المؤلف: يفجيني بريماكوف

ترجمة: نبيل رشوان

مراجعة: محمد صلاح غازي(**)

الناشر: المركز القومي للترجمة، القاهرة

سنة النشر: 2016

 

تعاني منطقة الشرق الأوسط فوضى مدمرة منذ زمن، وحالة من عدم الاستقرار. وقد وصف علماء الاجتماع السياسي الأوضاع المتغيرة في تلك المنطقة، بأنها كـ«الرمال السياسية المتحركة». ولا تزال منطقة الشرق الأوسط تعاني صراع الدول العظمى عليها، وتشهد صراعات وخلافات معقدة داخل المنطقة. كما أن مجتمع الشرق الأوسط يمر بمرحلة انتقال عسيرة من مجتمعات ما قبل الحديثة، لتشهد مع التحولات الراديكالية مرحلة ولادة متعسرة للحداثة العربية.

من هنا، تأتي أهمية التعرف إلى ما حدث، ولا يزال يحدث خلف الكواليس في منطقة الشرق الأوسط التي حاول الأكاديمي والسياسي الروسي البارز يفغيني بريماكوف، أن يكشفها في كتاب: الكواليس السرية للشرق الأوسط: النصف الثاني من القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين؛ الذي نقله من الروسية إلى العربية نبيل رشوان، وصدر من المركز القومي للترجمة سنة 2016.

– 1 –

يقول بريماكوف: رافقت الرئيس بوتين في زيارة للشرق الأوسط في أيار/مايو عام 2005، تحدث فيها بحزم إلى القادة الفلسطينيين والإسرائيليين عن ضرورة التخلي عن الأعمال «الإرهابية»، وعما هو ليس أقل منها خطورة وهو التنكيل، بسببها، بالمواطنين الأبرياء.

كان للإرهاب الذي يمارسه الطرفان – والتعبير هنا لبريماكوف الذي يبدو أنه يستخدم مصطلح «إرهاب» بطريقة ملتبسة لا تميز بين الإرهاب الإسرائيلي والعنف الذي تمارسه فصائل المقاومة – المنخرطان في الصراع الشرق الأوسطي، عدد من الملامح الخاصة: أولاً، كان «الإرهاب» الشرق الأوسطي بطبيعته سياسياً، ولم يتخذ مناحيَ دينية؛ ثانياً، لم يخرج عن ذلك على المستوى الإقليمي، وحتى ما حدث منه خارج منطقة الشرق الأوسط كان يستهدف الطرف الآخر من طرفي النزاع الشرق الأوسطي. على سبيل المثال، محاولة الاعتداء على السفير الإسرائيلي في لندن، التي قامت بها مجموعة أبي نضال، أو اغتيال قادة بارزين من منظمة التحرير في أوروبا.

وبعد قيام ثورة 23 يوليو، عقد الرئيس عبد الناصر اتفاقاً سياسياً مع لندن لإنهاء 74 عاماً من الاحتلال البريطاني لمصر، وحقق نجاحاً؛ فقد تم توقيع اتفاق في تشرين الأول/أكتوبر 1954 ينص على الانسحاب الكامل للقوات الإنكليزية. في ذلك الوقت، سادت بين صفوف قيادة «الضباط الأحرار» فكرة التعاون مع الولايات المتحدة، وهي فكرة كانت مناسبة للولايات المتحدة، فهذه الأخيرة كانت تسعى إلى أن تحل محل إنكلترا التي أصابها الضعف في الشرق الأوسط، وكانت تسعى إلى استغلال النظام الجديد في مصر لتحقيق مصلحتها في ذلك.

في أيار/مايو عام 1953، قام وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس بزيارة القاهرة، في الوقت الذي وعدت فيه الدبلوماسية الأمريكية بالوساطة لتحقيق الجلاء عن القواعد الإنكليزية الموجودة في منطقة قناة السويس. قوبلت المساعي الأمريكية بالشكر من قبل «الضباط الأحرار» الذين كانوا يسعون إلى إنهاء الوجود العسكري الإنكليزي في مصر. وبدأ تنفيذ برنامج المساعدات الأمريكية لمصر وقيمته 50 مليون دولار سنوياً، وبدأ المسؤولون الأمريكيون ورجال السياسة ورجال الأعمال، يحجّون إلى القاهرة بانتظام.

أدرك كثيرون، بما في ذلك في القاهرة، أن جون فوستر دالاس وفق كلمات الكاتب المصري «هيكل»، كان يسعى إلى حصار الاتحاد السوفياتي «بالغبار الديني» من طريق تحالفات عسكرية وسياسية. ويجب القول إن الأمريكيين ولمصلحة المواجهة مع الاتحاد السوفياتي، قدموا بعد زيارة دالاس القاهرة، بتقديم مشروعاً مغرياً إلى مصر والدول العربية الأخرى، تمثّل بإقامة حلف عسكري من الدول العربية والإسلامية، ممثلة بتركيا وباكستان فقط. وحقيقة زيارة وفد عسكري مصري برئاسة علي صبري عام 1953 للولايات المتحدة لا توفر أساساً للاعتقاد بأن مشروع الحلف العسكري كان مرفوضاً من المصريين. لكنهم ربطوا موقفهم بإمكان شراء أسلحة أمريكية. فالتقى علي صبري رئيس برنامج البنتاغون للمساعدات الخارجية العسكرية الجنرال أولمستد الذي فضل الحديث عن فائدة الحلف الإسلامي مرة أخرى بشكل مجرد. حينذاك، لفت أنظار الوفد المصري تحديداً إلى أهداف الحلف بصورة واضحة: «… من الممكن أن يكون له تأثير كبير على مسلمي الاتحاد السوفياتي والصين». وصل الجنرال في حديثه إلى أن ما يحتاج إليه من المسلمين في هاتين الدولتين هو «إنشاء طابور خامس». وفي الواقع، كان المصريون ينتظرون أمراً آخر من ذلك اللقاء!

– 2 –

لم تستطع الجامعة العربية التي أنشئت عام 1945 أن تنجز مهمتها؛ ليس فقط في توحيد الدول العربية، بل في تحقيق تكاملهم في مؤسسة واحدة، حتى ولو مع محافظة كل دولة على استقلالها. فكرة إنشاء منظمة عربية مشتركة مصدرها لندن، التي ربطت بها مخطط الحفاظ على احتكار السيطرة على الشرق الأوسط. ومن المستبعد أن يكون المجتمع العربي حينذاك، يعرف هذا المخطط، وكثيرون كانوا يعتقدون أن الجامعة العربية خطوة إلى الأمام لتحقيق الوحدة العربية، ومن الممكن ظهور دولة عربية واحدة على خريطة العالم، حتى لو كانت في صورة كونفدرالية. لكن هذا لم يحدث.

في القمم التي عقدت، تمكنت الجامعة العربية من فض نزاعات وتسوية خلافات بين العرب، وقد حدث هذا أحياناً في أشكال كاريكاتورية، ولكنه حدث. مثال نموذجي، قمة جامعة الدول العربية بالقاهرة بعد «أيلول الأسود» 1970 في ما عرف بالصدام الدموي الأردني – الفلسطيني. في البداية صاح الزعيم الليبي القذافي بأنه لن يجلس إلى طاولة واحدة مع «القاتل» ملك الأردن حسين، وهمَّ كل منهما بإخراج سلاحه. حينذاك، قام ملك العربية السعودية، وبصعوبة أمسك يديهما عن ذلك. بعد ذلك، وبفضل التدخل الهادئ من عبد الناصر، احتضنا بعضهما. لكن هذا الاحتضان لم ينعكس على العلاقات بين الدول العربية.

يقول سعيد أبو ريش، أحد الذين كتبوا عن عبد الناصر في كتابه: اصطدم شوق العرب للوحدة بالواقع الموجود، وتضاءل تأثيرها الرومانسي على المواطن العربي البسيط من يوم لآخر. فالمسيحيون اللبنانيون كانوا يخشون الغرق في البحر الإسلامي، وهو ما سيحرمهم من هويتهم. والأردنيون ليس لهم تاريخ طويل، ولم تكن لديهم رغبة في أن ينزلوا لمستوى قبيلة صغيرة. والعراقيون كانوا يحتاجون إلى شيء ما له القدرة على اقتلاع عرقيتهم واختلافاتهم المذهبية. والأكراد على سبيل المثال، ظروفهم ستكون أسوأ بكثير إذا عاشوا في دولة عربية أكبر من العراق. أما السوريون، فقد رفضوا كل ما يلغي وضعهم كقادة، لأنهم يعتقدون أنهم أكثر انتساباً للعرب من الآخرين. في ما يخص العربية السعودية، فقد أعربت عن مخاوفها من أنها سيكون عليها تقاسم ثرواتها النفطية مع العرب الفقراء من مصر وسورية والأردن».

انعكس الهدوء التدريجي للنزعة العربية للوحدة على الصراع العربي – الإسرائيلي؛ ففي بعض الأحيان كانت الدول ذات العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل تقلِّص دعمها للفلسطينيين، وتظهر معايير أخرى تنعكس على تصرفات بعض البلدان العربية. بعد الصدام الشيعي – السني في العراق، الذي احتلته القوات الأمريكية، أحياناً يظهر الطابع السني لهذه الدولة العربية أو تلك تجاه «حزب الله» الشيعي. حدث هذا العدوان الإسرائيلي على سبيل المثال حين، لم يستطع وزراء الخارجية العرب الأعضاء في الجامعة العربية التوصل إلى موقف موحد حول العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006.

ويمكن اعتبار 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، قمة ما حدث بهذا الخصوص، عندما أصدرت الجامعة العربية بأغلبية 19 عضواً من 22 من المشاركين قراراً بوقف عضوية سورية في الجامعة العربية، وهددت نظام الرئيس بشار الأسد بتوقيع عقوبات عليه، إذا لم يوقف إطلاق النار ضد قوات المعارضة، وكما هو متصور السبب الذي سيطر على أغلب الدول العربية للموافقة على مثل هذه الخطوة، هو قرب النظام السوري من إيران.

يمكن عرض خطين غير متطابقين بشكل واضح تجاه الوحدة العربية: أحدهما، للولايات المتحدة والآخر للاتحاد السوفياتي، وأعتقد أنه في واشنطن وفي موسكو على حد سواء، كانوا يدركون أنه لا مستقبل لإقامة أي كيان عربي تكاملي كبير بين الدول العربية. في الدعاية السوفياتية كثيراً ما كانوا يعلنون دعمهم شعار الوحدة العربية، لكن تحت هذا الشعار، كانوا يقصدون وحدة العرب على طريق النضال من أجل التحرر الوطني ضد محاولات الغرب القضاء على أنظمة البرجوازية الصغيرة الثورية. أما الولايات المتحدة فكانت، في الوقت نفسه، تريد أن يتقارب العرب، ولكن على أساس خلق، محور ضد الناصرية أو ضد سورية. بعبارة أخرى، وجهوا القضية لخلق ظروف ملائمة للصراع مع الأنظمة الوطنية، بدعم الأنظمة العربية المحافظة التي على علاقة وثيقة بالولايات المتحدة.

يطرح بريماكوف سؤالاً مهماً: ما هو الاستنتاج العام الذي يمكن أن نستخلصه من هذا؟ إلى جانب القومية التي لم تتحقق بين العرب، والتي انحسرت تحت ضغط المصالح الخاصة لكل لدولة عربية على حدة، ومن ثَمَّ الاختفاء الحاد، وفي نهاية الأمر، خروج القومية الثورية للبرجوازية الصغيرة، التي كانت من خصائص عدد كبير من أنظمة الدول العربية المتحررة من براثن سيطرة الدول الغربية، من مسرح التاريخ. تميزت نهاية القرن العشرين، وبداية القرن الحادي والعشرين بنشاط حاد لقوى مرتبطة بالأيديولوجية الإسلامية، وساعد على ذلك بدرجة كبيرة، التأخر في حل الصراع العربي – الإسرائيلي وغزو القوات السوفياتية أفغانستان، وبعد انسحاب هذه القوات، كانت العملية العسكرية للولايات المتحدة في العراق.

– 3 –

كانت المهمة الأساسية للولايات المتحدة في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية هي السيطرة على المقدرات النفطية في المنطقة، إلا أن المواجهة مع الاتحاد السوفياتي أضافت إلى ذلك، مهمة أخرى، وهي إقامة رأس جسر عسكري بالقرب من الحدود السوفياتية. حينذاك، كان من الصعب وضع هذين الهدفين على مسار واحد. لذلك، راهنت الولايات المتحدة على تقوية العلاقات مع الأنظمة الملكية العربية، حيث توجد آبار النفط الرئيسية في أراضيها. وهذا الرهان هو الذي حدد سلفاً ضرورة المناورة في مسألة إنشاء أحلاف عسكرية في الشرق الأوسط، على سبيل المثال، رفضت الولايات المتحدة المشاركة في حلف بغداد، على الرغم من أنها لم تدعمه فقط، بل أنشأت هذا الحلف بنفسها بأيدي لندن، وتحفّظ الولايات المتحدة ناجم عن علاقة العربية السعودية السلبية بحلف بغداد، بسبب مشاركة العراق فيه، فالعلاقة بين السعوديين والهاشميين كانت ملبَّدة بالغيوم.

إن محاولات الولايات المتحدة بناء جسور مع مصر الناصرية، جعلتها تحجم عن وجود عسكري مباشر لها في الشرق الأوسط. لكن مع نهاية عام 1956، أصبح من الواضح أن هذا لن يتحقق. أما وأن العدوان الثلاثي عام 1956 قد فشل، فقد أدى هذا بلا شك إلى نمو التعاطف مع مصر والقومية العربية؛ ليس في البلدان العربية فقط، ولكن في ما يسمى «العالم الثالث» ككل، وتعاظم تأثير مصر في تثوير الوطن العربي في هذه الظروف. وفي كانون الثاني/ يناير 1957، تم الإعلان عما عرف بـ «مبدأ أيزنهاور».

نظراً إلى انتهاء الغزل بين الولايات المتحدة وعبد الناصر، فإن اهتمام السياسة الأمريكية الأكبر أصبح متجهاً لإسرائيل. وازدادت أهمية إسرائيل، ليس فقط لأنها أصبحت إحدى دعائم تنفيذ التوجهات الأمريكية في الشرق الوسط، بل لإنها في زمن الحرب الباردة أصبحت حليفاً مباشراً لأمريكا في الصراع مع الاتحاد السوفياتي. ودورها كان فريداً في نوعه في هذا الخصوص، وهو لم يقتصر على النشاط الدعائي، بل امتد أيضاً حتى إلى الجانب العسكري. فالحروب مع العرب كانت مهمة لمصممي الأسلحة الأمريكيين، حيث كانت تجري تجربة الأسلحة الأمريكية الحديثة على أرض المعارك. وبعد هذه الحروب، كانت إسرائيل ترسل المعدات العسكرية السوفياتية التي كانت تستولي عليها إلى الولايات المتحدة. فعلى سبيل المثال، قامت الاستخبارات الإسرائيلية بتجنيد طيار عراقي، قام بقيادة طائرة ميغ – 21 وهبط بها في إسرائيل مقابل مليون دولار وتوفير مكان لجوء له ولأسرته. ثم أرسلت الطائرة إلى الولايات المتحدة، وأبلغ رئيس الموساد عاميت نظيره الأمريكي ريتشارد هيلمس، أن الأمريكيين يستطيعون الآن تكوين تصور واقعي عن الإمكانات القتالية لطائرات الميغ، والعمل على تطوير مقاتلاتهم. كما أن حالة مشابهة حدثت مع الطائرة ميغ – 23 ، التي قام طيار سوري باختطافها عام 1989 بعد أن جنده الموساد.

كذلك أدى الرأي العام في الولايات المتحدة، الذي ساهم في تكوينه بدرجة كبيرة اللوبي الإسرائيلي، وبخاصة في الكونغرس ووسائل الإعلام، دوراً لا يمكن إنكاره في إنتاج التوجهات الأمريكية في الشرق الأوسط، وعن طبيعة دور إسرائيل الذي يروَّج له في الولايات المتحدة، تشهد خطبة إ. كينان، أحد خبراء السياسة الأمريكيين، في أثناء جلسة استماع في الكونغرس جرت عام 1970، قبل أحداث ما عرف بـ «أيلول الأسود» في الأردن؛ إذ عبر عن رأي عدد كبير من المشاركين في جلسة الاستماع، وقال إنه لولا وجود إسرائيل «لابتلعت مصر أو سوريا الأردن، ولكان لبنان في قائمة الانتظار ليبتلع»، والمصير نفسه تنبأ به لليمن الشمالي والعربية السعودية وإمارات الخليج، وذهب كينان لأبعد من ذلك، وقال: لو لم تكن إسرائيل موجودة «لملأ الروس هذا الفراغ الذي تركه الإنكليز في عدن بأسرع ما يمكن».

منذ لحظة الإعلان عن مبدأ أيزنهاور، بدأت مرحلة الهجوم السياسي الأمريكي الموجه لإقامة معسكر معادٍ لعبد الناصر في الوطن العربي؛ ففي الأردن، وقبل ثلاثة أشهر من إعلانه، فازت القوى الموالية لعبد الناصر في الانتخابات وأصبح سليمان النابلسي رئيساً للوزراء، وبمساعدة الاستخبارات الأمريكية، جرى تنظيم عملية إسقاطه، وسارعت الولايات المتحدة للإعلان عن أنها قررت تقديم مبلغ 50 مليون دولار، تدفع سنوياً للأردن.

ترافق إسقاط النابلسي مع الضغط على عبد الناصر بتهديدات إسرائيلية باحتلال الضفة الغربية لنهر الأردن، إذا حاول التدخل في الأحداث الأردنية، وأرسلت العربية السعودية عدة آلاف من جنودها إلى الأردن، على الرغم من أنه لا يوجد أساس لاعتبار أن عبد الناصر في أثناء وجود النابلسي في منصب رئيس الوزراء حاول «إخضاع» النظام الأردني، على الرغم من أنه كان لديه ما يكفي من الموالين له في هذا البلد.

– 4 –

عندما شعر عبد الناصر بأن العربية السعودية ستصبح بدعم من الولايات المتحدة، مركزاً لجذب القوى المعادية لمصر، بدا لعبة مضادة؛ ففي عام 1962 وفي «خاصرة» العربية السعودية – اليمن – توفي الإمام أحمد، فورثه محمد البدر الذي أطيح بعد أسبوع من وفاة والده. تمكن البدر من الاختفاء عندما ذهب الحراس إلى الغداء وقت الظهيرة؛ فمن دون أن يلحظه أحد، ارتدى ملابس نسائية وركب حماراً وخرج من البوابة الخلفية. وليس هناك معلومات مباشرة تشير إلى أن الانقلاب حدث نتيجة مؤامرة تم تنفيذها وفقاً لسيناريو قاهري، لكن ما حدث وما تبع الانقلاب من أحداث يجعلنا نفترض أن الاستخبارات لم تكن مجرد مراقب.

لكن بعد حدوث الانقلاب في اليمن لم يقف الاتحاد السوفياتي موقف المتفرج، بل دعم مصر بسخاء؛ ليس على المستوى السياسي فقط، وإنما بوسائل نقل عسكرية كذلك. هناك ظهر نوع آخر من المنطق، هو السعي إلى مساعدة مصر الناصرية التي استدارت أكثر تجاه الاتحاد السوفياتي، بعد انهيار دولة الوحدة مع سورية، إضافة إلى أن الاتحاد السوفياتي لم يكن يستطيع عدم الاكتراث بتعرض التغير التقدمي في اليمن لتهديد حقيقي من قوى يتم التنسيق معها ودعمها من الخارج، في الوقت الذي تواجه مصر هذه القوى.

يقول بريماكوف: أهم ما يوضح التناقضات الإمام أحمد في قصر تعز، الذي قضى فيه آخر أيام حياته، سافرت إلى اليمن بتكليف من رئاسة تحرير «برافدا» بعد إسقاط الإمام بوقت قصير، وأتيحت لي فرصة أن أكون في تلك الغرفة التي كان يحتفظ فيها الإمام بمقتنياته التي جمعها حوله، كما هي من دون أن يمسسها أحد. وعلى ما يبدو مما شاهدت أن الإمام أحمد كان يحب الساعات كثيراً، فقد امتلأت الحوائط بالساعات المعلقة. لكن يبدو أن دقات الساعات لم تحمل إليه صدى الزمن. تحت ساعات الحائط وبالقرب من مخدعه، كان يوجد «كرباج» جلدي، كان يقوم بجلد خدمه وجواريه به.

وجدت الجمهورية العربية المتحدة نفسها متورطة مباشرة في أحداث اليمن إلى جانب الجمهوريين، والعربية السعودية إلى جانب الملكيين، لم يكن التدخل السعودي بدافع من الصداقة مع البدر أو ولده المتوفى، بل على العكس من ذلك؛ إذ كان هناك عداء بين العائلتين الملكيتين في الرياض وتعز، إلا أن العربية السعودية كانت تخشى أن تجتاحها أحداث مشابهة لما حدث في اليمن عبر الحدود. من جانبها، سعت الجمهورية العربية المتحدة إلى أن تقوي مواقعها في اليمن، لإحداث نوع من التوازن مع دور السعودية المعادي للسياسة الناصرية. وظهرت الولايات المتحدة وبريطانيا في الصراع الداخلي اليمني؛ فواشنطن لم تكن ترغب في أن يكون اليمن، وهو في الواقع على أعتاب الإمبراطورية النفطية الأمريكية في شبه الجزيرة العربية، موالياً لمصر. أما في لندن، فقد كانوا قلقين؛ ليس فقط على النفط، لكن على مستقبل القاعدة العسكرية الإنكليزية في عدن.

بناء على طلب الجمهوريين الذين وجدوا أنفسهم في وضع صعب، بعد أن أصبحت العربية السعودية تدعم القبائل اليمنية التي ظلت على ولائها للملكية بالسلاح على نطاق واسع، قام عبد الناصر بإرسال جيشه إلى اليمن، عدة آلاف من الجيش النظامي اشتركت في المعارك، لكن النزاع اتخذ طابع الاستمرارية، وتحت ضغط الأحداث بدأت مفاوضات بين العربية السعودية والجمهورية العربية المتحدة في 24 آب/أغسطس 1965 في جدة، وتم توقيع اتفاق بين الرئيس عبد الناصر والملك فيصل ينص على إجراء استفتاء في موعد أقصاه 23 تشرين الثاني/نوفمبر 1966، لتحديد مستقبل اليمن، وكمقدمة لتشكيل حكومة موقتة لمرحلة انتقالية، وقف التدخل من جانب العربية السعودية، على أن يتم سحب القوات المصرية بالتدريج من اليمن بالتناسب مع عدم التدخل السعودي.

لكن على ما يبدو، كان تولي الملك فيصل الحكم، حيث خلف أخيه الملك سعود في الحكم، وهجرة الأخير للعيش في القاهرة، جعل معاداة عبد الناصر عبئاً ثقيلاً ملقى على أكتافه، في حين وصل عبد الناصر بدوره إلى قناعة أن تورطه في اليمن، سيقيد يديه في مصر نفسها وفي خارجها، وبالتالي، وهذا هو المهم، فإن هذا سيضعف مصر كثيراً في حال قيام مواجهة عسكرية مع إسرائيل.

كان النشاط الكبير للقوى الملكية يشكل تهديداً فعلياً للنظام، وبخاصة مع نهاية عام 1967 وبداية عام 1968، عندما سحبت القاهرة قواتها المسلحة من اليمن؛ فقد كانت القاهرة تحتاج إلى وحداتها العسكرية المتعلمة والمدربة جيداً وذلك لاستعادة قدراتها العسكرية. وعلى الصعيد السياسي، بذلت القاهرة جهوداً مضاعفة لتحقيق الوحدة في الوطن العربي، وهذا أمر مفهوم تماماً، والطريق إلى هذا لا بد من أن يمر عبر التخفيف من حدة المواجهة مع العربية السعودية في ما يتعلق بمشكلة اليمن، وهو ما حفز على سحب القوات المصرية من اليمن.

– 5 –

إن الأحداث في الشرق الأوسط معقدة، وغالباً غير متوقعة، وقابلة للانفجار في أي لحظة، وتكونت حولها تربة لنظرية عن أن تناقضات عالم اليوم هي حضارية – دينية أتباع هذه النظرية من السياسيين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، مؤكدين أن تقسيم العالم على أساس حضاري – ديني، حل محل تقسيم العالم على أساس أيديولوجي.

هذا النوع من التقسيم مرتبط اليوم بظهور الإرهاب على المسرح الدولي، الذي يزعمون أنه مرتبط بالإسلام بوصفه ديناً. الحقيقة اليوم، أن الكثير من المنظمات الإرهابية، ترتدي ملابس إسلامية، وتضع كمهمة لها إقامة دولة خلافة موحدة على أراضي كل الدول التي يقطنها سكان مسلمون. لكن ماذا سيحدث نتيجة هذا؟ الأهداف المباشرة لهجمات القاعدة «الإرهابية»، تصبح الدول الإسلامية نفسها، ذات الأنظمة المعتدلة أو العلمانية. هذه هي الحقيقة؛ فالعمليات الإرهابية التي قامت بها «القاعدة» وفروعها في العربية السعودية ومصر وتركيا، من ناحية عددها، تفوق الأعمال الإرهابية في دول غرب أوروبا.

في مثل هذه الظروف من المهم جداً التوضيح للشرائح الأوسع للسكان، ليس فقط غير المسلمين، ولكن في الدول الإسلامية أيضاً، الفرق بين الإسلام الأصولي، والإسلام المتطرف. الإسلام الأصولي عبارة عن بناء مساجد وإقامة الشعائر، والمساعدات المتبادلة بين المؤمنين. لكن، ماذا يحدث حين تتخذ الأصولية الإسلامية الشكل العدواني المتطرف، ويصب هذا في فرض النموذج الإسلامي في إدارة الدولة والمجتمع؟ عرف التاريخ مراحل، عندما نمت الأصولية المسيحية، إلى مسيحية – كاثوليكية متطرفة، ولنتذكر حتى اليسوعيين أو الحملات الصليبية، نحن اليوم نصطدم بظهور الإسلام المتطرف.

يرى بعضهم أن سبب ذلك يكمن في تنامي الهوة بين الأغنياء «بمليارات الذهب» (الولايات المتحدة وكندا ودول أوروبا وأستراليا) وباقي دول العالم التي يتكون جزء كبير منها من دول يقطنها مسلمون. لكن هذه ليست إجابة كاملة. القضية هي أن قادة المنظمات والمجموعات الإرهابية، ينحدرون من أسر ميسورة.

يضيف بريماكوف: من وجهة نظري، صعود التطرف الإسلامي مرتبط ببعض الظروف، الأهم منها ليس المواجهة بين الحضارات المختلفة، ولكن أزمة الحوار في ما بينها.

عملية العولمة السارية في العالم هذه الأيام، شملت كل المجتمع الدولي، بما في ذلك الدول ذات السكان المسلمين، وهذه الدول ليست موجودة خارج حدود الكون التكنولوجي للحضارة العالمية التي تؤثر، حتى ولو على نحو غير متساوٍ، ولكنه تأثير ضخم في كل جوانب تطور الإنسانية بعامة.

المشكلة في أن الحضارة العالمية ليست مجرد تقنية – تكنولوجية جديدة، وإنما هي تراكم روافد ثقافية – دينية – سياسية مختلفة بالأصالة، وبانتظام تقترب من الجمع الاجتماعي – الثقافي المتراكم من خلال الحوار. هذا الحوار تحديداً هو الذي يعيش اليوم حالة أزمة. والدليل على ذلك، يُعدّ بالدرجة الأولى تمسك الناتو بزعامة الولايات المتحدة بـ«تصدير» النموذج الغربي للديمقراطية إلى الدول الأخرى. زد على ذلك، أن سكانها مسلمون، إضافة إلى أن الحديث يدور عن «تصدير» باستخدام القوة.

ويختم بريماكوف أن العالم كان منذ مدة قصيرة مقسماً على أساس أيديولوجي، واستطاعت الإنسانية أن تهزم هذا، لكن تقسيم العالم على أساس ديني – حضاري جديد، يمكن أن أقول، ليس أقل تهديداً. ويجب أن تجد الإنسانية في نفسها القوة لكي تتخطاه.