كانت القدس في رسوم رحّالة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أو في الصور الفوتوغرافية للنصف الثاني للقرن التاسع عشر حتى خمسينيات القرن العشرين، تقدّم على الدوام على النمط نفسه. فمن الجهة الجنوبية الغربية، أسفل جنوب جبل الزيتون، يتيح المرتفع الطبيعي، وعُري المكان، للزائر رؤية المدينة في عمومها على الجانب الآخر لواد عميق حافل بالأضرحة. وخلف حقل الأموات ذاك، تمتد مساحة مربعة تقريباً تحدّها أسوار ضخمة مُحافظ عليها في حالة مُرضية مع قليل من البوابات الظاهرة؛ والأكثر وضوحاً من تلك الزاوية هي البوابة الذهبية البارزة خطوطها على نحو حسن على أسوار المدينة، وقد أُغلقت منذ القرن السابع وربما لم تعد عملياً تُستخدم مذذاك كمدخل أبداً… وتظهر المدينة تلك كما لو كانت جاثمة بتكلّف على قمة أرض وعرة، كثيرة الصخور، وغير مستوية.

وفي الداخل، يشغل الموقع الإسلامي المقدس المعروف بالحَرَم الشريف، وهو موقع فسيح ومكشوف تظلله جزئياً الأشجار، الزاويةَ الجنوبية الشرقية من الساحة المحاطة بالأسوار. يشتمل الموقع على «قبة الصخرة» الرائعة والجليلة، وإلى جنوبها مسجد جامع يُعرف بـ «المسجد الأقصى» والذي تعلوه أيضاً قبة عالية. وتحتل شوارع ومبان مكتظة باقي المدينة، عدا قباب القبر المقدس العتيق، الحديثة نوعاً ما والمحاطة عمداً بمئذنتي مسجدين صغيرين، كما بالقباب الأحدث كثيراً لكنيسي الأشكناز والسفارديم الظاهرة بوضوح. وفي وقت لاحق في القرن التاسع عشر، أدت الأبراج اللوثرية والكاثوليكية غرض التعريف بحضور ديني آخر في المدينة المقدسة فضلاً عن استحضار رفعة الشأن المسيحي الغربي. ليس ثمة علامة أو رمز خارجي يميز الدلالة الطائفية لهذه المباني، لكن السكان المحليين يعرفون ما هي تلك المباني، لأنها كانت جزءاً من نسيج المدينة، والأداة التي لا غنى عنها في الدلالة على معنى المدينة وحياتها. ومعظم أولئك الذين جاؤوا إلى القدس يعون وجودها أيضاً، غير أن معرفة الحجاج كانت ربما مقتصرة على معالم دينهم أو حتى على جزء فقط من دينهم.

أخذت هذه المدينة المسوَّرة شكلها الراهن في القرن السادس عشر. ومع أن الكثير قد جرى على مدى الأعوام الخمسمئة الماضية لتبديل أو لإصلاح أجزاء فيها، فلا يزال الطابع الخاص لبنيتها الأساسية على حاله؛ بل إن مشاهد الأنوار الكهربائية في الأماسي والليالي، وهي الأنوار التي غيرت سماء الكثير من المدن التاريخية، غائبة عن مدينة القدس المسوَّرة. الأنوار تلك عادت إلى الظهور فقط على الجانب الغربي من المدينة ولسدّ حاجات سياحية جديدة، تماماً مثلما كانت أنوار القرن السابع على منحدر جبل الزيتون تهدي الحجاج وهم في طريقهم إلى داخل المدينة المقدسة. أمّا التغييرات في البنية الحضرية للقدس، فقد تمت خارج الأسوار، إذ إن المؤسسات الأجنبية في معظمها ـ المدارس والمستشفيات والأديرة، ومؤسسات من جميع الأنواع، ومن ثم الفنادق والمباني الإدارية ـ إنما شيّدت في الفُسح الأكثر انبساطاً والخالية نسبياً إلى شمال المدينة وغربها. وظهرت هناك أيضاً مجموعات صغيرة من البيوت أو الأملاك الفردية، الكبيرة إلى حد ما عادة، وقد شكلت تلك البيوت والأملاك قلب ما أصبح قرىً في ما بعد، ثم أُدرجت في نهاية المطاف، وليس بإرادتها دائماً، في مدينة ضخمة.

ما يكوّن أصالة القدس، لا بل فرادتها في الواقع، ليس نموها في أواخر القرن التاسع عشر وفي القرن العشرين، الأمر الذي تتشاطره مع مئات المراكز الحضرية الأُخرى، وإنما ميزتان فريدتان بارزتان تتصف بهما المدينة القديمة؛ الميزة الأُولى هي أن شكلها الحالي نشأ في ظل قيادة أو حكم المسلمين فوق تحويل إمبراطوري روماني لمدينة يهودية قديمة. والميزة الأخرى هي أن محتوياتها كانت إسلامية ويهودية ومسيحية بنسب وأهمية تتفاوت وفق جزْر التاريخ ومدِّه ومع حضور متزايد لوظائف وبنى دنيوية من منتصف القرن التاسع عشر فصاعداً. ما من مدينة مقدسة أُخرى في العالم هي مقدسة، بطريقة أو بأُخرى، لدى ثلاث ديانات وعبادات مختلفة، وإنْ بدت مترابطة تاريخياً ولاهوتياً.

كيف حدث ذلك؟ كيف نشأت المدينة؟ وعبر أي آليّات استمرت؟ سأقوم أولاً بتقديم وصف إجمالي وموجز لما يمكن إعادة بنائه للقرن السابع عندما سقطت المدينة تحت الحكم الإسلامي ثم تحديد بعض الملامح الإسلامية، وعلى الأخص التي كان لها تأثير في المدينة على مدى القرون الأربعة عشر التالية.

لا يزال الكثير من الغموض يكتنف مسألة صيرورة القدس مدينة إسلامية عام 637م أو نحوها، ومن غير المرجح أن تُعرف الحقيقة يوماً. وأهمية ما حدث في واقع الأمر من أجل فهم دور المدينة في الفن الإسلامي التقليدي لا يزيد على ما يجري تخيله. وما سيلي هو إعادة بناءِ أحداثٍ ومواقفَ كما اعتقد أنها حدثت من وجهة نظري. فالمدينة التي سلمها البطريرك اليوناني صفرونيوس كانت معسكراً رومانياً جرى تكييفه مع أطلال القدس الهيرودوسية ثم حُوّل إلى مدينة مسيحية بعد اعتناق قسطنطين الكبير المسيحية في النصف الأول من القرن الرابع. وقد سيطر على حياتها ومعالمها العمرانية موضوعان: الاحتفاء بذكرى تاريخ مقدس مركّز أساساً على آلام يسوع، وتوقع اليوم الأخير وحلول مملكة الله على الأرض. كانت الكنائس، وأهمها مجمع القبر المقدس، مكرّسة لحياة يسوع على وجه أخص، لكن رفات الموتى في ذخائر الكنائس وأشياء من كل الأنواع مصنوعة محلياً أو مبيعة محلياً كانت تستذكر جميع أشخاص الكتاب المقدس من آدم إلى المسيح. واستُحضر العالم الأخروي في الغالب من خلال المدافن العديدة التي لاصقت المدينة المسوَّرة ومن خلال الأماكن المقدسة على جبل الزيتون والممجِّدة لصعود المسيح وعودته النهائية. وكان محظّراً على اليهود رسمياً دخول المدينة، لكن كان يسمح لهم بالمجيء إليها مرة واحدة في السنة ليبكوا تدمير الهيكل الذي شغلت أنقاضه، المختلطة مع ما بقي من أبنية وثنية قليلة، حيزاً واسعاً مهجوراً في الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة.

كان هذا الحيز المثقل بالذكريات، والحافل بمبان منتصبة أو خَرِبة، هو الذي استولى عليه المسلمون الوافدون حديثاً ـ وربما حتى الخليفة عُمر نفسه ـ بوصفه مكانهم المقصور عليهم بالذات. وقد سمّي المكان حينئذ بيت المقدس، ومنه جاءت أخيراً لفظة القدس بوصفها الاسم العربي للمدينة. وبعد مرور عدة قرون، بعد عام 1200، حاز المكان اسمه الحالي: الحَرَم الشريف. وصلى المسلمون هناك، ربما في الجزء الجنوبي من الساحة، حيث لم يلبثوا أن بنوا مسجداً ذا سقف مرفوع على أعمدة. واستقر معظم العرب المسلمين المهاجرين في جنوب ساحة الحَرَم وغربها. وربما أن بعضهم جاء ليقيم في جوانب أُخرى من المدينة، إذ لم تكن الأحياء ذات الطابع الإثني أو الديني قد ظهرت بعدُ في معظم مدن الشرق الأدنى. وفي زمن ما، لعله نحو عام 700، شُيد مبنيان كبيران إلى الجنوب والجنوب الغربي من الحَرَم، ووجِدت أُسسهما في وقت ما في سبعينيات القرن العشرين. وثمة مناقشة وافرة في شأن وظيفة هذين المبنيين اللذين ربما كانا قصرين للخلفاء أو مبنيين إداريين (دار العمارة كما تصفها النصوص) أو مستقرين لعائلات وافدة، أو لخليط من هذه الوظائف. أياً يكونا، وسواء كانا حتى منجزين أم لا، وأياً تكن الفترة التي استُخدما فيها، فقد كانا ضمن حدود المدينة المسوَّرة وفي اتصال مباشر بالحَرَم من خلال أنواع مختلفة من المسالك الضيقة.

إلا أن قبة الصخرة هي التي حولت شخصية المدينة تماماً وأعطتها صبغتها الإسلامية الأُولى. وقد أقيمت فوق نتوء صخري في أعلى ما كان يعرف آنئذ بجبل موريا. ومن المؤكد أنه كان للنتوء الصخري، مع كهف منحوت فيه بشكل مصطنع جزئياً وحفرة مشقوقة بصورة مرتبة في الوسط تقريباً، غرض ديني أسبق لا نملك إزاءه إلا الافتراضات. وقبل سيطرة المسلمين على المكان بعدة قرون، كانت العبادات اليهودية تقرنه بالهيكل المهدَّم. والبناء الجديد فوق الصخرة أمر به الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وشُرع فيه أو أُنجز عام 691 (هناك بعض المناقشات التحقيقية في شأن كيفية تفسير هذا التاريخ). وهو مؤلف من عُلِّية مستديرة مغطاة بقبة كبيرة على أسطوانة عالية جوفاء ومحاط بحلقة ثمانيَّة الأضلاع ذات ممشيين مسقوفين موضوعين على اثنتي عشرة رصة وثمانية وعشرين عموداً. ويوجد أربعة أبواب تفضي إلى داخل المبنى، باب عند كلٍ من الجهات الأربع، ولا يتميز أي منها على الأبواب الأُخرى من حيث الحجم أو الزخرفة. والجُدر الخارجية رقيقة جداً، وهي أقرب إلى ستار حول مكان محصور منها إلى جدار حامل. وفوق صفائح كبيرة من المرمر، درج أن تغطي الفسيفساء أجزاء واسعة من الوجه الخارجي للبناء، وقد استُبدلت في القرن السادس عشر بآجر عثماني جميل جرى ترميمه في منتصف القرن العشرين. أمّا الزخرفة الداخلية للبناء، فقد ظلت محفوظة بشكلها الأصلي وتألفت من صفائح مرمرية كبيرة في الجزء الأدنى من الأسوار ومظهر بهيج للفسيفساء (نحو 1200م2) على الجزء العلوي للقناطر وفي جميع أنحاء الأسطوانة الجوفاء. ومن المحتمل أن تكون الصفائح المرمرية قد اختيرت بسبب جودة الترسيمات الطبيعية عليها. والفسيفساء تبدي، في الوقت الذي نستخدم ألفاظاً اصطلاحية جارية في عموم أواخر آثار البحر المتوسط القديمة، الكثيرَ من النواحي البارزة الفريدة في ما اختير منها وفي طريقة تركيبها.

طُرحت تفسيرات عديدة مختلفة لبناء قبة الصخرة. فقد رأى البعض، في العصور الوسطى، أنها كانت محاولة من عبد الملك بن مروان لجعل القدس لا مكة وجهة الحج، البالغة الأهمية للمسلمين. صحيح أن الكثير من مخطط المبنى وموقعه يمكن تفسيره بتقليد «الطواف»، الشعيرة البالغة الأهمية في ممارسة الحج. ثم قيل في أزمنة أكثر حداثة إنه معلم يحتفي بانتصار الإسلام على المسيحية في المدينة المسيحية بامتياز، ويتبدى ذلك عبر استعادة قداسة المكان اليهودي القديم المقدس خلافاً لرأي المسيحيين. وجرى التعبير عن هذه الرغبة من خلال تعليق جواهر ملكية بيزنطية وإيرانية، كالكؤوس المدلاة وسط زخرفة الفسيفساء في الرواق المثمّن، ومن خلال تزيين المبنى بنصوص قرآنية تتضمن حض أهل الكتاب، اليهود والمسيحيين، على قبول الوحي الجديد.

ويجد باحثون آخرون دليلهم في التمثيل التخيّلي للنباتات في الفسيفساء ومن النقوش على البوابة الشرقية للمبنى ليزعموا أن المبنى يحتفي بيوم الحساب المقدّس الآتي الذي يعقبه الثواب والعقاب، والذي ترتبط أحداثه دائماً بالقدس. فـ «الحساب» لكل الرجال والنساء، وفق الاعتقاد الشعبي، إنما يحدث تحت القبة الصغيرة شرق قبة الصخرة تماماً والمعروفة بـ «قبة السلسلة». وسوف يكون المعلم الرئيسي شبيهاً بصورة المكان الذي تم وصفه في القرآن باعتباره موجوداً في الفردوس الأبدي، وباعتباره، وهذا أمر فريد في تاريخ العمارة، معلماً يحتفي بحدث لم يقع بعد. وربما تكون هذه الرؤية للمستقبل قد عكست الأساطير الغنية المتصلة بالملك ـ النبي سليمان، الذي يُعتقد أن هيكله، وبخاصة قصره، كان قائماً في هذه المنطقة. وربما يكون ممكناً، أخيراً، وعلى قاعدة تقليد مبكر رفضه فقهاء المسلمين، الاعتقاد أن المبنى يمجّد «الصخرة» التي غادر الله الأرض من عليها بعد خلقه لها.

كل هذه التفسيرات تتلازم مع ذكريات (موقع هيكل سليمان وقصره)، وأحداث (انتفاضة ابن الزبير ضد الأمويين واحتلال مكة، والانتصار على الإمبراطوريتين الكبيرتين للعصور القديمة المتأخرة)، ومعتقدات (الإيمان بيوم الحساب القريب)، هي كلها كانت سائدة أواخر القرن السابع. ثم تضاءل وقع هذه الذكريات والأحداث والمعتقدات ببطء، وشيئاً فشيئاً، غمرت الحَرَم قدسية إسلامية على نحو أخص والقدس ككل بعدة طرائق. وعلى مستوى أدنى، جاء هذا التاريخ المقدس الإسلامي بقصص عن آدم وإبراهيم ويسوع وزكريا ويعقوب وحتى يوسف، وقرنها بأماكن مختلفة في المدينة أو في الحَرَم. لكن الاقتران الأهم والأعمق كان بالنبي محمد. وغدت قبة الصخرة المكان الذي صلى فيه بعد إسرائه من مكة وقبل معراجه إلى السماء. والآية 1 من سورة الإسراء في القرآن الكريم التي تذكر مسجداً أقصى مرتبطاً بالقدس[1]، وكان الحَرَم مشمولاً بشواهد تذكارية تتعلق بلحظات مختلفة من وصول النبي ومعراجه، وأصبح المسجد الجامع المسجد الأقصى مع الفقرة الملائمة من النص القرآني التي استُنسخت في وسط البناء بفسيفساء أوائل القرن الحادي عشر. والسياق الذي تمت فيه هذه المجموعة الجديدة من التداعيات ليس معروفاً جيداً. ولربما بدأ في وقت مبكر جداً على مستوى شعبي وبات يعبَّر عنه رسمياً في تحول القدس والحَرَم في بداية القرن الحادي عشر، في ظل حكم الأسرة الفاطمية في مصر. وخلال هذه القرون، التاسع ـ الحادي عشر، حاز المسجد الأقصى شكله الأكبر ووفد أولياء صالحون وحجاج إلى المدينة من شتى بقاع العالم المسلم.

كان الحَرَم، الذي لم يكن بعدُ معروفاً بهذا الاسم، مركز القدس الإسلامية، مع صفوف أعمدة جديدة مقامة على جانبه الغربي وجانبه الشمالي، ومع بوابات جديدة وصفها رحالة، كانت إحداها مزخرفة حتى بالفسيفساء وعليها نقش باسم خليفة فاطمي. وقد تقلص حجم المدينة، إذ إن امتدادها البيزنطي إلى الجنوب هُجر في مطلع القرن الحادي عشر، ولبثت في أبعادها الحالية تقريباً.

والأمر الفريد في العالم أجمع هو أنها كانت مدينة مقدسة عند اليهود والمسيحيين فضلاً عن المسلمين، الذين سيطروا عليها مادياً وقاموا في وقت ما بإعادة بناء قلعة كبيرة على جانب المدينة الغربي. وأحياناً، كما خلال عهد الخليفة الحاكم، كان هناك أعمال اضطهاد ضد المسيحيين واليهود، وقد سُلب القبر المقدس ودُمر جزئياً. لكن مثل هذه الأعمال كان نادراً، وتعايشت الديانات كلها في ما يبدو أنه كان انسجاماً نسبياً، مرده، على الأغلب، إلى تجاهل إحداها للأُخريين على نحو لافت للنظر.

إنها مدينة سلمية ومنسجمة نسبياً، بمواقعها المقدسة وحجاجها الآتين من كل حدب وصوب، على حد وصف الرحالة والفيلسوف الفارسي الإسماعيلي ناصر خسرو، في ما هو إحدى أندر الروايات القروسطية التي يمكن اتباعها على الأرض. وما زال الكثير من آثارها ماثلاً والروايات اليهودية من الجنيزة أو الروايات المسيحية على ألسنة رحالة تبدو مؤكِّدة وجود مدينة بثلاث ديانات عاشت مستقلة إحداها عن الأُخريين وبأدنى حد من الاحتكاكات، لكن من دون صراعات ذات شأن في معظم الوقت.

في عام 1099 استولى الصليبيون، الآتون من أوروبا الغربية، على القدس وقتلوا أو نفوا معظم سكانها، وأقاموا فيها عاصمة المملكة اللاتينية. ولم تدم المملكة أكثر من قرن ونصف القرن، إذا ما حسب المرء عقود الحكم المسيحي ـ الإسلامي التعايشي الذي تلا فتح صلاح الدين المدينة مجدداً عام 1183. غير أن وقعها كان شديداً على نسيج المدينة من حيث أنها عدَّلت البنى التي عملت المدينة وفقها. لقد هُدّم الكثير، لكن جرت المحافظة على آثار الحَرَم التذكارية العظيمة بسبب ارتباطها الخيالي في الأغلب بهيكل سليمان و«هيكل الرب» الذي أُحضرت مريم إليه وهي طفلة، كما ورد في اللاهوت المسيحي في القرون الوسطى، قبل أن تأتي بطفلها إليه، والذي ألقى فيه يسوع موعظته في وقت لاحق. وكان فرسان الهيكل أسياد الحَرَم وقد أعادوا استخدام ساحاته لأغراضهم. فهم، على سبيل المثال، استخدموا القاعات تحت الأرض عند الطرف الجنوبي للحَرَم كإسطبلات وسبّبوا بالتالي في تعريف تلك القاعات بأنها إسطبلات سليمان. وكنيسة القديسة آن في القطاع الشمالي الشرقي من المدينة أفضل مثال على هذه الأعمال، وهو كثيراً ما يستعاد. وكان جزء كبير من المدينة المتأخرة قد بُني على أنقاض خطط البناء الهائلة التي وضعها الصليبيون، وقليلة هي أجزاء المدينة التي ليس فيها بقايا من طراز رومانسكي أو قوطي مطمورة في الأبنية الحجرية المتأخرة.

في زمن باكر يعود إلى ما بعد عام 1183، لكن على وجه الخصوص بعد عام 1260 وهزيمة جيوش المغول الوافدة من الشرق، توطد حكم المماليك في مصر وفلسطين وسورية ومكث حتى عام 1517. وخلال هذين القرنين ونصف القرن، أصبحت القدس تحفة فريدة في روائع الهندسة المعمارية الإسلامية في أواخر القرون الوسطى. أما الأسباب الكاملة لهذا التطور فليست واضحة برمتها. ولا شك في أن ثروة مملكة المماليك كانت وفيرة؛ فالقاهرة ودمشق وحلب وحتى مدن صغيرة مثل حماه أو طرابلس، كانت مجللة بأبنية جديدة ذات هندسة معمارية رفيعة المستوى. ولا شك أيضاً أن العالم المملوكي، بعيداً من التغييرات الصاخبة التي وسمت العالم التركي ـ الإيراني في الشمال والشرق أو التغيرات الثورية في أوروبا المتوسطية الإيطالية والإسبانية، طوّر بناءً سياسياً وثقافياً أصيلاً جداً بحيث إنه رعى نوعاً فريداً جداً من التديّن الاجتماعي. لقد كان تديّن خدمات تعود بالمنفعة، كالمدارس التي كانت مراكز للتعليم الديني ولتكوين النخب القضائية، والخانقاهات والرُبُط التي كانت أماكن إقامة أولياء صالحين من الرجال والنساء، ومستشفيات ومدارس للأطفال ومكتبات وأسبلة وإلى ما هنالك، وكلها موقوفة من جانب أمراء حاكمين أو أثرياء من الطبقة الحاكمة. أمّا الطرق التي عملت بها هذه المؤسسات واستجابت لحاجات اجتماعية ملموسة، فلم يجر شرحها حتى الآن. ويبدو غريباً فعلاً أن تكون أكثر من خمسين من مثل هذه المؤسسات الموقوفة للرفاه العام والتعليم قد حُفظت أو سجّلت في مدينة صغيرة وثانوية سياسياً كمدينة القدس. لكنْ ثمة سبب ثالث لتطور هندسة معمارية فخمة في ظل حكم المماليك وهو أن القدس حققت للحكام في القاهرة، ولولاتهم في دمشق بدرجة أقل، دوراً مزدوجاً؛ فهي كانت مدينة مقدسة مع جميع الروابط التي أُقيمت وصُقلت خلال القرون الأُولى للحكم الإسلامي، وكانت ميسورة أكثر من مكة والمدينة، فضمنت بالتالي كون أبنيتها الأثرية معروفة أكثر وكون رعاتها محترمين على نحو لائق.

بيد أن القدس كانت أيضاً مدينة معزولة بلا دور اقتصادي ذي شأن وأضحت مدينة منفى والمكان الذي كان المماليك الذين يفقدون حظوتهم في البلاط يُبعَدون إليه من صراعات السلطة في العاصمة. وفي القدس، ومن خلال إشراف ووهب أموال لبناء المدارس والمؤسسات الاجتماعية الأُخرى، عمل المماليك في سبيل إيمانهم وحاولوا بهدوء إعادة بناء سلطتهم السياسية وتوطيدها في أماكن أُخرى. وكان من نتيجة هذا المزيج غير العادي المحبذ للاستثمار الهندسي عرض حقيقي لمبان قبالة الجانبين الغربي والشمالي للحَرَم، كانت في بعض الأحيان تقترب من الحَرَم نفسه كما هي حال سبيل ماء الشرب المعروف باسم قايتباي، أو تتراصف على امتداد بعض الشوارع المفضية إلى الحَرَم. والأنجح بين هذه المباني هي المدرسة الأشرفية (1482) تجاه الحَرَم، والمدرسة التنكزية (1328 ـ 1329) على الشارع الرئيسي المؤدي إلى الحَرَم، وخان السلطان (1386 ـ 1387 مع إضافات وتعديلات كثيرة أُدخلت لاحقاً)، وسوق القطانين مع بوابتها الفخمة الرائعة قبالة الحَرَم، ويعود تاريخها إلى عام 1336 ـ 1337، ثم شارع مسقوف للمتاجر وحمّامان عامان وخان، وكلها ما زالت موجودة لكن في حالة مزرية.

وإذا أضاف المرء عدداً من المباني الإسلامية ذات الطبيعة الدينية، المنتشرة في نواح أُخرى من المدينة، وقلعةً مرمَّمة على الجانب الغربي أدت الغرض بوصفها سند المدينة الدنيوي الموازِن للحَرَم الشريف (كما أصبح اسمه متعارفاً عليه تماماً وقتئذٍ) الديني، يتضح أن القدس كانت، ضمن حيزها الصغير، نوعاً من مثال مصغر لمدينة إسلامية مملوكية متأخرة في الشرق الأدنى. وربما كانت مفتقرة إلى مخلّفات القاهرة التاريخية العظيمة، إلا أن مجموعتها المتراصة من الأبنية الكثيرة المحاذية، وكلها مبنية بأحجار فلسطينية جميلة، توضح على نحو أفضل كثيراً الخليط الشكلي الخاص جداً الذي ميَّز الهندسة المعمارية المملوكية. فالبوابات المعدّة بكامل العناية والتفصيل، والتصميمات المتألقة للجُدُر الحجر، والباحات ذات الإيوان المقنطر الواحد أو أكثر، والقباب أو أنصاف القباب على أقواس مقرنصة، والمحاريب المتعددة الألوان، والخواصر العَرَضية، والأفاريز المزينة بأشكال نباتات غير بسيطة أو النقوش بكتابة عربية حروفها أنيقة وفخمة ومتصلة ومنسرحة، هذه الخصائص البارزة كلها على وجه التقريب تظهر على جميع المباني المملوكية تقريباً. وهي تعكس عادة تقاليد القاهرة أو دمشق الأكثر إبداعاً، لكن في نوعية تنفيذ خاصة وبملامح محلية حولت القدس إلى متحف حقيقي للهندسة المعمارية. وينبغي للمرء أن يضيف أن تلك القرون المملوكية كانت مهمة أيضاً لكونها زمن محاسبة النفس في شأن المدينة. وقد ثُبتت صلاتها الدينية الرئيسية و«الأنس الجليل في تاريخ القدس والخليل» للعلّامة المحلي مجير الدين هو نوع من خلاصة للتاريخ المقدس والدنيوي ودلالة للمدينة بالنسبة إلى مسلم سُنّي ورع.

في هذه المدينة الإسلامية إلى حد بعيد، كان للمسيحيين واليهود مقامهم. فالقبر المقدس كان في أيدي المسيحيين، غير أن مسلماً هو من نظّم إدارته بسبب الصراعات بين السلطات الكهنوتية اليونانية واللاتينية (الرهبان الفرنسيسكان بشكل أساسي خلال تلك القرون) وبسبب ضرورة تضمين حضور مجموعات مسيحية أقل عدداً وسلطة كالأقباط والأرمن واليعاقبة السوريين، وأخيراً الإثيوبيين، الذين مثّلوا، مع ذلك، الجزء الأكبر من سكان المدينة المسيحيين. وقد كان على كلا جانبي القبر المقدس (وما زال) مسجد صغير كانت مئذنته من قبة الحَرَم المسيحي، وبما يعبّر عن سيطرة المسلمين على المنطقة. وكانت سلطة المسلمين ملموسة أيضاً في الطرق التي تولوا بها أمر الحَرَم الذي أعيد بناؤه على جبل صهيون في عهد الصليبيين. وكان معظم الحجاج المسيحيين في تلك القرون من داخل العالم الإسلامي؛ وهناك روايات قليلة فقط لغربيين وصفوا فيها، بوضوح تام أحياناً، المشقات التي انطوى عليها التعبير عن عقيدتهم في القدس. وكان يهود من أماكن كثيرة مختلفة قد استقروا في الجزء الجنوبي من المدينة حول كنيسين، وأخذ النمط اليهودي للتعبد في جوار الحائط الغربي للحَرَم الشريف يطور أشكاله ما قبل الحديثة.

انتهت الحقبة المملوكية عام 1517، عندما استولى السلاطين العثمانيون على سورية وفلسطين وشبه الجزيرة العربية. وكان العمل الحضري الأبرز ذلك الذي قام به سليمان الكبير (ح 1520 ـ 1566) الذي، كسليمان[2] جديد، وجّه عناية خاصة للقدس. فقد رُممت أماكن الحَرَم المقدسة، وحازت قبة الصخرة غلافها الخارجي من الآجر الملون الباهر، ورُمم المسجد الأقصى عدة مرات، وتم ترميم أسوار المدينة على نحو خاص لتكتسب الفخامة التي لا تزال تتمتع بها اليوم. وشيئاً فشيئاً أسّست هيكلية إدارية عثمانية انتشرت مكاتبها في أنحاء المدينة وأقيمت مؤسسات حديثة كالتكيات والنُزُل ومركز تجاري جديد. وواصلت المجتمعات المسيحية التقاتل في ما بينها، ومضى وقت طويل شب خلاله حريق عام 1808 دمر قبة القبر المقدس، قبل أن يتم وضع نظام لإدارة مشتركة بين الطوائف ليعمل بحد أدنى من المواجهات.

وفي القرن التاسع عشر تأسس وجود مسيحي جديد مع نمو إرساليات بروتستانتية وكاثوليكية وأرثوذكسية مرتبطة بدول علمانية؛ ونتيجة لذلك ارتفع في الحي المسيحي من المدينة برج لوثري وآخر كاثوليكي كانا أعلى من المآذن الإسلامية التي هيمنت على كنيسة القبر المقدس الباكرة. كما ازداد المستوطنون اليهود عدداً في ظل الحكم العثماني، فهاجروا أولاً إلى الجزء الجنوبي من المدينة القديمة، قرب الكنيسين، وانتقلوا لاحقاً في القرن التاسع عشر إلى غرب المدينة القديمة أحياناً. هناك، وإلى الشمال، بدأ ينمو عالم من مستوطني الضواحي، أفراداً ومؤسسات، وأذن بتغييرات القرن العشرين الهائلة.

هذه التغييرات كلها، التي يأخذ تاريخها بالبروز إنما ببطء، حوّلت القدس إلى مدينة عثمانية، وهو أمر مغاير تماماً للمدينة الإسلامية القروسطية، إذ حكمتها سلطة دنيوية تحمي مكاناً مقدساً وتصونه. غير أن هذه التغييرات لم تؤثر في المظهر المادي للمدينة المسوَّرة، باستثناء التردي البطيء لبنائها المعماري. وخلال القرن العشرين جرى، وبنجاح تام وكالعادة، ترميم وإصلاح الآثار الإسلامية الرئيسية كقبة الصخرة والمسجد الأقصى والأشرفية والمكتبة الخالدية والقلعة وبعض البوابات المؤدية إلى المدينة. وأُنشئ مسجد جديد تحت الزاوية الجنوبية الشرقية للحَرَم، في ما عُرف عادة بإسطبلات سليمان. وقد وجِّهت إلى هذا البناء انتقادات كثيرة، لأسباب مشروعة جزئياً، لكنه نجح في تلبية حاجات مجتمع إسلامي متوسَّع. ولا يزال القبر المقدس موقعاً للصراعات بين الجماعات المسيحية التي تفصح فيها المجموعات المسيحية المحلية عن نفسها على نحو يفوق ما كانت عليه لمدة قرن واحد أو نحو ذلك. وقد ضمّ حي يهودي حديث، أُعيد بناؤه كلياً في القسم الجنوبي من المدينة، إلى نسيجه نتائج حفريات كبرى وأفلح في البقاء ضمن الحدود الجمالية التي وضعتها المدن القروسطية والعثمانية. إلا أن الجوانب الجنوبية والغربية والشمالية من المدينة تبدلت كلياً والصورة التي كنتُ قد بدأتُ بها هذا النص، أي صورة مدينة مسوَّرة في أعلى متون طبيعية، ولَّت إلى غير رجعة.

كتب ذات صلة:

القدس : التاريخ الحقيقي من أقدم العصور إلى الاحتلال الفارسي

القدس: أورشليم العصور القديمة بين التوراة والتاريخ

المدينة في العالم الإسلامي (مجلدان)