مقدمة

لم يكن قانون الجنسية الجديد، المثير للجدل، الذي أقرته الحكومة الهندية عام 2020، سوى حلقة في سلسلة من التطورات التي شهدها النظام السياسي في الهند عقب إعادة انتخاب حزب بهاراتيا جاناتا وزعيمه ناريندرا مودي لولاية جديدة في أيار/مايو 2019. ولم تقتصر ردود الأفعال الغاضبة ضد ذلك القانون على مسلمي الهند فقط بل شملت داعمي العلمانية في البلاد أيضًا، مثــل الحكومة اليسارية لولاية كيرالا التي طعنت في 14 كانون الثاني/يناير 2020 على القانون أمام المحكمة العليا لانتهاكه حق المســاواة المنصوص عليه بدستور البلاد. عكست تلك التطورات إصرار مودي على تنفيذ أجندة تاريخية لحزبه القومي يأتي على رأسها تحقيق شعار هندو راشــترا (Hindu Rashtra) الذي يعني الهند فقط للهندوس؛ فقد أصدرت المحكمة العليا – أعلى هيئة قضائية – في الهند في 9 تشرين الثاني/نوفمبر 2019 قرارها بمنح أرض أنقاض مسجد بابري التاريخي في أيوديا للهندوس لبناء معبد للإله رام. يعود ذلك النزاع لعقود وكان من تبعاته في عام 1992 قيام متطرفين هندوس بهدم المسجد والهجوم على مسلمي أيوديا وقد راح ضحية الأحداث نحو ألفي قتيل أغلبيتهم من المسلمين.

جاء قرار المحكمة بعد بضعة أيام من دخول قرار الحكومة الهندية بإلغاء الوضع الخاص لإقليم جامو وكشمير حيَّز التنفيذ في الخامس من آب/أغسطس 2019، وهو الشطر الهندي من إقليم كشمير ذو الأغلبية المسلمة والمتنازع عليه مع باكستان؛ حيث تفرض كل دولة منهما سيطرتها على جزء من كشمير لكن كل واحدة منهما تدعي أحقيتها في كامل الإقليم.

تتمثّل الإشكالية المحورية في هذه الدراسة بمشروع التعددية في الهند وبحقوق الأقليات في البلاد، وبخاصة الأقلية المسلمة. مع العلم أن مصطلح الأقلية هنا قد يبدو مضللًا؛ فهي أقلية بالنسبة إلى عدد سكان الهند الذي تجاوز المليار و300 مليـون نسمة، لكنها تعد أكبر أقلية على مستوى العالم حيث يبلغ عددها نحو 200 مليون نسمة بحسب تقديرات عام 2019 [2]. فقد أظهرت التطورات المتلاحقة – السالفة الذكر – وغيرها، أن المخاوف التي أبداها الكثير من مسلمي الهند لبعض مراسلي الصحف من إعادة انتخاب ناريندرا مودي رئيسًا للوزراء هي مخاوف واقعية تعكس أزمة حقيقية يواجهها النظام السياسي الهندي في إدارة التعددية.

يدور السؤال الرئيس للدراسة حول طريقة تعامل النظام السياسي الهندي – بقيادة حكومة ناريندرا مودي المعروفة بتوجهاتها القومية – مع قضية التعددية الدينية والطائفية بالبلاد؟ والإجابة عن ذلك السؤال تتطلب الإجابة أيضًا عن الأسئلة الفرعية التالية: ما أبرز ملامح النظام السياسي الهندي؟ ولماذا نجح حزب بهاراتيا جاناتا في اكتساح انتخابات 2019 البرلمانية؟ وكيف تم توظيف قضية كشمير انتخابيًا؟ وكيف انعكست إدارة حكومة مودي للعلاقة بمسلمي الهند على العلاقات الهندية – الباكستانية؟

أولاً: أداء الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية 2018 والانتخابات البرلمانية 2019

على الرغم من الأداء الباهت للحزب الحاكم (بهاراتيا جاناتا) في الانتخابات المحلية عام 2018 والحديث عن تأثيرات ذلك الإخفاق على الانتخابات البرلمانية لعام 2019 فقد تمكن الحزب في حملته للانتخابات البرلمانية من استعادة ثقة الناخبين وتحقيق مكاسب غير مسبوقة في تاريخ الحزب السياسي.

1 – الحزب الحاكم وإخفاق الانتخابات المحلية

نجح حزب بهاراتيا جاناتا في عام 2014 في الفوز بأغلبية مقاعد لوك سابها لينهي هيمنةً دامت لحزب المؤتمر على الساحة السياسية الهندية منذ الاستقلال في عام 1947. واتبع ذلك سيطرته على المجالس المحلية حيث نجح بهاراتيا جاناتا حتى أيار/مايو 2018 في الهيمنة على 21 ولاية من أصل 29 ولاية هندية[3]. غير أن الانتخابات المحلية التي أجريت في 2018 شهدت تقلص سيطرة الحزب الحاكم إلى 16 ولاية لتعكس تراجعًا ملحوظًا في شعبية الحزب لحساب حزب المؤتمر[4].

فسّرت بعض التحليلات ذلك التراجع بحالة الاستياء والإحباط التي أصابت ولايات زراعية مهمة، أطلق عليها «القلب الهندي»، من سياسات الحزب الحاكم تجاه الاقتصادات الزراعية[5]؛ فعلى الرغم من نجاح حكومة مودي في تحسين مستوى مرافق الصرف الصحي، وخدمات التأمين الصحي، والكهرباء، والبنية التحتية في المناطق الريفية إلا أن اهتمام الحكومة الهندية بالصناعات التكنولوجية والرقمنة كان على حساب قطاع الزراعة التي كانت في السابق العمود الفقري لاقتصاد البلاد، وهو ما انعكست آثاره بالسلب على أداء الحزب الحاكم في انتخابات المحليات عام 2018. يمكن تفسير ذلك إذا ما علمنا أن الزراعة أضحت تمثل الآن زهاء 25 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في حين يعتمد ما يقرب من 55 بالمئة من إجمالي سكان الهند – بصورة مباشرة أو غير مباشرة – على قطاع الزراعة. كما ظهرت تلك التأثيرات خلال تظاهرات نظمها فلاحون هنود في حزيران/يونيو 2018 مطالبين بإسقاط القروض وطرح أسعار أعلى للمحاصيل[6]. لذا فقد شكلت الانتخابات المحلية جرس إنذار لقيادات الحزب الحاكم.

2 – الحزب الحاكم واكتساح الانتخابات البرلمانية

مع تراجع نتائج الحزب الحاكم في الانتخابات المحلية لعام 2018 ساد التفاؤل أوساط حزب المؤتمر المعارض بإمكان الفوز في الانتخابات البرلمانية التالية. غير أن قيادات بهاراتيا جاناتا سرعان ما أدركت خطورة الموقف وعملت على إعادة ترتيب أوراقها وتغيير لغة خطاب الحملة الانتخابية واستغلال الأوضاع الإقليمية لاستعادة الشعبية التي اهتزت بشدة خلال تلك المرحلة.

لذلك لم تدم حالة التفاؤل طويلًا في صفوف حزب المؤتمر وأضحى القلق والارتياب هو المسيطر، حتى إن تحليلات فسرت خوض رئيس المؤتمر راهول غاندي المعركة الانتخابية في دائرتين بتحسبه احتمال الخسارة. وعلى الرغم من فوز راهول في دائرة واينارد بولاية كيرالا إلا أنه خسر مقعده في دائرة آميثي بولاية أوتار براديش، وهو المقعد الذي اعتادت عائلته تاريخيًا الاحتفاظ به[7]. بل مثّل انتصار بهاراتيا جاناتا أقوى الضربات السياسية لحزب المؤتمر ورئيسه راهول غاندي الذي أعلن استقالته من رئاسة الحزب على خلفية تلك النتائج.

جاء انتصار حزب بهاراتيا جاناتا الحاكم ليعيد رسم خريطة الهند السياسية، حيث استطاع رئيس الحزب أن يؤلف حكومة ذات أغلبية مطلقة بالبرلمان وهي المرة الأولى منذ 48 عامًا عندما فعلتها أنديرا غاندي بقيادة حزب المؤتمر عام 1971. بل وحصل بهاراتيا جاناتا على أعلى نسبة أصوات في أي انتخابات خاضها منذ إعادة تأسيسه عام 1980 [8]. يمكن تفسير ذلك الفوز بعدة عوامل، على رأسها الشخصية الكاريزمية لزعيم الحزب مودي، وتحســـن الأوضاع الاقتصادية، وتزايد النزعة القومية، وتوظيف الدين من جانب الحزب.

 أ – زعامة مودي

شغل ناريندرا مودي – قبل تولي منصب رئيس وزراء الهند – منصب رئيس وزراء ولاية غوجارات لمدة 13 عامًا[9]. قدّم مودي نفسه بوصفه مخلّصًا للفقراء ونموذجًا للشباب الهندي الطامح إلى تحسين أوضاعه المعيشية. فهو يتمتع بحنكة وبلاغة خطابية، ورسم لنفسه صورة السياسي العصامي الذي تحول من صبي فقير يساعد والده بائع الشاي إلى أحد أبرز القيادات الهندية شعبية[10]. على سبيل المثال في شباط/فبراير 2020 بلغ عدد المتابعين لصفحة مودي على تطبيق تويتر نحو 53 مليون شخص. ويميل مودي لشخصنة السلطة إلى الحد الذي وصف محللون فيه انتخابات 2019 البرلمانية بأنها استفتاء على شخصه.

ورغم بعض العثرات الاقتصادية التي شهدتها حقبة مودي إلا أنها اتسمت بالخلوّ من الفضائح، الأمر الذي مما دعم صورته بوصفه شخصًا مخلصًا وأمينًا يسعى لتنفيذ خطط تنمية لخدمة المحتاجين حتى وإن اختلفت تقييمات جودة تنفيذ تلك الخطط[11]. وقد أدّت قيادات الحزب الحاكم على ورقة زعامة مودي ونجحت في تحويل المعركة الانتخابية إلى معركة رئاسية بينه وبين مرشح المعارضة غير المعلن (راهول غاندي) وعبر التشديد على عدم وجود بديل آخر لمودي. وبالفعل نجحت الخطة وسقط المؤتمر في الفخ وخسر الانتخابات[12].

ب – تحسن الأوضاع الاقتصادية

الهند، بلد اشتراكية جواهر لال نهرو، غيرت مسارها وتبنت الليبرالية الاقتصادية في صيف عام 1991. فمنذ استقلالها عام 1947 كانت الهند تتبع الاقتصاد المخطط وسياسة إحلال الواردات، وكان ذلك مدفوعًا بنخبة حاكمة مهتمة بالفقر والأمية والبطالة والرفاهة الاجتماعية. آمن كل من نهرو وابنته أنديرا غاندي بالاقتصاد المخطط مركزيًا، وكلاهما آمن بقدرة الهند على الاكتفاء الذاتي أو بضرورة أن تكون مكتفية ذاتيًا. لكن الحال تغيرت في مطلع تسعينيات القرن العشرين حينما أعلنت حكومة الهند عن سياسة إصلاح اقتصادي في حزيران/يونيو 1991. وأطلق رئيس الوزراء آنذاك ناراسيمها راو ووزير ماليته مانموهان سينغ – وكلاهما ينتمي إلى حزب المؤتمر – سلسلة إصلاحات اقتصادية كلية فتحت الاقتصاد الهندي على العالم[13].

ساهمت الإصلاحات الاقتصادية التي اتخذتها حكومة مودي بدورها في تسارع النمو الاقتصادي للهند وجعلتها ثالث أكبر اقتصاد في آسيا بحسب بيانات صندوق النقد الدولي، الذي توقع حفاظها على تلك المكانة بين القوى الاقتصادية الناشئة[14]. لكن مودي أدرك أنه في بلد كالهند، ترتفع فيه معدلات الفقر، يصبح المواطنون أكثر اعتمادًا على الدولة في تقديم الخدمات؛ لذلك تحول في ولايته الأولى من مناصر لاقتصاد السوق الحر إلى داعم لتأسيس قطاع عام حكومي قوي مع التوسع في مشاريع البنى التحتية أو المخططات التي عادةً ما ارتبطت باسم رئيس الوزراء، مثل توصيل الغاز الطبيعي أو حتى توفير المراحيض العامة بالشوارع[15].

لكن التنمية الشاملة تستدعي ما هو أكثر من تلبية حاجات أساسية للمواطن، بل تمتد لتمكينه سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا. لذلك تبنت الحكومة برئاسة مودي «برنامج الهند الرقمية» الذي يهدف إلى تحويل الهند إلى اقتصاد معرفة. وقد كان الهدف الأساسي من البرنامج تحسين حياة الأفراد وربط الأطراف المترامية من المناطق وتلك المناطق الجغرافية الشاسعة من البلاد[16]. كما أن تنامي دور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات قد ساهم أيضًا في تعزيز القدرات التنافسية للشركات الهندية وشجعت التسهيلات التي قدمتها الحكومة الهندية على تأسيس شركات مبتدئة في مجال التكنولوجيا المالية يزيد عددها حاليًا على 600 شركة. الطفرة التكنولوجية التي شهدتها الهند تتضح من خلال معرفة حجم سوق البرمجيات الهندية في مجال التكنولوجيا المالية الذي ارتفع من 1.2 مليار دولار عام 2016 لتصل التوقعات به في عام 2020 إلى 4.2 مليار دولار[17].

ساهم تنامي القدرات التكنولوجية للهند أيضًا في غزو الأسواق الخارجية وسعيها لتصدير التكنولوجيا الرخيصة لأعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) مثل كمبوديا، وجمهورية لاوس، وميانمار، وفيتنام. تمول الهند في تلك الدول مشروعات للقوى الرقمية إضافة إلى تنفيذ برامج بناء القدرات[18]. لكن التطور التكنولوجي الذي شهدته الهند لم يقتصر على تصنيع التكنولوجيا وتصديرها، بل أضحت أيضًا سوقًا متنامية لاستخدام التكنولوجيا. ففي عام 2019 جاءت الهند كثاني أكبر سوق للهواتف النقالة بعد الصين[19]. كما احتلت الترتيب نفسه أيضًا كثاني أكبر عدد مستخدمين للإنترنت بإجمالي 455 مليون مستخدم بعد الصين، التي زاد العدد فيها على 748 مليون مستخدم[20]. وتعد الهند أيضًا سوق «واتسآب» الأكبر في العالم بعدد مستخدمين تجاوز مئتي مليون مستخدم. وهو ما استغلته بعض الأحزاب السياسية الهندية بكثافة في حملاتها مثلما فعل بهاراتيا جاناتا والمؤتمر في انتخابات 2019 البرلمانية، واتهم كل حزب الآخر بنشر أخبار كاذبة عن المنافس للتأثير في توجهات الناخبين، وهو ما دفع مسؤول الاتصالات في واتسآب إلى انتقاد سلوك الأحزاب والتهديد بأن استمرار إساءة الاستخدام قد يؤدي إلى حظرها من المنصة[21].

وفي ظل عدم وفاء الحزب الحاكم ببعض وعوده الانتخابية السابقة – كما يرى محللون – وسعيًا لاستعادة ثقة الناخبين، أعادت قيادة بهاراتيا جاناتا صوغ رسائلها الانتخابية في عام 2019، وأضحى التركيز منصبًا على إنجازات الحكومة في مجال مكافحة الفساد – وبخاصة على المستويات العليا – والحديث عن التنمية وتحسين أحوال الفقراء.

ج – توظيف الخطاب القومي

تعود جذور القومية الهندوسية في العصر الحديث إلى حقبة الحكم البريطاني الاستعماري، وتأثرت باثنين من قادة المجتمع من الطبقة العليا وهي البراهمة. البرهمي الأول هو بال جانجادهار تِلاك (1856 – 1920) والثاني غوبال كريشنا غوخيل (1866 – 1915). كلاهما من ولاية ماهاراشترا التي ينظر إليها كإحدى قلاع الثقافة الهندوسية، ورغم كونهما من القوميين الهندوس إلا أن كل واحدٍ منهما كانت له رؤية مغايرة للآخر. كان غوخيل معتدلًا ورأى أن هناك نقاط تلاقٍ ما بين الثقافة الهندوسية والإنكليزية. ولم يرَ غضاضةً في تبني المبادئ الإنسانية والليبرالية من الغرب. وألقى باللائمة على دولة الهند في غياب العدالة عن المجتمع الهندي[22].

أما تِلاك فقدّم الفكرة المضادة لغوخيل؛ فنظرته إلى العالم سيطرت عليها الأرثوذكسية الهندوسية؛ فكان يرى في الوجود البريطاني استعمارًا واستغلالًا لا بد من طرده لبناء أمة الهندوس. رفض تلاك رؤية غوخيل الهند أكثر علمانية أو حاجتها إلى نمط غربي من الاختراعات العلمية لكي تتطور. وألقى باللائمة في ما تعانيه الهند على الآخر الخارجي لا على المجتمع الهندي. وفي القرن العشرين نشأت بوضوح القومية الهندوسية مع قيام الماهاسابها الهندوسية (الرابطة الهندوسية الكبرى) في عام 1913 التي تأسست عبر اندماج حركة البنغال الهندوسي المتحدة (1907) ومجلس البنجاب الهندوسي (1907). كانت الماهاسابها الهندوسية هي المظلة الجامعة التي عملت تحتها الحركة القومية الهندوسية. لكن الحركات الهندوسية لم تكن متحدة بسبب خلافاتها، بل إن الراديكالية منها لم تكن منضوية بالكامل في الماهاسابها الهندوسية، وقد شكلت تلك الجماعات في النهاية العمود الفقري للحركة الهندوسية الأكثر راديكالية[23].

التساؤل الآن كيف لنا فهم مصطلح «Hindu Rashtra» (الأمة الهندوسية) الذي نادت به تلك الحركات القومية. لحقبة طويلة تاريخيًا آمنت الحركة القومية الهندوسية بأن تشكيل أمة هندوسية يقتضي إبقاء مسـافة واضحة بعيدة من التأثير السياسي والأخلاقي الفاسد للدولة. لكنْ ذلك الاعتقاد تغير منذ منتصف سبعينيات القرن العشرين وأصبح يُنظر إلى قوة الدولة كأساس لبناء ومأسسة الهياكل التي ستضمن أمة هندوسية دائمة. نتيجة لذلك حدث تغيران بمرور الزمن. الأول، التوازن في العلاقة بين بهاراتيا جاناتا من جانب، والحركة القومية الهندوسية من جانب آخر، أضحى يميل لمصلحة بهاراتيا جاناتا. الثاني، حدث تحول داخل بهاراتيا جاناتا نحو قدر أكبر من مركزية القوة والسلطة في يد رئيس الوزراء مودي والنخبة المحيطة به. لكن الحزب يحتاج إلى كوادر الحركة القومية الهندوسية للحفاظ على الآلة الانتخابية والقيام بمهمة تنميط المجتمع الأوسع على القيم الهندوسية[24].

يصف بعض المحللين ناريندرا مودي بأنه أحد أبرز الشعبويين القوميين في الوقت المعاصر[25]. فقد برز نجم مودي في ظل تحولات شهدتها الهند منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين جعلت التأثير السياسي يمتد إلى المهمشين في أنحاء البلاد بعدما كان محصورًا في النخب الأنكلوفونية الميسـورة الحال بالمدن الكبرى. نتج من تلك التحولات – كما يشير شاشي ثارور النائب عن حزب المؤتمر – امتعاض قطاعات من الهنود من الأنماط الغربية التي أدخلتها العولمة على سلوكيات قاطني المدن، مثل ارتداء الفتيات الجينز، والعمل حتى الساعات الأولى من الليل، والتخلي عن أدوار المرأة التقليدية في المنزل، وكذلك عدم استساغة هؤلاء محاولات البعض إظهار مكانتهم الاجتماعية المرموقة عبر التخاطب باللغة الإنكليزية[26]. لذلك يسعى مودي – المعروف ببلاغته الخطابية – لاستمالة المشاعر القومية للمواطنين، ويفضل في خطاباته التحدث بالهندية لا بالإنكليزية التي يعدّها لغة النخب في نيودلهي.

كان تركيز مودي في حملته الانتخابية عام 2014 منصبًّا على الجوانب الاقتصادية. لكن الإخفاق في انتخابات المحليات عام 2018 دفع مودي وقيادات حزبه إلى استثارة المشاعر القومية كالحديث عن الصحوة الهندية، وعزة الأمة، وبناء جيش قوي يمتلك قدرات نووية ويمكنه الثأر من باكستان[27]. لذلك تحولت الحملة الانتخابية لبهاراتيا جاناتا إلى قضايا كالأمن القومي والدفاع عن الهوية الهندية.

يأتي في سياق استلهام الحس الوطني واستثارة المشاعر القومية أيضًا ما تناقلته وكالات الأنباء عن سعي الهند لتصبح قوة كبرى تغزو الفضاء؛ ففي عام 2014 أرسلت الهند سفينة فضاء إلى كوكب المريخ، وفي 15 شباط/فبراير 2017 أطلقت وكالة الفضاء الهندية 104 أقمار صناعية باستخدام صاروخ واحد لتحطم الرقم القياسي العالمي السابق الذي حققته روسيا عبر إطلاق 37 صاروخًا في عام 2014 [28]. كما أرسلت الهند في 22 تموز/يوليو 2019 مركبة فضاء غير مأهولة للهبوط على سطح القمر بحيث تصبح حال نجاحها الدولة الرابعة التي تتمكن من ذلك بعد كلٍ من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي السابق والصين[29]. لكن تلك الطموحات تعرضت لانتكاسة عندما أعلنت وكالات الأنباء في 7 أيلول/سبتمبر 2019 عن فقدان الاتصال بين المحطات الأرضية ومسبار المركبة[30]. لكن ذلك الإخفاق لم يمنع الهند من الموافقة في مطلع كانون الثاني/يناير 2020 على طلب منظمة أبحاث الفضاء إرسال بعثة ثالثة إلى القمر لإعادة المحاولة[31].

غير أن المكانة المتميزة التي وصلت إليها الهند في السياسات العالمية عكستها أيضًا دعوة الرئيس الفرنسي ماكرون لرئيس وزراء الهند إلى حضور قمة الدول الصناعية السبع الكبرى. وهي الدعوة التي سبقتها بيومين فقط زيارة مودي لفرنسا للقاء ماكرون وعدَّتها صحف هندية مؤشرًا لتحالف هندي فرنسي[32]. بل لم تمضِ سوى بضعة أيام حتى أُعلن عن توقيع موسكو ونيودلهي مجموعة اتفاقات على هامش منتدى الشرق الاقتصادي الروسي لدعم التعاون التجاري والاقتصادي[33]. وقد استعان مودي بوسائل الإعلام لدعم سياساته وإظهاره كشخصية أسطورية قادرة على حماية المصالح القومية الهندية، ساعده على رسم تلك الصورة ذلك الانقسام الواضح في صفوف المعارضة الهندية وانحسار شعبية حزب المؤتمر والتشكيك في قدرة زعيمه راهول غاندي على قيادة البلاد[34].

د – توظيف الدين والهوية الطائفية

اكتسب حزب بهاراتيا جاناتا شعبيته من شعاراته الهندوسية القومية، مثل إنشاء معبد الإله رام في أيوديا على أنقاض مسجد بابري، وإصدار قانون موحد للأحوال الشخصية، وإلغاء الوضع الخاص لولاية جامو وكشمير[35]. لذلك لم يكن مستغربًا لجوء قادة بهاراتيا جاناتا إلى ورقة الهوية الطائفية لكسب أصوات الناخبين. فالحزب الذي تأسس عام 1980 – وكان وقتها ناريندرا مودي أحد شبابه – استفاد من الاضطرابات الطائفية التي شهدها عام 1992 عندما هدمت مجموعة من متشددي الهندوس مسجد بابري في بلدة أيوديا[36]. يعود تاريخ إنشاء المسجد إلى القرن السادس عشر بواسطة إمبراطور مغولي حكم جزءًا كبيرًا من الهند آنذاك[37]. إلا أن هؤلاء المتشددين كانوا – وما يزال أتباعهم كذلك – يعتقدون أن الأرض التي شيد عليها المسجد هي «المهد المقدس للإله رام»[38]؛ وقد راح ضحية تلك الاضطرابات ألفا قتيل. ثم جاء شباط/فبراير من عام 2002 ليشهد عددًا مماثلًا من الضحايا أغلبيتهم من المسلمين في ظل أحداث شغب مناوئة للمسلمين في إقليم غوجارات بعد احتراق قطار كان يستقله متطوعون لخدمة الحجيج الهندوس. وفي عام 2005 اغتالت شرطة غوجارات الشيخ سهر أبو الدين وزوجته. لكن بعد إحالة القضية على المحكمة العليا اكتشفت وكالة التحقيقات المركزية أن القتل قد تم تزييفه للتغطية على قتل تم خارج نطاق القانون. وبدلًا من احترام نتائج تحقيقات المنظمة اتخذ مودي من الأمر ذريعة لإظهار نفسه كضحية لمحاولة حكومة دلهي ترضية الأقليات.

منذ ذلك الحين، ومع كل حملة انتخابية أضحى مودي يعلن لحشود المؤيدين أن «سلطنة دلهي» – ويقصد بذلك حكومة المؤتمر – أرادت معاقبة مسؤوليه ووزرائه لحمايتهم له من إرهابي مسلم دخل غوجارات لانتهاك سيادتها. وفي وسط أحد الحشود الانتخابية لانتخابات الولاية سأل مودي مناصريه: «ماذا تريدونني أن أفعل برجل مثل سهر أبو الدين؟» فأجابوا جميعًا: «اقتله». بذلك صارت تلك العدالة الزائفة هي ورقة مودي الرابحة، وفي ذاك الصيف أعيد انتخابه رئيسًا لوزراء ولاية غوجارات[39]. وفي مشهد مشابه يعكس حالة الإسلاموفوبيا التي تتغلغل في صفوف حزب بهاراتيا جاناتا، تم في آذار/مارس 2017 اختيار الراهب الهندوسي يوجي أديتياناث رئيسًا لوزراء أوترا براديش كبرى الولايات الهندية. هذا الكاهن معروف بتصريحاته الشديدة العداء للمسلمين إلى الحد الذي دفع منظمة العفو الدولية إلى مطالبته بسحب تلك التصريحات العدائية[40].

ظهر لجوء قيادات بهاراتيا جاناتا لتوظيف الدين في الحملات الانتخابية أيضًا عندما زار مودي في الأسبوع الأخير من الانتخابات البرلمانية لعام 2019 أحد الكهوف الواقعة بمزار للحجيج الهندوس وكان مودي مرتديًا زي راهب هندوسي[41]. وحينما وصل مودي إلى رئاسة وزراء الهند رأى محللون أن سياسات بهاراتيا جاناتا كرست حالة الاستقطاب لمحاباتها الأغلبية الهندوسية. بلغ الأمر حدَّ أن أحد نواب مودي وصف ناتورام غودسي – الذي اغتال المهاتما غاندي – بالوطني[42]. بل إنه حتى في مجال الاقتصاد وأسعار صرف العملات اقترح سبرامانيان سوامي – أحد قيادات بهاراتيا جاناتا وعضو راجيا سابها – وضع صورة لكشمي (إحدى آلهة الهندوس) على العملة الورقية من أجل تحسين وضع الروبية في الأسواق المالية[43].

كما بدا مؤخرًا أن هناك ما لا يسير على نحو صحيح في المشروع الديمقراطي الهندي، وتعددت أعراض معاداة الديمقراطية؛ فالجماعات، أو الأفراد، التي يُدّعى أنها تأكل اللحوم تتعرض لهجمات من يطلق عليهم «Gau Rakshaks» – وهي عصابات إجرامية توجد بالمجتمع المدني وتهاجم المسلمين. كما أن المقررات الدراسية تم تضييقها وتسييسها على نحوٍ يتجاوز الدفع نحو الهندوسية التي قادها فيلق باترا (Batra-Brigade) أو جهود تسييس التعليم التي قامت بها حكومة فاجبايي في أواخر تسعينيات القرن العشرين ومطلع القرن الحادي والعشرين. بل إن الصحافيين الذين اتخذوا موقفًا ناقدًا دفاعًا عن علمانية الدولة إما تم التحرش بهم أو حتى اغتيالهم[44].

ثانيًا: إدارة النظام السياسي الهندي للتعددية الدينية والطائفية

حاولت حكومات حزب المؤتمر منذ استقلال الهند عقب الموافقة على دستور 1949 وعبر سياساتها العلمانية تأسيس مشروع تعددي يجمع الهنود، وبخاصة بعد اغتيال غاندي عام 1948؛ بل حرص واضعو الدستور الهندي على إدراج علمانية الدولة في ديباجة الدستور. لكن ذلك المشروع تعرض لضربات قاسية كان منها هدم مسجد بابري في عام 1992.

1 – التعددية عقب استقلال الهند

مثّلت إدارة التعددية الطائفية أحد أبرز التحديات التي واجهتها الحكومات الهندية عقب الاستقلال. وتكفي الإشارة هنا إلى أن اغتيال غاندي على يد المتطرف الهندوسي لم يكن إلا لاعتقاد القاتل بأن غاندي قدّم لتهدئة المسلمين تنازلات ما كان عليه تقديمها[45]. كما اتسم المجتمع الهندي عبر تاريخه بتكوين طبقي يتمتع فيه رجال الدين وزعماء الطوائف والمهراجات بعدد من المزايا[46]. وللتعامل مع تلك القضية الشائكة عقب الاستقلال نص الدستور الهندي على أنه «يجب على الدولة عدم التمييز ضد أي مواطن على أساس الدين أو العرق أو الطائفة أو الجنس أو مكان الميلاد»[47]. كما أصدرت الحكومات الهندية المتعاقبة قوانين ومبادرات لتحسين أوضاع الطبقات الدنيا وساهمت في صعود بعض أبناء تلك الطبقات لمناصب سياسية عليا. إلا أن تلك القوى الطبقية كان قد تجذر تأثيرها في المجتمع ولم تفلح السياسات العلمانية في الهند عبر خمسين عامًا في إيجاد هوية جامعة للهنود، بل عادت الولاءات الطائفية والطبقية من جديد أدوات فعّالة للاستقطاب السياسي.

كان من آثار تلك الطبقية المتجذرة في الهند، التي كرستها الهندوسية اضطهاد الهاريغان أو طبقة الداليت، وهي فئة الهندوس المنبوذين. ويعتقد المنبوذون أن الأرواح الشريرة التي اقترفت الآثام في حياتها الأولى تتناسخ في أجساد المنبوذين. أسفر هذا الاعتقاد عن استمرار توارث هذه الفئة للفقر وإجبارهم على القيام بالوظائف المتدنية مثل تنظيف المراحيض والتخلص من الحيوانات النافقة[48]. ورغم اتباع حكومات المؤتمر سياسات علمانية بهدف إزاحة الطائفة والطبقة فإن هيمنة الحزب على الساحة السياسية لسنوات طويلة أعاقت تطوير نظام سياسي تعددي حقيقي وفشل حزب المؤتمر والأحزاب التي برزت بعد انحسـار شعبيته في خلق هوية هندية جامعة غير طائفية وغير طبقية. في ظل تلك المعطيات استفاد حزب بهاراتيا جاناتا من تنظيمه المتماسك وأيديولوجيته القومية ليطرح نفسه البديل الأوحد لحزب المؤتمر[49]. لكن هيمنة القوميين الهندوس تحت حكم مودي والطريقة التي يحكمون عبرها قادت إلى تصاعد الادعاءات بأن ديمقراطية الهند وأقلياتها في خطر داهم[50].

2 – إدارة بهاراتيا جاناتا للتعددية الطائفية والدينية

يعدّ المسلمون 14 بالمئة من إجمالي تعداد سكان الهند في إحصاءات عام 2011. لذا كان الرقم المثالي لتمثيلهم في البرلمان عقب انتخابات 2019 هو 76 عضوًا، لا 27 عضوًا كما هي الحال الآن، بزيادة ضئيلة على 23 عضوًا كانوا يمثلون مسلمي الهند بعد انتخابات 2014. وكلا الرقمين، 23 و27 عضوًا، يمثلان أقل نسبة تمثيل برلماني للنواب المسلمين مقابل تعداد السكان في تاريخ البرلمان الهندي[51].

القول بأن الهند ستكون حصرًا للهندوس، والعمل على تحقيق ذلك الهدف، مثّل تهديدًا جليًا لتعددية الدولة، حيث ستكون الأمة الهندوسية بالأساس دولة ومجتمعًا غير ديمقراطيين لكن مع بعض السمات الديمقراطية الممنوحة فقط لأصحاب دين الأغلبية. للمضي قدمًا في تأسيس أمة هندوسية سيكون ضروريًا الدفع بحزمة قوانين تجعل من المسلمين – على وجه الخصوص – مواطنين من الدرجة الثانية بينما تمنح حقوقًا فردية وجماعية بعينها للهندوس دون غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى. يضاف إلى ذلك فرض القيود على ممارسة الحقوق المدنية بأوجهها المختلفة، وفرض قوانين قمعية، والمناورة والتأثير غير المباشر للإعلام الجماهيري، والمحسوبية والسعي لإغواء واستمالة هيئات التحقيق وقطاعات أخرى من الخدمة المدنية إضافة إلى الهيئة العليا للانتخابات والمحكمة العليا. كل ذلك يعدّ استمرارًا لسلسلة من الاتهامات التي تعرضت لها سياسة مودي في حقبته الأولى[52]. لذا فسياسات حكومة مودي والاستراتيجيات التي يتبعها القوميون الهندوس في المجتمع المدني منذ عام 2014 يصاحبها تراجع في مؤشرات الديمقراطية والحريات الليبرالية[53].

استغل بهاراتيا جاناتا الورقة الطائفية لكسب الأصوات الانتخابية. على سبيل المثال في ولايتي آسام والبنغال الغربي تمحورت حملة الحزب الحاكم لانتخابات 2019 حول مشروع قانون تعديل الجنسية الذي يسمح بالجنسية للأقليات المضطهدة في الدول المجاورة عدا المسلمين؛ فتاريخيًا ظل المشهد الاجتماعي في الولايتين مضطربًا نتيجة تدفق المهاجرين من البلدان المجاورة. ومن طريق إضفاء الأمر صبغة طائفية والوعد بعدم السماح بالمهاجرين المسلمين في الولاية نجح بهاراتيا جاناتا في كسب أصوات الناخب الهندوسي. بل إن سجل المواطنين القومي الذي قدمه بهاراتيا جاناتا في آسام لتنقيته من الدخلاء وغير المستحقين ويشمل عددًا كبيرًا من المسلمين البنغال، كان مؤثرًا في نتيجة الانتخابات بالولاية التي حقق فيها بهاراتيا جاناتا أغلبية برلمانية[54].

بدا مودي عقب انتصاره في انتخابات 2019 محاولًا إظهار الاهتمام بالأقلية المسلمة في خطاباته حينما استهدفهم في خطابين سخر في أحدهما من حزب المؤتمر حينما ألمح إلى وصفه بحزب يرتدي قناعًا زائفًا للعلمانية[55]. غير أنه على أرض الواقع استمرت في عهد مودي جرائم الكراهية ضد الأقلية المسلمة ولم تتغير شعارات حزب بهاراتيا جاناتا القديمة، كإقامة معبد رام في موقع مسجد بابري، والعمل على صوغ قانون مدني يلغي تشريع العائلة المسلمة، وحذف المادة 370 من الدستور التي تمنح مسلمي جامو وكشمير وضعًا خاصًا[56].

كما أضحى حزب بهاراتيا جاناتا في عام 2014 أول حزب يحكم البلاد بأغلبية بسيطة من دون وجود أي عضو مسلم منتخب ينتمي إليه بالبرلمان. كما شهدت ولاية مودي الأولى تزايدًا لعمليات قتل المسلمين تحت ذريعة ذبح الأبقار «المقدسة» وأكلها والمتاجرة بها. كما أعيدت تسمية مدن تحمل أسماءً إسلامية، وصيغت كتبٌ مدرسية تقلل من إسهامات مسلمي الهند[57]. وفُسّرت تلك الجرائم ضد المسلمين بأنها نتاج الزخم المحلي الذي تمتعت به الحركة الهندوسية القومية خلال حكم مودي[58].

التحول من جمهورية دستورية إلى دولة حكم الأغلبية لا يتطلب تغييرًا بالإطار الدستوري أو الرموز القومية. لكنه يحتاج إلى تحول في شكل الدولة وطبيعة المجتمع. ويمكن القول بأن الهند هي في المراحل الأخيرة لذلك التحول. فقد تتحول الدولة إلى حكم الأغلبية في ظل دستور علماني. ومشروع قانون الجنسية الذي يمنح الجنسية لكل اللاجئين باستثناء المسلمين لا ينظر إليه حتى الآن بعدم الدستورية. كذلك معسكرات الاعتقال في ولاية آسام التي تؤوي أعدادًا غفيرةً من المسلمين لا توصف أيضًا بعدم الدستورية[59]. بل إن الجنرال بِبِن راوات رئيس أركان الجيش الهندي اقترح علنًا شحن الكشميريين إلى معسكرات إعادة التأهيل أو نزع التطرف (Deradicalization Camps). ورغم أنه لم يوضح ما قصده بذلك إلا أن ناشطي حقوق الإنســان ألمحوا إلى أنه ربما يقصد شيئًا شبيهًا بما تقوم به الصين مع مسلمي الإيغور[60]. بالمثل، متطلبات تأسيس الأمة الهندوسية ليست أن الاضطهاد أو العنف ضد الأقليات لا يتم تجريمه قانونيًا أو دستوريًا. فالعنف الهندوسي – كأي عنف سواه – هو مجرد وسيلة لغاية وليس الغاية في ذاته. والهدف من العنف الهندوسي هو أن يسود الخوف الذي يدفع الأقليات إلى قبول وضعها الثانوي داخل الدولة[61].

ثالثًا: إدارة بهاراتيا جاناتا ملف قضية كشمير

لم يكن فوز بهاراتيا جاناتا في انتخابات 2014 و2019 انتصارًا عاديًا؛ ففي الأولى حاز الحزب 282 مقعدًا، وفي الثانية حصد 303 مقاعد. كان ذلك الاكتساح الأخير يعني تحقيق الحزب الأغلبية المطلقة في البرلمان وتشكيله الحكومة منفردًا، ومن ثم إمكان تطبيق سياساته وطموحاته القومية من دون عائق تشريعي[62].

شهدت أواخر ولاية مودي الأولى توترًا في العلاقات الهندية – الباكستانية مرجعه الوضع في كشمير. ففي شباط/فبراير 2019 قُتل أكثر من 40 فردًا من قوات الأمن الهندية في الإقليم في هجوم انتحاري أعلنت جماعة متشددة تنشط في باكستان مسؤوليتها عنه[63]. وسرعان ما استغل قادة بهاراتيا جاناتا ذلك التصعيد لحشد الأصوات الانتخابية تحت دعاوى حماية الأمن القومي والثأر من باكستان، فكانت التظاهرات تخرج منددة بسياسة الجارة التي وُصِفت بدعم الإرهاب. ثم شهدت العلاقات الهندية – الباكستانية فصلًا جديدًا من التصعيد عقب إعلان حكومة مودي إلغاء الوضع الخاص لولاية جامو وكشمير وهو الإقليم المتنازع عليه بين الدولتين.

1 – إلغاء الحكم الذاتي لكشمير

أعلن وزير داخلية الهند أميت شاه، في جلسة راجيــا سابها للعاشر من حزيران/يونيو 2019، أن الحكومة قررت إلغاء الوضع الدستوري الخاص لولاية جامو وكشمير، وهو ما كان وعدًا قديمًا من حزب بهاراتيا جاناتا لمؤيديه. قدّم شاه مشروع القانون لإلغاء وضع جامو وكشمير كولاية اتحادية وإحلالها بإقليمين اتحاديين منفصلين هما إقليم جامو وكشمير وإقليم لاداخ[64]. وأصدرت السلطات الهندية في الخامس من آب/أغسطس 2019 مرسومًا رئاسيًا يلغي الوضع الخاص لولاية جامو وكشمير الوارد في المادة 370 من الدستور الهندي، وهو الوضع الذي كان يمنح برلمان الولاية حق سَن ما يخصها من تشريعات باستثناء تلك المتعلقة بالدفاع والشؤون الخارجية والاتصالات التي انفردت بها الحكومة المركزية في نيودلهي[65]. كما خسرت سهول جامو الجنوبية ذات الأغلبية الهندوسية ووادي سريناغار الشمالي ذو الأغلبية المسلمة وضعها كولاية اتحادية لتتحول إلى إقليم اتحادي.

الطريقة التي تمت بها خطوة إلغاء ولاية جامو وكشمير، من طريق زيادة عدد القوات الأمنية واعتقال قادة المعارضة ومن بينهم رئيسا وزراء سابقان للإقليم وقطع الاتصالات، أظهرت استعداد حكومة بهاراتيا جاناتا لاستخدام كل الوسائل المتاحة، بما فيها القوة المفرطة، لتنفيذ ما تريده من دون الأخذ في أي حساب لرأي عام أو سياسي[66]. وأضحت الساحة مهيأة لبهاراتيا جاناتا لاستكمال كل مشروعاته من دون خشية أي تحدٍ؛ فأهدافٌ مثل إقامة معبد رام في أيوديا، وتوحيد القانون المدني، وتغيير الدستور، وتهميش المسلمين مؤسسيًا، وغيرها الكثير تظهر جميعها في قائمة مشروعات الحزب؛ فقد كانت إزاحة المادة 370 من الدستور حلمًا قديمًا للتنظيمات الهندوسية وتحقق أخيرًا[67].

كما اتخذت حكومة مودي خطوات احترازية بهدف استباق ردود الأفعال الغاضبة في كشمير. فمنذ إلغاء المادة 370 وما تلاها من أزمة سياسية في «جامو» و«كشمير»، تم تحويل فندق «سينتور» بمدينة «سكياك»، الذي كان يستضيف عادةً الاجتماعات المهمة الرفيعة إلى سجن. وباستثناء بعض الحالات، فإن جميع قادة الأحزاب الرئيسية والنشطاء، وحتى بعض أقارب الوزراء والمشرعين السابقين لجامو وكشمير، تم احتجازهم هناك في الخامس من آب/أغسطس 2019 [68]. كما عجز مرضى السرطان الذين كانوا يشترون أدويتهم عبر الإنترنت عن الحصول عليها. ومن دون خدمة الهاتف المحمول، لم يكن باستطاعة الأطباء التواصل للعثور على اختصاصيين أو الحصول على معلومات حيوية تعينهم في مواقف الطوارئ. ونظرًا إلى أن أغلبية أبناء كشمير ليست لديهم خطوط هواتف أرضية في منازلهم، لم يعد بمقدورهم طلب العون[69].

يرى بعض المحللين أن إلغاء حكومة مودي لوضع جامو وكشمير شهد تحايلًا على الدستور؛ حيث تنص المادة الثالثة من الدستور الهندي على أنه قبل أن ينظر البرلمان في مشروع قانون يقلص من مساحة الولاية أو يغير اسمها ينبغي أن يحيل رئيس الدولة القانون للعرض على المجلس التشريعي الخاص بتلك الولاية لاستطلاع رأيه فيه. ويعد ذلك ضمانة لنظام الهند الفدرالي. ومن الواضح أن ذلك الإجراء لم يتبع في حالتنا تلك. وتحجج وزير الداخلية في البرلمان الاتحادي بأن غياب برلمان جامو وكشمير عن الانعقاد وبكون الولاية تحت الحكم المركزي فإن البرلمان الاتحادي يُخوَّل له ممارسة سلطات المجلس التشريعي للولاية[70].

2 – العلاقات الهندية الباكستانية في ظل أزمة كشمير

شهد مطلع عام 2019 توترًا في العلاقة بين نيودلهي وإسلام أباد، وجاء تفجير 14 شباط/فبراير – السابق الإشارة إليه – في كشمير ليجعل القصف المتبادل على الحدود بين الجانبين أمرًا متكررًا. استفاد حزب بهاراتيا جاناتا من ذلك التصعيد لمصلحة حملته الانتخابية للبرلمان. كما أن تلك الصرامة التي أبداها مودي حيال باكستان عبر رفضه الحوار معها واتهامها بدعم الإرهاب «العابر للحدود» مهدت له الطريق لولاية ثانية. ثم استغل انتصـاره الانتخابي ليلغي الحكم الذاتي الدستوري لجامو وكشمير بذريعة أن ذلك شأن داخلي يخص الهند، لكن باكستان عدته خطوة غير شرعية في منطقة ما زالت – بحسب تصريحات إسلام أباد – محل نزاع دولي بين الهند وباكستان.

تفاعلت باكستان مع الأزمة من البداية، إذ سرعان ما توالت التصريحات الباكستانية المنددة بتلك الخطوة متهمةً الهند بأن سياساتها في الإقليم هي التي ستزيد التطرف، حيث حذّر رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان في كلمة ألقاها أمام جموع من مواطنيه في 13 أيلول/سبتمبر 2019 في مظفر آباد، من أن حملة الهند على المحتجين والمعارضة في كشمير ستدفع مزيدًا من المسلمين نحو التطرف[71]. لكن بدا واضحًا أن الهند ستمضي قدمًا من دون أي حساب لرد فعل باكستان، فقامت بقطع الاتصالات تمامًا عن الإقليم وحظرت التجمعات العامة. وفي ظل تصاعد حرب التصريحات بين الدولتين صرح وزير الخارجية الهندي سوبراهمانيام جايشانكار بأن القطاع الذي تسيطر عليه باكستان من إقليم كشمير ينتمي إلى الهند، مضيفًا أنه يتوقع أن تسيطر الهند عليه فعليًا ذات يوم[72].

تلك الحرب الكلامية التي تندلع بين الهند وباكستان كلما تدهورت العلاقات بين الطرفين زادت حدتها عقب إلغاء الوضع الخاص لإقليم كشمير. لكن المؤشرات ظلت تدل على عدم رغبة أي من الطرفين في تصعيد يصل إلى حد المواجهة العسكرية المباشرة بينهما. لذلك لم يمنع التوتر السائد بين الطرفين أن يشهد رسائل تهدئة مثل قيام باكستان بفتح ممر عبر حدودها في تشرين الثاني/نوفمبر 2019 للسماح لمئات الهنود السيخ بزيارة ضريح غورو ناناك مؤسس ديانتهم. وجاء ذلك عقب سنوات من مطالبة الهند ومتزامنًا مع ذكرى مرور 550 عامًا على ولادة ناناك. وهو ما قوبل بترحيب هندي وشكر مودي نظيره الباكستاني على تعاونه واحترام مشاعر الهند[73].

خاتمة

لم تقنع الحجج التي ساقتها حكومة مودي معارضي قانون الجنسية. فإذا كان الغرض هو حماية الأقليات الدينية المضطهدة في دول الجوار فإن ميانمار دولة جوار أيضًا وما تعرض له مسلموها الروهينغا يوصف بأنه من المآسي الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، ومن نجا منهم من الموت يواجه ظروفًا قاسية في المخيمات التي تستضيفها دولة فقيرة مثل بنغلاديش. لذا كان من الأولى مد يد العون إلى هؤلاء إن كانت حقًا دوافع القانون إنسانية كما ادّعى المسؤولون الهنود.

لكن استبعاد المسلمين والتركيز بالأساس على الهندوس في دول الجوار يدعم بعض التحليلات التي ترى أن حكومة مودي إنما تسعى بذلك القانون إلى تحقيق بعض الرؤى القومية المتطرفة التي تؤمن بأن الهنود كانوا شعبًا عرقيًا ينحدر من الجنس الآري. وأنهم كانت تجمعهم دولة واحدة هي آريافارتا (Aryavarta) تشمل إلى جانب الهند الحالية كلًا من نيبال وبنغلاديش وباكستان وجزءًا من أفغانستان[74].

لم تكن الاحتجاجات المعارضة لقانون الجنسية ولا تلك التظاهرات الرافضة لإلغاء الوضع الخاص لكشمير أو المناهضة لإدارة العلاقة بالمسلمين بوجه عام هي التحدي الأوحد الذي يواجه حكومة مودي القومية. فبالتزامن مع تلك الأزمات السياسية كانت هناك تحديات متنوعة ما بين اقتصادية، وبيئية، واجتماعية.

شهد الاقتصاد الهندي تطورًا لافتًا منذ تسعينيات القرن العشرين لكنه يواجه بقيادة مودي بعض التحديات التي دفعت إلى الاعتقاد بأن اللجوء إلى الورقة القومية كان من بين أسبابه تشتيت انتباه المواطنين عن التراجع الاقتصادي والتحديات التي يواجهها ذلك الاقتصاد. من بين تلك التحديات الاقتصادية عدم وجود قاعدة صناعية صلبة، بل إن صناعة السيارات التي كانت تحقق قفزات مهمة، تراجعت وشهدت تسريح عدد كبير من العمال[75]. كما كان توقع تسريح المزيد من العمال – نتيجة سياسة الخصخصة وبيع الدولة كامل حصتها في شركات أثقلتها الديون مثل شركة الخطوط الجوية الهندية الوطنية – دافعًا إلى إضراب ملايين العمال في 9 كانون الثاني/يناير 2020. ورغم أن الإضراب استمر يومًا واحدًا إلا إنه تسبب في عرقلة وسائل النقل والخدمات المصرفية وعمل الكثير من الشركات[76]. ورغم تطور الصناعة الهندية فإن بناء المصانع ما يزال يعاني أحيانًا سوء التخطيط والافتقار إلى معايير السلامة. على سبيل المثال اندلع في 8 كانون الأول/ديسمبر 2019 حريق هائل في أحد مصانع الحقائب المدرسية في نيودلهي راح ضحيته أكثر من 40 عاملًا. اللافت للانتباه أن الحريق كان قبل ساعات من دوام عمل المصنع والضحايا كانوا نائمين بداخله حيث أغلبيتهم من قاطني ولايات أخرى ودفعتهم ظروف الفقر والحاجة إلى ضغط النفقات للنوم داخل المصنع[77].

كما يعدّ التلوث أحد أكبر التحديات البيئية التي تواجه الهند، وأضحت الكثير من المدن الهندية مؤخرًا تأتي على رأس قوائم أكثر مناطق العالم تلوثًا. على سبيل المثال في شهرَي تشرين الأول/أكتوبر وتشرين الثاني/نوفمبر 2019 تزايدت عمليات حرق قش المحاصيل على أيدي المزارعين في المناطق النائية في دلهي، إلى جانب عوادم السيارات والانبعاثات الناجمة عن الصناعة وحرق القمامة. ولم تجد السلطات الهندية مفرًا من إعلان حالة طوارئ صحية وإغلاق المدارس[78].

أخيرًا تأتي التحديات الاجتماعية كأحد أصعب التحديات وأكثرها ارتباطًا بأزمة إدارة التعددية في الهند. فتعدد الهويات ما بين الطبقية والإثنية والدينية والطائفية جعل من تسييس هوية بعينها أمرًا غير مستبعد رغم عواقبه الوخيمة على النسيج الاجتماعي. وقد لجأ القوميون الهندوس إلى ذلك بالفعل عبر دعوتهم إلى أن تكون للدولة هوية دينية موحدة هي الهندوسية. وهم يحاجّون بأن الهند يحق لها ذلك كجارتيها بنغلاديش وباكستان. وساعدت سياسات بهاراتيا جاناتا على تغذية حالة الاستقطاب التي أدت إلى تغيير طبيعة العلاقة بين مكونات الشعب الهندي.

أحد أبرز الأمثلة على ذلك الاستقطاب ما تناقلته تقارير صحافية قبيل إعادة انتخاب مودي عن مسلمين هنود في قرى هندية يستعيدون ذكريات أيامٍ كان أطفالهم يلهون فيها مع أقرانهم الهندوس ويتجاذب الأفراد من ديانات مختلفة أطراف الحديث كلما تقابلوا في الأسواق أو الاحتفالات. لكن تلك الأيام ولّت، ويبدو ذلك بلا رجعة، وحل محلها الخوف من الآخر والتفكير في الرحيل عن قريتهم إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا[79]. وقد زادت تلك المخاوف بإعادة انتخاب بهاراتيا جاناتا، وفي السياق نفسه يأتي ما ذكرته الكاتبة الهندية المسلمة رنا أيوب بأنها نشأت في تسعينيات القرن العشرين وما زالت تتذكر عائلتها المسلمة التي حظيت بالاحترام بين جيرانها في مومباي؛ فقد كانت لهم آنذاك هوية اجتماعية ولكن لم تكن أبدًا لهم هوية دينية[80] .