مدخل منهجي:

يندرج البحث في سياق نقاش اجتماعي انطلق في المغرب سنة 2009، ولا يزال قائماً إلى اليوم. ففي سنة 2009 قررت «الحركة البديلة للدفاع عن الحريات الفردية» تنظيم إفطار علني جماعي نهاراً خلال شهر رمضان بمدينة المحمدية. وسنة 2011 نشأت حركة «ماصايمينش» المنبثقة من «التجمع المغربي من أجل الحريات الفردية» مطالبة بإلغاء الفصل 222 من القانون الجنائي[1] المجرِّم للإفطار العلني في رمضان، الذي تم اعتباره «دليلاً على أن الدولة دكتاتورية تفرض على المغاربة الدين منذ الولادة»[2] ولا تلتزم بالحياد، كما تكرِّس التعصب والقولبة السلبية. كما انتقدت الجمعيات الحقوقية والحداثية بشدة فكرة خضوع الأقلية للأغلبية نظراً إلى كون حرية العقيدة حرية فردية بالأساس. الجهات المحافظة من جهتها نددت بهذه المطالب على أساس أنها إهانة لمشاعر المسلمين لأن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، مؤكدة أن الصيام من الثوابت غير القابلة للنقاش. وانطلقت حملات إعلامية ضد من تم تسميتهم قدحياً «وكالين رمضان»، وذلك باسم الدفاع عن «الأمن الروحي للمغاربة» وهويتهم الحضارية.

سنتناول إشكالية الفضاء العام والسلطة انطلاقاً من أطروحة يورغن هابرماس حول المجال العام، الذي يعرِّفه بكونه المجال الذي يعتمد الاستعمال العمومي للعقل والتواصل من طرف الأفراد بوصفهم ذواتاً مفكرة ومواطنين مستقلين ودونما حاجة إلى وصاية خارجية، وذلك من أجل التداول في المصلحة العامة وتشكيل الرأي العام النقدي. لا يمكن تفادي النقاش حول حدود الحريات الفردية داخل هذا المجال حيث إن استعمال العقل، المشترك الإنساني الوحيد بدل العقائد أو الدوغما، يسمح بالتأسيس لقيم أخلاقية مدنية (التسامح) لتحقيق مستوى من الإجماع حول مفهوم الحرية وتكريس «الرغبة في سماع الآخرين والذهنية العادلة لتقرير متى يجب عقلانياً أن يتم استيعاب وجهة نظرهم»[3].

تتأسس هذه العقلانية التواصلية انطلاقاً من «صراع الكليات» (اللاهوت، العقل، التعقل النقدي)، حيث تسعى الدولة لخلق تراتبية معيَّنة بخصوص علاقة الدين بالسياسة (الهيمنة)، في حين أن المجال العام يعمل على خلق قوة المجتمع المدني وتفكيك ثقافة العنف. ولما كان من غير الممكن لجميع المواطنين الاتفاق على رأي معين وشامل للعالم فإن الإجماع يجب أن يتأسس بصورة مستقلة عن جميع العقائد الشمولية كي يكون مقبولاً من طرف المواطنين؛ «فطغيان الأغلبية هو أسوأ الأخطار التي يجب أن تحمي الديمقراطيات الليبرالية نفسها منه»[4]. ينبني المجال العام على الوعي بأن الدولة الحديثة «لا تقر بسلطة الديني أو اللاديني، لا تنفي تفاوت النظرات إلى العالم لكنها محصنة بأخلاق النقاش العمومي الذي يحول دون كسر الرابط الاجتماعي للجماعة السياسية»[5].

تحاول الدراسة مقاربة موضوع الفضاء الاجتماعي والسلطة في المغرب انطلاقاً من ظاهرة اجتماعية (الإفطار العلني) ما فتئت تشكل صدمة للوعي الجمعي «المهيمن»، وذلك من خلال النقاش الاجتماعي الذي نشأ داخل الفضاء العام الافتراضي، والذي تميَّز بجدالية مفرطة، وكذا عبر التمثلات الاجتماعية لفئة من طلبة الجامعة .

ترى أغلبية اجتماعية أن الإفطارَ العلنيَ في رمضان فعلٌ فرداني استفزازي وانفلات من الضوابط الأخلاقية الجمعية، في حين ترى أقلية اجتماعية أنه تعبير عن حق من الحقوق الفردية. يكشف النقاش عن حركية اجتماعية جنينية وعن دينامية جديدة تسائل مفهوم «الهوية الجامعة» في سياق «الهوية المتعددة»، كما يتم اعتبارها توجهاً نحو دمقرطة الفضاء العام مقابل نزعة الإقصاء ومقاومة التحول الاجتماعي والثقافي.

تسمح دراسة النقاش الاجتماعي حول الإفطار العلني بفهم استراتيجيات إنتاج الفضاء العامّ في السياق المغربي في إطار التمييز الذي يقوم به بورديو بين نمطين من المجتمعات حسب الممارسات الاجتماعية السائدة، «فهناك مجتمعات قديمة لا يوجد فيها تنوع في الممارسات، حيث تتسم البنى الموضوعية بالانسجام والثبات الدائم، ويتم إعادة إنتاج البنى العقلية على نحو كامل، وتفرض نفسها باعتبارها صحيحة وشرعية. وهذا الانسجام بين البنى الموضوعية والعقلية يسمى العقيدة السائدة (Doxa)، وفي المقابل هناك مجتمعات متقدمة (صناعية) تتسم بالتنوع في الممارسات… وكذلك تتنوع البنى العقلية، وتتصف عملية إعادة إنتاج الممارسات في هذه المجتمعات بالتعقيد الشديد»[6].

ننطلق في هذه الدراسة من فرضية أن المجتمع المغربي، على غرار أغلب المجتمعات العربية الإسلامية، ينتمي إلى النمط الأول ويتسم عموماً بعدم القدرة على التأسيس لفضاء عمومي يعتمد «الاستعمال العمومي للعقل» وعلى بناء عملية التواصل الاجتماعي. تكشف مسألة الإفطار العلني في رمضان عن نمط صراع للكليات، وتصورات (رؤى للعالم) اعتقادية متنازعة وغير قابلة للتصالح. تنزع الأغلبية الاجتماعية نحو استغلال مكانة الدين ونمط التدين المهيمن لإدامة النسق الاجتماعي السائد من خلال تبرير الإقصاء الاجتماعي الذي يمس الأقلية. يلتقي نمط التدين السائد مع نزوع الدولة إلى تأميم الدين لمصلحتها وتأسيس الوظيفة العمومية للدين.

من جهة أخرى فإن خطاب الأقلية يكشف عن ثقافة اجتماعية جنينية جديدة تنخرط في الصراع على تملك المجال العام، خطاب «لم يكن حاضراً بالدرجة ذاتها من الوضوح قبل المراحل الحديثة، بسبب نمط التديّن الجماعي الملزم الذي فرضته المؤسسة الدينية»[7]، حيث إن «الوعي النظري الفرداني لم يستطع أن يفرض ذاته في منطقة الدين، في مقابل الهيمنة الجماعية للتدين، حيث ظلت المؤسسة الدينية تمارس تنميط الدين في أشكال جاهزة ونهائية، فارضة بذلك سلطة قمع متواصلة على الذوات الفردية»[8] من خلال إدماج الاجتماعي في دائرة المقدس والمتحول داخل الثابت.

يكشف خطاب المدافعين عن حرية الإفطار في الفضاء العام عن صِدام بين التصور التقليدي للفضاء العام وحركة الاجتماع الخام عبر انبثاق وعي اجتماعي جديد ورؤية للعالم تحملها كتلة اجتماعية محدودة عددياً لكنها في تصاعد مطرد، تشكل جزءاً من حركية الهوية والتبديل الثقافي في المجتمع، وذلك في سياق نسق سياسي يخلط الدين بالسياسة. كل هذا يكشف كيف يصبح التديُّن «سبباً لموجات مزمنة من التوتر في الفضاء الاجتماعي الذي يعي ذاته الآن كفضاء أو مجال مستقل عن الفضاء الديني»[9]. سنحاول دراسة الخطاب المحافظ (احتكار الفضاء العام) من خلال استراتيجيات الهيمنة والعنف الرمزي داخل المجال الاجتماعي الافتراضي (كفضاء عمومي بديل) أو من خلال السلوكات الفكرية التي تكشف عنها نتائج استبيان الطلبة. من جهة أخرى سنقوم بتحليل الخطاب التغييري أو الاحتجاجي الذي يسعى إلى تفكيك البداهة الاجتماعية للخطاب الأول وكسر احتكار الفضاء العام من منطلق ديني من خلال اقتراح ترسيم جديد للحدود بين الدين والفضاء العام.

في المنهجية؛ تندرج الدراسة في إطار نظرية الممارسة الاجتماعية وتحليل استراتيجيات الهيمنة والتأبيد الاجتماعي من خلال استملاك المجال أو الحيز الاجتماعي، وذلك كما قام بصياغتها بيير بورديو. تسمح الهيمنة على المجال العام وقواعده بتأسيس رأس المال الاجتماعي (العلاقات بين الفاعلين الاجتماعيين) وكذا رأس المال الثقافي (مجموعة المصادر الثقافية والعادات، والسرديات والأساطير) ويتم تحويل هذين الشكلين من رأس المال، عبر مراكمتهما واستثمارهما، إلى رأسمال سياسي. ينزع المهيمن عليهم نحو استراتيجيات التبديل، بينما ينزع المهيمنون على المجال نحو استراتيجيات المحافظة (الثبات) لإعادة إنتاج بنية التمايز. يفسر بورديو مفهوم إعادة الإنتاج بكونه الآلية التي يحدد من خلالها المسيطرون على الحقل قواعد تدخل الفاعلين بحيث يُحافَظ على علاقات الهيمنة والتراتبية.

تمارَس الهيمنة داخل الممارسة الاجتماعية من خلال العنف الرمزي الذي هو «آلية تشتمل على مجموعة من القواعد تكسب لنفسها صفة الشرعية حتى لا يلاحظها أحد بوصفها عنفاً وترسخ ثقافة الغالب على المغلوب بحجب علاقات القوة التي تؤصل قوته الذاتية، مما يكشف ما لحجم العلاقات الرمزية من حضور فعال وخطير في الوسط الاجتماعي»[10] وهي تشترط الاعتراف بشرعية السلطة والهيمنة و«حقيقتها» من طرف أولئك الذين تمارَس عليهم ويعملون على إعادة إنتاجها بصفة طوعية من خلال اعتراف الأفراد الطوعي بنظام الهيمنة وبداهته. لا تتم ممارسة السلطة الرمزية إذاً «من خلال أشكال الوعي المعرفي الخالص بل عبر خطاطات الإدراك والتقييم والفعل التي تشكل الهابيتوس»[11].

تعتمد إعادة إنتاج الهيمنة على «الهابيتوس»، أي مجموعة الاستعدادات التي يتربى عليها الأفراد بشكل لاواعٍ، والتي تشكل «بنى مبنية مستعدة للاشتغال بصفتها بانية، أي كمبادئ مولدة ومنظمة لممارسات وتمثلات»[12]؛ وتتخذ «شكل خطاطات إدراك وأفعال بفعل التناقل عبر التنشئة الاجتماعية للفرد»[13]. يسمح الهابيتوس بتفسير تقاطع السلوكات الفردية مع الحتميات المتعالية، بحيث يتحرك الأفراد داخل المقولات الاجتماعية المسموح بها في إطار الديمومة والاستمرارية.

يتحول الهابيتوس، كنظام قيمي مستبطن ومتعالٍ (Ethos)، إلى وسيلة لشرعنة الهيمنة، الجبريات أو اللامساواة من خلال إظهارها كبداهة اجتماعية، لذلك «فإن تحليل كيفيات تقبُّلنا التلقائي للآراء والمعتقدات المتداولة في عالمنا الاجتماعي، هو الأساس الحقيقي لنظرية واقعية حول السيطرة وحول السياسة. وذلك بسبب التوافق المباشر بين البنيات الموضوعية والبنيات الذهنية»[14].

تعتمد الدراسة على تحليل مجموعة خطابات (تعليقات، ردود وتحليلات) تم تجميعها عبر مجموعة من المواقع الإلكترونية، كما تعتمد مجموعة معطيات محصَّلة من عملية استبيان لآراء عيِّنة من طلبة الجامعة (كلية الحقوق، جامعة محمد الأول، وجدة، المغرب) بشأن هذه الظاهرة الاجتماعية وبشأن نمط السلطة الذي يجب أن يحكم الفضاء الاجتماعي (أحادي أو تعددي). تم جمع المعطيات الخامة (التعليقات) من خمسة مواقع إلكترونية عقب نشر مقالات تحليلية حول ظاهرة «وكالين رمضان»: موقع هسبريس (شهرا أيار/مايو وحزيران/يونيو 2016)؛ أريفينو (أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2009)، بديل (17 حزيران/يونيو  2016)، تليكسبريس (8 تموز/يوليو 2013)، أخبارنا 24 حزيران/يونيو 2016).

سنعتمد على بعض المؤشرات الكمية ولكن سنعتمد أساساً على التحليل الوظيفي للمقولات التي تعبر عنها التعليقات أو التي تكشف عنها إجابات الطلبة، أي تحليل هذه المقولات بوصفها استراتيجيات أو خطاطات إدراكية ذات قصدية محددة في سياق الهيمنة على الفضاء العام.

أولاً: النتائج وتحليلها

 

1 – النتائج

– العدد الإجمالي للتعليقات حول الظاهرة = 240: عدد الرافضين لظاهرة الإفطار العلني في رمضان: 177 مقابل 63 ممن الذين يقبلون بظاهرة الإفطار العلني في رمضان.

أ – المقولات التي تم استثمارها عند الفئة الأولى

– المس بالثوابت: 14؛

– استفزاز الصائم: 15؛

– منطق الأغلبية: 25؛

– العمالة والخيانة: 6؛

– زعزعة العقيدة ومقدسات: 10؛

– الدستور: 10؛

– الفتنة والمؤامرة: 20؛

– تهديد التماسك الاجتماعي: 18؛

– خرق الإسلام: 12؛

– انسلاخ عن الهوية: 3؛

– الشذوذ والفسق: 25؛

– ضرورة الاستتار: 48؛

ب – المقولات التي تم استثمارها عند الفئة الثانية

– عدم صحة ولامنطقية فكرة الاستفزاز: 24؛

– احترام الأقلية: 10؛

– الفردانية والحرية: 17؛

– المنع خطاب أيديولوجي: 4؛

– النفاق الاجتماعي: 10؛

– الفصل بين الدين والمجال العام: 8؛

  ج – عدد الطلبة المستجوَبين:  100.

– هل تعتقد(ين) أن الإفطار العلني في رمضان يعتبر خرقاً للقانون، لماذا؟

– نعم: 85؛

– لا: 15؛

– هل تعتقد(ين) أن الإفطار العلني في رمضان يعتبر عملاً لاأخلاقياً، لماذا؟

– نعم: 99؛

– لا: 1؛

– هل تعتقد(ين) أن الإفطار العلني في رمضان يهدد تماسك المجتمع المغربي، لماذا؟

– نعم: 74؛

– لا: 26؛

– هل تقبل (ين) بفعل الإفطار العلني في رمضان بصفته سلوكاً مرتبطاً بالحريات الفردية، لماذا؟

– نعم: 20.

– لا: 80.

– إذا كان المفطرون علناً في رمضان يشكلون أقلية، فهل تعتقد أنهم يجب أن يخضعوا لإرادة الأغلبية وقناعاتها، لماذا؟

– نعم: 64؛

– لا: 36؛

2 – تحليل النتائج

أ – الرؤية الأُحادية للمجال العام

(1) تحليل التعليقات على المواقع الإلكترونية:

سنعرض النتائج على شكل مقولات تعكس الخطاطات الإدراكية التي توجه استراتيجيات الهيمنة على الفضاء العام وإعادة إنتاج العنف الرمزي من خلال شرعنة فعل الإقصاء من هذا الفضاء. مجمل هذه الخطاطات تكشف عن تجذر الهابيتوس الاجتماعي الذي يظهر سلوك الأفراد الاجتماعيين أمام وضعية جديدة تخرق هندسة المجال العام (الإفطار العلني)، فتتم إعادة إنتاج قواعد الهيمنة بطريقة طوعية (تقسيم تفاضلي وتكريس هيمنة الأغلبية) واعتبارهما نوعاً من البداهة الاجتماعية.

(أ) تأبيد بنية المجال الاجتماعي عبر مقولة المقدس وشرعنة بداهة القواعد الاجتماعية:

– «مس بقدسية هذه الممارسة الدينية»؛

– «هذا ما يسمى الفتنة العلنية وزعزعة عقيدة المسلمين»؛

– «يخل بالدين والثوابت»؛

– «التمادي على العادات والتقاليد والتعاليم الإسلامية»؛

– «محاولاتكم الفاشلة لن تجدي في طمس هوية بلدنا»؛

– «المغرب بلد مسلم منذ الأزل»؛

– «الخبرة الاجتماعية الطويلة والتشكل الحضاري التاريخي الذي أشرت إلى بعض مكوناته هو الذي يصادم هذه التعبيرات الهوياتية المستفزة وغير الناضجة والتي ستمر كما مر غيرها»؛

يتم تمثل الحدود بين ما هو مسموح أو مفكر فيه اجتماعياً بوصفها معطيات دوماً قبلية ومتعالية، أي كجزء من البداهة الاجتماعية والتقعيدية للمجتمع. ويتم اعتبار الإقدام على خرق قاعدة الامتناع عن الأكل في الفضاء العام مبرراً للتمييز واللامساواة، ولا يتم إدراج منطق «المهيمن عليه»، مما يشير إلى عدم القدرة على الاستعمال العمومي للعقل وسيطرة الإيتوس الاجتماعي كنسق يقدم نفسه بصفته متعالياً.

نلاحظ سيطرة الخطاطة الإدراكية التي تدعم ثبات واستمرارية بنية المجال الاجتماعي أو الديني، حيث مقولة «الثابت» تسمح بنبذ «المتحول» في إطار الثابت الاجتماعي، وتتم المماهاة بين الثبات الاجتماعي و«الدين» كحامل لمجموعة من المقولات حول التعالي والمفارقة. نلحظ أيضاً مقولة التقاليد والعادات، التي لا يتم تقديمها بوصفها مجموعة «أعراف اجتماعية» بل، عن طريق الهابيتوس المستبطن، كمرادف لنظام ديني يستعصي عن كل تحول (ثوابت جامعة للأمة).

كما أن مقولة «الهوية» تدعم فكرة الثبات الاجتماعي، رغم أن التعليق الأخير يقر بأنها تتشكل في إطار سياق تاريخي اجتماعي وتشكل حضاري، لكنه يرفض التمظهرات الجديدة للهوية ويتم اعتبار مسألة الحريات الفردية مجرد هوية عابرة بالمقارنة مع الهوية الثابتة.

يتمثل هذا الخطاب ممارساته الاجتماعية خارج الاجتماع، وتسمح مقولة «الأزل» بتفادي الوعي بالجبريات الاجتماعية واعتبار الهويات داخل سياقاتها الاجتماعية وديناميتها، مما يشكل تمثلاً لااجتماعياً للهوية. لهذا يتم اعتبار بنية المجال العمومي والممارسة الاجتماعية (الامتناع عن الأكل في المجال العام) معطى نهائياً، وإمكان ممارسة اجتماعية متمايزة داخل المجال العام نفسه شيئاً لا مفكراً فيه، من «البديهيات التي لا تناقش». تسمح هذه الخطاطة الإدراكية بممارسة عملية الضبط الاجتماعي، لذا فإن «المعتقدات والممارسات وما يرافقها من أحاسيس عارمة، ليست في نهاية المطاف سوى تعبيرات خارجية عن حاجات وضرورات اجتماعية»[15].

(ب) الاستبعاد خارج الفضاء العام:

– «بغيتو تاكلو رمضان سيرو لإسرائيل أما المغرب راه دولة إسلامية»؛

– «يأكل أو يصوم في بيته ولا يستفز شعور المسلمين»؛

– « فمن يرد أن يفطر فليدخل إلى بيته ويفعل ما يشاء»؛

– « فإذا ابتليتم فاستتروا»؛

– «من أراد إفطار رمضان فله ذلك، فقط عليه التواري عن الناس»؛

يعبر المتدخلون عن رفضهم لعدم الامتثال لقاعدة المنع الاجتماعي خلال شهر رمضان، الذي يشكل طقساً اجتماعياً يسمح للأفراد بالتماهي مع تمثلاتهم الاجتماعية، وذلك انطلاقاً من أن سلوك المفطرين يؤكد الإبراز (ostentatoire) داخل مجال لا يُسمح فيه إلا بنمط وحيد من الإبراز (mono-ostentatoire). كما يتم اعتبار هذا السلوك الاجتماعي سلوكاً غير نابع من المجال الاجتماعي، دخيلاً عليه وتهديداً لثباته. لذا يجب الدفع به خارج المجال الاجتماعي المرئي نحو المجال الخاص (الاستتار كمعنى قدحي، أي الفعل الخارج عن القواعد الأخلاقية المنضمة للمجال العام) أو نحو ما يتم اعتباره نقيض المجال الاجتماعي المغربي (إسرائيل). يتم الإقرار بتقسيم تفاضلي لا يستوعب معنى الفضاء العام في الدولة الحديثة، فالفضاء العام هو للمسلمين فقط، باعتبارهم «جماعة مغلقة» وأغلبية.

(ج) العنف العقدي:

– « فئة ضالة»؛

– «لا يمكن أن نطرد الأغلبية المسلمة ليعيش 0.1 بالمئة من الكفار»؛

– «تذكر أنك في بلد إسلامي. لا يشرِّفنا أن يكون في مجتمعنا الملحدون ولا نكنّ لهم إلا الكراهية»؛

– « هؤلاء الذين غيروا دينهم من الإسلام إلى دونه هم في حكم الشرع مرتدّون وحكم المرتد أن يستتاب ثلاثاً وإلا يشهَّر به ويقتل»؛

– «المغاربة إما مسلمون أو يهود أو نصارى؛ أما من لا دين له فلا مكان له في هذا البلد وليذهب إلى إسرائيل أو فرنسا أو إلى الجحيم»؛

– «السماح لهم بذلك شرط أداء الجزية باعتبارهم غير مسلمين»؛

يتم التعامل مع المجال الاجتماعي بوصفه متطابقاً تماماً مع المجال الديني، ويتم اعتباره مجالاً موحداً ومتجانساً. لذا تعتمد الهيمنة الاجتماعية وفعل الإقصاء ثنائيات دينية كلاسيكية تم ويتم استثمارها لخوصصة المجال العام لمصلحة الجماعة المهيمنة. يعتبر الأفراد الاجتماعيون، المستبطنون للعنف الرمزي (المفطرون) دخلاء قادمين من خارج الجماعة الدينية، مما يفسر العنف العقدي الممارس ضدهم من خلال مقولات كالضلال، الكفر، الردة ، الإلحاد، اللاديني، السفهاء، الكراهية. بطريقة غير مباشرة فإن المقولة الدينية المستعملة هي مقولة «الولاء والبراء» التي تسمح بترسيم الحدود المجالية مع «الآخر». كما يبرز العنف الرمزي من خلال العنف اللغوي: «يطرد، يقتل». أما عبارة «إسرائيل أو الجحيم» فهي تتمثل المجال العمومي في علاقة تضاد مطلقة مع المجال «الآخر» الذي يتم استيهامه انطلاقاً من المقولات الدينية (أعداء الدين والأمة).

(د) فوبيا الاختلاف ومقولة الفتنة:

– «بخصوص الإفطار في العلن فإنه غير مقبول وهذا سيؤدي في الأخير إلى العنف»؛

– «تهديد للسلم الاجتماعي، ودعوة للفتنة»؛

– «حذارِ من الفتن والفتنة نائمة لعن الله من أيقظها»؛

«كلما رأيت المهاجرين السوريين (رجال نساء وأطفال) يتسولون في المدارات، إلا وحمدت الله على استقرار بلادنا وهزّني خوف من فقدانه. وهذه الفئات الأقلية هي من العوامل التي تهدد هذا الاستقرار»؛

– « إنهم يسلطون معاول الهدم على اللحمة التي تربطنا وتجعلنا بكل فخر لا نقتل بعضنا البعض»؛

يتم تمثل الممارسة الاختلافية وتنوع المجال العام واختلاف الممارسات الاجتماعية (بروز الممارسات اللادينية) كعلامة تفكك واختراق لبنية المجال الاجتماعي وكتهديد لانسجامه وللنظام الذي يضمن له الثبات الاستمرارية. هناك مقولتان يتم استثمارهما: الاستفزاز والفتنة. الأولى، تعني أن بنية المجال الهيمنة الذاتية تجعله غير قابل للاختلاف والتنوع؛ أما الثانية، فهي مقولة كلاسيكية ذات استعمال مفرط عموماً في المجال العربي الإسلامي للتعبير عن رهاب الاختلاف وهاجس التأحيد، وهي خطاطة إدراكية بنائية جداً في نمط التمثلات. تكشف هذه الخطاطة عن حضور الهابيتوس الذي يسمح باستبطان الهيمنة من طرف الأفراد الاجتماعيين الذين يعملون على إعادة إنتاج السيطرة على المجال العمومي والشرعنة الأيديولوجية لعملية الإقصاء، وكذا وفرض التديُّن السائد. كما تكشف هذه التعليقات عن الترابط بين الشعور بعدم الأمن (الفتنة والحرب) واللجوء للمقولات الدينية الانغلاقية.

 

 (هـ) القسرية كبداهة اجتماعية، منطق هيمنة الأغلبية:

– «فأي حرية إلا ولها حدود»؛

– «لا تمارس حريتك على حساب حرية الآخرين»؛

– «الحرية المطلقة = مفسدة مطلقة»؛

– «انتهاك لحرية الآخر»؛

تكشف هذه المقولات عن قيام الأفراد الاجتماعيين بإنتاج تأويل خاص لمفهوم الحرية داخل المجال العام وللعلاقة بين الفرد وقوانين الفضاء العمومي، تأويل يعتمد على مبدأ الضبط انطلاقاً من معايير تحددها الأغلبية ولا تنبع من الاستعمال العمومي للعقل وللتعاقد (الحدود والاحترام)، ويتم الخلط بين احترام المعتقدات وبين ممارسات مختلفة داخل الفضاء العام. كما تكشف عن هيمنة منطق الأغلبية العددية، وهو ما يفسر التمثل الميكانيكي والتبسيطي كميزة لأغلب الخطاطات الإدراكية التي يكشف عنها الأفراد الاجتماعيون:

– «استفزازاً للمسلمين الدين يمثلون الأغلبية الساحقة في المغرب»؛

– «ما دمنا في بلد مسلم أكثر من 99 ‎بالمئة‎ مسلمون فاحترامهم واجب».

– «كم تمثل هذه الشرذمة في المجتمع حتى تطالب بإلغاء القوانين»؛

– «القانون جاء لحماية الصائمين فالمغرب فيه 99 في المائة صائمون»؛

– «الديمقراطية هي احترام الأغلبية»؛

– «الفصل 222 الهدف منه هو ضمان الأمن الروحي للأغلبية»؛

يتم التشديد على المنطق العددي مع عبارات تفيد أن التفوق العددي مبرر بديهي لفرض الهيمنة المجالية على الأفراد من أجل إنتاج السلوك الاجتماعي نفسه. وتكشف المقولات عن تصور لبداهة ممارسة الهيمنة وعدم الاعتراف بالحق في الولوج للمجال العام للأفراد الذين يرفضون الانخراط في النسق الجمعي القاعدي. تكشف هذه التعليقات عن ميكانيزمات ترسيخ ثقافة الولاء للعصبية وتكريس الثقافة الرعوية، «فأنت مقبول وتحظى بالرعاية والحماية… بمقدار رضوخك للعصبية والولاء لها. وإذا لم تفعل فأنت غير معترف بك، بل تكون في أغلب الأحوال معرّضاً للنبذ»[16].

يتم التعبير عن هذا التصور التأحيدي للمجال العام أيضاً من خلال مجموعة من المقولات التي تعتبر من أكثر الخطاطات الإدراكية استعمالاً وتكريساً داخل النسق التربوي من أجل تبرير جميع أنماط الهيمنة (العقائدية/ الدينية والسياسية) داخل الفضاء الاجتماعي أو العمومي، وهي جزء من رأس المال الثقافي الذي يقوم الأفراد بإعادة إنتاجه: مقولة الأمة أو الدولة الإسلامية كنوع من وحدة الفضاء العام كعقيدة جمعية:

– «تحدي مشاعر الأمة»؛

– «فالمغرب دولة إسلامية وليست علمانية أو مسيحية»؛

(و) الاستيهام الاجتماعي: عقدة المؤامرة كاستراتيجية إقصائية: يقوم الأفراد الاجتماعيون باستعمال مجموعة من المقولات التفسيرية من أجل إظهار عدم الانتماء الجذري (non endogène) لظاهرة الإفطار، كممارسة الاجتماعية، وخارجيتها الجذرية (exogène) عن الفضاء الاجتماعي العمومي، أي أنه لا يمكن أن يكون نتاجاً للبنية. يمكن اعتبار هذه المقولات، من وجهة نظر أنثروبو-اجتماعية، استراتيجيات تنميطية (stéréotype) لها وظيفة اختزالية تسمح بتفادي الوعي بتعقيد كل نظام اجتماعي وعدم إمكان تجانسيته المطلقة. كما أنها جزء أساسي من الهابيتوس المكرس في الثقافة الشعبية ومن رأس المال الثقافي داخل الإسلام الشعبي أو حتى الإسلام السياسي:

– «يأخذون المال من جهات خارجية كي يزعزعوا عقيدتنا»؛

– «جمعيات ممولة من أجل نشر الفتن وقتل العقيدة في قلوب المسلمين»؛

– «أنتم مجرد دمى تسخركم دول ومنظمات لزرع الفتنة والبلبلة»؛

– «بتحركهم قوى كبرى خارجية صهيونية هدفها زعزعة امن بلدان المسلمين وإثارة الاضطرابات»؛

– «لخدمة أجندات خارجية تحاولون المس بالدين ورتق النسيج المجتمعي المغربي»؛

تسمح مقولة العمالة والخيانة بشرعنة فعل الإقصاء والنبذ وكل أنماط العنف المرتبطة به، وتكشف عن خطاطة إدراكية تستعمل مفهوم الغيرية بصفته جزءاً من استراتيجيات الاستيهام الاجتماعي ومن أنماط التديّن وصيرورتها المكرسة اجتماعياً: جهات أجنبية، جهات خارجية، أعداء الدين، قوى صهيونية، اللوبي، أجندات خارجية… يمكن فهم مجمل هذه المقولات كتمظهرات لخطاطة إدراكية متجذرة جداً ومرتبطة بتمثل الفضاء الاجتماعي الموحد «النسيج» كفضاء للخيرية المطلقة يجب أن يكون قادراً على الحفاظ على نقائه وكماله ضد التهديدات التي تشكلها الـ«غيرية». يمكن اعتبار عقدة المؤامرة جزءاً من الأساطير الاجتماعية والسرديات المؤسسة لرأس المال الثقافي، بالإضافة إلى مقولات أخرى كالخلافة (الاستيهام التاريخي): «متى تعود الخلافة حتى يتعلم هؤلاء ماذا تعني الحرية؟».

(ز) الاستيهام الاجتماعي: المانوية كخطاطة إدراكية لشرعنة الإقصاء:

– «ترتبط خيرية هذه الأمة ارتباطاً وثيقاً بدعوتها للحق، وحمايتها للدين، ومحاربتها للباطل»؛

– «استفيقوا يا أيها المغاربة؛ الماسونية تدخل من بني جلدتكم»؛

– «أعمال الشيطانية»؛

– «يتشبثون بانفصالهم عن الدين والأصول وتعلقهم بحضارة الغرب الإباحية»؛

– «المدافعون عن الإفطار العلني في رمضان، وعن المثلية، والحرية الجنسية، والمناصفة في الإرث وعن محاربتهم للقيم الإسلامية»؛

– ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّـهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ[17]؛

– «هؤلاء الأوباش والدعارة، الخيانة الزوجية، العري، اللواط، زواج المثليين، جمعيات أبناء الزنا»؛

– «مع الشواذ عقائدياً وفكرياً وحتى جنسياً بحكم أنهم ملة واحدة»؛

– «ما هو الفرق بين الإفطار العلني وممارسة الجنس في الشارع العام»؛

تشكل مقولة الثنائية القيمية أو المانوية (Manichéisme) (الخير ضد الشر) مدخلاً لدراسة التمثلات الثقافية والخطاطات الإدراكية المشكلة للهابيتوس الاجتماعي الذي يعمل على إعادة إنتاج آليات الهيمنة الاجتماعية من خلال شيطنة الأفراد الذين يرفضون الانصياع لقوانين الضبط والتأحيد الاجتماعي، ما يسمح بشرعنة التمييز الاجتماعي انطلاقاً من بداهة التفوق القيمي المطلق للفضاء الاجتماعي الداخلي. ينتج الهابيتوس سياجاً دوغمائياً «يرتكز على ثنائي ضدية عادة هي نظام من الإيمان أو العقائد ونظام اللاإيمان واللاعقائد… ولذلك فهي تدخل في دائرة الممنوع التفكير فيه أو المستحيل التفكير فيه وتتراكم بمرور الزمن والأجيال على هيئة لا مفكر فيه»[18].

يمكن أن نلاحظ كيف أن شرعنة الإقصاء الاجتماعي والتشديد على الغيرية الاجتماعية المطلقة لـ«وكالين رمضان» تعتمد مجموعة من المقولات القدحية المكرسة اجتماعياً: الماسونية، الشذوذ، الإباحية الجنسية والأخلاقية، الشذوذ العقائدي، الانحراف الأخلاقي. تكشف المقولات أيضاً عن الحضور القوي للنص الديني كنوع من الحجاج الذي يسمح، بوصفه جزءاً أساسياً من رأس المال الثقافي، بمنح البداهة للخطاطات الإدراكية الإقصائية. مما يبين العجز عن الاستعمال العمومي للعقل وهيمنة فهم أحادي للأخلاق وللحرية (الوصاية على الأفراد)، لذا فإن كل ما يرفض الاندراج داخله يتم الدفع به لخانة اللاأخلاق.

(2) تحليل نتائج الاستبيان:

يسمح تحليل مختلف الخطاطات الإدراكية التي تهيمن على إجابات الطلبة بالكشف عن توازي بين إجاباتهم والتعليقات المستقاة من مواقع التواصل الاجتماعي، مما يؤكد فرضية أن المؤسسات التربوية تشكل مجالاً لإعادة استراتيجيات الهيمنة والعنف الرمزي.

(أ) تأبيد بنية المجال الاجتماعي عبر مقولة المقدس وشرعنة بداهة القواعد الاجتماعية

– «خرق للقانون ولأمر الله عز وجل»؛

– «خرق للشريعة وليس للقانون»؛

– «لأننا بلد تحكمه أعراف وتقاليد»؛

– «القانون مأخوذ من الشريعة الإسلامية»؛

– «لأننا نعيش تحت ضوابط الشريعة»؛

– «لأننا مجتمع محافظ»؛

تقوم مجمل المقولات بتمثل القوانين التي تحكم الفضاء الاجتماعي على أنها قوانين ثابتة، تؤسس من خارج الصيرورة الاجتماعية أو الاجتماع الخام، فتصبح الثقافة الاجتماعية هي القانون المطلق والثابت. تشكل هذه المقولات خطاطة إدراكية مكرسة جداً داخل الهابيتوس كما تتجلى من خلال المقولات الدينية المحضة مثل «الشريعة». يتم «تديين» القوانين الاجتماعية (ليس هناك نصوص دينية تقر بعقوبة ضد الإفطار العلني) وذلك بإدراجها داخل مقولات أصول الدين و«القانون الإلهي»، ويتم تمثل الشريعة كنظام اجتماعي غير قابل للتغيير، كما يتم تمثل القوانين الوضعية (منع الإفطار) في إطار مقولة الثبات. هكذا تتم إعادة إنتاج بنية المجتمع عبر مقولتي المحافظة أو التقليد.

(ب) تطابق وحدة الجماعة وحدة الفضاء العام

– «لأن القانون يحمي عقيدة المجتمع»؛

– «خرق للقانون والشريعة لأنا نعيش في دولة إسلامية»؛

– «لأن رمضان عبادة جماعية»؛

– «لا يعقل أن تصوم فئة عريضة وتفطر شرذمة»؛

– «لأن الدين هو ما يجمع الشعب»؛

– «لأنهم ينتمون للدولة الإسلامية»؛

– «لأن المسلمين في رمضان لهم مسار واحد ولا يجوز أن يخترق هذا المسار لأنهم داخل بلد إسلامي» يمكن أن نلاحظ أن المقولة المهيمنة على إجابات الطلبة هي مقولة الإسلام «دين ودولة»، وهي مقولة سياسية وثقافية متجذرة، تحولت بسبب بداهتها المكرسة اجتماعياً إلى خطاطة إدراكية وجزء من الهابيتوس الاجتماعي. تسمح هذه المقولة بشرعنة فكرة نظام اجتماعي شمولي لا يفترض تعاقد الفاعلين الاجتماعي (ينتمون) ما دام أنه يتأسس من خارج الاجتماع الخام (التعالي الديني). تتم المماهاة بين القانون والشريعة، ويصبح الدين هو أساس الروابط الاجتماعية (يجمع)، بل ويتم اعتبار الممارسة الدينية ممارسة جماعية. لذا يتحول الدين إلى قانون اجتماعي ملزم يتم التعبير عنه بـ «المسار» الذي لا انحراف عنه. تبدو هذه المقولات مكرسة داخل المنظومة التربوية كما هي داخل مرجعيات الإسلام السياسي.

(ج) الاستبعاد من الفضاء العام

– «ليس في وسط عمومي»؛

– «لا فقط في السترة»؛

– «يمارسها بصمت دون أن يراه أحد»؛

– «فردية لكن ليس علناً»؛

تكشف مقولة «الاستتار»، أي الدفع بالممارسة الاجتماعية (الإفطار) نحو المجال الخاص، أن المنظومة التربوية تقوم بإعادة إنتاج استراتيجيات الهيمنة الاجتماعية واحتكار الفضاء العام، وأنها عاجزة عموماً عن إنتاج آليات جديدة لمساءلة ما يتم اعتباره بداهة اجتماعية (رغم عدم بداهته الدينية) وتفكيك قوانين الهيمنة والعنف الرمزي. تتم شرعنة احتكار الفضاء العام اعتباراً للهوية الجامعة التي يتم افتراضها بداهة، ويتم تحويل ممارسة اجتماعية يفترض أن تكون عادية (مجال السلوكات الطبيعية) إلى ممارسة مضادة للقوانين الاجتماعية من دون افتراض أي إمكانية للتبادلية، أي استبعاد السلوكات الاجتماعية التي تعتبرها الأقلية صادمة لنظامها العقدي.

(د) أحادية النظام الأخلاقي

– «لأن القواعد التي تجمعنا ذات مصدر ديني»؛

– «يسيء لأخلاقيات الدين الإسلامي»؛

– «خروج عن القواعد العامة للمجتمع»؛

– «لأن الأخلاق ترتبط بالدين الإسلامي»؛

– «الحرية ضد الأخلاق»؛

تم اعتبار فعل الإفطار العلني في 99 بالمئة من الإجابات فعلاً لاأخلاقياً وغير متوافق مع المنظومة القيمية التي تحكم العلاقات داخل المجتمع. تكشف الإجابات عن استراتيجية هيمنة، وهي اعتبار السلوك الاجتماعي سلوكاً غير نابع من بنية المجال ودخيلاً (exogène)، مما يسمح بشرعنة الإقصاء وخلق علاقات التفاضل والتراتبية. يمكن تحليل هذه الإجابات كانعكاس لخطاطة فوبيا الاختلاف وهاجس التأحيد المتجذرة في العقل الاجتماعي العميق، لكنها تكشف أيضاً عن خطاطة أخرى يمكن أن نطلق عليها اسم التوحد القيمي (autisme axiologique)، تفترض وجود نوع واحد فقط من الأخلاق (morale et non éthique)، أخلاق متعالية مصدرها التعاليم الدينية وتنفي إمكان وجود أخلاق مرتبطة بتعاقد اجتماعي كمواطنين أحرار حول القوانين التي من المفترض أن تحكم المجال العام (Morale immanente). كما تفترض هذه الخطاطة أيضاً انتماءً «قسرياً» لمنظومة عقدية حولها هابيتوس البداهة إلى منظومة اجتماعية (القواعد العامة).

(هـ) رهاب الاختلاف ومقولة الفتنة

– «يخلق افتراقات بين المواطنين ويهدد الوحدة والهوية الوطنية»؛

– «خلق فتنة»؛

– «ستخرج طوائف»؛

– «يضيع المجتمع وحروب دينية»؛

– «يزعزع البنية المجتمعية»؛

– «يؤدي إلى الانحلال الأخلاقي للأجيال الصاعدة نزاعات وقتال»؛

– «إذا لم يتم ردعهم سوف يتم تقسيم المجتمع»؛

يتم ربط الاختلاف أو التمايز داخل الفضاء العمومي بمقولة متجذرة في المخيال الثقافي والديني للمواطن المغربي والمسلم عموماً، وهي الفتنة، أي تشظي وتفكك الفضاء الاجتماعي، مما يبين كيف أن الطالب المغربي يتمثل الوحدة الدينية والتماثل الديني بوصفهما الشرط الوحيد للحفاظ على النظام واستمرارية الفضاء الاجتماعي. تكشف هذه الخطاطة الإدراكية بوضوح كيف أن المنظومة التعليمية تعيد إنتاج الاستراتيجيات الفكرية التي تسمح بإدامة الهيمنة على المجال العمومي وممارسة السلطة عبر مجموع الرساميل التي تتم مراكمتها داخل المجال الاجتماعي.

(و) مقولة العدوى الاجتماعية

– «هناك من سيتبع هذا الشخص في خطئه»؛

– «قد يتحول السلوك إلى عادة»؛

– «يؤدي بهم كلهم إلى الإفطار»؛

يمكن تحليل هذه المقولة على أنها تصور ميكانيكي للتنظيم الاجتماعي، تصور مبني على خطاطة إدراكية لاواعية تفترض أن استمرارية بنية المجال الاجتماعي رهينة بالتجانس المطلق للسلوكات الاجتماعية والتصورات الدينية التي تحيل إليها. من جهة أخرى يمكن قراءة هذه المقولات كاستراتيجية لإضفاء طابع الكارثية (Catastrophisation) على كل تغيير في آليات الضبط والقمع التي تحكم الفضاء العام.

(ز) الحرية بوصفها لامفكَّراً فيه اجتماعي (impensé social)

– «لا حرية في الدين»؛

– «تنتهي حريتك عند حرية الشخص الآخر»؛

– «حرية فقط في المجتمعات غير الإسلامية»؛

– «المسلم ليس له حرية فردية»؛

تبين الإجابات الوظيفة الضبطية للهابيتوس الذي يتحكم في طريقة تمثل الطلبة لمقولة الحرية في الفضاء العام، حيث يقوم بتحديد ما هو مفكَّر فيه وما هو لامفكر فيه بوصفه خارج بنية الفكر الاجتماعي المهيمن (المماهاة مع الدين). يتم اعتبار الحرية خارج النظام الاجتماعي سلوكاً لاأخلاقياً فضلاً عن أنها خرق لقوانين المجتمع، وذلك رغم ارتباطها بغريزة طبيعية (الأكل والشرب). يتم اعتبار المفطرين علناً في رمضان في وضعية خرق لحرية الآخرين، وتنبني هذه الفكرة على تمثل للحرية مرتبط بتجانس وتأحيد تام للمجال العام.

(ب)- التصور التعددي للمجال أو الفضاء العام

(1) – التعليقات:

(أ) تفكيك مقولة الاستفزاز والهيمنة العرفية :

– «مجرد علاقة وصل بين السماء والأرض كالصلاة تماماً… من فرّط فيه فلا ضرر على المجتمع بهذا التفريط… لا إكراه في الدين فليأكل وليشرب كما يحلو له حتى وإن كان فعله على الأشهاد»؛

– «أما قضية الاستفزاز كما تدعون فهذا تبرير خاطئ. والسبب أن أربعة ملايين مهاجر مغربي يعيشون في أوروبا، لم نسمع من أحدهم يوماً أن النصارى يستفزونه عندما يراهم يأكلون في نهار رمضان؛

– «الذي يعتبر الإفطار استفزازاً له وزعزعة لعقيدته، هو في العمق من يريد أن يفرض معتقداته على كل الناس بالجبر، أو بصريح العبارة المتعطش إلى الاستبداد والتسلط والاستعباد. فهل يجوز لك أنت أن تزعجني بصلواتك في الشارع وتفزع أطفالي بمكبِّر الصوت عند كل فجر… وتمنعني أنا أن أفطر كما أشاء؟ بل تلزمني أن أستتر. ولماذا لا تستتر أنت؟».

يتم تحليل المنع، سواء من طرف الصائمين أو من غير الصائمين، كاستراتيجية هيمنة لا تمنح الفعل الاجتماعي أو السياسي القسري أي نوع من البداهة، فهو، كعرف أو توافق، ينبع فقط من الاستعدادات التي يتضمنها الهابيتوس. لذا فإن سلوك المنع لا يكتسب معناه من المنطق الديني بل من المنطق الاجتماعي. تكشف التعليقات أيضاً عن فصل بين المستوى الديني والمستوى الاجتماعي مما يسمح بدحض فكرة تهديد الفضاء العمومي بسبب سلوك اجتماعي مختلف ما دام فعل الصوم لا ينتمي أصلاً لهذا الفضاء (لا ضرر).

لأجل إبراز استراتيجية الهيمنة التي يعتمد عليها فعل المنع داخل الفضاء العام بالمغرب تقوم بعض التعليقات بتحليل اجتماعي مقارن مع مجال عمومي آخر حيث الفعل الاجتماعي الديني لا يتناقض مع تنوع وتمايز الفضاء الاجتماعي، مما يعني أن مقولة «الاستفزاز» أو «الإهانة» أو الازدراء هي مقولة ثقافية ولا تحيل على بداهة وضع يقدمه التيار المحافظ على أنه من تقاليد «الجماعة» وثوابته بل إنه من «طبيعة المجتمع».

(ب) تفكيك خطاطة الأغلبية:

– «الحقيقة هي أن المجتمع مبني على أقليات وليست هناك أغلبية. فالهوية الإسلامية نفسها مقسومة إلى مسلمين عقلانيين وعلمانيين ومسلمين متعصبين»؛

– «في مجتمعنا يلاحظ أن الهوية الدينية تكون مهيمنة على باقي الهويات المجتمعية الأخرى مما يحول دون بناء جيد لهوية مغربية شاملة… وبالتالي على الهوية الاجتماعية المهيمنة أن تتخلى عن بعض أفكارها تفادياً لهيمنة الفكر الأحادي»؛

تكشف التعليقات عن تحليل مفاده أن مقولة الأغلبية لا تملك البداهة الاجتماعية التي نجدها في الخطاب الاجتماعي المهيمن، وتؤكد أولوية مقولة الاختلاف على مقولة التجانس مع اقتراح البحث عن معيار جديد لبناء النسيج الاجتماعي خارج الهويات الدينية أو اللادينية. كما أن تفكيك استراتيجية الهيمنة يتم عبر الكشف عن التناقض المعرفي الذي تفترضه مقولة خضوع الأقلية للأغلبية في الفضاء العام من خلال سلوك ديني موحد، حيث يصبح السلوك نفسه، ممارَساً في فضاء اجتماعي مختلف، مصدراً للاضطهاد والهيمنة.

(ج) تفكيك خطاطة الوحدة كاستراتيجية هيمنة:

– «احتقار من لا يفكر مثله من بني جلدته. والغريزة الغوغائية تدفع صاحبها الى الاعتداء على كل فرد خرج عن القطيع»؛

– «يكفوا عن ترصّد المفطرين لإرواء عطشهم للاستعباد»؛

– «لا تبدو لي عملية المنع في البداية إلا تجلياً للذهنية السلفية المنغلقة على نفسها والتي تتصف بالأنانية»

– «لِمَ هذا الإصرار على تنميطي بنمطك وقولبتي بذات قالبك؟»؛

تعبر التعليقات عن رفض نزعة تنميط السلوك داخل الفضاء العام، كما أن توحيد الفضاء العام هو السياق الاجتماعي الذي يطفو فيه الهابيتوس إلى السطح من خلال نوع من النرجسية الاجتماعية (منغلقة). يتم نزع طابع البداهة عن المنع الاجتماعي وذلك باعتباره نوعاً من الهيمنة الاجتماعية (تطاول، استعباد). كما تكشف التعليقات عن أن الأفراد الاجتماعيين يقومون، عبر شرعنة الإقصاء الاجتماعي والإشادة بنمط سلوكي أحادي، بممارسة العنف الرمزي وإعادة إنتاج آلياته بطريقة لاواعية، مستبطنة وشبه غريزية (الغفلة الاجتماعية كما يفسرها بورديو).

(د) تفكيك الهيمنة كتوهيم أيديولوجي:

– «إﻻ كنا غادي نشدو في الحبس اللي مكيصومش الأولى إننا نحبسو اللي سرقو ونهبوا خيرات البلاد»؛

– «حرفتم الصراع يا أبناء وطني، الصراع الحقيقي هو بين الفقير والغني، الصراع الطبقي»؛

– «تبحثون عن المفطر ولا تبحثون عن الجائع»؛

– «الدين عندما يجبرونك على ممارسته ليس بدين وإنما أيديولوجيا دموية تفرضها الدولة المستفيدة من الدين»؛

تبرز التحليلات كيف أن الهابيتوس أو مجمل الخطاطات الإدراكية التي يتم استعمالها لشرعنة الهيمنة تسعى لخلق نوع من الإلهاء الاجتماعي، أي خلق المبررات الأيديولوجية لشرعنة الهيمنة وتقديسها، وذلك ببنائها حول الهوية الدينية. تشتغل مؤسسة الهيمنة الاجتماعية كمؤسسة عقابية تمييزية أو انتقائية (éclectique) من حيث إنها لا تتوجه إلا إلى نوع من عدم التجانس (الديني) لمنح الشرعية لأنماط السلطة التي تستملك الرأسمال السياسي والاقتصادي، في حين يتم التغاضي عن أشكال عدم تجانس اجتماعي أكثر حدة وعمقاً (الهشاشة الاقتصادية والاجتماعية).

(هـ) تفكيك انفصام الخطاب الاجتماعي «الإكراهي»:

– «المغاربة يمارسون رذائل شتى، لكن في مسألة الصيام يصبحون وعاظاً وفقهاء والكل يفتي»؛

– «المشكل في القانون الجنائي الذي يكرس النفاق الاجتماعي والكذب»؛

– «لماذا يجبرني المسلم على النفاق والاختباء رغم أنني لا أؤمن مطلقاً بالإسلام»؛

– «لماذا لا نقول شيئاً للأجانب عندما نراهم يأكلون علناً في المطاعم أو في الشارع، ونشتم المغاربة لأنهم أكلوا ويعاقبون! هذه شيزوفرينيا مجتمعنا للأسف»؛

تشير التعليقات إلى التناقضات التي تخترق السلوكيات الدينية للفاعلين الاجتماعيين من وجهة نظر تناسق الطقوس الدينية مع المبادئ الدينية. يتم التركيز على البعد الوظيفي للازدواجية التي تتغاضى عنها مؤسسة المنع من أجل تأسيس فضاء عمومي موحد خلال شهر رمضان، ما يسمح بصناعة رأسمال الشرعية الدينية. لكن ازدواجية التعامل مع المسلمين وغير المسلمين يحلل كسلوك قسري، إذ يعني تأبيد الانتماء لجماعة دينية أو اعتبار هذا الانتماء نوعاً من البداهة الاجتماعية. يمكن القول إن ازدواجية السلوك الديني للفاعلين الذين يكرسون المنع يعني استبطان التوهيم الذاتي، ما يجعلهم غير واعين بالتناقض الاجتماعي.

(2) – الاستبيان:

(أ) الإفطار العلني، التمايز بين منطق الشريعة ومنطق القانون:

جواباً عن سؤال: هل تعتقد(ين) أن الإفطار العلني في رمضان يعتبر خرقاً للقانون، لماذا؟

– «لا، رمضان شريعة إسلامية لا قانونية»؛

– «متعلق بالشريعة ولا علاقة له بالقانون»؛

– «مسألة دينية لا علاقة لها بالقانون»؛

– «ليست جريمة مدنية»؛

تقوم الإجابات بإقرار التمايز بين المجال السياسي والمجال الديني، وبالتالي يتم ترسيم حدود مجال تدخُّل الدولة في تنظيم العلاقات والقوانين الاجتماعية في علاقتها بالمجال الديني؛ بمعنى آخر يتم التمييز بين المجال الخاص والمجال العام. غير أن إجابات أغلبية المستجوَبين تؤكد أن الشريعة هي مصدر التشريع الأساسي للدولة، هذه الدولة التي يتم تقديمها على أنها «دولة إسلامية».

(ب) خطاطة إدراكية مختلفة للمجتمع:

جواباً عن سؤال: هل تعتقد(ين) أن الإفطار العلني في رمضان يهدد تماسك المجتمع المغربي، لماذا؟

– «لا يشكل تهديداً للمجتمع فذلك شخصي»؛

– «المجتمع متشبث بالشريعة الإسلامية»؛

– «لا يهدد المجتمع لأن للفرد حريته»؛

– «لا فالمجتمع ليس بنية أو كتلة بل هناك فوارق عديدة»؛

تقوم الإجابات بتفنيد استراتيجيات الاستيهام التي تصنع فوبيا الاختلاف انطلاقاً من خطاطات إدراكية تجد منبعها داخل الهابيتوس الاجتماعي، كما تقوم بتفكيك البداهة المكرسة اجتماعياً والتي ترهن تماسك المجتمع بتنميط وتوحيد السلوكات الاجتماعية بشأن الطقوس الدينية. كما تؤكد أن تماسك جماعة المؤمنين لا يرتبط بالضرورة بتجانس جماعة المواطنين. الفكرة الأكثر أهمية هي اعتبار الاختلاف الاجتماعي (مفطرين وغير مفطرين) داخل الفضاء العام ليس نابعاً من مجال اجتماعي خارجي بل نابعاً من داخل مجال الفضاء العام.

(ج) الفضاء العمومي كمجال للتمايز، فكرة الحياد الديني للمجال الاجتماعي:

جواباً عن سؤال: هل تقبل بفعل الإفطار العلني في رمضان بوصفه سلوكاً مرتبطاً بالحريات الفردية، لماذا؟

– «لكل منا حريته والقانون لا يعاقب على ما لا نقتنع به»؛

– «نعم لأنه مسؤول عن نفسه»؛

– «لأن لكل شخص أفكاره الخاصة»؛

– «المسألة دينية ولكل قناعاته، المسألة ليست قانونية»؛

يتم التأكيد أن القانون الذي يحكم المجال العام لا يمكن أن يتأسس على الإكراه الاجتماعي والتمييز بين الأفراد على أساس المعتقد أو إخضاعهم للضمير الجمعي، بمعنى آخر يتم الإقرار بشرعية التمايز بدل شرعنة التمييز، مما يسمح بتفكيك استراتيجيات التفاضل التي تم تحويلها إلى بداهة اجتماعية. نلاحظ كذلك بروز فكرة أن مجال التدخل القانوني للدولة يجب أن ينحصر قط في البعد الأفقي المتعلق بتنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس التبادلية.

ثانياً: ملخص عن أهم النقاط وأهمية النتائج

تسمح الدراسة بتحليل دينامية تصادم نمطين متناقضين للوعي الاجتماعي داخل الفضاء العام: نمط يتمثل التدين كوعي اجتماعي كلي حتمي، يؤسس لنفسه من خارج الاجتماع، ونمط يحيل على الاجتماع الخام ويؤمن بقيمة التحول الاجتماعي. تؤكد بنية الخطاب الثقافي الجمعي في المغرب فكرة عامة مفادها أن من حق الأفراد أن تكون لهم قناعات دينية أو لادينية فردية ولكن ليس لهم الحق في التعبير عنها «اجتماعياً» في الفضاء العام. يتم التعبير عن هذه الفكرة بوصفها جزءاً من البداهة الدينية وشرطاً جوهرياً للتماسك الاجتماعي، مما يبين دور «الهابيتوس»، كنسق مستبطن، في إعادة إنتاج استمرارية الفضاء الاجتماعي الأحادي المركز، وكذا دور اللاوعي الثقافي في تشكل حدود السلطة الاجتماعية للتدين. يتأسس المنطق «التأحيدي» الرافض للاجتماع التعددي من خلال مجموعة مقولات: الفتنة، زعزعة العقيدة، الجماعة، الأغلبية، الفضاء الخاص (الاستتار)… تسمح هذه المقولات أيضاً بدراسة أشكال العنف الرمزي والمادي المصاحب للصراع على الحيز الاجتماعي واستملاك الفضاء العام (الإقصاء وسلوك اللامساواة).

يقوم الخطاب المضاد الرافض للمنطق التأحيدي بتفكيك مجمل هذه المقولات وتبيان طبيعتها الثقافية المحضة وكذا «تهافتها» من الناحية المعرفية والاجتماعية، وذلك عبر مجموعة مقولات: الحرية الفردية، الحياد الديني للدولة، التوهيم الأيديولوجي…

رغم محدودية هذه الظاهرة من حيث الامتداد الاجتماعي إلا أن أهميتها تكمن في كونها تشكل جزءاً من ديناميات أوسع تتأسس داخل الفضاء العام في المغرب، تنبني حول قيم المواطنة، الحريات الفردية وحرية الضمير، قيم تتحول تدريجياً و«هامشياً» إلى خطاب جمعي مواز للخطاب التأحيدي. يمكن اعتبار هذه الدينامية مؤشراً على عملية إنتاج للتحول الثقافي نسبياً بطيئة لكنها تشير إلى بؤرة اجتماعية تحاول مساءلة واقع التطابق بين جماعة المواطنين وجماعة المؤمنين ومأسسة التديّن الجماعي وإلزاميته، كما تسعى لاقتراح براديغم جديد لفهم قضايا الهوية الجامعة وتاريخية ممارسة السلطة الاجتماعية في الفضاء الاجتماعي.

 

قد يهمكم أيضاً  الإصلاحيون النهضويون وفكرة الإصلاح في المجال الديني

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المغرب #الفضاء_العام_في_المغرب #الإفطار_العلني_في_المغرب #وكالين_رمضان #التدين #رمضان #الصوم #الإفطار_العلني #المجتمع_المغربي #الهوية_المغربية #الحريات_الفردية_في_المغرب #الحريات