مقدمة:

مع توقيع اتفاق أوسلو، المعروف رسمياً باسم إعلان المبادئ حول ترتيبات الحكم الذاتي الانتقالي، عام 1993، بدأ الحديث عن أهمية إنشاء هيئات محلية تمارس دوراً خدماتياً وتنموياً على الأرض، في إطار تمكين الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لهذا أصدرت السلطة الفلسطينية عام 1997 القانون الرقم (1) بشأن الهيئات المحلية الفلسطينية، اعتبرت فيه الهيئات المحلية جسماً إدارياً يناط به الحكم كونه شخصية اعتبارية مستقلة. وفي إثر ذلك، سعت الحكومات الفلسطينية المتعاقبة في إطار خطتها لبناء الدولة، إلى تأسيس هيئات محلية خاضعة للمساءلة والمحاسبة وكذلك توفير إدارات تتصف بالكفاءة وإدخال تشريعات لتنظيم وإصلاح العلاقة بين الحكومة المركزية والهيئات المحلية وتعزيز الاستقلال المالي وبناء القدرات التشغيلية والإدارية والمالية للهيئات المحلية. وقد عززت الحكومة هذا النهج، باستحداث جهاز تنموي عام 2005 يساعد الهيئات المحلية في أعمالها تحت مسمى «صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية».

يشير تعبير «الهيئات المحلية» في هذه الدراسة إلى البلديات والمجالس القروية الموجودة في المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1967، في الضفة الغربية وقطاع غزة، التي يبلغ عددها قرابة 417 مجلس قروي وبلدية. تعتمد الدراسة للبحث عن طبيعة التبعية الاقتصادية على سياق محدد تمت معاينته من خلال تحليل ودراسة الأدبيات التي ناقشت دور ومكانة الهيئات المحلية الفلسطينية، فضـلاً عن تحليل المشاريع التي نفذتها هذه الهيئات من خلال صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية.

تحاجّ الدراسة بأن الهيئات المحلية منذ اتفاق أوسلو، لم تسهم في تحقيق التنمية بل كرّست التبعية لنظام الاستعمار الاستيطاني، وذلك يعَدّ استمراراً لشكل التبعية السياسية والاقتصادية التي طبقها المُستعمِر الاستيطاني (Settler Colonialists) منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، وذلك بهدف السيطرة على الأرض أولاً وأخيراً.

تطرح هذه الدراسة التبعية الاقتصادية كمدخل لفهم ملامح معضلة الهيئات المحلية الفلسطينية، وتحديداً تأثير المشاريع التنموية الاقتصادية في الفلسطينيين الذين يسكنون في الأرض المحتلة عام 1967، ومن بينها مشاريع: الطرق، والكهرباء، والرقابة الصحية والزراعية، والصرف الصحي، والمياه، والمخصصة من أجل تحقيق التنمية. استهدفت الدراسة المشاريع التي نفذتها الهيئات المحلية والمخصصة لتحقيق التنمية الاقتصادية بهدف تخفيف البطالة ورفع معدلات النمو الاقتصادي. جرى اختيار العيِّنة بناءً على مسح لجميع المشاريع التي نفذها صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية، المخصصة لتحقيق التنمية الاقتصادية فقط في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 2009؛ وهو العام الذي أطلقت فيه الهيئات المحلية مشروع التنمية الاقتصادية.

إن مسألة التبعية الاقتصادية ليست بعيدة أبداً من المناقشات حول الاستعمار الاستيطاني. الاقتصاد كما الأرض هو الحياة – أو على الأقل، الاقتصاد ضروري للحياة؛ لكن هذا لا يعني القول إن الاستعمار الاستيطاني هو ببساطة نوع من أنواع التبعية الاقتصادية. في بعض المواقع الاستيطانية، تمكنت المجتمعات المحلية من استيعاب المستعمِر وفرض نظام اجتماعي واقتصادي يتواءم وحاجاتها. علاوة على ذلك، يمكن أن يكون هناك تبعية اقتصادية في غياب الاستعمار الاستيطاني.

إن المناقشات النظرية المطروحة والدراسات الأدبية المعمقة التي ناقشت دور ومكانة الهيئات المحلية في هذه الدراسة، إضافة إلى تحليل المشاريع التنموية، التي كشفت عن عمق معضلة الهيئات المحلية، تعطينا فرصةً لاكتشاف الاحتمالات لفهم مستقبل هذه الهيئات بوصفها بديـلاً محتمـلاً لصورة السلطة الفلسطينية القائمة. نحن بحاجة اليوم، وفي ضوء ندرة الدراسات الأكاديمية عن الهيئات المحلية، إلى تحطيم فهمنا التقليدي لدور المؤسسات الدولية في دعم التنمية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ولدور هذه الهيئات في تحقيق التنمية المحلية والمشاركة السياسية وخدمة المشروع الوطني، ولا سيَّما أننا نبحث في مرحلة تاريخية صعبة تمر بها القضية الفلسطينية.

أولاً: الهيئات المحلية والتبعية الاقتصادية: خلفية نظرية ومفاهيمية

حدثت زيادة مطردّة في دراسات الهيئات المحلية وتبعية الشعوب المستعمَرة منذ ثمانينيات القرن الماضي. وأصبحت محوراً مهماً في الكتابات البحثية والأكاديمية، وحظيت باهتمام جاد في كليات العلوم الإدارية والاقتصادية والسياسية، ولا سيَّما مع بروز مدراس نظرية مثل نظرية ما بعد التنمية (Post Development Theory). ومع ذلك، يبقى الانشغال بفهم دور المحليات وأثرها في دعم وتعزيز التنمية في ظل تبعيتها للمُستعمِر الاستيطاني، جهداً بحثياً، من الضروري أن يستمر لتعزيز دراسات التنمية في ظل الاستعمار الاستيطاني.

تعود نشأة ووجود أنظمة الحكم والإدارة المحلية إلى التجمعات الإنسانية الأولى في العصور القديمة التي جمعت أفراداً وعائلات وقبائل سعت فيما بينها للعمل من أجل تلبية حاجاتها وإقامة المنشآت والمشاريع. ومع تطور المجتمع الإنساني وبدء الثورة الصناعية وهجرة سكان الريف إلى المناطق الصناعية الجديدة ظهرت الحاجة إلى إيجاد إدارة للمدن والقرى للإشراف على تنظيمها وتوفير الخدمات الأساسية للسكان. وقد برز منذ ذلك الحين مفهوم الحكم المحلي في فرنسا عام 1831، وذلك قبل أن تُعقد أول انتخابات لرؤساء المجالس المحلية عام 1881، وخلال الفترة نفسها ظهر مفهوم الحكم المحلي في إنكلترا مع ظهور قانون البلديات عام 1835 الذي تم بموجبه انتخاب رؤساء بلديات وأعضاء مجلس محلي. ومنذ منتصف القرن الماضي تطورت أنظمة الحكم المحلي والإدارة المحلية في بلدان العالم، وهدفت كل منها إلى بلورة نموذجها الخاص بالحكم من أجل تنظيم السلطة، واتخذت هذه الأنظمة نموذجَين هما؛ المركزية واللامركزية، وعملت كل دولة على تطبيق النموذج الذي يتناسب مع طبيعة نظامها السياسي‏[1].

ظهر عدد من الاتجاهات في تعريف المركزية واللامركزية، واتخذت صوراً ومقاصد مختلفة. وما يهمنا في تعريف المركزية هو أنها تعني تركيز السلطة في يد جهة واحدة، بغض النظر إن كانت فرداً أو هيئة أو مجلساً. وقد اتخذت المركزية عدة أبعاد من قبيل: المركزية السياسية، والمركزية الاقتصادية، والمركزية الإدارية. وقد شملت جميعها مسعى واحداً، ألا وهو تركيز السلطة والقرار (السياسي أو الاقتصادي أو الإداري) بيد السلطة أو الحكومة المركزية‏[2].

أما عن اللامركزية فتعني توزيع السلطة بين الحكومة وهيئات أخرى ذات شخصية معنوية تدير شؤونها الإدارية على نحو مستقل وتحت إشراف الدولة ورقابتها. وتسعى الدول من خلال تطبيقها هذا النظام إلى تخفيف سيطرة المركز على جميع مفاصل الحكم. وقد اتخذت اللامركزية هيئاً متعددة لعل أهمها: اللامركزية السياسية، واللامركزية الإدارية، وتنقسم دول العالم بين هذين النوعين من اللامركزية، ففي الأولى تمنح الدولة المحليات سلطات تشرعية وتنفيذية وقضائية، أما الثانية فتوزع الدولة فيها السلطة والصلاحيات بينها وبين المحليات في المناطق الجغرافية التي تتبع لها وتعمل تحت إشرافها‏[3].

في ما يتعلق بتنوع شكل الإدارة والتنظيم داخل اللامركزية، ترد آراء متعددة حول مفهومَي الإدارة المحلية (Local Administration) والحكم المحلي (Local Governance)، فمن الناحية النظرية تُعرف الأولى على أنها «توزيع الوظيفة الإدارية بين الحكومة المركزية وهيئات محلية منتخبة تمارس عملها تحت إشراف السلطة المركزية ورقابتها»، بينما تُعرف الثانية على أنها «توزيع السلطة التشريعية والتنفيذية والقضائية بين أجهزة السلطة المركزية في العاصمة وبين حكومات الأقاليم»‏[4].

لا يختلف السياق الفلسطيني عمّا ورد في الأدبيات النظرية السابقة حول مفهومَي الحكم المحلي والإدارة المحلية، وإن كانت السلطة الفلسطينية اختارت دمج النموذجين بعضهما ببعض؛ إذ حددت السلطة الفلسطينية وفقاً للقانون الأساسي المعدل عام 2005 في المادة 85، طبيعة وصورة الإدارة المحلية للهيئات المحلية الفلسطينية من خلال النص التالي: «تنظم البلاد بقانون في وحدات إدارة محلية تتمتع بالشخصية الاعتبارية، ويكون لكل وحدة منها مجلس منتخب انتخاباً مباشراً على الوجه المبين في القانون. ويحدد القانون اختصاصات وحدات الإدارة المحلية ومواردها المالية وعلاقتها بالسلطة المركزية ودورها في إعداد خطط التنمية وتنفيذها، كما يحدد القانون أوجه الرقابة على تلك الوحدات ونشاطاتها المختلفة»‏[5]. لكن في المقابل نجد أن قانون الهيئات المحلية الفلسطينية لم ينسجم مع القانون الأساسي الفلسطيني كون هذه الهيئات تعمل وفق نموذج «الإدارة المحلية»، إذ عرَّف قانون الهيئات المحلية الفلسطينية الوزارة على أنها «وزارة الحكم المحلي» والوزير على أنه «وزير الحكم المحلي»‏[6]. وهذا بدوره أبصر على أن قطاع المحليات يواجه مشكلة عميقة منذ التأسيس على صعد شتى، هيكلية، وتنظيمية، ووظائفية، وأدائية‏[7].

وفي الحالتين، ما يهمنا هنا هو فهم تأثير التبعية الاقتصادية التي سعى لها المُستعمِر الاستيطاني، حيث لم تعطِ اتفاقية أوسلو الفلسطينيين سوى حكم ذاتي مؤقت، وهذا بدوره لم يوقف التدخل الإسرائيلي في نموذج وطبيعة الإدارة الفلسطينية بشقيّها المركزي واللامركزي، الأمر الذي أعطى المستعمِر الاستيطاني ضماناً يعكس الانتقال في البنية الاستعمارية من الاستعمار الاستيطاني المباشر إلى الاستعمار غير المباشر، وبما لا يؤثر في تحقيق التبعية له، وبما لا يؤثر أيضاً في هيمنته على الأرض وبنائه للمستوطنات.

يرى فضل النقيب، في تتبّعه لتطور الأدبيات النظرية عن مفهوم «التبعية الاقتصادية» في الأرض المحتلة عام 1967، أن الممارسات الإسرائيلية منذ احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967 استندت إلى أربع ركائز لتحقيق تبعية الفلسطينيين لإسرائيل وهي؛ تقليص سيطرة الفلسطينيين على الموارد الطبيعية، وعرقلة نشاطهم الاقتصادي، ورفع مستوى اعتمادهم على المصادر الخارجية، والتحكُّم في مسار التنمية المخصص لتطوير البنية التحتية والخدماتية‏[8].

تنبع أهمية الطرح الذي قدمه النقيب، من كونه يقدم تفسيراً لدور المستعمِر في جعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي، وذلك بهدف تدمير القدرة التنموية للفلسطينيين، وإبقاء الأرض المحتلة مجالاً للنمو الاستيطاني في الحاضر والمستقبل. في مقابل ذلك، لا تمانع سلطات الاحتلال بزيادة معدلات نمو دخل الفرد العادي ما دامت معدلات الإفقار الوطني مرتفعة؛ إذ ترى سلطات الاحتلال أن نمو دخل الفرد العادي شريطة بقاء معدل الفقر العام الفلسطيني مرتفعاً، سيضمن لها التحكم في مقاومة الفلسطينيين للاحتلال من جهة، والمحافظة على تبعيتهم الاقتصادية من جهة ثانية[9].

سعت سلطات الاحتلال منذ اليوم الأول لاحتلال الضفة والقطاع، لإحداث تغيير هيكلي في الاقتصاد الفلسطيني. يستدل النقيب على ذلك؛ من أن جزءاً رئيسياً من دخل الفلسطيني يتوجب أن يأتي من خارج مساهمة الاقتصاد المحلي الوطني المعتمد على الزراعة والصناعة. لذا، عملت إسرائيل لفرض التغيير الهيكلي في الاقتصاد، على طريقتين: الأول، تغيير مفهوم العمل لبناء اقتصاد محلي، وهي التي عملت على بناء مستوطنات في مختلف مناطق الضفة والقطاع بهدف خلق حاجز لوحدة الجغرافيا الفلسطينية واستيعاب أكبر قدر ممكن من العمالة الفلسطينية. والثانية، رفع معدل اعتماد الفلسطينيين على المساعدات الدولية في تحقيق التنمية المحلية‏[10]، وهذا بدوره جرّد إمكان التحرر من التبعية للاقتصاد الإسرائيلي بالرغم من محاولات الفلسطينيين تحقيق الاستقلال الاقتصادي‏[11].

يقول باتريك وولف، إن «المستعمر الاستيطاني يدمِّر ليحل محل». ويلاحظ ذلك من خلال مقولة ثيودور هرتزل، الأب المؤسس للصهيونية، في بيانه/روايته الاستهلالية، «إذا كنت أرغب في استبدال مبنى جديد بعمر قديم، فيجب أن أهدمه قبل أن أقوم ببنائه». ويستدل على ذلك من التبرير الأيديولوجي لنزع ملكية السكان الأصليين، وهو أن «نحن» (المستعمِر الاستيطاني) يمكن أن نستخدم الأرض بصورة أفضل. ويرى وولف أنه لتحقيق ذلك فإن المستعمِر الاستيطاني يعمل من خلال المدخل الاقتصادي على الاستيلاء والسيطرة على محرك عملية الإنتاج والتوزيع بين الناس، وذلك من خلال التحكم في عمالة السكان الأصليين بهدف تحقيق التبعية الاقتصادية. وبالتالي يرى أن المستعمِر الإسرائيلي سعى ولا يزال من خلال هذه التبعية لتحقيق الاكتفاء الذاتي لصالح المجتمع اليهودي في فلسطين وذلك على حساب السكان العرب المحيطين به‏[12].

يرى سليم تماري أن إسرائيل منذ اليوم الأول لاحتلال الضفة والقطاع منعت نمو القطاع الزراعي، وسرقت الأرض من المزارعين، بهدف إجبار الفلسطينيين على العمل في إسرائيل كأيدٍ عاملة رخيصة، ورفعت معدل الاعتماد على التحويلات والمساعدات المالية، حتى يصبح الفلسطينيون مستهلكين للبضائع الإسرائيلية، ومرتبطين بالخدمات التي تقدمها سلطات الاحتلال‏[13].

وقد وضعت هذه السياسة التنمية الاقتصادية، التي تمثّل الهيئات المحلية ركيزتها، أمام إنكار تنموي جديد وصفته سارة روي بـ «اللاتنمية»، وهي «عملية التفكيك المنهجي والمنظم لاقتصاد السكان الأصليين على يد قوة مسيطرة، وذلك بهدف تجريدهم من مواردهم ومن أي وسيلة من شأنها أن تتيح لهم إنشاء قاعدة اقتصادية لدعم وجودٍ مستقلٍ لهم في أرضهم»‏[14].

ولاحقاً أكدت ليلى فرسخ «أن الضفة والقطاع شهدتا تطوراً معاكساً يعود إلى الاستراتيجية السياسية – الاقتصادية الإسرائيلية»‏[15]، ورأت أن اتفاقية أوسلو نجحت إلى جانب تعميق التبعية الاقتصادية في فرض التجزئة الجغرافية، وهذا أدى بدوره إلى الكشف عن معضلة جديدة تواجه الحكم المحلي الفلسطيني، وهي التي ترى أن المحليات باتت تتكون من أربع بانتوستانات (واحدة في قطاع غزة و3 في الضفة الغربية)، وكلها معتمدة بالكامل على إسرائيل‏[16].

ارتكازاً على ما ورد، نرى أن أغلب المشاريع قبل توقيع اتفاقية أوسلو، كما سنرى في القسم الثاني من هذه الدراسة، خُصصت لقطاعات غير منتجة، كمشاريع البنية التحتية والتشييد، ويستدل على ذلك، أن مخصصات التنمية الاقتصادية لقطاعي الزراعة والصناعة بلغت 39 في المئة من إجمالي المساعدات، مقارنة بـ 61 بالمئة لقطاع البناء والخدمات‏[17]. وزاد الحال سوءاً بعد أوسلو، وهي المرحلة التي سيركز عليها القسم الثالث من هذه الدراسة، إذ تشير تقارير صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية إلى أن المشاريع التنموية بلغت 3.2 بالمئة من إجمالي المساعدات مقارنة بـ 96.8 بالمئة لمشاريع البناء والخدمات.

زد على ذلك، أن العوائد والمنافع الاقتصادية انعكست إيجابيّاً على الاقتصاد الإسرائيلي بدلاً من الاقتصاد الفلسطيني. ففي الفترة 1993 – 2018، ارتفعت مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل من 76 مليار دولار أمريكي عام 1993 إلى 350 مليار دولار أمريكي عام 2018‏[18]، في المقابل تشير التقديرات إلى أن الناتج المحلي الإجمالي في الضفة والقطاع، بلغ 2,843 مليون دولار أمريكي عام 1993‏[19] وارتفع إلى 13 مليار دولار أمريكي مؤخراً‏[20]، ولكن دون أي تأثير في معدلات البطالة التي بلغت قرابة 30 بالمئة عام 2018، وهكذا، بات المُستعمِر الاستيطاني مستفيداً من أموال التنمية المحلية المخصصة لتنمية المحليات الفلسطينية، وكذلك نجح في أن يصبح الشريك التجاري الرئيسي في القطاعات غير المنتجة وليس المعيق الرئيسي لتحقيق التنمية الاقتصادية وحسب.

وهذا يعني، أن المشاريع المخصصة لتحقيق التنمية الاقتصادية لا تعمل في إطار بناء تنمية فلسطينية حقيقية، بل تتكامل مع السياسة الإسرائيلية في السماح بالرفاه والنمو الفردي في مقابل منع تنمية شاملة للفلسطينيين في الأرض المحتلة عام 1967. وبهذا أُضعفت القطاعات المنتجة على حساب القطاعات غير المنتجة، وتأثرت بنية الناتج المحلي الإجمالي، فمن جهة، انخفض نصيب القطاعات الإنتاجية على حساب نمو الناتج المحلي الإجمالي، ومن جهة ثانية، أدى الانخفاض إلى زيادة أهمية قطاع البناء والخدمات على حساب الزراعة والصناعة.

بعد قراءة مكثفة لمفهوم الهيئات المحلية والحكم المحلي والتبعية الاقتصادية، واستعراض السياق التاريخي وتفسيره، ننتقل الآن إلى معالجة جديدة تساعدنا على فهم السياسة الإسرائيلية تجاه الهيئات المحلية الفلسطينية، وتقوم على تحليل أثر المشاريع والخدمات التي قدمتها سلطات الاحتلال إلى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة منذ عام 1967 لغاية توقيع أوسلو.

ثانياً: تنمية المُستعمَر كمدخل استعماري خلال الحقبة 1967 – 1993

مع نهاية حرب حزيران/يونيو 1967 واحتلال ما تبقى من الأرض، وجدت السلطات الاستعمارية نفسها أمام خمس وعشرين هيئة محلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، ورثتها عن الحقب المتعاقبة على الأرض. لذا كان لا بد لسلطة الاحتلال من أن تبحث عن سياسة تهدف من خلالها إلى تمكين نفوذها وسيطرتها على الأرض، لذلك عملت على تعزيز تبعية الفلسطينيين اقتصادياً، وعزل التواصل بين المواطنين العرب في الضفة والقطاع، وتفتيت الكتلة الديمغرافية للفلسطينيين.

بدأت سلطات الاحتلال بتنفيذ سياستها بالتحكم وضبط الفلسطينيين منذ عام 1967 من خلال سياسة موشيه ديان، وزير الجيش الإسرائيلي، وفرض سياسة «الأمر الواقع»‏[21]، التي هدفت أولاً إلى إلغاء التقسيمات الإدارية الموروثة عن الانتداب البريطاني والإدارة الأردنية والمصرية، من أجل، فرض تقسيم إداري وسياسي وجغرافي يتواءم مع أهداف سلطات الاحتلال ويحقق التبعية لها، ما أسهم لاحقاً في ضبط الأرض المحتلة وإدارتها، وتشجيع الاستيطان‏[22]. وفي المقام الثاني ارتبطت السياسة الاستعمارية، بخطة «آلون»‏[23]، المقدمة من الوزير الإسرائيلي إيغال آلون، وهي خطة مثّلت باكورة التحول السياسي والاقتصادي بالمحليات، إذ هدفت إلى تمكين الحكم الذاتي، في مقابل تفكيك الارتباط بين الفلسطينيين، وتدمير أي تنمية اقتصادية، وخلق نخب مرتبطة بالمستعمِر من أجل تمرير المخططات الاستعمارية‏[24]. يمكن وصف سياسات الاحتلال في خطتي آلون وديان، أنها سياسات تمثّل المحليات جوهر عملها السياسي والاقتصادي، وتهدف إلى منع الفلسطينيين من تأسيس «مجتمع سياسي واقتصادي واجتماعي موحد»، وذلك بهدف إجبارهم على التبعية للمُستعمِر‏[25].

يرى شارل عيساوي في بحثه للتجربة الاستعمارية «أن تجربة شمال أفريقيا تظهر أن السيطرة الأجنبية المباشرة يمكن أن تقود إلى تطور كبير في الموارد للمستعمِر، لكن هذا التطور يعود بفوائد قليلة على السكان الأصليين»‏[26]. تشبه هذه المقاربة المشاريع التنموية التي نفذتها سلطات الاحتلال في الأرض المحتلة قبل توقيع أوسلو‏[27]، والتي ادّعت من خلالها بأنها تقوم على تنمية الفلسطينيين، وقد حصلت سلطات الاحتلال على دعم مالي دولي بهدف تحقيق التنمية للفلسطينيين، ووجدنا أن ثلاثة من بين المشاريع المنفذة مفيدة لغايات البحث، وذلك من ناحية المعلومات المتوافرة:

1 – شبكة الطرق

شيّدت حكومة الاحتلال، حتى عام 1977، وبموجب خطة آلون العديد من المستوطنات في المناطق العربية التي تحظى بوجود بشري منخفض، مثل منطقة غور الأردن، وجبال الخليل، ومنطقة القدس. وخلال حقبة حزب الليكود 1977 – 1984 انتشرت المستوطنات على نحو أكبر في معظم مناطق الضفة الغربية، وبخاصة في محافظات رام الله ونابلس. فمع منتصف الثمانينيات، تمكنت سلطات الاحتلال من السيطرة على نصف مساحة الضفة الغربية و30 بالمئة من مساحة قطاع غزة‏[28]. وقد احتاجت هذه المستوطنات إلى شبكة مواصلات للربط فيما بينها، لهذا بنت إسرائيل شبكة طرق سعت من خلالها لتحقيق «تفاعلات اجتماعية واقتصادية وسياسية بين إسرائيل والمناطق المحتلة، واتخذت طابعاً شبه دائم»‏[29].

سهلت هذه السياسة عملية إنشاء شبكة طرق استفاد منها الفلسطينيون، ولكنها في الوقت ذاته، هدفت مباشرة إلى رفع معدل الاستيطان، إذ يُلاحظ أن إسرائيل تجنبت في عملية بناء الطرق المناطق السكنية الداخلية للقرى والبلدات والمدن العربية، بهدف إعادة رسم خارطة الأرض المحتلة. وبهذا باتت سلطات الاحتلال من خلال شبكة الطرق تسيطر على عملية التنمية في الضفة والقطاع وتحصرها في مناطق محددة خارج المدن والقرى الفلسطينية‏[30]. وقد سرّع هذا المخطط في عملية حصر الفلسطينيين ضمن مناطق ضيقة تعاني واقعاً تنموياً مأزوماً، بينما يسمح للمستوطنين بالسيطرة على الأرض الفلسطينية من أجل تعزيز واقع جديد يسهم في دعم انتقال الموارد الصناعية والزراعية إلى إسرائيل.

2 – الكهرباء

تأسست شركة الكهرباء الفلسطينية عام 1921، ومنح فيها امتياز توليد الكهرباء لمدة سبعين عاماً، إلى رجل الأعمال اليهودي «روتمبرغ» الذي عمل على نحو وثيق مع الحركة الصهيونية، وقد حققت الشركة في حينه أرباحاً طائلة، واستغلت مياه نهر الأردن، وطُرد الفلسطينيون من أراضيهم من أجل توسعة المشروع‏[31]. ومن ثمّ، شكلت عملية توزيع الكهرباء؛ كأول مشروع خدماتي استعماري، بوابة لهيمنةٍ استيطانية من أجل تشجيع الصناعة اليهودية، ورفع مستوى الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وزيادة الإنتاج العائد بالفائدة على الاحتلال‏[32].

زعمت إسرائيل بأنها قدمت خدمة الكهرباء إلى الفلسطينيين وذلك بهدف مساعدتهم على تحقيق التنمية، إلا أن الإحصاءات المتوافرة منذ عام 1967 تشير إلى أن مشروع الكهرباء أسهم في ارتفاع عوائد الصناعة الإسرائيلية بدلاً من الفلسطينية، إذ بلغت هذه العوائد قرابة 85 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي. في مقابل ذلك، بلغت مساهمة القطاع الصناعي الفلسطيني في الناتج المحلي الإجمالي نحو 6 بالمئة عام 1980‏[33]. وبناءً عليه، نرى أن مشروع الكهرباء خدم المُستعمِر الاستيطاني على نحو مباشر، فمن جهة أغلق الطريق على شركة كهرباء القدس الفلسطينية، ومن جهة ثانية عمل على زيادة الاستيطان من خلال رفع مساهمة الصناعة في المستوطنات الإسرائيلية الصناعية، ولعل أبرزها مستوطنات ميشور أدوميم ونعران‏[34].

3 – الرقابة الصحية والزراعية

زعمت سلطات الاحتلال من خلال تقرير عسكري صادر عام 1969، أنها أدخلت تقنيات حديثة في أنماط الرقابة الصحية، ورصدت عدد الماشية والدواجن، وتتبعت الأمراض التي تعرضت لها المواشي. ومن المؤكد أن سلطات الاحتلال لها مصلحة خاصة في رصد أي وباء ومنع تطوره؛ لأن الفيروسات والأمراض لا تتوقف عند الفلسطينيين، بل من الممكن أن تصل إلى المستوطنين.

وبالفعل، زعمت سلطات الاحتلال بأنها أدخلت برامج لتحصين المواشي بهدف وقف ارتفاع وفيات المواشي، وهذا بدوره أدى إلى زيادة كبيرة في إنتاجية المزارعين الفلسطينيين‏[35]، إلا أن هذه السياسات الحمائية الاستعمارية لا تعني دعم الفلسطينيين، بل هي رصد لأعداد المواشي والدواجن، ما يؤكد اهتمام سلطات الاحتلال بالسيطرة على نمط معيشة الفلسطينيين. وينطبق هذا الحال على دمج الفلسطينيين في القوى العاملة الإسرائيلية، فلم يؤدِّ هذا الدمج إلى توفير العمالة الرخيصة للسوق الإسرائيلية فحسب، بل إلى الإيفاء بالحاجات الاقتصادية للمستوطنين، فضـلاً عن تأثيره الكبير على مستوى معيشة السكان الأصليين‏[36].

في ضوء تفسير المشاريع الثلاثة الواردة، يمكن وصف استراتيجية المشاريع والخدمات الإسرائيلية لمناطق الأرض المحتلة خلال فترة الاحتلال المباشر للضفة والقطاع بـ «التجميلية»، كما يصفها ميرون بنفنستي الذي يرى أنها أدت إلى إحداث «تغيير ضمن الموارد الأساسية والبنية التحتية القائمة، دون بذل أي جهود لتحويل البنية الريفية… باتجاه معالجة الإنتاج وتحسين بنية أنظمة الدعم. وبهذا سمح الاقتصاد الإسرائيلي، للاقتصاد العربي بأن يتطور ولكن بشرط أن لا يتناقض مع مصالحه أو أهدافه أو خططه أو بما لا يضع أية أعباء مالية واقتصادية عليه»‏[37]. زد على ذلك، التفسير الذي قدمه يوسف صايغ حينما بيّن أن هذه المشاريع التي ينفذها المُستعمِر يسعى من خلالها إلى تحقيق تبعية المستعمَر للمستعمِر الاستيطاني، وهو الذي وسم هذه العملية بالاستعمار الداخلي (Internal Colonialism)؛ إذ يرى أن إسرائيل «استعمار استيطاني يسعى لتحقيق أهداف لا تتوقف عند عمليات عسكرية أو سياسية، إنما يسعى للتركيز على اقتلاع السكان الأصليين من أرضهم واستبدالهم بمستعمرين، وهذا ما يتطلب البحث عن تبعية طويلة الأمد لأولئك القاطنين في الأرض المحتلة من خلال إحداث تغييرات اقتصادية عبر تغيير بنية الاقتصاد المحلي للتجمعات الفلسطينية المحلية ومنح الفلسطينيين معدلات دخل عالية، ولكن بشرط أن تكون مصادر الدخل من مصادر خارج الاقتصاد المحلي (مصادر لا تساهم في عملية الإنتاج) وذلك من أجل المساهمة في تعطيل عجلة الإنتاج وتعزيز مسيرة الاستهلاك العام والتبعية للإسرائيليين»‏[38].

ما ورد يبيّن لنا أن الاستعمار الاستيطاني هدف من خلال مشاريع التنمية التي قدمها إلى الفلسطينيين إلى تحقيق تبعية الفلسطينيين لإسرائيل، بهدف الاستمرار بالتوسع والسيطرة على الأرض، إلا أن هذه المشاريع المنفذة لم تنجح في تقييد نمط حياة الفلسطينيين والسيطرة عليها، ولعل خير دليل على ذلك، هو اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى عام 1987. لكن الرغبة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية بتوقيع أوسلو هي من قيّدت نمط حياة الفلسطينيين، وهي فعلياً من أسهم في تمكين الاستعمار الاستيطاني في فلسطين، وهذا يشكل مدخـلاً رئيسياً لفهم معضلة المحليات في الضفة والقطاع.

ثالثاً: كيف أسهمت الهيئات المحلية في إطالة أمد الاستعمار الإسرائيلي؟

ورثت السلطة الفلسطينية عند توقيعها اتفاقية أوسلو ما مجموعه 29 هيئة محلية، و81 مجلساً قروياً، وتعتمد وزارة الحكم المحلي على قانون الهيئات المحلية الرقم (1) لعام 1997، الذي ينص في افتتاحيته، على أن هذا القانون صيغ متسقاً مع قوانين الهيئات المحلية للإدارات المتعاقبة جميعها، من بينها الأوامر العسكرية الصادرة خلال فترة احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة‏[39].

ومنذ مطلع تسعينيات القرن الماضي برزت الرؤى الاستشرافية لطبيعة الإدارة المحلية الفلسطينية التي يريدها الفلسطينيون وذلك لتفادي التسلّط السياسي والإداري وتجنب الازدواجية واختلاط الصلاحيات ولتعزيز ديمقراطية الحكم‏[40]. إلا أن هذه الرؤى اصطدمت بجوهر اتفاق أوسلو الذي بدا على أنه يُشكّل ضماناً حقيقياً، يعكس الانتقال في البنية الاستعمارية من مبدأ الاستعمار الاستيطاني المباشر إلى الاستعمار غير المباشر، إذ لا تعني هذه الأخيرة إنهاء السيطرة على الفلسطينيين، بل تغييرها من نظام قائم على إدارة حياة السكان المستعمَرين إلى نظام لم يعد مهتماً بهم. وهذا يعني بأن إسرائيل لم تعد تقدم أي نوع من الحساب للظروف التي يعيشها الفلسطينيون‏[41]. ولعل أبرز المظاهر المهمة للهيئات المحلية بعد أوسلو، أن المستعمِر الاستيطاني لم يعُد مسؤولاً عن تقديم الخدمات الأساسية وتوقف عن دفع تكاليف استعمار الفلسطينيين.

في خضم التحول إلى «أيديولوجيا بناء الدولة» التي برزت على نحو أكبر بعد انتهاء الانتفاضة الفلسطينية الثانية، وظهور المشروع السياسي والاقتصادي لرئيس الوزراء الفلسطيني، سلام فياض عام 2008‏[42]، بات اهتمام وزارة الحكم المحلي الفلسطيني منصباً على قضايا البنية التحتية وأوكلت للهيئات المحلية مهمة تحقيق التنمية الاقتصادية للفلسطينيين. إلا أن غياب سيادة الفلسطينيين على الأرض والموارد برزت كإحدى المعضلات أمام تحقيق التنمية، إن لم تكنْ أهمها، ولهذا كانت النتيجة الحتمية لمشاريع الهيئات المحلية هي العجز‏[43].

قامت السلطة الفلسطينية منذ تأسيسها بعد أوسلو بزيادة أهمية الهيئات المحلية، وبات الفلسطينيون يَعدّونها ركيزة رئيسية في عملية بناء الدولة. ومنذ تأسيس وزارة الحكم المحلي عام 1994 وصندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية عام 2005 سعت السلطة إلى تطوير ودعم المحليات في الضفة والقطاع من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية للفلسطينيين. لكّنها في الوقت نفسه عملت على زيادة المحليات الفلسطينية، لا لتحقيق التنمية للفلسطينيين، بل لتوسيع نطاق سيطرتها وتوسيع قاعدة الولاءات السياسية لها ولمشروعها السياسي. وفي هذا السياق، عمدت وزارة الحكم المحلي إلى زيادة عدد البلديات والمجالس القروية، ورفعت مكانة التجمعات السكانية الصغيرة إلى بلدية، ومنحت العديد من المحليات الشخصية القانونية. وإذ تشير آخر إحصائية صادرة أن عدد البلديات وصل إلى 142 بلدية إضافة إلى 275 مجلساً قروياً، وهذا يعادل أربعة أضعاف عدد الهيئات المحلية قبل قدوم السلطة الفلسطينية‏[44].

زد على ذلك، أن وزارة الحكم المحلي أعفت إسرائيل من تقديم خدماتها للفلسطينيين وتحمل تكلفة استعمارها لهم في مجالات التخطيط والتنظيم العمراني وتقديم خدمات المياه والكهرباء والصرف الصحي والنفايات الصلبة والصحة العامة والبنية التحتية. وهذا يعني، أن دورها بات عاملاً مساعداً في ترسيخ البنية الاستعمارية الاستيطانية، فقد أصبح الهمّ الرئيس للمحليات الفلسطينية هو التفاوض من أجل تحسين شروط الخدمات التي يتلقاها السكان المحليون؛ ما يعني تحسين شروط إدارة الواقع الاستعماري‏[45]، وهذا يمثّل لبّ وجوهر معضلة المشاريع التنموية التي نفذتها الهيئات المحلية الفلسطينية منذ أوسلو.

يعدّ برنامج التنمية الاقتصادية المحلية الممول من المؤسسات الدولية المانحة، أبرز البرامج التنموية التي نفذها صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية منذ عام 2009، وأهم المشاريع التنموية التي تنفذها الهيئات المحلية من أجل تحقيق التنمية الاقتصادية. يسعى هذا البرنامج لتشجيع المبادرات الانتاجية والتنافسية وحفزها من أجل زيادة النمو المستدام، لضمان نمو شامل يسهم في التخفيف من وطأة الفقر والبطالة، وتشجيع التعليم والابتكار، ورفع مستوى الكفاءة والنمو الاقتصادي وتحسين تحصيل الإيرادات والاستجابة للمجتمع المحلي، ومساعدتهم على تحسين أدائهم الإداري والمالي ورفع قدراتهم في مجال التخطيط‏[46].

ولتحقيق ذلك صرف الصندوق منذ تأسيسه عام 2005، قرابة 400 مليون دولار أمريكي، على مشاريعه الخدماتية والتنموية في الضفة الغربية وقطاع غزة وفي قطاعات البنية التحتية، وتنمية القدرات، والمبادرات المبتكرة على مستوى البلديات‏[47]. تشير تقارير وقواعد بيانات صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية إلى أنه قام بتوزيع حوالى 278.5 مليون دولار أميركي خلال الفترة 2009 – 2016، بمتوسط 35 مليون دولار أميركي سنوياً، أما في السنة الأخيرة فقد قدم الصندوق حوالى 55 مليون دولار أميركي إلى الهيئات المحلية الفلسطينية (انظر: الجدول الرقم (1))‏[48].

الجدول الرقم (1)

توزيع تمويل المنح والمساعدات الدولية للمحليات في الضفة الغربية وقطاع غزة 2009 – 2017

السنة200920102011201220132014201520162017
المبلغ/مليون دولار28284232323134.55155

المصدر: الجدول من إعداد الباحث.

ووفقاً للمعلومات الواردة في تقارير صندوق تطوير وإقراض الهيئات المحلية، جرى تخصيص المساعدات المقرة للتنمية الاقتصادية حتى نهاية العام المنصرم على المشاريع التي لا تصب في مصلحة بناء اقتصاد وطني مستقل يحقق الأهداف التي يسعى لها بتخفيف الفقر والبطالة. وهذه الحالة نفسها التي تطرقنا إليها في القسم الثاني من هذه الدراسة، فنوعية هذه المشاريع المنفذة لا تسهم في بناء اقتصادي محلي وطني (انظر: الرسم البياني الرقم (1)).

تطرح وزارة الحكم المحلي أن المشاريع التي ينفذها تتمشى مع رغبة المؤسسات الدولية المانحة‏[49] في تنمية الهيئات المحلية، ومع رسالتها بأنها «وزارة رائدة تعمل على بناء قدرات الهيئات المحلیة وتنمیة مواردها لتصبح أكثر قدرة على تحقیق رفاهية مواطنيها في إطار الحكم الرشيد»‏[50]. وكذلك تشير التقارير الصادرة عن وزارة المالية الفلسطينية، إلى أن قطاع التنمية المحلية والبنية التحتية واحد من أربعة قطاعات، إلى جانب قطاع الحكم، والقطاع الاقتصادي، والقطاع الاجتماعي، موجودة دائماً ضمن موازنة الحكومة الفلسطينية. إلا أن المتتبع للموازنة الحكومية يرى أن قطاع التنمية المحلية والبنية التحتية والتنمية الاقتصادية لا يحظى باهتمامٍ كافٍ، إذ حصل قطاع الحكم المحلي على 4 بالمئة من إجمالي الموازنة العامة لعام 2018‏[51]، وكذلك لعام 2017، مقارنة بـ 3.65 بالمئة لعام 2016، و3 بالمئة لعام 2015، و11 بالمئة لعام 2010‏[52]، و20 بالمئة في موازنة لعام 2000.

في ضوء هذه الأرقام (انظر: الرسم البياني الرقم (2)) يمكننا فهم تراجع اهتمام الحكومة بتحقيق التنمية الاقتصادية التي تنفذها المحليات، ويستدل على ذلك: أولاً، أن مشاريع التنمية الاقتصادية المنفذة لا تحقق أهدافها، وأبسط ما يمكن الإشارة إليه أن توزيع الأموال المخصصة لمشاريع التنمية البلدية التي تشمل بناء الطرق، أولى من التمويل المخصص لمشاريع إنتاجية تساهم في تقليل معدلات الفقر والبطالة. وثانياً، مقابل انخفاض موازنة قطاع التنمية المحلية ارتفع الاهتمام بموازنة قطاع الحكم (مكتب الرئيس، ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، ومجلس الوزراء، ووزارة الداخلية والأمن الوطني… إلخ)، التي باتت تعادل أكثر من عشرة أضعاف موزانة قطاع التنمية، إذ بلغت حصة قطاع الحكم عام 2018 قرابة 47 بالمئة من إجمالي الموازنة العامة‏[53]. وهذا يعني أن اهتمام الحكومة بقطاع الحكم والأمن بات يمثل تعبيراً صريحاً عن اهتمام المؤسسات المانحة بتقوية الأمن والحكم خلال مرحلة بناء الدولة على حساب التنمية المحلية.

بناءً عليه، فقد بات أهم ما تقدمه المؤسسات الدولية منذ توّلي حكومات التكنوقراط الفلسطينية وفي ظل الانقسام الفلسطيني بين الضفة الغربية وقطاع غزة، هو مجموعة من العوائد والمنافع الاقتصادية التي تعود إيجابيّاً على الاقتصاد الإسرائيلي، وليس على الاقتصاد الفلسطيني‏[54]. زد على ذلك أن التمويل الذي حصلت عليه السلطة الفلسطينية من أجل دعم مشاريع التنمية الاقتصادية، لم يؤثر في معدلات البطالة التي لا تزال في تصاعد، وهي التي بلغت قرابة 30 بالمئة عام 2018، في الضفة الغربية وقطاع غزة، مقارنة بـ 24.5 بالمئة عام 2009‏[55]؛ وهي السنة التي بدأت فيها الهيئات المحلية بتنفيذ مشاريع التنمية الاقتصادية. وكذلك تُشير الأرقام الحكومية إلى أن معدلات الفقر ارتفعت أيضاً من 22 بالمئة عام 1998 إلى 25.8 بالمئة عام 2012‏[56] قبل أن تصل إلى قرابة 53 بالمئة عام 2018.

يمكن تفسير المشاريع التي تنفذها الهيئات المحلية، المدعومة من جانب المؤسسات الدولية، أنها خلقت تشوهاً جديداً في الحكم الفلسطيني على نحو باتت فيه المساعدات تمثل عنصر قوة من أجل التأثير في القرار الفلسطيني الاقتصادي والسياسي. في الحصيلة، أسهمت هذه المشاريع في عزل الفلسطينيين وتجزئتهم. وهذا يفضي إلى معاينة منهجية، المقصود منها أن التعامل مع التنمية في الأرض المحتلة منذ عام 1967، جرى على أنه مسؤولية السلطة الفلسطينية، وذلك من خلال تنفيذ مشاريع ممولة من جهات دولية تساعد على تحقيق الرفاه الاقتصادي ورفع مستوى الكفاءة والفاعلية والابتكار والاستجابة للفلسطينيين، في مقابل كل ذلك، أُهملت العلاقة مع الاستعمار الاستيطاني‏[57].

وهكذا، فإن الهيئات المحلية منذ توقيع اتفاقات أوسلو دلّلت على إعادة تنظيم السلطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين بدلاً من انسحاب إسرائيل، وينبغي أن يفهم ذلك على أنه استمرار للاستعمار الاستيطاني باستخدام وسائل أخرى. نصت اتفاقات أوسلو فعـلاً، بلغة لا لبس فيها، على كيفية إعادة تنظيم سلطة إسرائيل في ثلاثة مجالات، هي: المؤسسات المدنية والاقتصاد وإنفاذ القانون‏[58]، وذلك مقابل تقديم إسرائيل مجموعة من الخدمات. لهذا بات الفلسطينيون يديرون محليات مقتطعة، في حين استمرت إسرائيل في السيطرة على باقي الأرض المتصلة. وهذه البنية باتت جزءاً صريحاً من تحميل الفلسطينيين مسؤولية إدارة أنفسهم في ظل الاستعمار مع حفاظ المستعمِر الاستيطاني على الهيمنة والتوسع وابتلاع الأرض.

وفي الحصيلة، أسهمت هذه السياسات والمشاريع في خَلق واقعٍ بات أقرب إلى معازل (عربية – يهودية) و(عربية – عربية) تمارس كل منها سلطة «حكم ذاتي» منقوص على سكانها وتخضع جميعها على نحو مباشر وغير مباشر لسيادة إسرائيل. يفهم من ذلك، أن الفلسطينيين أضحوا أمام نظام يتشابه في حيثياته مع النظام الاقتصادي للأبارتايد، من خلال دعم البلديات كل منها على إنفراد، في مقابل عزل السكان الأصليين عن بعضهم. وهذا النظام بات يساهم في تجزئة المجتمع لتجمعاتٍ خاضعة لحكم ذاتي في إطار نظام استعماري استيطاني، ويراهن في ذلك على منع أي تواصل بين الفلسطينيين في الضفة والقطاع والقدس والأرض المحتلة عام 1948. وهذا بشرط أن تبقى مساهمة الفلسطينيين في الاقتصاد هامشية ولا تتعدى النصف في مقابل هيمنة السلطة الاستعمارية عليها‏[59]، وذلك يمثّل تنمية من أجل المستعمِر الاستيطاني وليس المستعمَر.

خاتمة

تستمر الحالة الاستعمارية الاستيطانية بالنمو والتطور في الأرض المحتلة منذ عام 1967، في مقابل سلطة فلسطينية مقيّدة تبحث عن تمويل دولي من أجل تنفيذ مشاريعها التنموية على طريق تحقق الدولة المستحيلة. بيّنت هذه الدراسة أن المدخل الاقتصادي شكَّل ركيزة رئيسية لتحقيق التبعية للمُستعمِر الاستيطاني قبل أوسلو وبعده، كما أن المنح الدولية ودورها في تحقيق التنمية والرفاه الاقتصادي للفلسطينيين، شكلت المدخل الحقيقي لحالة النكوص التنموي التي خلقها المُستعمِر الاستيطاني. لذا، وفي غياب رؤية وطنية جامعة تحدد الدور المنوط بالهيئات المحلية، أصبح الفلسطينيون أمام محليات منفصلة عن سياق يلبي حاجاتهم بالتحرر والتنمية. وقد أدى ذلك في نهاية المطاف إلى جزر غير متصلة يسيطر عليها الفلسطينيون بشكل محدود، في حين أن إسرائيل تسيطر على الممارّ الاستراتيجية التي تتحكم بالتواصل الجغرافي بين الضفة والقطاع، وتتحكم في حرية الحركة والوصول إلى أمكنة العمل وتقديم الخدمات.

كما بيّنت الدراسة أنه رغم انقضاء ربع قرن على اتفاقات أوسلو، فإن عجز أو عدم قدرة الهيئات المحلية على مقاومة الوضع القائم يصور لنا القوى الكامنة وراء قدرة المستعمِر على فرض نموذجه الاستيطاني، الأمر الذي أدى إلى تشظية الفلسطينيين وإجهاض دورهم في تحقيق أي تغيير حقيقي في الوضع القائم. وبالتالي، أصبح من شبه مؤكد أن موقع الهيئات المحلية في الأرض المحتلة عام 1967 بات ركيزة رئيسية لتعزيز مقولة أن السلطة الفلسطينية وإن أحدثت تغييراً وانفتاحاً وتحديثاً وتنمية، إلا أنها قيّدت قدرة الفلسطينيين على اتخاذ قرارٍ وطني مستقل جامع في ظل التجزئة الجغرافية التي فرضها المُستعمِر الاستيطاني.

اليوم، بات اعتماد الهيئات المحلية على الدعم الدولي يمثل خدمة حقيقية لنموذج الحكم الاستعماري الاستيطاني. وفي نهاية المطاف، باتت الهيئات المحلية جزءاً من بيروقراطية السلطة الفلسطينية متسماً في الغالب بتنفيذ أجندة المؤسسات المانحة ومحكوماً بصورة أو بأخرى باتفاقات أوسلو كجزء من مشروع أوسع لإطالة أمد الاستعمار الاستيطاني وتقليل تكلفة استعماره المباشر. لهذا بات من الضروري اليوم، بحث الخيارات الممكنة لوضع برنامج سياسي جديد يكرِّس بقاء الفلسطينيين في أرضهم ويعزز مقاومتهم اليومية، فلا فائدة من سلطة تحت الاستعمار أو سلطة تقوم مقام الاستعمار.

 

قد يهمكم أيضاً  الميراث الاستعماري في العلاقات الجزائرية-الفرنسية منذ عام 1962

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الهيئات_المحلية_الفلسطينية #الاستعمار_البريطاني #الانتداب_البريطاني #الأرض_المحتلة_عام_1967 #الأراضي_المحتلة #الهيئات_المحلية