(*) نُشرت هذه المقالة على جزئين في جريدة الأهرام المصرية بتاريخ 20 و27 أيار/مايو 2021 تباعاً.

 

(2-1)

ظن الكثيرون أن الستار قد أُسدل على القضية الفلسطينية بعد تعرضها لضربات قوية من الرئيس الأمريكي السابق، وتآكل الظهير العربي لها في ظل انشغال عديد من الدول العربية بمشكلاتها الداخلية ومسارعة عدد آخر إلى التطبيع مع إسرائيل، وخذلان النخبة الحاكمة الفلسطينية لشعبها بعجزها عن تجاوز الانقسام إلى وحدة وطنية تكون أقوى سلاح بيد الشعب الفلسطيني فإذا بهذا الشعب ينتزع زمام المبادأة وينتفض مجدداً اتساقاً مع تاريخه النضالي المجيد، ومع الدروس المستمدة من الخبرة التاريخية لحركات التحرر الوطني، وتثير الانتفاضة الراهنة للشعب الفلسطيني عدداً من الملاحظات المهمة أُركز منها على ثلاث.

في الملاحظة الأولى أضع المسألة الفلسطينية في سياقها التاريخي، فقد نشأت كنتيجة للمشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين الذي تم منذ بدايته بدعم كامل من قوى دولية عظمى وكبرى حرصت الحركة الصهيونية دائماً على عمق الارتباط بها لتسهيل تحقيق أهدافها، ونجحت في ذلك على نحو لافت، فحصلت على وعد بلفور  ١٩١٧ من بريطانيا التي سهلت تنفيذه بعد توليها الانتداب على فلسطين بفتح أبوابها على مصراعيها للهجرة اليهودية التي أسست البنية التحتية للدولة الصهيونية تحت حماية القوات البريطانية التي انسحبت عشية إعلان الدولة في ١٩٤٨، ثم تسلمت الولايات المتحدة الراية منها بعد أن أن أمسكت بزمام قيادة المعسكر الغربي عقب الحرب العالمية الثانية، ومنذ ذلك الوقت لم تقصر الولايات المتحدة لحظة واحدة في الدعم المطلق لإسرائيل بما فيها اللحظة الراهنة التي تدمر فيها إسرائيل الحجر وتقتل البشر بوحشية لا تزعج الإدارة الأمريكية التي تشدقت بأن احترام حقوق الإنسان سيكون بوصلة سياستها الخارجية مع أنها تنزعج بشدة لاختفاء ناشط سياسي واحد في بلد ما وتقيم الدنيا ولا تقعدها لهذا السبب فتباً لازدواجية المعايير، وثمة حقائق تاريخية تدفعنا للأمل في المستقبل أهمها أن عمر المشروع الاستعماري الصهيوني المدجج بدعم دولي غير مسبوق يقترب من القرن وربع القرن إذا اعتبرنا أن بدايته تعود إلى مؤتمر بازل ١٨٩٧ دون أن يتمكن حتى الآن من فرض هيمنته على الشعب الفلسطيني الذي لم يتوقف عن الانتفاض منذ البداية وحتى الآن رغم ضراوة ما وُجه إليه من ضربات، وهو ما يجعل المرء يعجب لسطحية التفكير الذي ينعكس حالياً في تصريحات المسؤولين الإسرائيليين بأن العمليات العسكرية لن تتوقف إلا بعد القضاء على “حماس”، وهي سطحية استعمارية مألوفة عبر التاريخ، فقد توهم الساسة الاستعماريون عبر العقود أن بمقدورهم القضاء على مقاومة الشعوب، ولم يتوقف أحدهم ليدرك أن هذا لم يحدث ولو مرة واحدة رغم أن الشعوب كانت تدفع ثمناً باهظاً لنضالها، لكنها لم تستسلم حتى استخلصت استقلالها، وما حرب التحرير الجزائرية التي قدم فيها الشعب الجزائري حوالي ١.٥مليون شهيد ببعيدة، والأعجب أن هذا الدرس نفسه ماثل في الخبرة الفلسطينية نفسها التي واجه فيها الفلسطينيون فظائع الترويع والقتل والتشريد لأكثر من قرن دون أن تلين عزيمتهم، ومع ذلك يتحدثون عن أن العمليات العسكرية لن تتوقف إلا بعد القضاء على المقاومة ناسين أو متناسين أن هذا كان حديثهم في مرات عديدة آخرها في ٢٠٠٩/٢٠٠٨ و ٢٠١٤، ثم من قال أن مقاومة الشعوب هي فقط أو حتى أساساً المقاومة المسلحة؟ فأدوات النضال التحرري عديدة، وقد صُفي النظام العنصري في جنوب أفريقيا بالنضال المدني أساساً، ولا ننسى أن تجارب استعمارية قد دامت ما يزيد عن ضعف عمر المشروع الصهيوني في فلسطين دون أن يحميها هذا من مآلها المحتوم.

في الملاحظة الثانية أتوقف عند الجدل المتكرر حول “عسكرة المواجهة”، فالبعض ينتقد المقاومة الفلسطينية لردها على الفظائع الإسرائيلية بقصف إسرائيل بالصواريخ إما استخفافاً بقدرات المقاومة وإما بدعوى أن هذا القصف يفقدها تعاطف الرأي العام العالمي، ويجب أن يكون واضحاً أن المقاومة المسلحة للاحتلال حق يكفله القانون الدولي، ويتم اللجوء إليه عندما تفشل الحلول السياسية كما هو الحال الآن في فلسطين التي مر على اتفاقية أوسلو أكثر من ربع قرن دون أن تتقدم التسوية النهائية خطوة واحدة، وقد توضع عليه قيود كعدم المساس بالمدنيين، وهو قيد يجب أن يرد على الجميع، وها نحن نتابع التدمير الهائل للبنايات السكنية في غزة بدعوى وجود مكاتب لحماس أو سكن لقياداتها في هذه البنايات رغم وجود آخرين فيها كما حدث في البناية التي تضم مكاتب إعلامية دولية، كما أن استخدام الكفاح المسلح قد لا يكون فعالاً في حالات معينة يقدرها قادة حركات التحرر الوطني فينتقلون إلى النضال المدني كما حدث في جنوب أفريقيا، أما أن يُنتقد الكفاح المسلح بحجة الخلل الفادح في ميزان القوى بين المستعمِر وحركات التحرر الوطني فيكشف عن عدم دراية بدروس الخبرة الماضية، فقد بدأت جميعها بهذا الخلل الفادح، لكنها بالإرادة وباتباع أسلوب الحرب اللامتماثلة استطاعت أن تُحَسن ميزان القوى بالتدريج حتى وصلت إلى النقطة التي رفعت فيها تكلفة الاحتلال  إلى الحد الذي لا يمكن للقوى الاستعمارية تحمله، وهنا تُضطر إلى تغيير سلوكها كما فعلت فرنسا في الجزائر في ١٩٦٢ وبريطانيا في جنوب اليمن في ١٩٦٧ وإسرائيل في جنوب لبنان في ٢٠٠٠، فحركات التحرر الوطني لا تهزم المستعمِر بالضرورة وإنما ترفع تكلفة الاحتلال إلى الدرجة التي تجبره على تغيير سلوكه، وعندما تفشل نخبه الحاكمة في الاستجابة الصحيحة تحدث التحولات الداخلية التي تتكفل بتصحيح سلوكه، كما حدث في فرنسا بمجئ ديجول إلى الحكم ١٩٥٩ فيما يشبه الانقلاب العسكري وفي البرتغال بالانقلاب العسكري ١٩٧٤ الذي أطاح بالنظام الاستبدادي الذي عجز عن الاستجابة السليمة لحركات التحرر الوطني في المستعمرات البرتغالية في أفريقيا واستجاب لمطالب هذه الحركات، وتبقى مناقشة الملاحظة الثالثة المتعلقة بحصاد الجولة الراهنة من المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية في المقالة القادمة.

 

(2-2)

تناقش هذه المقالة حصاد الجولة الراهنة من المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية، وباستثناء الحروب التي تنتهي بتوقيع المهزوم وثائق استسلام مذلة عادة ما يثور الجدل حول المنتصر والمهزوم في حرب ما، ويكون لهذا الجدل تفسيراته السياسية والأيديولوجية، لكنه يحدث أحيانا بسبب الخلاف حول معايير الهزيمة والنصر، فيركز البعض على النتائج العسكرية المباشرة, بينما يضعها البعض الآخر في سياقها السياسي الأوسع، فثمة من يرى مثلاً أن عدوان1956الثلاثي على مصر قد انتصر لاحتلال سيناء وبور سعيد بينما يرى آخرون أن انتصار مصر كان تاريخيا لصمود شعبها والتأييد العربي والدولي له، وهو ما أجبر قوى العدوان على الانسحاب بعد أقل من 4 أشهر على العدوان ناهيك عن صعود مكانة مصر وعبد الناصر وتراجع المكانة الدولية لبريطانيا وفرنسا، بل هل هناك ما هو أفدح من هزيمة1967؟ ومع ذلك فقد كانت نقطة انطلاق لإعادة البناء العسكري ما أفضى إلى حرب أكتوبر المجيدة، ولذلك فإن الجدل الحالي حول حصاد الجولة الأخيرة من المواجهة الفلسطينية-الإسرائيلية ليس غريبا، وسوف أُدلي فيه بوجهة نظر سيعتبرها البعض متحيزة وإن حاولت إثبات العكس، وعموما يُقال في تحليل الظواهر الاجتماعية ومنها السياسية، الذي يصعب فيه إن لم يستحل توخي الموضوعية المطلقة، أن أفضل شئ للتقليل من مساوئ التحيز أن تعلنه. ووجهة نظري ببساطة أن جولة المواجهة الأخيرة قد حققت إنجازا استراتيجيا مهما للنضال الفلسطيني يُضاف إلى إنجازات سابقة تحققت منذ بدايته وحتى الآن، فقد سار المشروع الصهيوني في فلسطين في منحنى صاعد منذ إعلان هدف تأسيس الدولة العبرية في فلسطين في مؤتمر بازل1897 وحتى إعلانها بالفعل في1948 وصولاً إلى السيطرة على كامل أرض فلسطين بعدوان1967، وفي ذلك التاريخ يمكن القول بأن منحنى القوة لإسرائيل قد بلغ قمته ثم بدأ في الانحدار بعد ذلك، وقد لا يرى الكثيرون اتجاه التطور التاريخي لبطئه وتعثره، لكن المؤكد أن المشروع الصهيوني في فلسطين ظل في صعود منذ إعلانه وحتى1967 ثم بدأت المقاومة الفلسطينية والعربية تُحدث أثرها، والأمثلة عديدة من معركة الكرامة1968 إلى حرب الاستنزاف، ثم حرب أكتوبر وتحرير سيناء فإجبار القوات الإسرائيلية على الانسحاب من لبنان تحت وطأة المقاومة بعد غزوه في1982، ثم اعتراف إسرائيل بعد انتفاضة الحجارة في سنوات الثمانينيات الأخيرة بالشعب الفلسطيني وبمنظمة التحرير ممثلة له في اتفاقية أوسلو1993، ثم إجبار إسرائيل مرة أخرى على الانسحاب من الشريط الجنوبي في لبنان في2000 لتصاعد المقاومة إلى الحد الذي لم يعد احتماله ممكنا سياسيا، ثم اضطرارها إلى الانسحاب من قطاع غزة بل وتفكيك المستوطنات الواقعة في محيطه في2005 في إطار انتفاضة الأقصى، ثم فشل إسرائيل في كسر شوكة المقاومة في لبنان رغم ضراوة عدوان2006، وأخيرا جولات المواجهة الثلاث بين إسرائيل والمقاومة الفلسطينية منذ2008-2009 وحتى هذه الجولة الأخيرة، ويلاحظ أن قادة إسرائيل كانوا يتشدقون عقب كل جولة بأنهم كتبوا نهاية المقاومة الفلسطينية لتعود أقوى مما كانت، ولا يعني هذا أن إسرائيل لم تحقق مكاسب في هذا السياق إذ يكفي الحديث عن تغول الاستيطان، لكن المهم أن فعلاً فلسطينيا وعربيا قد دخل ساحة المواجهة وبدأ يفرض تنازلات على إسرائيل. في هذا السياق التاريخي يمكننا فهم الإنجاز المحدد الدي حققته جولة المواجهة الأخيرة، ولكي تزداد الأمور وضوحاً يجب استعادة حال القضية الفلسطينية قبلها، فقد بدت وكأن نهايتها قد كُتِبَت في صمت على يد الانقسام الفلسطيني الفادح وتآكل الظهير العربي، سواء بعد فوضى ما سُمي بالربيع العربي أو هرولة التطبيع، وأخيراً صدمة ترامب باعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إلى القدس دون أي ردود فعل فلسطينية أو عربية تتناسب مع هذه الضربات، بل لقد ضيعت القيادة الفلسطينية آخر فرصة لاستعادة الوحدة الوطنية بتأجيل الانتخابات بدعوى عدم موافقة إسرائيل على إجرائها في القدس، وهنا أمسك الشعب الفلسطيني زمامه بيده ولقن نخبته درساً، ثم دخلت المقاومة المسلحة الساحة لتحاول إيجاد توازن ردع جديد لا يمكن لأحد أن يقول إنها أخفقت في مسعاها رغم ضخامة خسائرها، ويلاحظ أن وقف إطلاق النار قد تم دون شروط على الجانبين، وهو ما يعني عدم تكبيل المقاومة بأي قيود بسبب هذه الجولة، ولهذا دلالته بالغة الأهمية، وقد نذكر أن قرار مجلس الأمن1701 بعد عدوان إسرائيل على لبنان2006 قد وضع قوات دولية بين المقاومة وإسرائيل بما يمثل قيدا عليها، والأهم من ذلك كله أن القضية الفلسطينية قد عادت بعد المواجهة إلى أصولها كقضية استعمار يفرض سيطرته على شعب بالقوة، وكم كان مشهد الشعب الفلسطيني مجيدا وهو يُظهر وحدته في عموم الأرض الفلسطينية، سواء المحتلة منذ1948 أو بعد عدوان1967 أو في الشتات وينفذ إضرابا شاملا رفضا للاحتلال، وقد حمل هذا التطور بالذات دلالة خطيرة مفادها أن النضال ضد الاستعمار الإسرائيلي لفلسطين قد امتد إلى داخل إسرائيل في حدود1948، وهكذا عادت القضية إلى أصلها كقضية تصفية استعمار وليس خلافا على تنسيق أمني أو جباية ضرائب أو تصاريح عمل. ويضاف إلى ما سبق التغير الذي طرأ على اتجاهات الرأي العام والذي شهدنا مؤشراته في المظاهرات الحاشدة في عديد من المدن الأوروبية والأمريكية والاسترالية وغيرها، والبدايات القوية للتحولات في الرأي العام الأمريكي سواء تمثلت في الاتجاه اليساري البازغ في الحزب الديمقراطي أو تضامن حركة حياة السود مهمة مع فلسطين أو في المواقف القوية لأساتذة جامعات وفنانين ضد السياسات الإسرائيلية، وكلها مواقف وضعت بعض المعلقين العرب الذين جرفهم التطبيع في موقف بالغ الحرج، ولا يعني كل ما سبق أن النصر لم يعد سوى صبر ساعة، فالطريق مازال طويلا، وإنما رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، وقد قطعت رحلتنا خطوات، ومازالت هناك خطوات أخرى كثيرة وشاقة أولاها وأهمها استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية.

 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القدس #انتفاضة_القدس #حماس #المقاومة_الفلسطينية #حي_الشخ_جراح #اعتداءات_المستوطنين #العدوان_الاسرائيلي #المواجهات_العسكرية_مع_الاحتلال_الصهيوني #الانتفاضة_الفلسطينية #المقاومة_المسلحة #الكفاح #المقاومة_المدنية_للشعب_الفلسطيني #الإرهاب_الصهيوني