مقدمة

يدرك المهتمّون بفكر الفيلسوف العربي ناصيف نصّار مقدار الأهمية التي حظيت بها فكرة السلطة في فلسفته، وهي أهميةٌ لا يمكن ردّها فقط إلى هوسه بالشرط السياسي للكينونة الإنسانية من حيث هي مشروطة بالتواجد في العالم وبمعية الآخرين، بل كذلك إلى مكانة مفهوم السلطة ضمن المشروع النهضوي الذي رام ناصيف نصّار التقعيد له من خلال كتاباته الفلسفية. فمن المعلوم أن نصار نذر جهده الفكري للتقعيد لنهضة عربية ثانية، واعتبرها استئنافاً للنهضة العربية الأولى ومحاولةً لمجاوزة الثغرات التي ظلت تعتورها، فكان من الطبيعي أن يأتي نظره في مشكلة السلطة في صورة رؤية نهضوية شاملة تتخذ من ذلك المفهوم مقوّماً من مقوّمات النهضة العربية، وتعمل على إعادة تأسيسه ونحته بما يتلاءم ومقتضيات تلك النهضة. لسنا، إذن، والحال هاته، أمام رؤيةٍ تأملية تنظر إلى السلطة من حيث هي مفهومٌ يقع خارج الزمان والمكان، ولا أمام فلسفةٍ تموقع نفسها في مضمار الفكر الكوني لتمدّنا بمفهوم مبتور عن رهاناته وشروطه التاريخية المتعلقة بوضعية الوطن العربي، بقدر ما أننا أمام فيلسوفٍ انتهل من روافد الفكر الفلسفي الكوني، وأعمل ما غنمه منها في فهم راهنه السياسي والتاريخي، فكانت النتيجة أن جعل من مصنّفاته مناسبةً فريدةً التقتْ فيها الفلسفة برهانات النهضة العربية، ونضحتْ فيها بهموم الوطن العربي وتشوّفه إلى الخروج من أفق الانغلاق السياسي الذي كان للاستبداد سهم كبير في تبلوره.

يمكن أن نفهم، من هذا المنطلق، تلك العبارة التي ذيّل بها ناصيف نصّار عنوان كتابه منطق السلطة، عندما نظر إليه من حيث هو «مدخلٌ إلى فلسفة الأمر»، إذ إنها تشي بأن النظر إلى السلطة تمّ من قواعد فلسفية، وأن الغاية القصوى من عقد ذلك المصنّف هي التأسيس لفلسفةٍ في الأمر تعيد ترتيب أوضاع السلطة وتمفصلات مفهومها في الوعي السياسي والفلسفي العربي. تطرح هذه العلاقة بين الفلسفي والسلطوي (السياسي) صعوبةً تتعلق بمدى الحاجة إلى الفلسفة في مجال التفكير في السلطة والسياسة عموماً، أي في مجال العلاقة بين العقل والمدينة، على حدّ تعبير محمد المصباحي[1]، ولا سيَّما أن فيلسوفنا يؤمن بأنه «بقدر ما يكون الإدراك الفلسفي للسلطة متطوراً ومنتشراً في المجتمع، يسهل قيام الإرادة السياسية كسلطة»[2].

يعني هذا القول أن التعالق بين الفلسفة والسلطة بلغ حدّ الترابط الضروري إن لم نقل الماهوي، بحيث لا يمكن الحديث عن الارتفاع بالحق في الأمر، من حيث هو قوامُ العلاقة بين الحاكم والمحكوم، إلى مقام السلطة، وبالتالي إخراجه من مقام التغلب والسيطرة والتسلطن، من دون الاعتداد بالنظر الفلسفي الذي يُسعف الإرادة السياسية بما يُصيِّرُهَا سلطةً، لذلك كان على الفلسفة العربية المعاصرة أن تبادر، في نظر هذا الفيلسوف، إلى التأسيس لفلسفة السلطة تلك، والتي ليس كتابُه ذاك سوى إسهام فيها، ما دامت «فلسفة السلطة هي المرتكز الوطيد لكل إرادة واعية تأبى أن تفرض نفسها فرضاً على إرادة أُخرى، كما تأبى أن تفرض أية إرادة أخرى نفسها عليها»[3].

لا حاجة بنا إلى التذكير، إذن، أننا أمام رؤية إلى السلطة تتخذ من الحرية والاستقلال منبعاً من منابع هويتها الفلسفية، لذلك كان من الضروري النظر إلى فكرة الحرية باعتبارها من بين المقدمات الحاكمة لرؤية ناصيف نصّار إلى السلطة، وإلى مختلف المفاهيم التي تتناسل منها داخل مصنّفه العمدة في هذا الباب. ولعلنا لا نأتي بجديد إذ نقول إن هذا الاحتفال بالسلطة ليس إلا تجلياً من تجليات الروح التي حكمت فلسفة نصّار، والتي غالباً ما راهنت على خلخلة المفاهيم السياسية والفلسفية التي تثوي فيها جراثيم الاستبداد، ويكفي المرء أن يطالع ما ألف الرجل عن مفهوم الملك، والجهد النظري الذي بذله في سبيل خلخلة قواعده وتمركزاته التي رسختْ في النسيج الفكري الإسلامي، حتى يقف على مقدار هوس هذا الفيلسوف بالحاجة إلى فهم التشكّل التاريخي والفلسفي للاستبداد والعمل على الخروج من خندقه الضيّق[4].

يتضمن كتاب منطق السلطة فصولاً عَبَرَ منها صاحبه إلى معنى السلطة، وفي اعتقادي أن اختيار تلك الفصول لم يكن مجرد صدفةٍ، ولا سيَّما أن صاحبه من الذين يحرصون على الانتقاء الدقيق لتفاصيل كتاباتهم، بل إننا نرى في الفصول الاثني عشر التي ينتظم بها الكتاب، تجسيداً لأبرز تمفصلات مفهوم السلطة كما تشكل عبر تاريخ الفلسفة، وكما طرحه الراهن العربي الذي تفتّق عنه وعي نصّار؛ ففيها لملمَ هذا الفليسوف أبرز إشكاليات فلسفة السياسة التي طرحتها عبر تاريخها، وفيها بسط وجهة نظره في موضوع السلطة التي كانت نتيجة عملية اتصالٍ وانفصالٍ مع تاريخ الفلسفة السياسية برمّته. كما أن الكتاب كان مناسبة للوعي بالراهن العربي، والسياسي منه خصوصاً، انطلاقاً من إعمال عدة مفاهيمية ومنهجية مستقدمة من حوار طويل وهادئ مع تاريخ الفلسفة. يتحدّث ناصيف نصّار عن معنى السلطة ومصادرها؛ عن سلطة الحاكم وسلطة الدولة؛ عن حدود السلطة السياسية وخدماتها؛ عن الفرق بين السلطة الدينية والسلطة السياسية وسلطان الأيديولوجيا؛ عن علاقة السلطة بالعدل والعقل والتاريخ؛ ثم عن فكرة الصراع على السلطة. تضعنا هذه الهندسة أمام العناصر المكوّنة لمفهوم السلطة في نظره، ويبدو أن التطرق إليها كان نتيجة استراتيجية تحليل المفهوم من حيث محايثته للشرط السياسي والاجتماعي للإنسان، بل إن فيلسوفنا يذهب إلى حدّ الحديث عن كيفية برهانية واضحة[5] انتهجها في وضع اليد على المقدمات المؤسسة للمفهوم، وهو ما يعني أن إيمانه بالروح الفلسفية بلغ به حدّ الإيمان بالرؤية البرهانية والسعي إلى تطبيقها في مجال السلطة والسياسة، أي في مجال الطوارئ، على حدّ تعبير الإمام الجويني.

لا يخفى على أحدٍ ما يطرحه هذا الاختيار البرهاني من صعوباتٍ ترتبطُ بمدى مشروعية الحديث عن رؤية برهانية داخل مجال السياسة والعقل العملي عموماً. بيد أنه من الممكن أن يلتمس لهذا المنزع عذراً في رغبة صاحبه في التفكير في مفهوم السلطة، بحكم أن المفهوم يمثل التربة المناسبة التي تنشأ فيها أفكار الفلسفة وتتطور، وهذه مسألةٌ من شأنها أن تبرر لنا حرصه الشديد على بيان الحدود والفواصل التي تفصل بين المفاهيم والمصطلحات التي يُعملها في كتابه، خاصةً منها تلك المساحلة لمفهوم السلطة، من قبيل السيطرة والتغلب والتسلطن والسلطان.

ويمكن القول، بصفةٍ عامةٍ، إن هناك هاجسين حكما مقاربة ناصيف نصّار الفلسفية لمفهوم السلطة؛ أولهما تحصيل مظاهر مَيزه من غيره من المفاهيم المتاخمة له، وثانيهما الطابع التركيبي لهذا المفهوم الذي كان نتيجة الرؤية التركيبية التي صدر عنها هذا الفيلسوف في تصوره للسلطة، إذ أبى إلا أن ينظر إليها في مختلف مستويات تداخلها بالوجود الإنساني، فكان من الضروري أن يقف عند تمفصلاتها وامتداداتها في مستوى الحياة الإنسانية باعتبارها معاناة يومية مع السياسة والدولة. ولعل ما زاد من كثافة هذا الوضع الإشكالي لمقاربة هذا الفيلسوف إيمانه الراسخ بالتماهي المطلق بين السلطة والحق، ليس فقط على مستوى تعريفه لها باعتبارها حقاً في الأمر[6]، بل كذلك بحكم اقتناعه بأن السلطة حقٌ بإطلاق[7]، مما يبعدها عن مختلف ضروب التسلط والتغلب والسيطرة التي تقوم على العنف والهيمنة. ولا حاجة بنا إلى التذكير بأن ناصيف نصّار، بموقفه هذا من السلطة، ينأى بنفسه عن التصورات العنيفة لهذا المفهوم التي تبلورت عبر تاريخ الفلسفة، والتي حاول فلاسفة السلطة المعاصرون، ككوجيف وآرنت وغادامير، نقدها قصد الخروج من شرنقتها الضيقة[8].

يضعنا هذا الموقف أمام اختيارٍ فلسفيٍ له أفقه الإشكالي الخاص به، وهو أفق فلسفة الحق التي أقام عليها هؤلاء كلهم تصورهم للكينونة الإنسانية بما هي وجودٌ حقوقيٌ قوامه الحرية ومقتضياتها المدنية والسياسية[9]. لذلك لم يكن من قبيل الصدفة أن يدنو فيلسوفنا من مناولة هؤلاء لفكرة السلطة، إنْ على مستوى المنهج الذي حضرتْ فيه ملامح المقاربة الفينومينولوجية للسلطة على نحو ما نجدها في تحليل آرنت لهذا المفهوم[10]، أو على مستوى التيمات التي اعتبرها ناصيف نصّار تمفصلات السلطة ومقتضياتها الضرورية في الآن ذاته، وهو ما يعني أننا أمام فلسفةٍ سياسيةٍ تنهل عناصر رؤيتها من تاريخ الفلسفة عامة، والسياسية منها على وجه التحديد. من هنا نؤكد أن فهم رهانات ناصيف نصّار التي حكمت استشكاله لهذا المفهوم يقتضي موقعة مساهمته النظرية ضمن تاريخ تلك الفلسفة.

وبالفعل، فنحن لا نأتي بجديد عندما نقول إن ناصيف نصّار نهل جلّ عناصر مقاربته من تاريخ الفلسفة السياسية، إذ يتنقل الرجل في مساحات ذلك التاريخ بكل أريحية؛ يسير في أمشاجه جيئة وذهوباً من دون أن يُشعر قارئه بأي تناقضٍ أو تدافعٍ بين المرجعيات التي يستدعيها في نسج عناصر موقفه وخطابه الفلسفي في موضوع السلطة. يتجاورُ في نص ناصيف نصّار فكر الفارابي والماوردي وابن خلدون وعبد الله العروي، مع فكر جون لوك وروسو وفيبر ورولز، ويقيم بين هؤلاء كلهم حواراً يتعالى على الزمن ومتغيّراته، ويصدر عن وحدة الإشكاليات التي توارثها بعضهم عن بعض؛ فهو يفكر في الدولة والعقلنة، وذهنه مشدودٌ إلى تأويل العروي لرؤية ماكس فيبر، وفي علة وجود السلطة من خلال المقارنة بين ابن خلدون وجون لوك، وفي العدل باستحضار موقف الفارابي الذي كان في جملة ما أعلنت نظرية العدالة مجاوزتها لرؤيته… إلخ. إن هذا الحوار الشامل مع تاريخ الفلسفة السياسية، ولا سيَّما الحديثة منها والمعاصرة، هو ما يمنح لمقاربة ناصيف نصّار قيمتها النظرية، إذ إنها تزجّ بقارئها في مضمار تاريخ الفلسفة لتنهل منه أجوبةً عن أسئلتها الملحّة. لا يُساورنا شكٌ في أن رغبة فيلسوف النهضة العربية الثانية في التأصيل الفلسفي والإبداع الفكري هي التي تقف وراء تحرّكه على جبهة تاريخ الفلسفة، ولا يُساورنا شكٌ كذلك في أن مشروعه الفلسفي كان الأكثر اتصالاً بشرطه التاريخي والسياسي قياساً على مشاريع فلسفية أخرى أنتجها العقل العربي، هنا وهناك، منذ صدمة لقائه بالغرب[11].

لذلك يبقى من الصعب تصنيف ناصيف نصّار في خانة المفكرين السياسين، بل هو عندنا فيلسوفٌ سياسيٌ طفق يبحث في تاريخ الفلسفة عن أجوبة لأسئلة راهنة، فوجد نفسه ملزماً بالقيام بما يقوم به أي فيلسوف في تاريخ الفلسفة؛ نحت مفاهيم جديدة، وإعطاء القديم منها وجهةً مغايرةً تحمل في طياتها بصمته الخاصة.

ليست غايتي من هذا المقال تقديم فلسفة ناصيف نصّار إلى القارئ العربي، إذ إن عملاً كهذا بات اليوم في جملة النوافل بحكم الحضور الذي حققته فلسفته في الوطن العربي، والعالم الغربي كذلك. ما نحتاج إليه اليوم هو التفكير في ما تطرح علينا تلك الفلسفة من إشكاليات تحملنا على إعادة التفكير في كثير من البداهات المفاهيمية التي تؤثّث مشهد وعينا السياسي، حتى نفهم سبب قدرتها على استفزاز الفكر العربي المعاصر وحمله على خوض مغامرة الفهم والتفكير.

في كتب هذا الفيلسوف تمرينٌ على تعليق الأحكام يحتاجه الفكر العربي المعاصر، نهله صاحبُه من مراسه الطويل على المنهج الظاهراتي واحتكاكه مع أمهات كتب تاريخ الفلسفة. لذلك سيشعر القارئ في نصوصه أنه واحدٌ من بين قلّةٍ قليلةٍ في الوطن العربي استطاعت أن تتجاوز، في حوارها مع الفلسفة وتاريخها، مرحلة التجميع والشرح، وأن تستثمر منظومتها تلك في فهم رهانات شرطها التاريخي ووجودها الإنساني. لذلك أردتُ لهذا المقال أن يكون محاولةً لإقامة حوارٍ بين ناصيف نصّار وتاريخ الفلسفة، صادراً في ذلك عن اقتناعي بأن خير طريقة لفهم هذا الفيلسوف هي الزجّ بفكره في المضمار الذي أينع؛ في حقل الفلسفة ومجالها. أما الجواز إلى ذلك فهو مفهوم «العدل» الذي يمثل مدار هذا المقال.

أولاً: من السلطة إلى العدالة والعدل

من الغني عن البيان ما بين مفهومي «السلطة» و«العدل» من اتصالٍ استوى أمره على مقتضى التعالق الضروري بينهما حيناً، وعلى التماهي والتطابق أحياناً أخرى. لم يكن الفكر الإنساني بحاجة إلى الانقلاب الذي أحدثته الفلسفة الأمريكية المعاصرة في مجال الفلسفة السياسية لكي ينتبه إلى هذه الصلة، إذ إن الناظر في ما ألفه فلاسفة العدل عبر التاريخ، من أفلاطون وأرسطو، وصولاً إلى ممثلي النزعة الذرائعية والحدسية منذ القرن الثامن عشر، يدرك أن ما أقدم عليه رولز منذ منتصف القرن المنصرم، بأن أبدل سؤال الفلسفة السياسية الكلاسيكية بسؤال العدالة والعدل، كان يجد أصوله وجراثيمه الأولى في فكر فلاسفة السياسة السابقين له، الذين ما فكّروا في العدل إلا من وراء حجاب السلطة السياسية، فكانت النتيجة تكثيفَ التداخل بين السلطة السياسية وفكرة العدالة[12]. يكاد هذا التداخل بين المفهومين يشكّل المقدمة الرئيسية التي صدر عنها ناصيف نصّار في تحليله لمفهوم «العدل»، «فكل سلطة تواجه، منذ لحظة قيامها، سؤال العدل، لأنها حق، والعدل وضع حقوقي، فلا بد لها من تنظيم نسبتها إلى العدل ونسبة العدل إليها»[13].

هناك ملاحظتان على قدرٍ كبيرٍ من الأهمية يحسن بنا الانتباه إليهما في ضوء هذا القول: أولاهما صلة كلٍ من السلطة والعدل بمفهوم الحق، ولا سيَّما أن ناصيف نصّار أبى إلا أن يجعله سبب وجودهما معاً، وهذه ملاحظةٌ سرعان ما تلقي بظلالها على فهمنا للدولة ولعلة وجودها، إذ يقود القول إن العدل والسلطة يتقاطعان في الحق إلى حصر مشروعية الدولة وسبب وجودها في مفهوم الحق، وما ينجم عنه من تصورٍ حقوقي للعدل. وثانيتهما علاقةُ التناسب التي أقامها ناصيف نصّار بين العدل والسلطة، إذ بهذا التناسب تمتاز السلطة من السيطرة، باعتبار أن «السيطرة لا تبنى على العدل، ولا تعمل بحسب مقتضى العدل، وإذا ما حدث في عملها نوع من العدل أو شيء يشبهه، فإنه يقع بالعرض، وليس حدوثاً مقصوداً بذاته»[14].

يعني هذا القول أن وجود العدل في السلطة وجودٌ ضروري، أو هو وجودٌ بالذات إن نحن استعملنا العبارة الأرسطية، وناصيف نصّار نفسُه لا يتردّد في استعمال لغة الضرورة للتعبير عن طبيعة العلاقة الرابطة بين السلطة والعدل، ويرى أن الصراع على السلطة صراعٌ على العدل كذلك. من هذا المنطق، يؤكد هذا الفيلسوف أن «السلطة تبتعد عن السيطرة بقدر ما ترتكز على العدل وتسعى إلى تحقيقه. ويجد العدل طريقه إلى دنيا الإنسان ويتحقق في أفعاله وعلاقاته، بقدر ما تتعهده وتحرسه وتنمّيه سلطة قائمة فاعلة»[15]. العدل، إذن، فعل يتجسد في السلطة، فهو ليس فكرةً ميتافيزيقيةً تقع خارج دنيا الإنسان، ولا هو محاكاة لنموذج العدل الكوني على نحو ما نلفيه عند كثير من الفلاسفة الذين جعلوا من العدل الإنساني محاكاةً للعدل الكوني[16].

ولعل ما تجدر الإشارة إليه، في مقامنا هذا، هو هذا التضايف الذي أقامه ناصيف نصّار بين مفهومين رئيسيين في تصوره للسلطة؛ مفهوم دنيا الإنسان أولاً، ومفهوم الفعل ثانياً. فمن المعلوم أن إعمال ناصيف نصّار لمفهوم دنيا الإنسان لم يرمِ فقط إلى تمييز مقاربته للسلطة عن التصورات الميتافيزيقية أو الدينية التي كان لها سهمُها الكبير في استشكال الموضوع عبر تاريخ الفلسفة، بل إنه أتى يعبّر عن اختياره الأيديولوجي العلماني المؤمن بالحاجة إلى الفصل بين الديني والسياسي، الأمر الذي ما كان له إلا أن يُفضي إلى الزجّ بالسلطة في مضمار الحياة الإنسانية. في هذا السياق تحديداً، يمكن أن نفهم وصف فيلسوفنا للعدل بأنه فعلٌ، إذ لمفهوم الفعل حمولته الوجودية التي تربط العدل بالإنسان وبعالمه المعيش، باعتبار أن الإنسان الفاعلَ إنسانٌ قادرٌ (L’Homme capable) في نهاية المطاف على نحو ما بين ريكور[17].

ويمكن أن نفهم، إذن، سبب إصرار ناصيف نصّار على توظيف مفهوم «العدل» بدلاً من مصطلح «العدالة» الذي جرتْ عادة الباحثين العرب على إعماله، إذ يرى أن العدل أقرب إلى الفعل، في مقابل العدالة التي لا تشير إلا إلى استعداد قبلي للقيام بفعل العدل. بذلك يكون العدل شديد الصلة بالفعل السلطوي، بل هو محايثٌ له ومتعالٍ عليه في الآن نفسه؛ فهو محايثٌ للسلطة لأنه يتجسد في فعلها ومُساوق له؛ وهو متعالٍ على السلطة، لأنه يمثل قيمتها التي تنتهل منها رهاناتها الرئيسية.

صحيحٌ أن ناصيف نصّار لا يُنكر أن تكون «السعادة هي الغاية العليا التي يسعى الإنسان إليها، وأن السلطة السياسية تخدم هذه الغاية في حدود طابعها الدنيوي، وفي حدود جانبها الاجتماعي، وفي حدود إمكانات الشعب الذي تتولى أمره»[18]؛ وصحيحٌ كذلك أن استدعاءه لمفهوم «السعادة»، واعتبارها هدفاً للسلطة السياسية من شأنه أن يزجّ بمقاربته في إطار التصور الذرائعي الذي يعتبر السعادة هدفاً أسمى للوجود الاجتماعي والسياسي للإنسان. بيد أن الحديث عن السعادة هنا ليس إلا أمارةً على ارتباط فكرة العدل بحياة الإنسان ومخاضاتها اليومية، إذ لا يمكن لأحد أن ينكر، حتى إن هو كان من أشد خصوم الذرائعية، أن إدراك السعادة والسعي إليها لا يمكن أن يتم بمعزلٍ عن السلطة والعدل، «فالعدل شرطٌ من شروط السعادة، سواءٌ على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع»[19]، ولعلنا لا نتزيّد بالقول إن إقحام مفهوم «السعادة» في مضمار التفكير في علاقة السلطة بالحق والعدل، يقودنا، في جهة من الجهات، إلى التفكير في ما أسماه رولز «البنية القاعدية» (الأساسية) للمجتمع، التي من شأنها أن تجنّبنا الفهم الفردي الضيّق للمصلحة والسعادة على نحو ما لاحظ ويل كيملكا[20]، إذ إن التشوّف إلى السعادة يمُثل أهم وجوه الغايات والمصالح التي يرومها الوجود الفردي، كما أن ذلك يشكل حيّزاً مهماً مما اصطلح رولز على تسميته «حجاب الغفلة»، الذي يمثل مسلّمةً أساسيةً لفهم كيفية اشتغال العدالة واعتمال مبادئها داخل النسيج الاجتماعي والسياسي للأفراد[21]. فمن دون فهم التعارض المبدئي بين المصالح الشخصية التي من طريقها يتحصل فهم كل فرد، على حدةٍ، لمفهوم «السعادة»، لا يستقيم التفكير في العدالة كمنظومة حاكمة للمجتمع والسلطة.

على هذا النحو من النظر، يحلل ناصيف نصّار مفهوم «العدل» باعتباره مفهوماً شديد الصلة بالحياة الاجتماعية والسياسية للإنسان، وهو إذ يقرّ بذلك فإنه يعلن عن رفضه لضربين من ضروب النظر إلى العدالة، تشكّلا عبر تاريخ الفلسفة، وكان لهما حضورٌ كبير في تاريخ الفكر الإسلامي والعربي. يتعلق أولهما بالمقاربة الميتافيزيقية التي تنظر إلى العدل من حيث صلته بالترتيب الكوني للوجود، أي ذلك المعروف بالعدل الإلهي. من هذا المنطق يعارض فيلسوفنا «مناهج الذين يستخرجون نظرتهم إلى العدل الإنساني من نظرتهم الماورائية أو الدينية المسبقة، زاعمين أنه من غير الممكن تعلق العدل الإنساني إلا عن طريق التحدّر إليه مما هو فوق الإنسان وحوله»[22]، كما يرفض في مقابل ذلك التصور الذي يحصر العدل في الوجود الإنساني، مُعرضاً بذلك عن العلاقات التي ينسجها الإنسان بالعالم ومحيطه، والتي يمكن أن تستقيم بدورها على مقتضى العدل[23].

ولهذا الرفض نتائجُه التي سرعان ما تفرض نفسها علينا في هذا السياق، إذ يقود رفض التصور الميتافيزيقي واللاهوتي للعدل إلى التنازل عن البنية الميتافيزيقية لمفهوم «العدل»، وهي بنيةٌ يتداخل فيها البعد الأخلاقي بالبعد الوجودي والكوني للإنسان، وقد سبق لرولز أن أقدم على خطوة شبيهة بهذه عند تعامله مع تصور كانط للعدالة، وذلك عندما سعى إلى «طرح الشوائب الميتافيزيقية» جانباً من نظرية كانط، محتفظاً بأولوية العدل على الخير التي تقتضيها أخلاق الواجب[24]. لذلك حق لنا أن نطرح على تصور ناصيف نصّار الاعتراض نفسه الذي شهره بعض الباحثين في العدالة في وجه هذه الخطوة، لنتساءل عن مدى مشروعية وحدود بتر فكرة العدل عن مقدماتها الميتافيزيقية والأنطولوجية المؤسسة لها، وعمّا إذا كان ذلك ممكناً عندما يتعلق الأمر ببنية ثقافية لا يمكنها أن تتصور العدل إلا في علاقته بمقدماته الدينية والميتافيزيقية. وسنرى، في مقامٍ لاحقٍ من هذا البحث، أن بتر فكرة العدل من خلفيتها الثقافية، أي من بنيتها الثقافية الحاكمة لمنطقها التبريري، يبقى من أهم ما يمكن أن نعيبه على مقاربة ناصيف نصّار لمفهوم العدل.

ومهما يكن من أمر، فإن ما يقف وراء إصرار ناصيف نصّار على إخراج العدل من دائرته الميتافيزيقية والإلهية هي رغبته في النظر إليه من حيث وجوده السياسي، أي من حيث هو مبدأ محايثٌ للسلطة السياسية ومُلهمٌ لها في الآن ذاته، وهو ما يجعلنا أمام قراءةٍ سياسية لهذا المفهوم تتغيّا النظر إليه كفعل لإنساني محصور في دنيا الإنسان، فنحن أقرب ما نكون إلى ما اعتبره رولز نظريةً سياسيةً في العدل، في مقابل النظريات الميتافيزيقية واللاهوتية من جهة، والمذاهب الفلسفية التي أثّثت مشهد فلسفة العدالة من جهة ثانية. لا نتزيد إن قلنا إن ناصيف نصّار لا يخرج مناولته عن هذا الإطار النظري؛ فغايته ليست التأسيس لمذهبٍ في العدل أو في السلطة، بل وضع اليد على حقيقته من منظورٍ فلسفي، لكن من دون السقوط في مفهوم مفارق للعدل، إيماناً منه بقدرة الفلسفة على اكتساح الوجود السياسي وعقل ماهيته ومفاهيمه. ولا يرى ناصيف نصّار في الصراع على السلطة إلا علامة فارقة على الصراع على العدل، وهو صراع يشمل مختلف القوى والسلط المتدخلة في نسج الحقل السياسي في مختلف مستوياته. بذلك تتبدّى الحاجة إلى الاتفاق على مفهوم واضح للعدل، إذ «لا سبيل لتجاوز هذا التصارع من دون مفهوم واضح، واسع ومرن، يكون للتفكير في العدل كقيمة إنسانية عامة، وفي العدل من جهة السلطة السياسية، قاعدة صالحة للتحاور والتلاقي، وأداة نافعة للتنفيذ والتقدم في البحث»[25].

الغاية، إذن، من الاتفاق على مفهوم للعدل، أو لنقل من المواضعة عليه، هو الخروج من الصراع السائد حوله، الذي رأى فيه ناصيف نصّار أسّ الصراع الدائر على السلطة. صحيح أن الرجل لا ينفي أن تكون للسلطة امتداداتٌ وتمفصلاتٌ أخرى، من قبيل علاقتها بالمشروعية والأيديولوجيا والتاريخ والعقل، بيد أنه فضّل التركيز على العدل، نظراً إلى صلته الوطيدة بالتنظيم الاجتماعي. فما يهم في العدل، كمفهومٍ، هو قدرته على أن يؤدي دور القاعدة المؤسسة لـ «التحاور والتلاقي والانطلاق»، أي وظيفته الاجتماعية والسياسية التي تكمن في بلورة رؤية قادرة على تحقيق التوافق الاجتماعي والتقعيد لثقافة الحوار والتلاقي.

يكاد مفهوم العدل أن يتماهى، في سياقنا هذا، مع تصور رولز لما أسمّاه نظرية العدالة، وخاصةً أن الفيلسوف الأمريكي سطّر لنظريته أهدافاً لا تختلف عن تلك التي وضعها ناصيف نصّار لمفهومه عن العدل[26]، بل اعتبر هو الآخر أن نظريته تلك هي نظرية سياسية أتت لتتجاوز المفارقات التي يطرحها التصور الأخلاقي للتعاقد الاجتماعي بين الأفراد، فهي نظريةٌ تأخذ في الحسبان قصور التبرير الأخلاقي والديني عن تحقيق اتفاقٍ بين المواطنين، وتسعى إلى التفكير في «اتفاق بين المواطنين أنفسهم يتوصلون إليه في شروطٍ منصفة لهم جميعاً»[27].

لنلاحظ، إذن، أن الرهان الرئيسي الذي يرنو إليه الفيلسوفان معاً هو التوسل بالعدل في بلورة قاعدة للاتفاق الاجتماعي، وهذه مسألةٌ من شأنها أن تقودنا إلى التساؤل عن علاقة فكرة العدالة (حتى لا نقول مفهومها) بمنظومة الحقوق الناظمة لتصور المجتمع ككلّ للعدل، وعن المعيار الذي يمكن الاتفاق عليه من أجل تحديد مفهوم الحق نفسه، وكذا عن علاقة كل ذلك بالمنظومة التبريرية التي يمكن تطويرها لتأطير الرؤية المجتمعية إلى مفهوم «العدل»[28]، وعن دور الفلسفة في التقعيد لآليات التبرير باعتبارها شرطاً ضرورياً لفهم اشتغال العدالة وتمفصلات مفهومها داخل البناء الاجتماعي ككلٍّ.

ثانياً: في أن مفهوم العدل لا يتحصل
إلا بالنسبة إلى السلطة السياسية

يمكن أن نفهم، في ظلّ هذه المعطيات، سرّ التعريف «الاجتماعي» الذي ارتضاه ناصيف نصّار لمفهوم «العدل»، إذ يقول: «العدل بالنسبة إلى السلطة السياسية هو ترتيبٌ اجتماعيٌ تاريخي، يعترف لكل ذي حقٍ واستحقاقٍ بحقه واستحقاقه، ويتيح له أن يتمتع به، وأن يقوم بالواجب المصاحب له، تحت شروط معيّنة»[29]. من الغني عن البيان أن هذا التعريف يكاد يخفي في تضاعيفه نسبة العدل إلى السلطة السياسية، ويكتفي برصد تداخلاته بالشأن الحقوقي والاجتماعي. ولا غرابة في ذلك، إذ إن ناصيف نصّار لا يفصل السلطة السياسية عن خدماتها الاجتماعية وتجلياتها الحقوقية. فمن المعلوم أن مقاربته لمفهوم السلطة لم تتوقف عند حدود النظر في ماهيتها ومصادر مشروعيتها، بل تجاوزت تلك الحدود «التقليدية» إلى النظر في الوجه الاجتماعي والخدماتي للسلطة، فكان من الطبيعي أن يربط مسألة المشروعية السياسية بهذا الجانب من السلطة، وأن يزجّ بالعلاقة الجدلية بين الحاكم والمحكوم في مضمار الحقوق التي يجب على السلطة السياسية ضمانها على مستوى علاقتها بالفرد. ويغدو الحق في الأمر، من هذا المنظور، حقاً كذلك في تحديد الحقوق وترسيمها. بذلك يرتفع سؤال العدل ليتماهى مع سؤال المشروعية السياسية نفسها، إذ لا دولة مشروعة خارج إطار تصوّرها لمفهوم «العدل»، وهو ما ينقل سؤال مقبولية السلطة السياسية من مستوى الشرعية (مطابقتها للقانون) إلى مستوى المشروعية (مطابقتها للحق)[30]. فهل يتضمن تعريف ناصيف نصّار للعدل كل هذه الرهانات الضرورية لقيام مفهوم «العدالة» منسوباً إلى السلطة السياسية؟

1 ـ نلاحظ أن العدل عند ناصيف نصّار ترتيبٌ اجتماعيٌ وتاريخي قادر على ضمان الحقوق. هناك صعوبتان على قدر كبير من الأهمية تستوقفان الناظر في هذا التعريف، تتعلق أولاهما بطبيعة هذا التنظيم وعلاقته بالفعل والاختيار العقلاني للأفراد، وتتعلق ثانيتهما بفكرة الحق والأسس النظرية التي تقوم عليها. ففي ما يخصّ كون العدلِ ترتيباً اجتماعياً، فإن الغاية منه هي بيان الطابع الإنساني لهذا المفهوم، إذ يرى ناصيف نصار أن ذلك الترتيب «ليس هديةً من الطبيعة، بل هو من صنع الإنسان نفسه»[31]، وأنه ليس حاصلاً بمحض الصدفة أو العفوية[32].

يعني هذا القول، في جملة ما يعنيه، أن العدل ترتيبٌ اجتماعيٌ ناجمٌ عن الأفراد كفاعلين. وهنا بالضبط تتبدّى قيمة السلطة السياسية في نظر فيلسوفنا، إذ هي «أكثر السلطات الفاعلة في المجتمع قدرة ومسؤولية عن وضع الترتيب وإقامته في المجتمع، أما أطراف هذا الترتيب، فإنهم أفراد المجتمع وجماعاته، على اختلاف العلاقات والروابط التي تقوم في ما بينهم. فالترتيب الاجتماعي يطال الجانب الاجتماعي من وجود الإنسان بأوسع معانيه. وهو، بطبيعة الحال، شأنٌ تاريخي؛ بمعنى أنه متغيّر ومحكوم بظروف المكان والزمان، وبمعنى أنه موضوع لعمل مستمر وإعادة نظرٍ دائمة»[33].

إذن، الترتيب الاجتماعي العادل هو ترتيب يقوم على محاور ثلاثة: الفعل الفردي، والسلطة السياسية، والوجود التاريخي. هل يتعلق الأمر بتصور للمجتمع كذلك الذي أقام عليه رولز نظريته، والذي اختار له كعنوانٍ: «المجتمع حسن التنظيم»[34]؟ يقتضي الحديث عن هذا المفهوم استحضار الشعور العمومي بالعدالة، أي الارتفاع بها من مستوى الرؤية المصلحية الشخصية إلى مستوى تقبّل المفهوم العمومي للعدالة، وهو مفهوم سياسي في جوهره يقتضي إعمال آليات التقبل (acceptation) التي تمكّن من جعل هذه الرؤية العمومية عاملاً موجّهاً للبنية الأساسية للمجتمع، إذ إن وحده هذا الربط بين الشعور العمومي بالعدل والرهان الفردي على السعادة يمكّننا من فهم تمفصلات العلاقة بين السياسي والفردي والاجتماعي، كما يصعب الانتقال إلى الحديث عن الحق، بما هو أساس العدل والسلطة، من دون بيان هذه التمفصلات وأثرها في نحت تصوّر الأفراد عن العدل. ولا يحتفل ناصيف نصّار بشعور الأفراد تجاه العدالة، ويُفضّل الانتقال بمفهومه عن العدل إلى الحديث عن الحق باعتباره الفيصل في التمييز بين الترتيب الاجتماعي العادل والترتيب الاجتماعي الظالم[35].

أسجل، من جهتي، أن الإعراض عن استشكال آليات التبرير والتسويغ، وعلاقتها بالبنية الثقافية التي يتحرك فيها فهم الأفراد للعدل، قد يبرر بالأفق السياسي الذي اختاره ناصيف نصّار لمقاربته[36]، ولا سيَّما أن هذا الأفق يفرض على صاحبه التركيز على الحق وعملية توزيعه والفرق بينه وبين الخيارات الأساسية والأولية … إلخ[37]، غير أن ذلك لا يكفي، في نظري، للإعراض نهائياً عن هذه المسألة، وخاصةً أنها تكشف لنا عن العلاقة بين العدل والبنية الثقافية والمجتمعية التي ينشأ فيها. ولعل ما يزيد من أهميتها هو التعريف الاجتماعي الذي اختاره ناصيف نصّار لـ «العدل»، عندما نظر إليه كترتيب اجتماعي، إذ كيف يمكن الحديث عن ترتيب اجتماعي عادل، وآخر جائر، في غياب الوعي بحسّ الأفراد وشعورهم بالعدالة، كمفهوم وكبنية اجتماعية وثقافية، وفي غياب العناية بآليات التبرير والتسويغ التي يمكن لهذه السلطة أو تلك أن تعتدّ بها في عملية إنتاج المقبولية تجاه الترتيب الاجتماعي والسياسي؟

2- ما هو معيار التمييز بين الترتيب الاجتماعي العادل والترتيب الاجتماعي الظالم؟ يجيب ناصيف نصّار عن هذا السؤال بالقول إن «معيار هذا التفريق ليس سوى حقوق الناس في المجتمع»[38]. الحق، إذن، هو معيار العدل وجوهره، أي مقوّمه الذاتي الأساسي، وهذه مسألةٌ تنسجمُ مع روح المقاربة الحقوقية التي اعتمدها الفيلسوف في نظره إلى السلطة عموماً، إذ اعتبرها حقاً في الأمر مجافياً لمختلف ضروب السيطرة والتسلطن. فما هو المعنى الذي يعطيه ناصيف نصّار لمفهوم «الحق» في مقام نظرته إلى العدل والسلطة؟ نطرح هذا السؤال لأننا نعتقد أن مدار كتاب منطق السلطة كان في أساسه على الحق، وأن هذا المفهوم يخترق نصّ الكتاب، ويشكّل رهانه البعيد. ويدرك ناصيف نصّار أن العدل لا يقوم على مختلف أنواع الحقوق، بل إن هناك حقوقاً معيّنة هي التي يفترضها ترتيب العدل[39]، وهي بالذات الحقوق الطبيعية التي أقرّتها نظرية الحق الطبيعي. يقول ناصيف نصّار في هذا المعرض: «فكل إنسان يولد حاملاً منظومة من الحقوق التي لا دخل لأي سلطة بشرية في تكوينها، من الحق في الحياة وأسبابها إلى آخر ما يمكن استنباطه أو اكتشافه تأسيساً على هذا الحق. وكل ترتيب اجتماعي لا يقوم على احترام هذه الحقوق يخرج عن نطاق العدل»[40].

من الغني عن البيان أن إقامة العدل على أساس الحقوق الطبيعية من شأنه أن يقود إلى فصل الرؤية التي يصدر عنها هذا الفيلسوف عن كل المقدمات اللاهوتية التي يمكن أن تشوّش على فهمه السياسي والفلسفي لـ «العدل»، غير أن الصعوبة التي تطرح في هذا السياق تتعلق بمدى مشروعية تأسيس العدل كله على حقوق طبيعية، وهي صعوبة تنتصب على أن ناصيف نصّار أقام تصوره لأصل السلطة السياسية على رفض فكرة الطور الطبيعي (حالة الطبيعة) التي تتنزّل منزلة المسلّمة (الفرضية) الرئيسية عند فلاسفة الحق الطبيعي، نظراً إلى قدرتها على إظهار مبدأ الحق، إذ يرى أن «هذا الافتراض لا يجد سنداً كافياً له في الواقع، ولا في طبيعة الأشياء»[41]، ويفضّل، بدلاً من ذلك، الحديث عن الإرادة الجامعة التي دفعت الناس إلى الاجتماع السياسي، الأمر الذي حدا به إلى التفكير في الوضع الاجتماعي للسلطة بعيداً عن فرضية الطور الطبيعي[42].

لا يساورنا شكٌ في أن ناصيف نصّار كان موفقاً كثيراً في توظيف رفضه لفكرة الطور الطبيعي في إثبات الطابع الخدماتي للسلطة السياسية، وجعلها لصيقة بدنيا الإنسان، لكن ذلك يطرح صعوبة على مستوى تصوّره لمفهوم «الحق الطبيعي» نفسه، إذ هل يمكن الحديث عن حقوق طبيعيةٍ بمعزل عن فرضية الطور الطبيعي؟ أوَلا تمثل هذه الفرضية مسلّمة قبْلية لفكرة الحق الطبيعي؟ يمكن أن نلتمس جواباً لهذا السؤال بالتنبيه إلى أن ناصيف نصّار نفسه لا يتبنّى نظرية الحق الطبيعي، كما وردت عند كبار ممثليها، مثل ثوماس هوبز[43]، وذلك لوعيه بالدور السلبي الذي يؤديه مفهوم «القوة» والتغالب في تحديد فكرة الحق داخل هذه النظرية، وهو ما يعني أن حديثه عن حقوقٍ طبيعيةٍ مؤسسةٍ للعدل لا يتجاوز حدود ما أسماه رولز الحقوق أو الحريات الأساسية[44].

يزيد من قناعتنا هاته أن الفيلسوف العربي نظر إلى الاستحقاق باعتباره أساساً للعدل، ونفى أن يكون التغالب والقوة (الغلبة) معياراً لذلك الاستحقاق[45]، وهو ما يقرّب رؤيته من تلك التي بلورها رولز عن العدالة كإنصافٍ، على نحو ما سنرى في مقام لاحق من هذا البحث. بذلك يكون الترتيب الاجتماعي العادل هو الذي يعتمد مبدأ الاستحقاق في ضمان الحقوق الطبيعية وما يتفرع منها من حقوقٍ أخرى، بعيداً عن مبدأ القوة والسيطرة الذي بمقتضاه يستوي العدل على التغالب.

وفي هذا السياق، يمكن أن نفهم موقف صاحب باب الحرية من التصوّرات الفلسفية التي ماهت بين العدل والغالب، والتي اختار الفارابي نموذجاً دالاً عليها. يمكن لمعترض أن يرى في انتقاء ناصيف نصّار محاولة لليّ عنق متن الفارابي ليخضع فلسفته السياسية لمبدأ التغلب والقهر، ولا سيَّما أن ما اقتطعه نصّار من ذلك الخطاب إنما أتى في سياق استعراض صاحب مبادئ الموجودات لتصوّرات فلسفية، على نحو ما جرت عليه سيرته في التأليف. غير أن ما يهم ناصيف نصّار من كل ذلك هو الموقف الذي يقدمه الفارابي، والذي لا يمكن أن ننكر أنه كان شديد الحضور في تاريخ الفلسفة منذ محاورة جورجياس والجمهورية. يقوم هذا التصور على اعتبار العدل الإنساني صورةً أو محاكاةً للعدل الكوني؛ فهو، إذن، استمرارية له في دنيا الإنسان. وناصيف نصّار لا يرى مبرراً مُقنعاً لهذا التلازم بين هذين المستويين من العدل، وخاصةً أنه أراد لكتابه أن يكون نظراً في «العدل الذي نصادفه في تحليلنا للسلطة الإنسانية»[46].

علاوةً على ذلك، يمكن القول إن السبب الذي حمل فيلسوفنا على رفض التصور الكوني للعدل هو ما يحويه في أمشاجه من تصورٍ استبداديٍ للوجود، والذي يُفضي بالضرورة إلى جعل التغالب والقهر أساساً مقبولاً للعدل. ورغم اعتراف فلسفة التغالب بالميز الماهوي الحاصل بين الإنسان وغيره من الموجودات، سواء المجانسة له أو البعيدة عنه من جهة الجنس، ورغم اعترافها بما ينجم عن هذا الميز من قدرة على الاختيار، فإنها تأبى إلا أن تصهر فرادة الاختيار الإنساني في قانون التغلّب الحاكم للعدل الكوني، وهذا تحديداً ما يعيبه ناصيف نصّار على هذه الفلسفة[47]، إذ يرى أن مبدأ القوة لا يجب أن ينحصر، بالضرورة، في القهر والتغلّب، بل يمكنه أن يوظف في أفق إيجابي يقع خارج إطار فلسفة السلب. وتنظر هذه الأخيرة إلى القوة باعتبارها الوجه الآخر للتغالب، كأنه، يقول نصّار، «لا وجود للقوة إلا للتغالب، ولا نمو للقوة إلا بالتغالب. فالقوة والتغالب وجهان لظاهرةٍ واحدةٍ. والحق أنهما ظاهرتان اثنتان، مهما كان بينهما من وشائج وصلات التفاعل»[48].

المطلوب، إذن، من فلسفة السلطة أن تفصل القوة عن التغالب، أي أن تحدث انقلاباً جذرياً داخل فلسفة السلب التي تقيم العلاقة بالغير على مقتضى الصراع والتغالب، وأن تضع القوة في موضعها الطبيعي والمبدئي؛ موضع الوسيلة والاستخدام، لا الغاية والهدف.

ليست هذه الفكرة بالتفصيل البسيط بالنسبة إلى الباحث في فلسفة العدالة والحق، إذ إن تبنيها يقود حتماً إلى إعادة النظر في العلاقة الجدلية بين الصراع والحق والاعتراف. فمن المعلوم أن فكرة الحق لا تنفصل عن سبل تحصيل الاعتراف به، وقد سبق لهيغل أن حلّل مقدار التداخل الكبير بين الصراع، انطلاقاً من مبدأ الغيرية (المغايرة)[49]، وانتزاع الاعتراف بالوجود، وما يستلزمه ذلك من اعترافٍ بالحقوق المرتبطة بالذات المعترف بها. لذلك يبقى من الصعب الحديث عن اعتراف الدولة بمنظومة الحقوق بمعزل عن هذا البعد الصراعي الحاكم للاجتماع السياسي برمّته، وهذه فكرةٌ باتتْ في حكم المسلّمات التي تبنّتها فلسفة العدل والاعتراف، خاصةً بعد النقاشات التي سادت حقل الفلسفة السياسية والأخلاقية بعد المنعطف الذي أحدثه رولز في هذا المجال[50].

من هنا يبقى الحديث عن خلخلة موقع القوة، والنظر إليها على أنها مجرد وسيلةٍ في مسار الصراع، مجرد خطوةٍ لا تفيد كثيراً في تأسيس الحق على الاعتراف، لأن الاعتراف نفسه يتضمن بعداً صراعياً يصعب إغفاله في معادلة السلطة السياسية والحق.

يدرك ناصيف نصّار بدوره مقدار الأهمية التي يحظى بها مفهوم «الاعتراف» في تحديد العدل وأساسه الحقوقي، ويرى أن من مستلزمات السلطة أن تعترف للأفراد بحقوقهم الطبيعية، وأن تمكّنهم من التمتع بها. بذلك يمكن للدولة أن تقوم على قدر مقبول من المشروعية يمكِّنها من الصيرورة كياناً يستوعب مختلف الانتماءات والجماعات المكوّنة للمجتمع، فمن طريق ضمان الحق تنتزع الدولة رضا مختلف الجماعات، فتحوز ما يلزمها من المقبولية. نقرأ في منطق السلطة ما يلي: «بهذا الشرط، تقوم الدولة قياماً صحيحاً، وينخفض مستوى القهر في توليدها إلى حدّ معقول. فالرافضون لقيامها يستطيعون متابعة نضالهم ضدّها، لكن على صعيد الرأي فقط، حتى يصبحوا أغلبية، وذلك على أساس أن التعدد الأيديولوجي في الدولة أمر مشروع، ولو طال أساس الدولة نفسه»[51].

ويكاد هذا القول أن يلخّص تصور ناصيف نصّار لجدلية الدولة والعدل برمّته، إذ إن تفكيره في الدولة لم يكن، في جوهره، غير تفكيرٍ في ضروب إرساء دعائم متينة لمشروعية الدولة. وإن نحن أمعنّا النظر في هذا النصّ، أمكننا القول إن لتلك المشروعية تمفصلات تتجاوز نطاق العدل، أو هي بالأحرى امتدادٌ لمبدئه في مستوى العلاقة بين الدولة والفرد. يتعلق الأمر، أولاً، بمسألة تحصيل المقبولية والرضا باعتبارهما وجهين لمشروعية الدولة من الناحية التعاقدية والسياسية؛ ويتعلق، ثانياً، بمكانة الحق والاعتراف من وجهة نظر الدولة، وهذه إشكالية تخفي في تضاعيفها قضية ظلت حاكمة لتصوّر هذا الفيلسوف لموقع الدولة ومكنتها قياساً على السلطة والأفراد؛ أي قضية أسبقية الدولة وتعاليها على مجال السلطة من حيث هو حقلٌ للصراع والهيمنة[52]؛ في حين يتعلق الأمر، أخيراً، بعلاقة مشروعية الدولة بحرية الرأي والحق في مناقشة أسس الدولة وقواعد مشروعيتها، إذ إن هذه مسألةٌ تتصل بقواعد العدل باعتباره ضمانة للحق في التعدد والاختلاف الأيديولوجي، وما يتناسل منه من تفتقٍ لسؤال الحرية باعتبارها أساس الشرط الإنساني نفسه[53]. تمثل هذه التمفصلات الثلاثة محاور العلاقة بين العدل والدولة، وليس شأناً في باب مُجانبة الصواب الادعاء أن ناصيف نصّار كان يساجل الإعضالات التي تطرحها تلك العلاقة باستشكاله لمفهوم «العدل»، وهو بذلك يتموقع داخل المسألة الأم التي ما انفكّت تستوقف الفكر العربي الحديث والمعاصر؛ أي المسألة السياسية عامةً، ومشكلة الدولة منها تحديداً[54].

ثالثاً: في تضايف الدولة والعدل

1- نبدأ بإشكالية تحصيل المقبولية اللازمة لمشروعية الدولة وسلطتها السياسية. نلاحظ أن ناصيف نصّار يصرّ على النظر إلى سلطة الدولة كموضوع من مواضيع العدل، إذ يعرض لها أن تكون محل نزاع يقتضي إخضاعه لمبدأ العدل، سواء من حيث تداول تلك السلطة على نحو عادل بين القوى المتصارعة حولها، أو من حيث إخضاع الفعل السلطوي لمقتضى العدل[55]. ولعل هذا هو ما قصده بالقول إن كلّ صراعٍ على السلطة السياسية هو بالضرورة صراع على العدل ومفهومه. ويرى هذا الفيلسوف أن الجهة الوحيدة المسؤولة على إخضاع السلطة السياسية لمفهوم «العدل» هي سلطة الدولة نفسها، وقد حمله على ذلك رغبته الشديدة في تمييز هذه السلطة من تلك التي يمتلكها الحاكم، ليس فقط من أجل إبراز الماهية المؤسسية للسلطة السياسية، بل كذلك من أجل التشديد على أسبقية هذه الأخيرة وتعاليها المبدئي على سلطة الحاكم[56].

ومهما يكن من أمر هذا التميّز، فإن ما يهمنا منه هو تسليم ناصيف نصّار بالحق البديهي للدولة في الوجود، فهو يرى أن إرادة إيجاد الدولة «سابقة لوجودها ومستمرةٌ فيها محايثة لوجودها منذ لحظة قيامها»[57]. بذلك يتميز وجود الدولة عن وجود الفرد من حيث الترتيب والأسبقية الزمنيين، وهذا أمر سرعان ما يلقي بظلاله على فهمنا لمشروعية السلطة الدولتية، إذ يتعلق الأمر بخلق شروط المقبولية عند الأفراد تجاه سلطة سابقة لهم في الزمان، ومتعالية على إرادتهم من حيث كيانها. بيد أن ذلك لم يقُد ناصيف نصّار إلى صهر تعالي السلطة السياسي في ضرب من الاستبداد والتسلطن من شأنه أن يذهب بماهيتها كسلطةٍ تقوم على الحق والاعتراف، بل إنه سرعان ما ينبّه قارئه إلى أن ذلك التعالي الذي يستلزمه مفهوم الدولة يقتضي الظفر بقدر من الرضا، يتراوح، في نظر هذا الفيلسوف، بين الإجماع والغالبية[58].

يعني هذا القول أن الدولة تحتاج إلى رضا المجتمع، أو أغلبيته على الأقل، حتى تحتاز لنفسها القدر الكافي من المشروعية، لتثبت بذلك حقها في الوجود. وهنا نسجل أن موقف ناصيف نصّار، في هذا المقام من كتابه، يقوم على غموض ناجم عن التداخل بين مفهومي «الدولة» و«السلطة». فمن جهة، يقول إن الدولة متعالية على الأفراد وسابقة لإرادتهم، ومن جهة أخرى يقول إنها تحتاج إلى رضاهم لإثبات حقها في الوجود. ويبدو لي أن السبب في هذا الغموض هو أن ناصيف نصّار يكاد يماهي، في كثيرٍ من الأحيان، بين السلطة والدولة. صحيح أنه من أشد الباحثين العرب إلحاحاً عن التمييز بين سلطة الدولة وسلطة الحاكم، غير أن النظر إلى الدولة ككيان مجرد ومتعالٍ على مجال الفعل السلطوي، أي ككيان مؤسسي، يعبّر عن الإرادة الجامعة، ويستقل عن الصراع السياسي من حيث هو صراع على احتكار الحق في تدبير الدولة، أي على مجال السلطة؛ أقول إن النظر إلى الدولة باعتبارها كذلك لم يكن بالأمر البيّن في كتاب ناصيف نصّار. يتساءل هذا الأخير قائلاً: «فإذا لم تكن إرادة قيام الدولة موجودة عند أغلب أعضاء المجتمع على الأقل، فأي حق يكون لها في الوجود؟»[59]، وواضح من هذا السؤال أنه لا يقيم ميزاً بين ما تجسده السلطة السياسية من إرادة جامعة للأفراد (أي كنظام سياسي) والدولة «بوصفها ماهية مجردة ومتعالية على حقل الممارسة السياسية والاجتماعية والثقافية»[60].

على أن هذا التماس بين الدولة والسلطة ليس مما يقدح في مقاربة ناصيف نصّار لإشكالية العلاقة بين الدولة والحق، بل إننا نرى فيه صدى لتصوّره لمفهوم «السلطة»، وخاصةً ما تعلق منه بوجهه الاجتماعي والخدماتي. فمن اللافت للنظر أن نصار لم ينظر إلى السلطة في بعدها السياسي فقط، بل ربطها بالجانب الاجتماعي من الحياة السياسية كذلك، معتقداً أن «الاجتماعي يشمل جميع العلاقات بين الأفراد في المجتمع السياسي»[61]. ولئن كان من الصعب أن يشكّك المرء في التداخل بين السياسي والاجتماعي في مسألة السلطة، فإن الوعي بالتمايز الممكن بينهما، ولو على المستوى المفهومي والنظري، يبقى خطوة أساسية لإدراك الميز بين الدولة والسلطة.

لا نروم، من إشارتنا إلى هذا التداخل بين السياسي والاجتماعي، وبين السلطة والدولة، إلى إثبات إسهام ناصيف نصّار في تكريس ظاهرة هيمنت على تمثل الفكر العربي السياسي للدولة منذ لحظته الإصلاحية[62]، ولا نحسب إسهامه في التأصيل الفلسفي للشرط السياسي ـ الإنسان ـ في جملة ما رافق تلك الظاهرة من فقرٍ نظريٍ، كان أبرز ما وسم التفكير في الدولة في الوطن العربي على نحو ما لاحظ بلقزيز[63]، بل إننا نرى في ذلك استمرارية لتصوره لمفهوم «العدل»، الذي يتفرّع إلى أنواع كثيرة وفق ما تستلزمه كيمياء الحياة الاجتماعية، «ونظراً إلى التشابك الكثيف الحاصل بين هذه الأنواع من العدل، فإنه من الممكن اعتبارها في وجودها متمايزةً ومتكاملة لعدل واحد شامل هو العدل الاجتماعي. ونظرية السلطة السياسية، كما هي مطروحة في هذا البحث، أي على مستوى عال من التجريد، تحتاج إلى مثل هذا المفهوم للعدل الاجتماعي»[64]. فبأي معنى يكون العدل عدلاً اجتماعياً في ماهيته وجوهره؟ وكيف يلقي ذلك بظلاله على ماهية السلطة من حيث هي جدلية اعتراف، مدارها الحق والواجب، بين الحاكم والمحكوم؟

2- نعرّج، بطرحنا لهذا السؤال، على مستوى من إشكالية علاقة الدولة بالعدل يتجاوز حدود مستوى التمايز بين السلطة والدولة، ويرتبط هذه المرة بالمعنى الذي يضفيه ناصيف نصّار على مفهوم «الحق» باعتباره قوام العدل السياسي والاجتماعي، وذلك انطلاقاً من مسلّمةٍ حاكمةٍ لفكره تتمثل بالتداخل بين هذين النوعين من العدل، بل وبتبعية السياسي منه للاجتماعي في كثير من الأحيان. يستوقفنا، في هذا المستوى من التحليل، إعضال العلاقة القلقة بين الدولة والعدل بحسبانه اعترافاً رسمياً بجملة من الحقوق، الاجتماعية والسياسية، كما الرمزية والثقافية. فمن طريق هذا الإعضال يتبدّى الدور الفعّال للدولة في تحديد منظومة الحقوق التي تُمثل مدار فكرة العدل، والكيفية التي يجب اعتمادها في بلورة مفهوم «العدل» من حيث هو توزيعٌ للحقوق والخيرات الأساسية. من البديهي، إذن، أن يفتح باب التفكير في ماهية العدل من زاوية علاقته بالمساواة من جهة، وبالإنصاف من جهة ثانية[65]، إذ لا يمكن الفصل بين هذين المستويين في النظر إلى العدل، بل إن هذا المفهوم لا يغدو إشكالياً إلا إن نحن قاربناه من هذه الزاوية تحديداً، وما عمل رولز التأسيسي في مجال نظرية العدالة إلا علامة فارقة على ذلك، إذ كان عليه أن يضخّ كل تلك العدّة المفاهيمية والمنهجية في مجال العدالة للتقعيد لمفهومها كإنصافٍ[66].

يخوض ناصيف نصّار بدوره مجازفة تحديد العدل في ضوء علاقته بالإنصاف والمساواة، ويرى أن فكرة المساواة كانت في جملة الأفكار التي أقيم عليها مفهوم «العدل» عبر تاريخ الفكر السياسي، وهو إذ يُقرّ بذلك فإنه يعترف بأهمية هذه الرؤية التي تنظر إلى العدل باعتباره مساواة بين الناس في الحقوق، وخاصةً أن هذه الرؤية كانت سليلة النضال ضد مختلف أشكال التمييز العرقي التي عانتها البشرية. لذلك تجلّت المساواة في مجال النضال الإنساني من أجل الانعتاق والتحرر من مختلف أشكال الظلم والاستعباد، انطلاقاً من مسلّمة المساواة بين الأفراد في الكرامة الإنسانية والفكر والحرية … إلخ، فهي، إذن، بحسب نصّار، «قاعدة العدل العامة»[67]. غير أنها تمسي مسألةً مُشكلةً عندما نوسع دائرة النظر، فنتساءل عن فعاليتها في خلق العدالة الاجتماعية في ضوء الاختلاف الطبيعي الحاصل بين الأفراد، أي في ظلّ التباين الذي لا يمكن للعدل أن يلغيه بتمسكه بالقاعدة العامة للمساواة، وهذا أمرٌ بينٌ من خلال المبدأ الثاني الذي أقام عليه رولز تصوّره للعدالة، والقائل بضرورة العمل على الارتقاء بالتباينات الاجتماعية والطبقية إلى مستوى من العدل يضمن مقبوليتها من طرف الأفراد[68].

ومن المعلوم أن وعي الفيلسوف الأمريكي بشرط الحرية هو ما حمله على التمسك بهذا المبدأ، إذ إن ليبراليته السياسية تقتضي، بالضرورة، الاعتراف بمشروعية الفوارق بين الأفراد باعتبارها تجسيداً لفعلهم ومجهودهم الذي يتجاوز الحدود التي ترسمها حرياتهم الأساسية. لذلك كان عليه أن يخرج العدالة من أفق المساواة الضيّق ليزجّ بها في مضمار الإنصاف. ويبدو أن ناصيف نصّار نفسه لم يكن مقتنعاً بإمكانية المماهاة بين المساواة والعدل، وهو يصرّح بذلك، إذ يرفض النزعة المساواتية ليؤكد أن القول بالمساواة كقاعدة للعدل الاجتماعي «لا يعني طمس الفوارق بين الأفراد الاجتماعيين، بل يعني، على العكس، توكيد احترام هذه الفوارق باسم المساواة نفسها»[69]. والسبب في ذلك، كما عند رولز، هو الحرية التي توجد في كيان كل واحد من الأفراد، إذ «على هذا النحو، تصبح إشكالية العدل الاجتماعي، انطلاقاً من المساواة، إشكالية الحرية في المجتمع في المقام الأول». هل يعني هذا أن فيلسوفنا ينتهي إلى تبنّي الإنصاف بمعناه الذي أعطاه رولز في إطار نظريته عن العدالة؟

يصعب ادعاء تقديم جوابٍ حاسمٍ عن هذا السؤال، ليس فقط لأن ناصيف نصّار نفسه حاول توضيح الميز الذي يفصل تصوّره للإنصاف عن ذاك الذي تبنّته الفلسفة السياسية والأخلاقية المعاصرة، بل كذلك لأن محاولته تلك لم تكن على قدر من الوضوح بحيث تسمح لنا بالقول إن هذا الفيلسوف تجاوز الأفق الذي يتحرك فيه فلاسفة الإنصاف منذ رولز إلى أمارتيا صن. وبيانه أن هذا الفيلسوف، رغم اعترافه بالمكانة الفريدة التي يتبوأها العدل داخل خطاب فلسفة العدالة، ورغم إقراره بأن «هذا المفهوم يتضمن فكرة التقسيم بالتساوي، وفكرة المشاركة بالتساوي بأنقى صورها»[70]، إلا أنه يعيب عليه أنه يقدم مجرد صورةٍ من صور العدل «لا يمكن تعميمها على جميع علاقات التعاون والتبادل والتوزيع»[71]. ويعني هذا أن الإنصاف لا يمكنه أن يشمل مختلف قطاعات التبادل التي يقوم عليها العدل الاجتماعي. لذلك سيسعى ناصيف نصّار إلى إقامة هذا العدل على محاور ثلاثة، هي: الحريات العامة، والتفاوت الاقتصادي الاجتماعي، والخدمات العامة[72]. فهل يمكن القول إن هذه المحاور قادرة على إخراج العدل من طابعه القطاعي والجزئي الذي يفرضه مبدأ الإنصاف، وجعله شاملاً لمختلف ضروب التبادل والتعاون داخل المجتمع؟

يستلزم الجواب عن هذا السؤال التنبيه، أولاً، إلى المعنى الذي بات مفهوم «الإنصاف» يتخذه بعد أن اتخذ منه رولز أساس تصوّره للعدل، إذ الملاحظ عليه تركيزه على الجانب المؤسسي للعدل، وكذا على مبدأ الحياد الذي يمثل قوام العدالة في نظر رولز. ويقصد أمارتيا صن بالإنصاف «ألا نكون أنانيين في تقديراتنا، وأن نأخذ بعين الاعتبار مصالح الآخرين واهتماماتهم، وسيكون علينا تحديداً أن نتجنّب هيمنة مصالحنا وأولوياتنا علينا»[73]. يتعلق الأمر بمبدأ عام من شأنه أن يجعل من «العدل» مفهوماً يشمل مختلف قطاعات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. صحيح أنه من الممكن تطويع هذا المفهوم ليخرج عن إطار المبادئ التي حدّدها له رولز، وهذا هو ما قام به صن تحديداً[74]، غير أن ذلك ليس من شأنه أن يقدح في فعاليته الإجرائية في مجال فلسفة «العدل».

كما يقتضي منا الجواب عن ذلك السؤال، ثانياً، تدقيق النظر في المحاور التي أقام عليها ناصيف نصّار تصوّره للعدل الاجتماعي، والتي رأى فيها مجاوزة للأفق «الضيّق» الذي يتحرك فيه مفهوم «الإنصاف»، إذ يمكن القول إن تلك المحاور لا تخرج عن الإطار الذي يحدّده مفهوم «العدل» كإنصاف، فسواءٌ تعلّق الأمر بالحريات العامة أو بالتباينات الاجتماعية والاقتصادية، فإن فكرة «الإنصاف» من شأنها أن تقدم فهماً معقولاً لجدلية العدل والسلطة السياسية. لا يعني هذا القول أن ناصيف نصّار لم ينتبه إلى أهمية تلك الفكرة، بل إن الذي حمله على مساءلتها هي إيمانه بضرورة توسيعها وإغنائها لتشكل مختلف قطاعات الوجود الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للإنسان.

*****

في ضوء هذه المعطيات، وفي ضوئها فقط، يمكن أن نفهم كل ما سيقوله ناصيف نصّار عن أهمية العدل بالنسبة إلى الاجتماع السياسي؛ إشادته بدوره في التأسيس للعيش المشترك من خلال مبدأ التضامن وترسيخ ثقافته، وما يحتاج إليه توطيد العدل من ترسيخ لسلطة القضاء، وتثبيت قواعد العدل التشريعي… إلخ. ولا يخامرنا شك في أصالة مقاربة هذا الفيلسوف لمفهوم ظلّ، لمدةٍ طويلة، حكراً على الفلسفة الغربية المعاصرة التي قطعت في التنظير له أشواطاً طويلة، فأمام العوز النظري الذي ظلّ يسم الفلسفة العربية المعاصرة في مجال التنظير لمفهوم «العدل»، وأمام الاجترار الذي وسم بعض المحاولات النادرة التي تصدّت للتفكير في هذا المفهوم، لا يملك الباحث إلا أن يعترف بأهمية ما أقدم عليه ناصيف نصّار في هذا الباب. ورغم النبرة المتشائمة التي ختم بها هذا الفيلسوف حديثه عن العدل، بالقول إن العدل المتنامي بقيمة العدل بالنسبة إلى السلطة السياسية إنما يأتي بطيئاً، ولا سيَّما في ظل هيمنة الأيديولوجيا على حقل التبرير السياسي ومجال إنتاج القيم السياسية، فإن تمسكه بالفلسفة ظلّ قائماً، معتبراً أن الفلسفة من شأنها «أن تعلم السلطة السياسية أنها سلطة عامة، وليست سيطرة، وأن واجبها احترام الكرامة المطلقة لكل شخصٍ إنساني، وأن الإصغاء إلى صوت العقل ضمانة للعدل تجاه شطط الأيديولوجيا ونزفها»[75].

هنا يمكن للمرء أن يتساءل عن مدى قدرة الفلسفة على النهوض بمثل هذه المهمة، وعمّا إذا كان فلاسفتنا العرب قد أسعفونا بما يكفي من آليات تبريرية لترسيخ ثقافة تؤمن بمبدأ العدل. كما يحق له أن يتساءل عن علاقة هذه المهمة بالتراث الفلسفي الذي تتحدر منه تجربتنا الثقافية والفلسفية، وعن محدوديته التاريخية قياساً بالتراث الذي راكمته الفلسفة الغربية الحديثة والمعاصرة في مجال التفكير في العدل؟ وفي هذه الحالة، ما الذي يتبقى من فكرة الاستقلال الفلسفي التي راهن عليها فيلسوفنا العربي في التأسيس لمشروعه في النهضة الثانية؟، إذ سيتبدّى حينها أن ما يقدمه تراثنا عن العدل لا يضارع، من حيث القيمة والفعالية، ما باتت تمدّنا به الثقافة الغربية في هذا الباب، وسيكون علينا حينها أن ننهل منها جلّ عناصر تصوّرنا لهذا المفهوم، ولغيره من المفاهيم الناسجة للسلطة نفسها. بيد أن التفكير في هذه الأسئلة، بقدر ما يلوح بإمكانية نقد تصور ناصيف نصّار وخلخلة أسسه، فإنه يمثل حاجة، بل وواجباً تقتضيه أخلاقيات البحث العلمي والفلسفي، تجاه فلسفة تحوز هذا القدر من الجدّة والفرادة في جغرافيا الخطاب الفلسفي العربي المعاصر.

كتب ذات صلة:

منطق السلطة : مدخل إلى فلسفة الأمر

الإنتاج الفلسفي في الفكر العربي المعاصر في أطروحات ناصيف نصار

التنبيهات والحقيقة : مقالات إضافية حول الفلسفة والديموقراطية