تمهيد:

ألقت الأزمة الليبية التي طال أمدها (منذ 2011)، بظلالها الكثيفة على الجزائر أمنيًا ودبلوماسيًا وحتى اقتصاديًا. والجزائر هي بلد الجوار المباشر الذي يتقاسم معها حدودًا برية طويلة جدا تصل إلى 1000 كلم. مع اندلاع الثورة ضد نظام القذافي، تميز الموقف الدبلوماسي الجزائري بالغموض والارتباك أحيانًا، وبالحياد السلبي أحيانًا أخرى. وانتظرت الجزائر حتى 2014، أي مع الانقسام الليبي الداخلي الذي تحول إلى حرب أهلية قادت إلى انهيار الدولة، لتبلور موقفًا دبلوماسيًا واضحًا يعتمد على مقاربة «الحل السياسي» السلمي للأزمة ودرء أي تدخل أجنبي. تبلور هذا الموقف، بعد تقييم الجزائريين للنتائج (الأمنية خصوصًا) الكارثية للأزمة على الجزائر. لذلك انخرطت/تورطت الدبلوماسية الجزائرية في الأزمة، مقدمة العديد من المبادرات السياسية من أجل المساهمة في تسويتها. واجهت المساعي الدبلوماسية الجزائرية صعوبات ميدانية جعلت من مساعيها تلك شبه مستحيلة، تتعلق بمدى الانقسام السياسي والاجتماعي الليبي الداخلي، وتشعُّب الأزمة وامتداداتها الإقليمية والدولية. فقد صارت ليبيا مسرحًا للصراع بين القوى الكبرى على النفوذ فيها وفي سائر منطقة المغرب العربي والساحل الأفريقي.

وضعت الأزمة الليبية مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية، القائمة على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وعقيدتها الأمنية والعسكرية المرتكزة على عدم مشاركة الجيش الجزائري في عمليات عسكرية خارج حدود الوطن، في امتحان صعب. فلأول مرة تجد الجزائر نفسها في معضلة التوفيق بين تحقيق مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية بمكافحتها للتهديدات الأمنية الناجمة عن الأزمة الليبية من إرهاب وتهريب وتكوّن لميليشيات عسكرية ومخاطر انهيار الدولة من جهة، وبين الاحتفاظ بالمستلزم الأخلاقي والقيمي الذي لطالما شددت عليه الجزائر في علاقاتها الخارجية ومع دول الجوار تحديدًا من جهة خرى. ضمن هذا المنظور، ستحاول هذه الدراسة معالجة بعض الإشكاليات المتعلقة بالموضوع؛ كيف تطور الموقف الدبلوماسي الجزائري إزاء الأزمة الليبية منذ انطلاقها عام 2011؟ ما هي أسباب انشغال الدبلوماسية بالأزمة الليبية؟ هل تتمكن الجزائر من التوفيق بين المستلزم الأخلاقي والمبدئي وبين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة بعد وساطتها في الأزمة الليبية؟ ما المسارات المستقبلية المحتملة للوساطة الجزائرية في الأزمة الليبية؟

أولًا: موقف الجزائر من الثورة الليبية: عودة قليلًا إلى الوراء

منذ تسنّم القذافي سدة الحكم عام 1969، لم تكن العلاقات الجزائرية – الليبية في أحسن حالاتها، فقد طبعها التوتر على العموم والتنافس الإقليمي في أفريقيا. رغم أن البلدين لم يظهرا صراعاتهما إلى العلن، بل ظلت الخطابات السياسية تؤكد الأخوة العربية والمغاربية. كما استمرتا في توقيع الاتفاقيات الاقتصادية والأمنية واللقاءات السياسية الثنائية. لذلك فمن الخطأ الاعتقاد أن القذافي كان حليفًا للنظام الجزائري، بل بالعكس، فلطالما كان العقيد الليبي مصدر إزعاج وإحراج للجزائر. ويمكننا أن نسرد الكثير من الشواهد على ذلك؛ فالقذافي دعم فصائل مسلحة جزائرية إبان الحرب الأهلية، كما رفض إقراض الجزائر التي كانت تمر بأزمة اقتصادية حادة. كما دعم القذافي قوى المعارضة الجزائرية في الخارج للضغط على النظام الجزائري‏[1]. فضلًا عن ذلك، كان القذافي يزاحم الجزائر في مبادراتها الأفريقية ذات الطابع الاقتصادي والسياسي، ولا أدَلّ على ذلك من انقضاضه على مبادرة تجمُّع دول الساحل والصحراء، وهي فكرة جزائرية في الأساس. لذلك، وبعد قيام الثورة الشعبية في 15 شباط/فبراير 2011، وجد النظام الجزائري نفسه في معضلة بين رغبته في التخلص من نظام القذافي المزعج من جهة، وبين خشيته من انتقال الثورة إلى الداخل الجزائري.

حين الحديث عن موقف الجزائر من الثورة الليبية، يتعين التفريق بين المواقف غير الرسمية والموقف الرسمي. الأولى؛ كالأوساط الأكاديمية والصحافية وبعض قوى المجتمع المدني، انطلقت من اعتبارات أخلاقية حيث أبدت تأييدها للثورة ضد نظام القذافي، بل ودعت السلطات الجزائرية لذلك. أما الموقف الرسمي فخضع لاعتبارات أخرى مصلحية، وقد تميز بالتردد والارتباك والتناقض أحيانًا بين الأقوال والأفعال. فالجزائر ومنذ الأشهر الأولى للثورة في ليبيا تبنت موقف الحياد السلبي؛ فهي لم تطالب برحيل القذافي ولم تقم بطرد السفير الليبي. وفي ذات الوقت، لم تدعم الثوار ولم تعترف علانية بصوابية مطالبهم ولم تقم قنوات اتصال معهم‏[2]. هذا الموقف فُسَر من طرف المجلس الوطني الانتقالي الليبي (وهو سلطة موازية لنظام القذافي) بأنه موقف معادٍ للثوار، ووصل الأمر به إلى حد اتهامها بإرسال مرتزقة للقتال إلى جانب ميليشيات القذافي. رغم أن نظام بوتفليقة – آنذاك – قد برر موقفه بأنه استمرار في تبني أحد المبادئ الراسخة في السياسة الخارجية الجزائرية، وهي عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والدعوة إلى الحلول السياسية والدبلوماسية. يمكن القول أن الموقف الجزائري الرسمي من الثورة الليبية، والذي طبعه الارتباك والحذر والترقب، يندرج في إطار موقفها من الربيع العربي بكيفية عامة. فالنظام الجزائري كان يتخوف من حدوث ما يسمى «سقوط أحجار الدومينو». أي كان يخشى انتقال الربيع العربي إلى الجزائر التي لا تختلف أوضاعها السياسية والاقتصادية كثيرًا عن تلك الدول التي اندلعت فيها الانتفاضات الشعبية. غير أن اشتداد الثورة الليبية وتحولها إلى حرب أهلية مدمرة، على إثر الانقسام السياسي الذي حصل في صفوفها عقب القضاء على نظام القذافي، بتدخل أجنبي (الحلف الأطلسي بقيادة فرنسية) وتأكد الجزائر أن المعركة محسومة لصالح طرف الثوار، بدأت الجزائر تبدي انشغالًا متزايدًا بالأزمة الليبية المتفاقمة.

ثانيًا: طبيعة الانشغال الدبلوماسي الجزائري بالأزمة الليبية: الأمن والاستقرار الإقليمي

اهتزت منطقة المغرب العربي والساحل الأفريقي عمومًا على وقع الأزمة الليبية المدمرة، فلا شك أنها جعلت الوضع الأمني في كل المنطقة يتميز بالهشاشة، مع سهولة تهريب السلاح من ليبيا إلى البلدان المجاورة‏[3]. وكانت الجزائر أكبر المتأثرين بها، ولا سيما بعد تدخل الناتو عسكريًا والخراب الذي خلفه، فعادة ما يستتبع أي تدخل عسكري أجنبي عملية إعادة إعمار واسعة النطاق، لكن هذا لم يحدث في ليبيا، فبعدما فرغ الناتو من مهمته وهي القضاء على نظام القذافي، غادر ليبيا وترك وراءه دولة منهارة بقطاعات أمنية متهالكة وانتشار لميليشيات عسكرية متناحرة‏[4]. هذا الوضع الخطير جعل ليبيا مصدرًا لكل التهديدات. وبحكم تقاسم الجزائر الحدود الشرقية مع ليبيا والتي تقدر بـ 982 كلم، فقد تعرضت الجزائر لمخاطر كبيرة. لقد ترتب على الصراع في ليبيا تهريب الأسلحة وانتقالها إلى الساحل الأفريقي وإلى تنظيمات إرهابية كالقاعدة في المغرب الإسلامي، وبالتالي؛ توسعت رقعة الإرهاب في المنطقة وتحولت ليبيا إلى أحد معاقله. فضلًا عن وصول جحافل من اللاجئين والمهاجرين العائدين من ليبيا إلى التراب الجزائري‏[5]. الحدود الطويلة والسائبة وغير المضبوطة أمنيًا التي تشترك فيها ليبيا مع دول الساحل الأفريقي، وتحديدًا تشاد ونيجيريا والجزائر، أدت إلى ظهور طرق لتهريب السلاح وسواه من البضائع غير القانونية. ويعود سبب انهيار قدرة ليبيا على ضبط حدودها الشاسعة مع الجزائر ومع سائر دول الجوار التي تقدر بـ 4300 كلم، إلى عاملين أساسيين وهما: أولًا، فشل الدولة وغياب السلطة المركزية، وما خلفه من تركة متمثلة في مناطق حدودية مهملة اقتصاديًا واجتماعيًا يعتمد سكانها إلى حد كبير على التجارة عبر الحدود لتأمين معيشتهم؛ ثانيًا، تهالك القطاع الأمني الليبي الذي افتقر إلى التنسيق المركزي الواضح والمعدات والروح المعنوية‏[6].

أورد تقرير صادر عن بعثة تابعة للأمم المتحدة في كانون الأول/ديسمبر 2011، أنه إذا بقيت الحدود على ما هي عليه خارج السيطرة لفترة طويلة فسوف تتدفق الأسلحة بحرّية تامة. والأسلحة التي يتم تسليمها في إطار برنامج نزع السلاح سوف يعاد شراؤها في السوق السوداء والبالغ عددها 45 مليون قطعة‏[7]! استغل المهربون شساعة الحدود البرية الجزائرية – الليبية، لتهريب كميات ضخمة من الأسلحة. فقد أشارت العديد من التحقيقات إلى أن الجزائر صارت سوقًا رائجًا لمختلف الأسلحة الليبية الخفيفة وبأسعار مناسبة‏[8]. فعلى الحدود الجزائرية فقدت الحكومة المركزية في طرابلس السيطرة الفعلية على أغلب مناطقها، وفي هذا الإطار نقلت تقارير إعلامية جزائرية معلومات عن وجود 14 كتيبة مسلحة على طول الحدود الليبية. وتعد كتائب التبو من أهم الكتائب المسلحة الناشطة هناك، فضلًا عن كتائب ثورة غدامس والطوارق وكتيبة التولي، وكتائب أخرى من مناطق زويلة وبارجوج والقطرون‏[9]. وأخطر ما في مسألة تهريب السلاح الليبي هو إمكان وقوعه بيد تنظيمات إرهابية لا تنشط داخل ليبيا فحسب، بل في كامل ربوع الساحل الأفريقي والمغرب العربي. فقد أصبحت الحدود الجنوبية بين ليبيا ومالي ونيجر والجزائر سوقًا مفتوحة تتخذ منها جماعات إرهابية مركزًا للتخطيط وتنسيق أنشطتها وعملياتها. وتوجد تقارير تفيد بوقوع كميات من هذه الأسلحة بيد تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي الارهابي، الذي ينشط في منطقة الساحل الأفريقي‏[10]. فقد مكَّن السلاح الليبي تنظيم القاعدة وحركات التمرد الطوارقية من السيطرة على شمال مالي، وإدخال المنطقة في حرب أهلية مدمرة تبعها تدخل عسكري فرنسي بحجة مكافحة الإرهاب الذي كان قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على العاصمة المالية باماكو‏[11].

لعل أخطر تهديد إرهابي تعرضت له الجزائر جراء انتشار السلاح الليبي هو ذلك الهجوم الذي تعرضت له المنشآت الغازية في تيقنتورين بمدينة تمنراست. في 16 كانون الثاني/يناير 2013، حيث احتطف تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي 250 عاملًا جزائريًا و30 أجنبيًا من مختلف الجنسيات، من أجل مساومة حكوماتهم الأصلية بطلب فدىً. وبالرغم من التدخل الفوري للجيش الجزائري، غير أن عملية تحرير الرهائن كانت دامية حيث عرفت سقوط العديد من الرهائن قتلى. كما ارتفع في هذه الفترة مستوى العنف الإرهابي. فالمزاعم تشير إلى استخدام مئات الكيلوغرامات من متفجرات «سيمتكس» من حقبة القذافي من جانب الإرهابيين بالقرب من الجزائر العاصمة خلال صيف عام 2011. كما ضرب تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي جهاز الأمن في شمال الجزائر بموجة من الهجمات الإرهابية وذلك بالاستفادة من الأسلحة الليبية المهربة‏[12].

أحد الانعكاسات الكارثية للأزمة الليبية على المنطقة عمومًا وعلى الجزائر بصفة خاصة، هي مسألة عودة المهاجرين الأفارقة من ليبيا إلى الدول المجاورة(*)، بما يطرحه هذا الموضوع من إشكاليات أمنية وإنسانية. فليبيا ومنذ التسعينيات صارت منطقة استقرار لمئات الألوف من المهاجرين غير الشرعيين وكذلك منطقة عبور للكثير منهم نحو أوروبا (إيطاليا تحديدًا)‏[13]. فخطر المهجَرين من أفريقيا الساحل والصحراء العائدين من ليبيا يؤسس لمشاكل أمنية في الجزائر وفي المنطقة المغاربية عمومًا. في ظل عدم قدرة حكومات هذه الدول على التكفل بهم وهذا سيخلق لها مشاكل إنسانية ما يجعلها عرضة لضغوط المنظمات الدولية الإنسانية، وكذلك من طرف القوى الكبرى التي تستغل هذا الملف كورقة ضغط تمارسها على الجزائر من حين إلى آخر. هذا من جهة، من جهة أخرى، هناك مخاطر أمنية تتعلق باستثمار الجماعات الإرهابية كالقاعدة في المغرب الإسلامي وتنظيم داعش (كفاعل جديد)، في تجنيد هؤلاء المهاجرين الذين يعانون أوضاعًا اقتصادية واجتماعية صعبة، ما سيزيد قدرة هذه الجماعات الإرهابية على النشاط أكثر وشن هجمات أكبر على الجزائر ودول المنطقة.

تدخل الحلف الأطلسي بقيادة فرنسية في الجوار الليبي المباشر، كان أحد أهم أسباب الانشغال الاستراتيجي والأمني الجزائري بالوضع في ليبيا. فوجود قوات غربية على حدودها يسمح لها بالتجسس على خطط تحرك وانتشار الجيش الجزائري والعتاد العسكري الذي بحوزته، وبخاصة أن برامج تسلحه في السنوات الأخيرة تثير انشغالات في الغرب‏[14]. فضلًا عن ذلك، فقد دخل عامل جديد وهو تحول ليبيا إلى حلبة صراع بين القوى الإقليمية والدولية، وبخاصة تركيا وروسيا ومصر..، التي أبدت استعدادها للتدخل عسكريًا لدعم حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، وهذا ما أجج مخاوف صانع القرار الجزائري الذي رأى أن قيام حرب جديدة بين الأفرقاء الليبيين بدعم عسكري خارجي سيفاقم الوضع الأمني المتردي أصلًا، وهو ما سيترتب عنه انعكاسات أمنية خطيرة على الجزائر.

ثالثًا: مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية وعقيدتها الأمنية أمام امتحان الأزمة الليبية

الأزمة الليبية خلفت بيئة إقليمية غير مستقرة كانت شديدة الوطأة على الأمن الجزائري. وفي ظل سعي الجزائر للمساهمة في حل هذه الأزمة وقعت في مأزق؛ يتمثل بالتوفيق بين المستلزم الأخلاقي بمعنى الحفاظ على مبادئها الأساسية في سياستها الخارجية وعقيدتها الأمنية، وبين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة عمومًا‏[15]. منذ استقلال الجزائر عام 1962، تضافرت عوامل عديدة لتبلور مبادئ للسياسة الخارجية الجزائرية وتحدد عقيدتها الأمنية والدفاعية. وهي؛ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، والسعي للحلول السياسية للأزمات الدولية، ورفض أي نوع من أنواع التدخل الأجنبي وعدم مشاركة الجيش الوطني الشعبي في عمليات عسكرية خارج حدود الوطن. وقد تطورت هذه المبادئ لتتحول مع مرور الزمن إلى ثوابت مدسترة. فقد نصت المادة (29) من الدستور «تمتنع الجزائر عن اللجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى وحريتها. وتبذل جهدها لتسوية الخلافات الدولية بالوسائل السلمية»‏[16].

فأحد أهم مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية هي، عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول. منذ اندلاع الثورة الليبية حاولت الجزائر جاهدةً التمسك بهذا المبدأ، غير أن الأحداث الدامية في ليبيا وخشيتها من انتقال عدوى الثورة إلى الداخل أجبر نظام بوتفليقة على الميل أكثر إلى نظام القذافي وظهر ذلك من خلال العديد من الدلائل، وهي استضافة عائلة العقيد الليبي بعد اشتداد الصراع، كما كانت هناك اتهامات (ولو أنه لا وجود لدلائل مادية على ذلك)، بإرسال مرتزقة للقتال إلى جانب كتائب القذافي، وقد نفت الخارجية الجزائرية ذلك بصورة قاطعة. وبعد سقوط القذافي، لم تكن الجزائر بعيدة من الأحداث في ليبيا، فمع الانقسام الذي شهدته الساحة السياسية الليبية(*). قامت الجزائر بالدعم السياسي والدبلوماسي للحكومة الشرعية في طرابلس في مواجهة حفتر.

تتمسك الجزائر كذلك بمبدأ آخر مهم صار يمثل إحدى ركائز عقيدتها الأمنية والدفاعية وهو؛ «عدم مشاركة الجيش الجزائري في أية عمليات عسكرية خارج حدود الوطن». فباستثناء مشاركة الجيش الجزائري في حربي 1967 و1973 ضد إسرائيل، لا تسمح الجزائر بإرسال الجيش لخوض أي حرب إقليمية أو دولية، ويقتصر دور الجيش في الدفاع عن حدود الوطن. لكن تغير طبيعة التهديدات التي صارت تتعرض لها الجزائر من محيطها الإقليمي بصفة عامة ومن ليبيا بكيفية خاصة، جعل الكثيرين في الجزائر يدعون إلى إعادة النظر في هذا المبدأ (عدم مشاركة الجيش في حروب خارج الوطن)، ويطرحونه محل التساؤل ويدعون إلى مراجعته. نشير بداية إلى أن المادة (29) من الدستور، تنص على منع الجيش من المشاركة في حرب «عدوانية» ضد دول أخرى أي كيانات دولتية، أما التهديدات التي تتعرض لها الجزائر من ليبيا خاصةً فهي تهديدات لاتماثلية. فمع انهيار الدولة في ليبيا انقسمت الأخيرة وفقدت الحكومة المركزية سيطرتها على كامل التراب الليبي، وظهر فيها الكثير من الميليشيات ذات طبيعة قبلية وبعض هذه القبائل لديها امتدادات داخل الجزائر مثل قبائل «الطوارق» في الجنوب الشرقي الجزائري.

فضلًا عن ذلك، صارت ليبيا أرضًا مستباحة للكثير من الجماعات الإرهابية تمثل تهديدًا مستقبليًا للجزائر. لذلك، لا يمكن للجزائر مواجهة هذه التحديات الهجينة بذات المنطق الأمني التقليدي وبالإدراكات الدفاعية نفسها القائمة على تأمين الحدود وحمايتها والحفاظ على وحدة التراب الوطني وسلامته بانتهاج الخيارات الدفاعية دون المساس بسيادة الدول‏[17]. وعمليًا، ومنذ 2014، بدأت الجزائر تمارس بعض السلوكيات الأمنية التي تتناقض وهذا المبدأ(‏*)؛ فبعد وصول معلومات تفيد بتهديد جماعة إرهابية للسفارة الجزائرية بليبيا، سافرت عدة مجموعات صغيرة من العملاء الجزائريين إلى طرابلس من دون ترتيب مسبق مع جماعة الزنتان، وتم الاتفاق على نقل الدبلوماسيين إلى الزنتان ثم إلى الجزائر العاصمة. وفي أيار/مايو 2014، وقَعت الجزائر على اتفاق تعاون أمني مع تونس منحها «حق المطاردة التي تتخطى الحدود القومية»، أو القدرة على الانخراط في العمليات العسكرية عبر الحدود على الأراضي التونسية‏[18]. كما تعمل الجزائر على صيانة أمنها عبر ما يسمى «الأمن التعاوني» بمعنى؛ التنسيق الإقليمي مع دول المنطقة المغاربية والساحلية لحفظ الأمن الإقليمي. وهذا سيفرض على الجيش الجزائري المشاركة في المبادرات الأمنية الإقليمية.

تعالت الأصوات داخل الجزائر من طرف الخبراء تدعوها إلى التخلي عن مبدأ عدم التدخل العسكري، الذي يمثل عصب عقيدتها الأمنية والدفاعية. فدعاة التدخل يرون أن الجزائر لا يمكنها الثبات على هذا المبدأ بأي حال من الأحوال. وبخاصة أن تأمين الحدود الجزائرية – الليبية الذي يعد أولوية أمنية قصوى بالنسبة إلى الجزائر، يكون صعب المنال في غياب دولة أو ممثل شرعي لها في ليبيا، وحتى وإن وجد محاور دولتي مثل – حكومة الوفاق الوطني في طرابلس – ، فهو يفتقر إلى القدرة الكافية لمراقبة أراضيه فضلًا عن حدوده. وهنا مكمن المعضلة الجزائرية التي تؤكد عدم التدخل في شؤون الآخرين، وبخاصة جيرانها المباشرين حتى وإن كانوا يتخبطون في الفوضى وتحول دولهم إلى معاقل للإرهاب والجريمة المنظمة والهجرة واللجوء العابرة للحدود بطبيعتها.. ولا سيما أن هذه الدول في حد ذاتها أصبحت مصدر تهديد للأمن القومي الجزائري. فأمن الجزائر يصان بعيدًا من حدودها الجغرافية‏[19]. فضلًا عن ذلك، فالقوى الكبرى تمارس ضغوطًا رهيبة على الجزائر لحثها على التدخل العسكري في أزمات المنطقة، وبخاصة في ليبيا مع التطورات الأخيرة. كل هذه الاعتبارات ستجعل من الصعب على الجزائر أن تتمسك بهذا المبدأ الذي يبدو أنه قد تجاوزه الزمن.

 

رابعًا: مقاربة «الحل السياسي» الجزائرية للأزمة الليبية: صعوبات ميدانية

الموقف الدبلوماسي الجزائري إزاء الأزمة الليبية، ظل غامضًا ويتسم بالتردد والارتباك بعد سقوط القذافي. إلى غاية 2014؛ مع اشتداد الانقسام السياسي الليبي والذي تحول إلى صراع عسكري دموي بين حفتر الذي أطلق عملية الكرامة وحكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليًا والتي أطلقت عملية فجر ليبيا. في هذه الأثناء بدأ يتبلور الموقف الدبلوماسي الجزائري بوضوح أشدّ. حيث دعت إلى المقاربة السياسية السلمية في حل الأزمة، ورفض التدخل الأجنبي ولا سيما العسكري الذي أجج الصراع بين الأفرقاء السياسيين الليبيين.

مع مرور السنوات، تمكنت الجزائر من بلورة رؤية واضحة حول الأزمة الليبية، صارت بمنزلة ثوابت دبلوماسية. وهذه الرؤية مستوحاة من مبادئ سياستها الخارجية وعقيدتها الأمنية والدفاعية (التي تحدثنا عنها سالفًا). فالجزائر تدعو دائمًا إلى إشراك كل الأطراف الليبية الفاعلة في الأزمة من دون إقصاء أي طرف من عملية الحوار، والمسار السياسي الجاري لتأليف حكومة وحدة وطنية. فضمن هذا الإطار ترفض الجزائر إقصاء حتى كوادر النظام الليبي السابق وأنصاره في الحوار السياسي، انطلاقًا من أنهم يتمتعون بقدر من الثقة والنفوذ لدى المجتمع الليبي بما قد يسهم في إتمام عملية المصالحة الوطنية. فأكثر ما تخشاه الجزائر هو انهيار الدولة والحكم المركزي، بما يترتب عليه من قيام ميليشيات عسكرية غير متحكم فيها. لذلك تدعو إلى إنشاء مجلس عسكري أعلى يتولى منصب القائد الأعلى للجيش الليبي ويفرض سيطرته على كل ربوع الدولة الليبية. وبهذا الخصوص، توافق الجزائر على أن يكون المشير خليفة حفتر هو القائد الأعلى للجيش الليبي. أما على المستوى السياسي، فالجزائر تؤكد ضرورة دعم المؤسسات السياسية المنبثقة من الاتفاق السياسي الليبي (الصخيرات). وهذا هو المبدأ الشرعي الذي تتمسك به الدبلوماسية الجزائرية في دعمها لحكومة الوفاق الوطني وللمجلس الأعلى للدولة، واللذين يلقيان دعمًا من الغرب الليبي، إحدى مناطق النفوذ الأساسية للجزائر. وأخيرًا، ترفض الجزائر كل صنوف التدخل العسكري الأجنبي في ليبيا. فالتجارب – كما أسلفنا – أكدت أن التدخل الأجنبي العسكري‏[20] خصوصًا ومن أي طرف كان وتحت أي ذريعة، لن يحل الأزمة بل سيزيد من تفاقمها وتعفين الأوضاع أكثر.

منذ انفجار الصراع الداخلي بين الأأفرقاء الليبيين، قدمت الجزائر العديد من المبادرات السياسية، وكانت دائمًا القوى الكبرى – وبخاصة فرنسا – هي من يبادر لإجهاضها خدمة لمصالحها، بدايةً من آلية دول الجوار التي أرادت عبرها درء التدخل الأجنبي في ليبيا، إلا أن عدم التزام الدول المشاركة ببنودها قاد إلى إجهاضها في نهاية المطاف. ثم مبادرة الداخل الليبي في 2017، وكانت قاب قوسين أو أدنى من النجاح بعد إقناع جميع الأطراف الليبية بالجلوس إلى طاولة الحوار، قبل أن تتمكن فرنسا من التشويش عليها وإفسادها بعد إطلاقها مسارًا موازيًا في باريس. فضلًا عن مساعي الجزائر لإدخال إصلاحات على اتفاق الصخيرات حيث تم الاتفاق على تقسيم السلطة والثروة بصورة عادلة بين المناطق، وذلك بالاعتراف بحفتر كقائد أعلى للجيش الليبي والمؤسسات السياسية في طرابلس تحت سيطرة السراج‏[21]. غير أن هذه المساعي لم تتكلل بالنجاح مرة أخرى، بسبب سياسات القوى الكبرى والانقسامات العميقة سياسيًا واجتماعيًا بين الأأفرقاء الليبيين.

تتحرك الجزائر دبلوماسيًا في إطار سعيها للوساطة لحل الأزمة الليبية على عدة مستويات: على مستوى الأطراف الليبية؛ وفي الإطار الإقليمي، أي على مستوى دول الجوار الليبي المعنية مباشرة بالأزمة؛ وأخيرًا على المستوى الدولي (مع القوى الكبرى والمنظمات الدولية).

أولًا: على المستوى المحلي الليبي: احتفظت الجزائر بمسافة واحدة مع كل أطراف النزاع، حتى تلك التي بدا أنها قريبة من الجزائر أي حكومة الوفاق. فأي دعم جزائري علني لأحد الأفرقاء الليبيين سيُفسَر على أنه تناقض مع أهم مبدأ من مبادئ السياسة الخارجية الجزائرية وهو «عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول». فقد حافظت الجزائر على وجود اتصالات مع الجميع، حتى مع المشير حفتر الذي اعترفت بثقله العسكري، والذي كانت له مواقف عدائية تجاه الجزائر. فقد استقبلت الأخيرة حفتر على أراضيها في 18 كانون الأول/ديسمبر 2016، للتباحث معه حول مخرج للأزمة الليبية المتعثرة. كما استقبلت وفدًا عنه قبيل مؤتمر برلين بخصوص الاتفاق على وقف إطلاق النار. كما استقبلت الجزائر عقيلة صالح وعددًا من نواب البرلمان الليبي في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2016. وأكثر من ذلك، تستمر الجزائر في ربط اتصالات حتى مع مسؤولين سابقين في نظام القذافي، وبخاصة من القبائل التي تحظى الجزائر بالاحترام لديها.

أحد مداخل الدبلوماسية الجزائرية في الأزمة الليبية على المستوى المحلي الليبي؛ هو ربطها لعلاقات متينة مع زعماء القبائل المتناحرة. مع العلم أن لهذه القبائل امتدادات في الداخل الجزائري وبخاصة قبيلة الطوارق في الجنوب الغربي الليبي. وفي هذا السياق، توسطت الجزائر لإنهاء الاقتتال بين الكثير من القبائل الليبية. وعلى سبيل المثال نذكر تدخلها لوقف المعارك التي نشأت في أوباري بين قبيلتي الطوارق والتبو‏[22]. على هذا المنوال تمد الجزائر جسور العلاقات الودية مع كل التيارات الإسلامية في المنطقة بصفة عامة، (فعلى سبيل المثال فقد تقاربت مع الإسلاميين في تونس كحركة النهضة). وفي ليبيا، تعترف الجزائر بالإسلاميين فهي تعدّ حركة الإخوان تيارًا سياسيًا مهمًا وليست حركة إرهابية. كما تُنشئ خطوط اتصال مباشرة مع علي الصلابي. كذلك استقبلت في 2014 عبد الحكيم بلحاج أحد أهم الفواعل الإسلامية في ليبيا‏[23].

ثانيًا: أما على المستويين الإقليمي والدولي؛ فقد شاركت الجزائر في كل الأطر الإقليمية لدول الجوار الليبي، وهو الإطار المفضل لديها باعتبار دول الجوار هي المعنية مباشرةً بالأزمة الليبية. فتعمل الجزائر على التنسيق معها في الكثير من القضايا خاصةً المتعلقة بتأمين الحدود مع ليبيا. كثَفت الجزائر من حجم تنسيقها مع تونس على الخصوص، التي تتطابق وجهات نظرهما حول الحل السياسي للأزمة الليبية‏[24] ورفض التدخل الأجنبي. ويعد اتفاق غدامس(*) الأهم حيث تم رفع درجة التنسيق إلى المستوى الأمني. دعمت الجزائر من جانب آخر اتفاق الصخيرات الذي انعقد في المغرب، وبالتالي؛ يكون هذا التوافق الأول من نوعه بين الجزائر العاصمة والرباط، واللتان تحكمهما علاقات متوترة منذ عقود. وأكثر من ذلك، راحت الجزائر تعقد اجتماعات جوارية تشاورية بين أطراف النزاع الليبي من أجل دعم اتفاق الصخيرات وجعله قابلًا للتطبيق الميداني.

وعقب مؤتمر برلين مباشرةً دعت الجزائر وزراء خارجية دول الجوار الليبي (تونس، مصر، التشاد السودان ومالي) إلى اجتماع في الجزائر العاصمة، لتؤكد أن هذه الدول هي المعنية بحل الأزمة الليبية وليس القوى الكبرى المجتمعة في برلين. ومن أهم ما تمخض عن هذا الاجتماع: رفض التدخل الأجنبي وضرورة حظر الأسلحة ومنع تدفقها إلى التراب الليبي. مع التأكيد أنه لا حل للأزمة إلا الحل السياسي في إطار الحوار الليبي – الليبي. وكان الاستعجال الجزائري في عقد هذا الاجتماع، درءًا لعسكرة الأزمة، والوصول إلى وضع يصعب فيه التوصل إلى ترتيبات لحل سياسي من جهة، ومن جهة أخرى لمنع تحول الأراضي الليبية إلى ساحة صراع بين القوى الكبرى‏[25]. يبدو أن هذا الاجتماع – على أهميته – قد بني على أرض هشة؛ بسبب موقف مصر، التي عبرت عن رفض أي مسار قد يمكَن أعداء النظام الأيديولوجيين من الحكم والمقصود هنا «الإخوان المسلمون»، الذين يلقون دعمًا من حكومة السراج حسب الطرح المصري. ورغم أن الجزائر لم توجه دعوة إلى أي من أطراف الصراع الليبي إلى هذا الاجتماع، غير أنه قد لاقى ترحيبًا من حكومة السراج، في حين لم يعرب المشير خليفة حفتر عن ترحيبه بمخرجات هذا الاجتماع، وهذا مؤشر سلبي؛ إذ يوحي بعدم تحمس – إن لم نقل رفض – حفتر للدور الدبلوماسي الجزائري الذي يرى فيه ميلًا لمصلحة السراج.

مؤتمر برلين: المهمة الصعبة للدبلوماسية الجزائرية

تلقت الجزائر دعوة رسمية للمشاركة في مؤتمر برلين‏[26] حول الأزمة الليبية، الذي انعقد في 19 كانون الثاني/يناير 2020. وذلك بعدما تم استبعادها قبل أسابيع قليلة. السبب في ذلك يعود إلى اعتبارين أساسيين؛ أولًا: الدور الكبير لتركيا وبعض الدول الداعمة لحكومة السراج (بخاصة إيطاليا، التي أصرت على حضور الجزائر من أجل ضمان الدعم الدبلوماسي والسياسي الجزائري ثقيل الوزن، لترجيح الكفة لصالح وجهة نظرها المتعلقة بمساندة الحكومة المعترف بها دوليا في طرابلس). ثانيًا: الاستقرار السياسي النسبي للأوضاع الداخلية بعد انتخابات 12 كانون الأول/ديسمبر 2019، وعودة انشغال الدبلوماسية الجزائرية بالوضع المتردي في محيطها الإقليمي المغاربي والساحلي لاسيما الأزمة الليبية. مشاركة الجزائر في مؤتمر برلين كانت أول اختبار دبلوماسي للرئيس الجديد تبون بصفته ممثلًا للسياسة الخارجية، وهو ذو التكوين الإداري – البيروقراطي(*).

شاركت الجزائر في مؤتمر برلين، وهي تعاني مآزق جدية، جعلت من مهمتها الدبلوماسية مسألة صعبة. فرغم دعمها لحكومة الوفاق في طرابلس، لكن المشكل أن هذه الحكومة قريبة من تركيا التي تفرض عليها شبه وصاية. فالجزائر تخشى إن استتب الأمر لحكومة الوفاق الوطني بدعم دولي، أن تعطي مستقبلًا امتيازات اقتصادية وربما عسكرية لتركيا، بحيث يكون لإسطنبول قاعدة عسكرية لها في الأراضي الليبية ستمثل خطرًا استراتيجيًا مستقبليًا على الجزائر. فلتركيا طموحات في شمال أفريقيا بعدما وضعت قدمًا لها في الشرق الأوسط. ذهبت الجزائر إلى مؤتمر برلين كذلك، وهي تراودها شكوك حول الجدوى منه، فهي تدرك أنه لا يعدو أن يكون «ترتيبًا أمنيًا» بين قوى كبرى وإقليمية أكثر منه إطارًا للتباحث في إيجاد حل سياسي للأزمة الليبية. ففرص نجاح المؤتمر مرهونة بمدى التوافق بين مصالح هذه القوى، إذ إن وقف إطلاق النار كان من البداية بعد اتفاق روسي – تركي. فيبدو أن الأطراف الليبية المتصارعة لم تعد تملك مصيرها بأيديها، ولا تملك الجزائر الكثير من وسائل الضغط على القوى الكبرى المؤثرة في المشهد الليبي، سوى ما تعلق بالشأن الأمني. بعبارة أخرى؛ ستحاول الجزائر إقناع هذه القوى أنها هي من سيتحمل تبعات الحرب في ليبيا، التي ستتفاقم جراءها موجات الهجرة نحو أوروبا، وستتحول ليبيا إلى ساحة مستباحة لتنظيمات إرهابية ستهدد مصالهم الاقتصادية في كامل المنطقة المغاربية والساحلية – الصحراوية.

خامسًا: مسارات مستقبلية محتملة للوساطة الجزائرية لتسوية الأزمة الليبية

مع وصول نخبة جديدة إلى الحكم، أبدت الجزائر انشغالًا متزايدًا بالأزمة الليبية. فمن الواضح أنها ستستمر في مبادراتها السياسية للمساهمة في تسوية الأزمة. وحدود نجاح أو فشل هذه الوساطة مرتبط بالتطورات الميدانية على الأرض. ويبدو أن مؤتمر برلين قد أقر سلامًا هشًا في ليبيا، فبعد انعقاده مباشرة بدأت الأطراف الليبية المتصارعة تتبادل التهم بشأن انتهاك وقف إطلاق النار واختراق بنود المؤتمر.

يرى صنّاع السياسة الخارجية الجزائرية أن فرنسا هي أحد الفواعل الأساسية المتسببة في إجهاض أي مبادرة جزائرية للوساطة في الأزمة الليبية. لذلك تشعر الجزائر دائمًا بالتهميش بخصوص ليبيا. وهناك من يعتقد أن الجزائر ستحاول تعضيد موقفها من الأزمة بتعزيز تقاربها مع روسيا، في محاولة للحد من النفوذ الفرنسي. وربما تحاول الجزائر استغلال التنافس الروسي – الفرنسي من خلال تكثيف الشراكة الأمنية مع موسكو، لتقويض ما تعتبره نطاقا شبه مستمر للنفوذ الفرنسي الممتد من المغرب إلى مالي وإلى مصر وإلى ما وراء ذلك‏[27].

ستحاول الجزائر تكثيف جهودها للتنسيق مع دول الجوار الليبي لإشراكها في مساعي التسوية السياسية، وبخاصة مع تونس. وقد استبق الرئيس التونسي قيس سعيد ذلك بزيارة للجزائر في شباط/فبراير 2020، وكانت الأزمة الليبية على رأس أجندة الزيارة حيث استفادت تونس من مساعدات جزائرية تقدر بـ 150 مليون دولار كوديعة، بغية تعزيز قدراتها الأمنية للتصدي لأي احتمالات تردّي الأوضاع الأمنية على الحدود مع ليبيا، وعلى الخصوص خطر انتشار الجماعات الإرهابية في المنطقة.

ستعمل الجزائر على تكثيف حضورها العسكري على الحدود الشرقية مع ليبيا. فمنذ اندلاع الحرب في ليبيا، أكدت السلطات الجزائرية حضور مختلف أجهزة الجيش الوطني الشعبي على الحدود الشرقية الجزائرية مع ليبيا. وذلك للتصدي لكل المخاطر القادمة من الأراضي الليبية خاصة تهريب الأسلحة. فقد قامت بتعزيزات مستمرة عدةً وعتادًا وحتى تجهيزًا لبنى تحتية‏[28]. وتكرس الجزائر جهودًا كبيرة لتحقيق أمنها الحدودي مع دول الساحل ومع ليبيا على وجه الخصوص. وتعتمد الجزائر في ذلك على إمكاناتها الخاصة ما يجعلها أهم بلد التزامًا بالأمن الإقليمي. فرغم عدم دخولها في صراعات مسلحة إلا أنها تبذل «مجهودًا حربيًا» ضخمًا، لحماية حدودها وبالتالي حدود جيرانها. يفسر هذا المجهود ارتفاع الإنفاق العسكري الجزائري الذي تضاعف خلال سنوات قليلة من 5.313 مليار دولار في 2010 إلى 10.654 مليار دولار في 2016 ‏[29].

خاتمة

قادنا التحليل في الختام إلى القول بأن الأزمة الليبية تعدّ التهديد الخارجي الرئيسي للجزائر في السنوات الأخيرة. فالدولة الليبية صارت فاشلة وهي مهددة بالانهيار. وذلك ما سيفتح باب جهنم على الأمن الجزائري وعلى اقتصادها؛ وبخاصة مع احتمال استفحال الظاهرة الإرهابية في المنطقة، مع عزم تركيا على نقل الإرهابيين المرتزقة من سورية والعراق إلى ليبيا ليكوّنوا معقلًا جديدًا لهم هناك. ورغم كل تلك المخاطر فقد تأخرت الجزائر كثيرًا لتعمل على بلورة موقف دبلوماسي واضح بشأنها. فقد انتظرت حتى 2014 لتتحرك دبلوماسيًا في سبيل المشاركة في تسويتها. ويعود ذلك جزئيًا إلى غياب الجزائر دوليًا منذ 2012، مع مرض الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة الذي يعد ممثل السياسة الخارجية. وحتى الرئيس الجديد لا يمتلك خبرة في مجال السياسة الخارجية فهو ذو تكوين بيروقراطي.

من أهم نقاط قوة الدبلوماسية الجزائرية هي سمعتها كدولة مسالمة غير تدخلية وغير إقصائية. فهي تربط علاقات مع مختلف الفصائل المتصارعة باستثناء التنظيمات الجهادية. والضغط عليها من أجل الوصول إلى تسوية للأزمة الليبية. فيبدو أن ما يهم الجزائر هو الاستقرار قبل كل شيء، وذلك من طريق التوافق لانتقال سلس يؤسس لحكومة وحدة وطنية تحافظ على وحدة ليبيا وتمنع الدولة من الانهيار. وترى الجزائر ذلك أفضل من سيناريو يحاول فيه أحد الأطراف فرض تصوره للاستقرار بالقوة وما سيترتب عليها من مخاطر.

لا تزال الجزائر تتمسك بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول وعدم مشاركة الجيش خارج حدود الوطن على مستوى الخطاب، لكن عمليًا سيكون من الصعب – إن لم يكن من المستحيل – الحفاظ عليه. ففي السنوات الأخيرة تخلت الجزائر جزئيًّا عن التزاماتها بمبادئها تلك؛ فقد أصبحت العمليات الصغيرة النوعية في ليبيا أمرًا يمكن تصوره. وقد تزايد النقد لمبدأ عدم التدخل الأبدي الذي تنتهجه الجزائر، فهناك من يرى أن التزام الجزائر بهذا المبدأ ألحق بها الضرر في السنوات الأخيرة. فهناك سوء فهم يصر عليه المسؤولون الجزائريون بقوة، وهو أن الدستور يحظر التدخل الخارجي! فالمادة (29) من دستور الجزائر لا تمنع إرسال القوات إلى الخارج في جميع الحالات، فهي تحظر ذلك الأمر إذا كان الغرض هو تقويض سيادة الشعوب الأخرى وحريتها. فيمكن للجيش عبور الحدود إذا كان للمساعدة وبطلب من الدول الأخرى نفسها.

المستقبل القريب للأزمة الليبية لا يبعث على التفاؤل؛ فدخول أطراف دولية وإقليمية بمصالح متناقضة زاد المسألة تعقيدًا واستعصاءً. وبالتالي وجدت الدبلوماسية الجزائرية نفسها أمام شبكة من المصالح المتقاطعة لقوى كبرى، سيكون من الصعب على الجزائر محاولة إبعادها أو حيْدها عن المسرح الليبي وتنفيذ مقاربتها القاضية بالحلول السياسية. فصار جليًّا أن الأفرقاء الليبيين قد فقدوا زمام الأمر ومصير ليبيا ومستقبلها لم يعد بأيديهم.

 

قد يهمكم ايضاً  الاقتصاد السياسي للانتقال الديمقراطي في الوطن العربي

اقرؤوا أيضاً  الولايات المتحدة وليبيا: تناقضات التدخل ومستقبل الكيان الليبي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #ليبيا #الديبلوماسية_الجزائرية #الوساطة_الجزائرية_لحل_الأزمة_الليبية #الأزمة_الليبية #السياسة_الخارجية_الجزائرية #دراسات