجائحة وانتشارها، وضربها دولًا صغيرة وكبيرة على حد سواء. بل إن بعض الدول الكبيرة مثل الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة وألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، إضافةً إلى الصين، حيث كانت الانطلاقة الأولى للفايروس، هذه الدول بكل إمكاناتها المادية والبشرية والتقنية وبضمنها تجهيزات مؤسساتها الصحية، وجدت نفسها على حين غرة إزاء تحدٍّ غير مسبوق لعدو لا تملك معلومات واسعة ودقيقة عن سلوكه وتحولاته، ولم يسبق لها منذ الحرب العالمية الثانية ان واجهت مثل هذا النوع من المخاطر على أمنها وشعوبها، فكانت الاستعدادات والتحضيرات مرتبكة وأحيانًا خاطئة. وفي هذه اللجّة سقط الإعلام أيضًا في تناقضات وإشكالات في محتوى رسائله للتصدي لآثار الجائحة على الإنسان والمجتمعات والاقتصاد معًا، حتى أضحى الموضوع بأسره ضمن منطقة معتمة وملتبسة، وعادت كل النظريات الإعلامية التي عبّرت عن جوهر معنى الإعلام وغاياته. ومنذ أن نشأت الشخصية المستقلة لعلم الإعلام وخروجه من شرنقة علم الاجتماع، تواجه تحديًا من نمط جديد ومختلف، ووقفت الكثير من وسائل الإعلام – وبوجه خاص القنوات الفضائية – على خطين متوازيين، الأول ضمن منطق تهويل الخطر، وإشاعة الخوف لدى المتلقين، أو الميل إلى الشك أو إخفاء الثقة بالإجراءات الحكومية ومنظمة الصحة العالمية؛ والثاني ذهب إلى اعتبار المخاطر المتوقعة يمكن إدراجها ضمن سياق المتوقع والمسيطر عليه. وكلا الاتجاهين تجاوز خطوط ومعطيات النظريات السابقة عن دور الإعلام ومسؤوليته الأخلاقية والمهنية.

لذلك، حين غطى الاختراق الوبائي خطوط الطول والعرض للكرة الأرضية بأسرها، وجدت وسائل الإعلام – ومثلها وسائل التواصل الاجتماعي – فوضى لا مثيل لها في غياب إمكان استخدام الرصيد العالمي من نظريات الإعلام لمختلف المدارس في بناء منظومة قابل الاستعانة بها من الجميع للتصدي للجائحة وتفسير مديات تأثيرها وسبل مواجهتها، كذلك ترسيخ قواعد الاشتباك لعدو ملتبس السلوك والنيات، وسقطت الكثير من وسائل الإعلام – وبوجه خاص الفضائيات - في لجّة من الاتكاء على خبراء الصحة والبيئة (أو هكذا تمنحهم تلك الفضائيات من مسميات مثل المختص أو الخبير) وتفسيراتهم أحيانًا غير الواقعية، وأحيانا المتناقضة، لتلمّس هوية هذا الفايروس الغامض والمتناهي الصغر، الذي تظهر الصورة المجهرية له تشابهًا في الشكل الخارجي إلى حد ما بالصورة النمطيه الشائعة لتلك الألغام البحرية التي استخدمت خلال الحرب العالمية الثانية، والتي تتقاذفها الأمواج حتى تجد جسمًا عائمًا تلتصق به ثم تنفجر.

ثالثًا: من سيعلق الجرس؟

إذًا هي معركة وجدنا صداها بين تقنيات علمية، وبعضها سيبرانية، مقابل كائن حي نشط، هويته وسجله الجنائي يوحي بعدائية نحو الإنسان. ولم تكن هنالك عقبة قانونية أو أخلاقية تحول دون استخدام مختلف الأسلحة، الوقائية أو الهجومية من جانب البشرية لمواجهة هذا الغزو البيئي، ومن تلك الأسلحة الإعلام الذي وجد نفسه وسط لجة سياسية ومنها «نظريات المؤامرة»[7] من دون أن تكون له مرجعية نظرية يمكن أن يستدعي قناعاتها لتنظيم قدراته وتكريس قواعد الاشتباك المجربة للوقوف بوجه الجائحة، وهذه المرة لم يكن الفايروس الذي هاجم العالم بأسره ينتمي إلى تلك الفايروسات الحاسوبية المبرمجة والتي تملك أهدافًا محددة إما للتجسس أو للتعطيل أو التخريب، وإنما يستهدف مباشرة الإنسان وتدمير وجوده المادي.

وفي نهاية المطاف لم تكن المعركة تتميز بتكافؤ الأطراف، وإنما اصطفّ العالم وبكل ما يملكه من أسلحة وتقنيات وموارد مادية، ومن ضمنها المنشأة الطبية ومصانع الأدوية ومراكز البحوث الخاصة بالأدوية واللقاحات[8]، كل ذلك في مواجهة ذلك القاتل المتسلسل والمتحول والشديد الشراسة في الانتقال وضرب أهدافه داخل جسم الإنسان. ولم يتوقف الفايروس على خطوط الجبهة المفترضة لمواجهة، وإنما كانت المعركة تدور على المستوى الإنساني بين الوقاية عبر تفاصيلها المتنوعة (النظافة والتباعد الاجتماعي وتعزيز المناعة) والتوسع ببناء المستشفيات، وزيادة الطاقة الاستيعابية لها وتجهيزها بالمستلزمات الضرورية، إضافةً إلى السباق المبرمج لإنتاج اللقاح واختباره والحصول على إجازة استخدامه على الإنسان. إلى جانب زيادة الوعي المجتمعي لقبول اللقاح والثقة به إزاء الخطر القادم وآثاره المدمرة، وفي هذا المجال يتجلى دور الإعلام على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومعتمدًا على رصيد منطوق نظرياته التي تحدد وظائفة الأساسية وأدواره المنتظرة كسلاح للدفاع عن البشرية في مواجهة المخاطر بكل أنواعها.

وإذ كشف التهديد المباشر للجائحة، التي مثلت ظاهرة متسارعة التأثير في سلطة الدولة وعلاقتها بالأفراد والمجتمعات، عن الفجوة الراهنة بين معنى الدولة ودورها، ودلالة انتظام المواطن وطاعته للقوانين، وكشفت أيضًا أن التضامن ضمن المفهوم السوسيولوجي، وكما عبّر عنه عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1917 – 1858) مصاب بعطب في أداء الوظائف الحيوية الضرورية لضمان وحدة الدولة والمجتمع. وفي حدود ذلك كان الإعلام خلال المرحلة الأولى لانتشار الجائحة عالميًا في متاهة البحث عن الخيارات الأفضل بين الاستجابة لآراء «الخبراء» في مجال الفايروسات والصحة العامة، ومسك الدول للعصا من الوسط بين فرض القيود على المجتمعات والأفراد وفرض التباعد والرقابة على ذلك، وبين الضغوط التي تقف وراءها استحقاقات اقتصادية بالدرجة الأولى في التماهي مع منطق (القطيع) لواجهة انتشار الجائحة وتحمّل الخسائر دون التضحية بالجانب الاقتصادي واشتراطاته الملزمة. وبين تلك الخيارات ضاعت البوصلة، وفي الواقع سقطت الكثير من وسائل الإعلام أمام الامتحان الصعب في تحديد الخيارات المناسبة على المستوى الإنساني.

في الحصيلة، اتجهت أغلب الدول نحو خيار والوقاية المسبقة ومنطق حجز الإنسان عبر صيغة التباعد بكل معطياتها (ارتداء الكمامة والحجز المنزلي وتقليل التنقل إلى أدنى حد، وغلق المطاعم والمقاهي والأسواق العامة وأماكن اللهو) وتوقف مهمات التعليم في الصفوف داخل المؤسسات التربوية والانتقال إلى اعتماد صيغة التعلم من بعد باستخدام شبكات التواصل لضمان استمرار العملية التعليمية وغيرها من الإجراءات، التي تضمن العزلة لقطع الطريق أمام اندفاعات الجائحة. وفي طيّات تلك الإجراءات كان لا بد للإعلام من أن يجد موقعه ودوره في إطار مبدأ المسؤولية الاجتماعية، والوقوف إلى جانب الإجراءات الحكومية لمحاصرة الوباء وتحجيم تأثيراته. وأن يقدم تفسيرًا مقبولًا لإدراك معنى كثافة التواصل التي ينشدها، وضرورة التباعد وتقليل التواصل المادي مقابل كثافة التواصل الإلكتروني لأهميته الثقافية والنفسية، لتعويض الإنسان – الفرد – وتقليل خسائره في حصاره داخل المسكن.

وبالرغم من ذلك فطن الكثير من علماء الاتصال، وفي وقت مبكر من القرن الماضي، إلى نقطة جوهرية لم يتبينها في ذلك الحين الكثير من علماء الاجتماع، وهي أن الوصول إلى داخل مضامين الرسائل الإعلامية – التواصلية كان يمكن أن يعيد قراءة تلك الرسائل ومضمونها أو يكشف غاياتها، وليس الاكتفاء فقط بتحليل مضمون المحتوى «الظاهر»، وإنما بالبحث عن الغايات المضمرة للرسائل الاتصالية، وجمع الأدلة على أن المعلومات المحمّلة ضمن البيانات (على سبيل المثال) هي ذخيرة حية قابلة للتفجر وفق أجندة مقصودة تسعى إلى الهيمنة والسيطرة الفكرية والمادية. وكل ذلك باختصار، يتضمن مقاربة مع مشهد سينمائي هوليودي، ومنه فيلم «المتسللون» الذي قدّم درسًا ميدانيًا لعملية معلوماتية – عسكرية تستهدف السيطرة على العدو من خلال فصل الرأس عن الجسد، أي السيطرة على مصدر القرار وبالتالي إسقاط القوات الميدانية في الفوضى وحتى الاشتباك فيما بينها وليس ضد العدو[9].

رابعًا: مخاطر محتملة

وإذا كان تحدي التغيير المناخي يعد من أهم التحديات التي سيواجهها العالم في المستقبل، وبحسب ما حدده المنتدى الاقتصادي الدولي في دورته الأخيرة[10]، فإن ثمة قناعة أخرى تفضي إلى القول اليوم بأن جائحة كورونا ومسلسل تدحرجها التوالدي، يمكن أن يكون واحدًا من أكثر المخاطر التي تواجه الوجود البشري. غير أن التحدي الراهن للجائحة هو موضوع «التكيف» مع احتمالات تطور أثار ونتائج تداعيات جائحة كورونا على الحياة بوجه عام، والعمل على مراجعة كل «الاجتهادات» لوضع الإمكانات العلمية التي تملكها البشرية بأسرها، ومن ضمن ذلك جهود الدول المتقدمة ومراكز بحوثها العلمية والطبية تحديدًا، وحشد العمل المشترك لبناء السد المفترض أمام آثار الجائحة أو مثيلاتها مستقبلًا، ومن ضمن هذا الأمر أيضًا إعادة النظر جذريًا بالنظريات والمقولات الإعلامية وتجديد أطرها في ضوء تجربة تلك «القرية الكونية» المعزولة ماديًا والمتواصلة عبر قنوات التواصل الاجتماعي، والتي يمكن أن تقود إلى تأسيس منهج إعلامي مستقبلي لمواجهة المخاطر القائمة والمحتملة، والتعامل مع واقع التباعد المادي الوقائي، وتطوير آفاق العمل في جزر مادية ولكنها متفاعلة بالتواصل المعلوماتي والمعرفي.

ومن المفارقة فإن جوهر العلاقات المتحققة في إطار هذا الموضوع كانت ضمن الأفكار والطروحات التي قدمها عالم النفس الأمريكي جيروم كيغان (Jerom Kagan) [11] في كتابه المعنوَن الثقافات الثلاث. وفي عرضه لدور وسائل التواصل في تعزيز القدرات الإنسانية لمواجهة الكوارث، يقول كيغان: وحيث إن المنظمات الحكومية المعنية بالشؤون الصحية كانت اليوم أكثر اتصالًا مما هي عليه في عام 1918، فإن من المستبعد انتشار وباء الإنفلونزا الذي يحصد آلاف الأرواح من الأمريكيين كالذي انتشر في عام 1918.

إن الأرقام تكشف عن حقائق صادمة للفجوة الكبيرة للتخصيصات المالية التي ترصد للإنفاق العسكري في العالم، الذي بلغ 1822 مليار دولار عام 2018، وأن موازنات ثلاث دول كبرى (على سبيل النموذج) على مستوى التسلح مقابل الصرف على القطاع الصحي في تلك البلدان يكشف عن مفارقة كبيرة. وحسب تقرير سيبري، معهد ستوكهولم لأبحاث السلام الدولي، فالولايات المتحدة الأمريكية أنفقت في عام 2019 مبلغ 649 مليار دولار، وفرنسا 63.5 مليارًا وبريطانيا 50 مليارًا، في الوقت الذي لم يبلغ الصرف على القطاع الصحي، بحسب تقارير منظمة الصحة العالمية في تلك الدول وفي ذات العام: أمريكا 9892 وفرنسا 4600، وبريطانيا 4192 مليون دولار.

وإلى اليوم ليس هناك في العالم من منظمة أممية تُعنى بموضوع حجم الإنفاق المالي على قطاع الإعلام سواء الحكومي أو القطاع الخاص، من أجل إحداث مقارنة أو مقاربة بما يمكن أن يسهم به الاقتصاد العالمي في إسناد الجهود التي يبذلها الإعلام لتحقيق أهدافه في إطار مسؤوليته الاجتماعية مقارنة بما يصرف على التسلح. ولا شك في أن تداعيات جائحة كورونا، قد تنبه البشرية مرة أخرى إلى أن الإعلام هو أيضًا حاجة وضرورة، لا بد من أن تكون له حصة من الدعم المالي للنهوض بواجباته في إطار مسؤولياته الأخلاقية والإنسانية تجاه البشرية في مثل هذه الكوارث والتحديات.

وعلى ما يبدو أن ثقة كيغان بوسائل الإعلام لم تكن بمستوى توقعاته لمستقبل البشرية في مواجهة موضوع انتشار وباء جديد مثل ما شهده العالم مطلع القرن العشرين. وحتى من أجل الإنصاف نقول إن طريق ومسار جائحة كورونا كانت تحديًا كبيرًا لكل المقولات والنظريات الإعلامية التي بشرت بمعنى كثافة التواصل الإنساني الذي حققته بامتياز تقنيات التواصل المتسارعة التوالد والتنوع، والتي تحيط الإنسان وتجعله تدريجًا أسير الاغراءات التي تقدمها مجانًا في الغالب، من أجل الانضمام إلى قطيع التواصل الكثيف.

ولا شك في أن اجتهادات البيولوجيين الذين لم يتوصلوا حتى اليوم إلى نظرية شمولية قادرة على تفسير كل ظواهر الحياة وتحولاتها المتنوعة، تجعلنا نتلمس العذر لعلماء الاتصال وأصحاب الاجتهادات والنظريات الإعلامية في صوغ محتوى قادر على استيعاب معنى وغاية النشاط الإعلامي على المستوى الإنساني في مواجهة مثل هذه الكوارث. هنا لا بد من الاعتراف بأن عمر النشاط الفكري لبناء نظريات إعلامية واختبارها ربما أقصر عمرًا من سائر العلوم الإنسانية، وأن علم الإعلام لا يزال يعيش بشكل أو بآخر في شرنقة علم الاجتماع الإنساني، ونظرياته المتنوعة والشاملة.

كذلك فإن الحس الإنساني نحو المخاطر التي تواجه البشرية، وطرائق المقاومة وضمان البقاء، ليس بدعة أو تباينًا في الجانب الأخلاقي أو الفلسفي، لأنه ببساطة نزوع طبيعي متوارث لدى كل الكائنات الحية، ومنها المخلوق الأكثر وعيًا وقدرة على التكييف وحماية نفسه من الانقراض وهو الإنسان. هذا الأمر يمكن أن يفسر الحيرة والالتباس الذي واجهه طلبة ذلك الصف الدراسي من طلبة الإعلام واجتهاداتهم في قبولهم أو ترددهم لمقولة «القرية الكونية» والتماهي مع نتائجها المغرية – نظريًا – أو إطلاق المخاوف من تكميم الإنسان ضمن بيئة تواصلية، وربما سياسية واجتماعية واحدة وما يفضي ذلك إلى تمكين السلطة – أي سلطة كانت – للسيطرة، سواء عبر المراقبة أو التأثير بالأفكار والسلوك.

ولعل بعد كل ما أحدثته جائحة الكورونا من شرخ في الثقة بالنظريات الإعلامية، ومن ضمنها ما توافق على تسميته للدلالة على غائية ونتائج كثافة التواصل بالقرية الكونية. إلا أن ثمة مدركات ترشحت عن تجربة ممارسة الإنسان للعزلة في مسكنه، والقبول بضرورة التباعد وممارسة تقاليد الوقاية الصحية بمختلف صيغها ومنها مواصلة ارتداء الكمامة. وفي المقدمة من تلك التجارب أن وسائل الإعلام وممكنات التواصل المحمولة على ظهر التقنيات المتسارعة التوالد، كانت أيضًا عاملًا في استعادة الإنسان توازنه، وبوجه خاص عندما واجه عدوًا يصعب إيقاف اندفاعاته التدميرية إلا عبر إجراءات حازمة بعضها ينال مباشرة من حرية الإنسان في التنقل أو التواصل أو تحقيق الاندماج المادي ضمن قطيع جنسه والذي يحقق له الإحساس بالأمن والتكييف السلوكي مع بيئته.

وربما بعد إزاحة التهديد الراهن عن الجنس البشري بنجاح حملات التلقيح لكل مواطن في هذا الكوكب، والتحسب لمواجهة أي احتمالات لعودة هذا الوباء بالصيغة التي اندفع فيها خلال العام الفائت (2020)، فإن ثمة أبوابًا مشرعة لإعادة بناء قناعات عن دور الإعلام في مواجهة الكوارث المحتملة مهما كان نوعها ومصدرها. والإعلام بنظرياته الراهنة هو من دون شك نتيجة فكرية ومادية لتدحرج كوارث الحروب التي شهدتها البشرية من الحربين العالميتين الأولى والثانية حتى اليوم، إضافةً إلى معطى التطور التقني والدخول إلى عصر المعلومات. كل ذلك قد يفتح المجال أمام بناء يقينيات جديدة تقارب النظريات في مسار إعلام يلتزم بالقيم الإنسانية ويدافع عن وجوده في مواجهة كل أنواع الكوارث، سواء منها القادمة من البيئة أو من التوحش والعدوان في السلوك الإنساني.

أخيرًا، إن تفهمنا للمعايير المهنية لأداء وسائل الإعلام يبقى هو الضمانة، سواء بالعمل وفق منظور النظريات التي تعبر في جوهرها عن السياق الفاعل لهذا الجانب من النشاط الإنساني، أو إسباغ قيم المساواة والحرية والعدالة، وتجنب نشر العنصرية والتعصب وممارسات العنف. كل ذلك وبضمنه التعامل مع تطورات العلمية أو الاجتماعية في مواجهة الأوبئة ومنها وباء كورونا ومسلسل عائلته، كل ذلك يعيد تذكيرنا في نهاية الأمر بان الإعلام يمكن أن يكون عنصرًا إيجابيًا داخل حدود تلك القرية الكونية للتخفيف من معاناة الإنسان وتمكينه من مواجهة الآثار السلبية التي تخلفها الكوارث البيئية في حياته. وإن العزلة، كما هو التواصل، إذا ما شكلت بيئة صالحة للتكيف وتحفيز طاقة المواجهة، ومن ثم العبور نحو ضفة السلامة يمكن أن تكون عاملًا في انتصار الإنسان على التحديات التي تحاصره.

وكل ذلك المشهد وبكل تنوعاته وإرهاصاته – والمعركة الشاملة مستمرة ضد الوباء على مختلف الصعد ومنها الإعلام – ربما تلخصة العبرة والمعاني التي يحملها مضمون وغائية قصيدة الشاعر البريطاني جون دون (1572-1631) حين يقول:

لا شيء في الفلسفة الجديدة محل يقين

كل شيء تجزأ وانقسم وكل ما هو منطقي

ذهب أدراج الرياح

فالأمير والعبد والأب والابن تصنيف ولّى وانقضى

فكل فرد بات يخال نفسه

يملك علم وقوة الأولين والآخرين

يظن أنه صار عنقاء جديدة[12].

 

قد يهمكم أيضاً  كورونا بين محاولات العلاج ومحاولات التعليل

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #كورونا #كورونا_والإعلام #العولمة #دور_الإعلام #النظريات_الإعلامية المعايير_المهنية_لوسائل_الإعلام #تغطية_الإعلام_لأخبار_كورونا