أشاع إعلان التوصل إلى اتفاق للمصالحة بين الفصائل الفلسطينية في الجزائر يوم الخميس الماضي حالة من البهجة الغامرة لدى كل من يعتبر القضية الفلسطينية همه الأول، وكيف لا والمصالحة الوطنية الفلسطينية هي السبيل الأهم لإحداث نقلة نوعية إلى الأفضل للقضية الفلسطينية التي شهدت تراجعاً ملحوظاً في السنوات الأخيرة نتيجة الانقسام الفلسطيني وتغير الأولويات العربية وتغول إسرائيل وأطراف دولية نافذة على حق الشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته، وكيف لا وراعية المصالحة هي الجزائر الشامخة التي تبذل قصارى جهدها كي تهيئ للقمة القادمة التي ستستضيفها على أرضها أفضل ظروف للنجاح بعد غياب تجاوز ثلاث سنوات، غير أن المرء لا يمكنه أن ينتزع نفسه من هواجس الماضي منذ وقع الانقسام الدموي بين حركتي فتح وحماس في 2007، ذلك أنه منذ تلك السنة الكئيبة وحتى الآن تكررت محاولات المصالحة فبلغ عددها 11 محاولة بمعدل محاولة كل٩شهور تقريباً. تعددت أماكن هذه المحاولات ما بين عواصم عربية أهمها القاهرة ومكة وصنعاء والدوحة وبيروت وأخيراً الجزائر، ومدن غير عربية كاسطنبول وموسكو، واختلفت الأطراف المشاركة فيها من الاقتصار على طرفي الانقسام المباشرين أي فتح وحماس إلى شمول كافة الفصائل الفلسطينية كما حدث في جولة الجزائر الأخيرة، وتنوعت بياناتها الختامية ما بين الإشارة إلى مبادئ عامة يلتزم بها الجميع وحلول تفصيلية وصلت إلى حد تسمية الوزراء في حكومة للوحدة الوطنية وأعضاء للجان إشرافية تتابع ما اتُفق عليه، وتضمنت النتائج توافقات على أمور تكررت بحذافيرها في كل البيانات الختامية التي تمخضت عنها هذه المحاولات كالالتزام الصارم بإلحوار من أجل إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية، والاتفاق على برنامج وطني جامع تنفذه حكومة للوحدة الوطنية، وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وثالثة للمجلس الوطني الفلسطيني في الداخل والخارج تُجرى في غضون سنة كحد أقصى، وتطوير منظمة التحرير الفلسطينية لتشمل كافة الفصائل الفلسطينية، ومع ذلك فلا شئ يمكث في الأرض فعلياً، فلا نتائج الحوار دامت، ولا حكومات الوحدة الوطنية صمدت أو حتى شُكلت، ولا البرنامج الوطني الجامع خرج إلى حيز الوجود، ولا الانتخابات أُجريت، ولا المنظمة طُورَت، ومن ثم فمن حق كل مخلص للقضية الفلسطينية أن يعتريه القلق على مستقبل محاولة الجزائر بقدر ابتهاجه بنجاحها في جمع كلمة الفصائل الفلسطينية، وليس في هذا الاستعراض للخبرة الماضية أي شبهة للتأسي بسلوك “عواجيز الفرح”، وإنما هو محاولة لجذب الانتباه إلى ضرورة التفكير الموضوعي في أسباب ما جرى لعلنا ننجح هذه المرة في تفاديها وتجنيب إعلان الجزائر مصير المحاولات العديدة التي سبقته.

وثمة تفسير سريع وجاهز يدفع به البعض عادة يفسر ما جرى بالعوامل الخارجية التي تعود بطبيعة الحال إلى أعداء القضية الفلسطينية، ورغم أنه من البديهي أن يعمل أعداء الحق الفلسطيني وعلى رأسهم إسرائيل ومن خلفها على تخريب أي جهود للمصالحة الفلسطينية إلا أن هذا لا يمكن أن يكون السبب الرئيسي لاستدامة الانقسام، بل إن وجود هؤلاء وأفعالهم يجب أن يكون في حد ذاته سبباً للمصالحة لمواجهتهم واستخلاص الحقوق منهم، أما تقديري الذي أتمنى أن يكون خاطئاً فهو أن الانقسام قد بُني على خلاف حقيقي في النهج الواجب اتباعه لإنجاز التحرر الوطني، وقد تطور هذا الخلاف حتى أفرز الصدام الدموي الذي أفضى بدوره إلى انشطار السلطة جغرافياً، ثم رتب هذا الانشطار أوضاعاً ومصالح سوف تتهدد بزواله، ولا أريد أن أًفَجر قضايا أعلم يقيناً أنها صحيحة لكني لا أملك دليلاً موثقاً عليها، لكني أكتفي هنا بالحديث عن الانتخابات التي تكرر النص على إجرائها في كل محاولات المصالحة، لكنها لم تُجْر أبداً، والسبب أن آخر انتخابات رئاسية وتشريعية قد أُجري من أكثر من ١٥سنة، وفي هذه المدة اختُبِرَت سياسات وشخصيات وظهرت أجيال جديدة، وتغيرت الظروف، وبالتالي فمن البديهي أن أي انتخابات نزيهة ستسفر عن موازين جديدة للقوى على نحو يصيب الممسكين بزمام الأمور على الجانبين بالضرر بدرجة أو أخرى، ولذلك فهم لا يجرؤون على معارضة الانتخابات باللسان، لكنهم يعوقونها عملاً، وما أسهل إيجاد الذرائع لعدم إجرائها كالتعلل بأنه ما لم تُجْر انتخابات في القدس فلا انتخابات، علماً بأن القرار في هذا الصدد بيد الاحتلال، وما أسهل التحايل عليه، لكن استمرار الحلقة المفرغة للانقسام مطلوب من البعض على الأقل. 

بقيت ثلاث ملاحظات أحسبها مهمة أولاها أنني نظرت إلى الوجوه التي شاركت في صنع المصالحة الأخيرة فوجدتها هي ذاتها تقريباً التي شاركت في كل المحاولات السابقة، بل إن بعضها على الأقل لعب دوراً أساسياً في تفجر الخلاف واستدامته، والسؤال مشروع عن مدى قدرة من صنع خلافاً وشارك في استدامته على حله، والملاحظة الثانية أن 14 فصيلاً شاركت في التوقيع على إعلان الجزائر، والاستنتاج الأليم أن الانقسام ليس قاصراً على فتح وحماس وحدهما، وإلا فما هو يا ترى مبرر وجود كل هذا العدد من الفصائل في معركة العدو فيها شديد الوضوح والهدف أوضح والمخاطر على فلسطين تنهال من كل حدب وصوب، ولقد ذكرني هذا مع اختلاف السياق بالمفكر القومي الكبير ساطع الحصري حين سُئل بعد حرب 1948  كيف تُهزم سبع دول عربية من دولة واحدة؟ فأجاب بأنها هُزِمت لأنها سبعة تواجه دولة واحدة، فهل نطمع في أن تبادر هذه الفصائل التي لا يوجد بينها من الخلاف ما يوجد بين فتح وحماس وبعضها ذو أياد بيضاء في الحركة الوطنية الفلسطينية بتوحيد صفوفها؟ والملاحظة الأخيرة أنني افتقدت في هذه المناسبة المهمة أي وجوه شابة، والشباب هم المستقبل وغيابهم يجعله ملبداً بالغيوم، فاللهم انصر الفصائل الفلسطينية على نفسها كي تنتصر على عدوها.