المؤلف: يوناتان مِندِل

ترجمة: أحمد مغربي

مراجعة: فرحان صالح

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، سلسلة «ترجمان»، بيروت 

سنة النشر: 2018

عدد الصفحات: 464

 

يحاول الكاتب الأكاديمي – من أصل يهودي – موناثان مندل، تسليط الضوء على موقع اللغة العربية في البناء الاجتماعي (اليهودي) تاريخياً؛ ففي كتابه تكوّن العربية الإسرائيلية: معطيات سياسية وأمنية – في تشكّل دراسات العربية في إسرائيل، يحاول رسم صورة عن مكانة اللغة العربية في حياة اليهود العرب وبخاصة في فلسطين، في ظل هيمنة المشروع الصهيوني، وما رافق ذلك من تحولات أدّت إلى هجرة اليهود من البلدان الغربية والبلدان العربية إلى فلسطين.

كان اليهودي الفلسطيني في حقبة ما قبل الصهيونية يستخدم العربية تحدثاً وكتابة، بوصفها لغة الحياة اليومية في المنطقة. لكن الحركة الصهيونية بدأت تخطّط لحصار اللغة العربية في فلسطين؛ فعملت على إيقاف استخدام اليهود العرب لغتهم العربية وحصر استخدام هذه اللغة بالفلسطينيين غير اليهود. كما عملت على زرع الحقد لدى اليهود تجاه العرب ولغتهم. بذلت الصهيونية جهدها لحجب اللغة العربية لأسباب أيديولوجية وسياسية وأمنية؛ فتحوّلت العربية من لغة الجار إلى لغة الخصم، أو العدو.

مع تصاعد الهيمنة الصهيونية في فلسطين، أُعطيت الأفضلية في المدارس للغتين العبرية والإنكليزية على حساب العربية. لقد بدأت الصهيونية في تجذير التمييز بين السكان على أسس دينية، وكان الهدف فصل اليهود عرباً وغربيين عن العالم العربي. لذا، تحولت العربية في فلسطين من لغة وطن إلى لغة أجنبية؛ وفُرض على السكان اللغة العبرية، وبهذا تم رسم الحدود الفاصلة بين اليهود والعرب.

أولاً: تاريخ اليهود العرب

يعود الكاتب إلى التاريخ، فيرى من خلال عرضه عشرات الوثائق ومئات الكتب التي تناولت العلاقات اليهودية – العربية، أن اليهود تمتعوا بعلاقات مميزة ووطيدة مع العرب، وأن اللغة العربية كانت لسان الحياة اليومية للشعب اليهودي في العالم العربي، حيث استعملت لغة يومية في التواصل والتجارة، وكلسان يهودي في التحدث والثقافة والفكر والدين. وقد لاحظ عدد من المؤرخين «أن اليهود استطاعوا أن يزدهروا في الحقب التي حكم فيها المسلمون العرب. لقد عاشوا بأمان في إسبانيا، كما في البلدان العربية والإسلامية، حيث تمتعوا بنمط حياة منتج ومُرضٍ، بل ربما لم يجدوا مثيـلاً له في أماكن أخرى». ويذكر برنارد لويس «أن التعاون اللغوي والثقافي – اليهودي – العربي – الإسلامي، لم يكن مجرد ثقافة يهودية بالعربية، بل ثقافة يهودية عربية».

وفي نظرة إلى مدى التسامح الديني في تلك الحقب العربية، يرى الكاتب أن العرب، وفي القرن العاشر هم من نقلوا التوراة من الآرامية إلى العربية، في ذلك التاريخ كانت العربية لغة العلماء اليهود وغير اليهود؛ فأدّت العربية دوراً رئيسياً في النهضة اليهودية.

ثانياً: مرحلة جديدة: اللغة أداة انفصال

في منتصف القرن التاسع عشر بدأ فعل الحركة الصهيونية يظهر، «بدأ التخطيط لانشطار هوياتي بين السفارديم المندمجين مع محيطهم العربي، الذين كانوا يتكلمون العربية، في حين أن المدارس الأشكنازية حافظت على لغتها، ولم تدرج اللغة العربية في نظامها التعليمي، معتبرة أن اللغة العربية شأن علماني لا يتوافق مع الطبيعة الدينية لتلك المدارس.

منذ نهاية القرن التاسع عشر كان المجتمع اليهودي في فلسطين أقلية صغيرة تفتقد المشاعر القومية المعاصرة؛ «ليس من جيش، أو نشيد وطني، أو لغة قومية. دمجت هذه الأقلية الدين بالحياة اليومية، وإن كانت قد حافظت على علاقات طيبة مع الجيران العرب الذين حملت لغتهم وتقاليدهم وعاداتهم». لم يكن من تمييز بينهم وبين جيرانهم، وإن كان من خصوصيات فإن جيرانهم العرب يحترمونها. لم يكن أحد يشعر بوجود عداوة أو مشاكل بين الجيران.

منذ ذلك الوقت بدأ المشروع الإنكليزي – الصهيوني (يلاحظ أن المؤلف لم يشر مطلقاً إلى الدور الإنكليزي في المشروع الصهيوني) – يمد أذرعه النشطة. تغيرت الأولويات، بدأت الحركة الصهيونية تخطط لتوجهات تتواءم مع المشروع الصهيوني الاستعماري.

كان عام 1882 عام الفصل بين تاريخين. بدأت هجرة اليهود من الدول الغربية تزداد وتنمو. حمل المهاجرون آمال قومية بتعاليم ومشروع صهيوني. لكن الآمال القومية للصهاينة بدأت تصطدم، ليس بشراكة الحياة وتاريخ التعاون بين الفلسطينيين، السكان الأصليين بمختلف عقائدهم، بل تصطدم بما لدى هؤلاء الفلسطينيين من طموحات مشتركة أيضاً.

بدأ الصهاينة يعملون من أجل صوغ واقع جغرافي – ديمغرافي جديد، وإن ببطء. ثم ما لبثت أن تسارعت وتيرته مع ارتفاع التوترات (المفتعلة) بين النسيج المجتمعي الواحد – المتعدد العقائد. أصبحت أهداف الحركة الصهيونية الانفصالية، لاعتبارات أمنية، تبرز وتتوضح.

بدأت الحساسيات بين المسيحيين واليهود في أوروبا تنمو وتتكثف، وهو ما دفع اليهود إلى الهجرة إلى فلسطين. وبسبب القتل المنظم لليهود الروس بدأ العلمانيون (اليهود) يفرّون إلى فلسطين.

ثالثاً: التموقع، التكيّف، التعلّم

كانت الهجرة اليهودية من أوروبا وروسيا وغيرهما تتوسع. دخل اليهود إلى أرض لا يعرفون عادات سكانها وتقاليدهم، قلّد المهاجرون اليهود العرب الفلسطينيين في لغتهم وعاداتهم وتقاليدهم وفي لباسهم وفي مهنهم، حتى في رعي المواشي. اعتقدوا أن عودتهم إلى فلسطين تمثل فرصة للقاء تاريخي بينهم وبين العرب، لا كأعداء، بل كعضوين في العائلة السامية، وهما العرب واليهود من أبناء إبراهيم. لذا، نظر المهاجرون إلى الفلسطينيين، على مختلف تنوعاتهم الاجتماعية، بوصفهم امتداداً للذات اليهودية الموغلة في القدم، وبوصفهم من اليهود الذين تحولوا إلى الإسلام. ومن الغريب واللافت للنظر أن من رسم هذه الصورة هو بن غوريون الذي قال «إن الفلاحين الفلسطينيين هم مزارعون يهود فضّلوا في أوقات الشدة أن يغيّروا ديانتهم من أن يتركوا أرضهم». كما أبدى هرتزل «انزعاجه من التوتر «القومي» بين الفلسطينيين العرب واليهود العرب».

رحب السكان الأصليون في فلسطين، بالمهاجرين، وتعاملوا معهم بوصفهم ضيوفاً في أرضهم. وبدأ المهاجرون يتعلمون لغة السكان (اللغة العربية) وبهذا، كان توجههم إلى الاندماج لا الانفصال.

أعجب المهاجرون بدينامية الشعب الفلسطيني. لهذا عملوا بجهد كي يقلدوهم في معيشتهم وطرائق حياتهم وثقافتهم. كما سعى «المهاجرون، لتكوين فلاح يهودي على غرار مواصفات ما هو عليه الفلاح الفلسطيني».

كانت الحركة الصهيونية تخطط لوراثة تاريخ وعادات وتقاليد السكان الأصليين، وفي المقابل كانت تخطط لفصل عنصري بين مكونات الشعب الفلسطيني. «لقد بدأت الوكالة اليهودية – الصهيونية – تغري الفلاحين اليهود دون العرب المسلمين، بتزويدهم برواتب منتظمة ترسلها لهم، وذلك للتجذُّر في الأرض والتوطُّن فيها». وهكذا «خلقت الدوافع الأولى لفكرة الانتماء العنصري، وبالتالي لإعطاء زخم لما يسمى الهوية الجديدة لشعب الله المختار».

بدأ هذا التوجه ينمو ويتعزز، وأخذ في الظهور إلى العلن، بعد أن تعلم وقلد اليهود المهاجرون، مواطني فلسطين في مختلف المجالات الأسرية والمهنية والثقافية، بدءاً من اللغة التي أخذوها من مصدرها الأول، أي من على لسان الناس ومن طريقة حياتهم، وعلاقاتهم بين بعضهم.

منذ بداية القرن العشرين، ازدادت مخططات الحركة الصهيونية وضوحاً، وبدأ تأسيس «منظمات صهيونية ذات توجهات عنصرية إقصائية، مثل منظمة «عمال فلسطين»، مهمتها إمداد المستوطنات اليهودية بالحراس المدججين بالسلاح». حاولت هذه المنظمة، كما غيرها، تطبيق مبدأ صهيوني يدعو اليهود إلى «العودة إلى الأرض على أنها عودة لإحياء التاريخ اليهودي. لقد طلبت هذه المنظمة، من الشخص المنتمي إلى صفوفها أن يكتسب مهارات الشعب الفلسطيني، كي يتمكن من الحلول مكانه في فلسطين».

رابعاً: ربط الجذر اللغوي العربي بالجذر اللغوي العبري

احتاج اليهود الجدد في فلسطين إلى اتقان اللغة واللهجات العربية، واللغة العبرية كذلك، كرمز للعودة إلى الشرق. العبرية التي تم رفدها وتجديدها لتحمل آمال القومية اليهودية، ولتصبح اللغة القومية ليهود الشتات. وبهذه الطرائق تم فصل يهود الشتات عن هويتهم الأوروبية. لاحظ أليعزر بن يهودا الذي كان مندفعاً لإحياء العبرية أن اللغة العربية ثرية بالمصطلحات القديمة، على عكس العبرية التي كانت ميتة، والتي لا تمتلك الثراء اللغوي التي تمتلكه العربية، لذا، وباعتبار كلا اللغتين من أصول سامية، وكون العربية «خزاناً من الكلمات القابلة للاستخدام في العبرية الحديثة». فقد تم ربط الجذر اللغوي للعربية في الجذر اللغوي للعبرية، وبهذا الربط تم إحياء الجذور القومية للحركة الصهيونية في فلسطين. لقد رأى بن أليعازر عدم وجود فوارق بين السامية العربية والعبرية. «العربية ليست غريبة، إنها ما زالت تحمل الجذور التي فقدناها نحن، والآن نعاود العثور عليها وإعادتها».

احتاجت الحركة الصهيونية إلى الامتنان للعرب الفلسطينيين المحليين، الذين أدوا دورهم التاريخي بالحفاظ على التقاليد اليهودية، التي أعيد الاعتبار إليها بعد آلاف السنين. في البدء، عملت الحركة الصهيونية على توطين وتدجين وتهجين اليهود الذين تدعي أنهم يهود أوروبيون، ذلك من خلال برنامج يهدف إلى الربط بين طرائق الحياة التي يعيشها الفلسطينيون بشقيهم المسلم واليهودي. فمن دون هذا الربط سيبقى اليهود الذين أتوا من بلدانهم والذين يحملون الثقافة العلمانية، غرباء في التاريخ وفي الواقع وفي الهوية. لقد استعملت الحركة الصهيونية هذا الربط كقناع على وجوه وذاكرة هؤلاء، إذ وظّفت ما تقوم به للانفصال.

خامساً: الصهيونية تستحضر التجربة الإسلامية الأولى

إذا كان من إيجابية بالانفتاح على العربية وتهجينها، بل واستعمارها، فإن الموقف نفسه، لم يختلف لجهة التعامل مع اللغات الإنكليزية والألمانية والفرنسية. ومثلما كان وضع اللغة العربية في المرحلة العربية – الإسلامية من 600 إلى 1250م، حيث تفاعلت العربية مع حضارات عصرها، مدخلة آلاف المفردات اللغوية والأساليب والتعابير ومفردات اللهجات إلى القاموس العربي، هكذا تعامل علماء العبرية، الذين دمجوا الجذر اللغوي العربي مع الجذر اللغوي للعبرانية مدخلين إلى القاموس العبري آلاف المفردات اللغوية العربية. لقد كان الرافد اللغوي العربي هو الرافد الفاعل في النهضة والحضور للعبرية. لقد ضم أليعازر الجذر اللغوي للعربية إلى الجذر اللغوي العبري، وبهذا وذاك تكونت العبرية الحديثة.

لكن بعد دمج هذين الرافدين في رافد واحد، بدأت الحركة الصهيونية تتنكر للعربية، وتدعو إلى عبرية مستقلة وغير مشوشة بالروافد التي أصبحت جزءاً من كينونتها. لقد وصلت العبرية حبل السرة مع اللغة العربية، فكانت العبرية الجديدة.

سادساً: انهيار العالم العثماني وولادة الاستعمار الحديث

عام 1917 انهارت الخلافة العثمانية، وبانهيارها انكفأت اللغة التركية. وفي ذلك العام تحديداً أصبح المشروع الصهيوني أداة أساسية من أدوات المشروع الاستعماري للسيطرة على المنطقة. لقد اختفت لغة مهزومة سياسياً، وولدت على أنقاضها لغة أخرى منسية ومستحضرة من التاريخ البعيد.

1 – الصهيونية أداة من أدوات الاستعمار

مع انهيار الخلافة، أصبحت اللغة العربية (في البلدان العربية) البديل الشرعي للغة الخلافة. عُممت اللغة العربية في البلاد العربية، كذلك في المدارس الفلسطينية، بما فيها التي تدرّس العبرية. لقد أصبح الإنكليز (من خلال إحياء اللغات القديمة وكذلك اللهجات)، يؤسسون لزرع بذور الانقسامات بين مكونات الحياة الاجتماعية والسياسة والثقافية في البلدان التي استعمروها، هكذا فعل المستعمرون الفرنسيون أيضاً. لقد استعملوا اللهجات في مخططاتهم …

كانت السياسة الإنكليزية تغذي كل ما يمكن أن يزرع الشقاق بين مكونات الشعب الواحد، وبخاصة بين اليهود والمسلمين. نشبت ثورة 1936، التي استمرت إلى عام 1939، وأدت إلى حفنة من الصراعات بين العرب – الفلسطينيين – المسلمين، والعرب اليهود. لقد أصبحت اللغة العربية بالنسبة إلى الفكر الصهيوني، تنحو بالتدريج كي تكون متصلة بالآخر المعادي. بدأت المدارس اليهودية تتخلى عن تعليم اللغة العربية، حصل ذلك مع تزايد هيمنة مؤسسات العمل الصهيوني – الانفصالية.

بدأ الإنكليز والصهاينة يستعملون اللغة كأداة لحروب نفسية. وبهذه السياسة أصبحت اللغة العربية خاوية من أي معطى جدي للحوار أو للسلام والاندماج بين الجيران.

لم تعد اللغة العربية عنصراً فاعـلاً ومشتركاً بين مكونات الشعب الفلسطيني. فإعلان استقلال إسرائيل، كان إعلان تمزّق وحدة المكونات التاريخية للشعب الفلسطيني، وأصبحت العبرية منفردة دون غيرها «لغة شعب الله المختار»، ولم تعد العربية اللغة الجامعة، أو اللغة المشتركة بين أطراف الوجدان المشترك.

أطلق عام 1947 مرحلة جديدة، تحولت القوانين التي كانت تجمع مكونات الشعب الفلسطيني من حالة اندماجية، إلى حالة انفصالية، وكانت اللغة إيذاناً لذلك.

أما قانون جنسية الاستقلال فقد نصَّ على «أن كل شخص يحتاج إلى إحلال بعض المعرفة باللغة العبرية كي يحصل على الهوية الإسرائيلية. لقد أصبحت اللغة العبرية لغة إجبارية في المدارس كما في الجامعات».

أرادت إسرائيل من الهيمنة اللغوية تهميش العربية، و«اعتبُر من يتكلمون اللغة العربية في فلسطين وخارجها، منحازين إلى العدو».

فقدت اللغة العربية أهميتها، بعد نشوء دولة إسرائيل وأصبحت اختيارية في المدارس اليهودية. قال بن زئيف «إن الدراسات العربية يجب أن تتضاءل، لأنه لم يعد بيننا بعد الآن عرب».

لقد شكّلت حرب عام 1948، مرحلة جديدة في التاريخ العربي، زرع الاستعمار الإنكليزي وأداته الصهيونية إسفيناً بين المكونات المجتمعية على اختلاف انتماءاتها، والهدف منع التواصل والتعاون، وبالتالي التأسيس لحروب دينية. لقد قسمت الصهيونية فلسطين بين اليهود والمسلمين، ثم طُرد الفلسطينيون العرب البالغ عددهم ثمانمئة ألف من ديارهم وقراهم وأرضهم. تغير التوازن الديمغرافي، أصبح اليهود في مناطق الانتداب 80 بالمئة من عدد السكان. أصبح الفلسطينيون خارج ديارهم دون وطن يحتضنهم، دون مستقبل، لم يكن لهم من خيار سوى الاستسلام أو القتال للعودة إلى ديارهم.

جاء في إعلان الاستقلال: «عادت جماعات الشعب اليهودي إلى وطنها القديم، وجعلت الصحراء مزدهرة، أعادت إحياء اللغة العبرية». «بنت القرى والمدن، أبدعت مجتمعاً مزدهراً، تم إنشاء أكاديمية للغة العبرية، شرعت القوانين التي تنص على أن الهوية اليهودية فقط لمن يعرف اللغة العبرية، كما نصَّ على أن لغة التعليم هي العبرية، وهي اللغة الإجبارية في مدارس الدولة (الحديثة)». بهذه القرارات تكاملت اللغة العبرية مع مفهوم إسرائيل، بوصفها دولة يهودية (ص 94)، ولرفض اللغة المزدوجة قال أحد المفكرين الصهاينة «إن الدولة التي تمتلك لغتين رسميتين، تكون دولة مزدوجة القومية، أو دولة مدنية مع توجهات نحو التعددية الثقافية».

لذا، «كان القرار ألّا تكون إسرائيل دولة ثنائية القومية، كما لن تكون دولة مجتمع متعدد ثقافياً. إسرائيل دولة أمة إثنية، ذات لغة رسمية واحدة، العربية لغة رسمية فقط للسكان الفلسطينيين العرب وحدهم، لكنها أجنبية في المجتمع اليهودي الإسرائيلي».

2 – اللغة العربية لغة للمراقبة والتجسُّس

أ – تكوُّن الهوية الصهيونية

تبدو جملة القرارات التي صيغت في شأن العربية أنها تهدف إلى تحويل هذه اللغة إلى «لغة ميّتة، خالية من المشاعر، وبالتالي لا فائدة من دراستها»؛ والضرورة الوحيدة لدراستها هي ضرورة أمنية، بهدف التعرف إلى محيط الأقليات وطريقة عيشتهم، واكتساب ثقتهم من أجل تنفيذ مهمات مستقبلية (ص 139)، وبالتالي «تجنيد عملاء عرب، ليس فقط من الفلسطينيين؛ بل من الدول العربية كافة […] وتدريب أفراد الأمن على اكتساب اللغة العربية ولهجاتها».

لقد لاحظت الوثيقة وجود فوارق مزعومة بين العربي الفلسطيني، واليهودي الفلسطيني، وزعمت وجود قيم حديثة يحملها العبري، وقيم قديمة يحملها العربي، كذلك زعمت وجود طرائق حياة مختلفة في سلوك الناس. لذلك حاولت الوثيقة تعزيز عقلية الاختلاف والتمايز بين اليهودي والفلسطيني المسلم أو المسيحي. رسمت الوثيقة صورة لهوية فلسطينية بلا ملامح، ولشعب بلا حقوق، وبلا ثقافة حديثة. بهذه التعاليم أرسيت خطوط الفصل العنصري بين مكونات المجتمع العربي الفلسطيني.

روج الإعلام الصهيوني أن إسرائيل بلد محب للسلام، وأن النظم العربية هي من تختار الحرب.

لقد أصبحت إسرائيل تخطط من أجل قطع كل صلة بين اليهود والعرب، وبخاصة بين اليهود العرب والبلدان العربية التي هُجروا منها. نهجت إسرائيل سياسة نجم عنها إعادة تشكيل حياة اليهود والعرب في فلسطين. لقد أصبح على اليهودي العربي إثبات هويته الصهيونية، عبر إخفاء جذوره العربية؛ فأُجبِر اليهود العرب على الاختيار بين كونهم عرباً أم يهوداً، ولم يتح لهم أن يكونوا الاثنين معاً.

ب – الصهيونية: تعدُّد هوياتي سياسي

وُصف اليهود العرب بالمزراحيين، ما يعني عدم نضج وعيهم بالهوية القومية (اليهودية)، في حين تمايز اليهود الأشكيناز الذي هجروا من الدول الأوروبية، عن المزراحيين الذين هجروا من الدول العربية. «كانت حالة دخول اليهود «الأشكيناز» إلى القومية اليهودية الإسرائيلية هي العلمنة، في حين أن بطاقة دخول المزراحيين، اقتضت تقوية معتقداتهم الدينية اليهودية. ولتأكيد تلك النظرية كانت الهوية الصهيونية نفياً لعروبة اليهودي الفلسطيني. لقد استبدل مصطلح «عرب يهود» بتعابير ألطف (مزراحيين شرقيين)».

* *

في عصر السادات أصبحت العلاقة أشد بين الزمن والسلام.

«لقد جاء السادات بمباركة من مناحم بيغن بهدف التوقيع على اتفاقية سلام بين البلدين، نجم عن تلك اللحظة التأكيد على تعليم العربية».

رأى أبا إيبان، «أن الانفصال بين العرب واليهود يتعاكس تماماً مع الصهيونية، كما دعا إلى تمدين طريقة التفكير في العربية ودراستها في المدارس اليهودية الإسرائيلية، لكن هناك أطرافاً لا يريدون أن يعرف اليهودي شيئاً عن جيرانه».

لم تتح المؤسسات الرسمية أو الهيئات المدنية طوال ستة عقود تفكيراً جديداً أصيـلاً بخصوص تدريس اللغة العربية، ولم تصنع تغييراً مجدياً في طريقة التفكير بالعربية. كما لم تسمح الحركة الصهيونية باستخدام العربية كلغة ثقافة وفن وأدب وموسيقى؛ بل لم يكن ينظر إلى العرب بشطريهم اليهودي العربي والفلسطيني العربي، كقوى اجتماعية مرغوبٍ فيها.

أخيراً، تُبيِّن لنا دراسة موناثان مندل، رغم أهميتها، أن المؤلف دخل بتبرير الأفعال التي قام بها القادة الصهاينة (بن غوريون وأبا إيبان وهرتزل وغيرهم)، الذين قدمهم المؤلف بوصفهم «حمائم سلام». في حين أنهم تبوؤوا قمة السلطة، وكان لهم دور في تنفيذ المخطط الصهيوني كما رسمه النظام الرأسمالي، وكما اقتضته المصالح الصهيونية.

لقد ساهم القادة الصهاينة في تجذير وتعميق الثقافة العنصرية الانفصالية بين مكونات الشعب الواحد. أما أن يشير المؤلف إلى انزعاج هؤلاء القادة من التوتر القومي بين الفلسطينيين العرب واليهود العرب، فهذا ما هو مستغرب فهؤلاء القادة هم من ساهموا في هذا التوتر، والمشروع الصهيوني ذاته لا يمكن أن يؤدي إلا إلى ذلك.

أما أن يبرر المؤلف لهؤلاء القادة ما فعلوه، أو ما فعله النظام الرأسمالي، فهنا يمكن طرح السؤال أو الأسئلة: هل المشروع الصهيوني هو فعل ذاتي قامت به ونفذته قِلَّة من المفكرين الصهاينة، أم أنه فعل استعماري ومنشدٌّ إليه عضوياً وليس منفصـلاً عنه؟.