تكمن أهمية الباحث محمد السمّاك في تلك الحزمة من الكتب والأبحاث التي تجاوزت العشرات وعالجت قضايا رئيسة شكّلت حواجز ضخمة أمام تقدّم المجتمع العربي وتحقيق أهدافه في التطوّر والتحرر الوطني والقومي، وبناء وجوده الفاعل ومعاصرته. ويأتي في مقدّم معالجته الفصل بين الدين والسياسة، ونبذ التطرف الإسلامي انطلاقاً مما يحتضنه النصّ الإسلامي الوسطي. من هنا يعمّق في معظم كتبه مسألةَ عدم استغلال الدين في الصراعات السياسية، في سياق قفز الأصولية الإسلامية المتشددة إلى الواجهة العربية والإسلامية وقيادة حركات احتجاج ذات طابع عنفي بعيد من المفاهيم والقواعد الديمقراطية المعاصرة، وحتى عن الأصل الإسلامي التاريخي والمعتدل. ويضطلع الغربُ في طروحات السمّاك بدورٍ سلبيٍّ فاقعٍ فيدعم الإسلام المتشدّد ويحتضنه، ما أدى ويؤدّي في الأحداث الجارية حالياً في أقطار عربية عدة إلى تفجير مجتمعاتها وتدميرها بحجة إعادة بنائها من جديد.

في هذا السياق يعرض محمد السمّاك قضيةَ التعايش بين الجماعات الدينية في الوطن العربي، ومسألتي الأكراد والأمازيغ من منطلق تقصير الفكر القومي العربي التقليدي والأنظمة العربية في معالجة هذه المسائل وحلّها. وفي هذا السياق عالجَ قضية التعايش الإسلامي المسيحي، ولامسَ قضية الدولة المدنية وعوائق قيامها، ودور الغرب السلبي في هذا الإطار، إن كان من خلال سياساته الرسمية، أو من خلال بعض كنائسه المتمثّلة بما يعرف بالمسيحية الصهيونية التي تدعم إسرائيل.

هنا نصّ مقابلة أجرتها «المستقبل العربي» مع محمد السمّاك تحاول التوضيح وإظهار مكامن القضايا وأسبابها ونتائجها:

منذ ثلاثة عقود أو أكثر بدأ تراجع المشروع القومي الرسمي ثمَّ الأيديولوجيا بما هي إطار وغطاء. وفي الوقت نفسه تقدّم الحراك الإسلامي المتشدّد وغير المتشدّد الذي ترجم نفسه أعمالاً وجهوداً للوصول إلى السلطة في بعض الأقطار العربية.

كيف تقيّم الجانبين: تراجع المشروع القومي العربي الرسمي وتقدّم الإسلام المتشدّد وغير المتشدّد، وما هي الأسباب والعوامل الداخلية والخارجية التي أدّت إلى ذلك؟

من المهم البدء بالأسباب باعتبار أنها المنطلق لهذا التحوّل. ففي العام 1967، عام النكبة الكبرى وصفت إسرائيل انتصارها العسكري في إطار ديني واعتبرته ترجمة للإرادة الإلهية. وقد لاقى هذا الأمر صدى واسعاً في أميركا، حيث الحركة الصهيونية المسيحية. ووجدت هذه الأخيرة أن النبوءات الدينية التي تؤمن بها تترجم على الأرض؛ النبوءة الأولى بوجود إسرائيل، والثانية باحتلالها القدس وما حدث في العام 1967. وبهذا فإن على المؤمنين اليهود والمؤمنين المسيحيين بالعودة الثانية للمسيح أن يعملوا معاً لتحقيق المرحلة الثالثة وهي بناء الهيكل، والذي من دونه لا تكون عودة ثانية للمسيح.

هذا البعد الديني لحرب 1967 ترك آثاره في الفكر الإسلامي، وبدأ التساؤل إن كان الإسرائيليون انتصروا بإرادة إلهية كما يدّعون، وبالتالي علينا أن نثبت أن الإرادة الإلهية معنا وليست معهم، ونحن الذين نحمل الرسالة الإلهية الأخيرة، ونحن مؤتمنون عليها، وبذلك نثبت عكس ما يقوله الإسرائيليون.

هنا دخل الفكر الديني الإسلامي، الذي يتطلع إلى هذه المواجهة السياسية الدينية الكبرى مع إسرائيل، في صراع مع الفكر العربي الذي يخرج من حرب 1967 مهزوماً.

إذاً اعتبر الإسلاميون أن هزيمة 1967 هي هزيمة عسكرية، وكذلك هزيمة للفكر القومي؟

هذا صحيح، وانطلاقاً من هذا الاعتبار يجب أن يحمل الفكر الإسلامي الرايةَ في مواجهة المشروع اليهودي الذي ينفّذ باسم الله.

منذ ذلك الوقت بدا وكأن الصراع تحوّل من صراع حقوقي قومي إلى صراع له بعدٌ ديني كبير.

ألا تعتقد أن المشروع القومي الرسمي قامَ على أسس وقواعد لم تمتلك القدرة على مواجهة إسرائيل، وخصوصاً في ما يتعلّق بقضايا التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان…؟

المواجهة بين الفكر الديني والفكر القومي في ما يتعلّق بإسرائيل تختلف في أساس منطلقاتها، ففي إطار المشروع القومي الرسمي هناك حسابات إقليمية ودولية، وأخرى تتعلق بموازين القوى وحدود الإمكانات وتوظيفاتها. أما عندما نتحدّث عن مشروع ديني أو مبادرة لها بعدٌ ديني فإن كل الحسابات المشار إليها لا تعود قائمة، لأن المرجعية أصبحت لله. ونحن هنا أمام مشروعين إلهيين متصادمين. وعندما يكون الله طرفاً نتجاوز كل الحسابات السياسية وغير السياسية باعتبار أن النصر من عند الله، وأن لله رسالة نحن مؤتمنون على أدائها. بكلمات قليلة، الصراع الديني يختلف في أسسه الفكرية عن الصراع القومي – السياسي، والإيمان بأن الله معكَ، وأنك تحقق مشروعاً إلهياً يحرِّرك من قيود الحسابات الدنيوية الأخرى.

ألا تعتقد أن الأخذ بالغيبية سبب عميق لكلّ الهزائم العربية؟

يجب أن نميز بين الغيبية والخطأ في الحسابات. المقاربة اليهودية للعلاقة الإلهية بالمشروع الصهيوني تختلف جوهرياً عن المقاربة الإسلامية، حيث إن المقاربة اليهودية ليست اتكالية على الله، فهي تبادر إلى تحقيق مشروعها الدنيوي السياسي باسم الله، في حين أن المقاربة الإسلامية اتكالية على الله في الدرجة الأولى انطلاقاً من ﴿وما النصر إلا من عند الله﴾  [«سورة آل عمران،» الآية 126]، وكذلك من الآية ﴿وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ﴾ [«سورة آل عمران،» الآية 13].

الفكر الديني اليهودي المعزّز بالفكر الديني للصهيونية المسيحية في الولايات المتحدة يحدّد ماذا يريد الله، وهو يعطي نفسه واجب العمل على تحقيق الإرادة الإلهية كما فهمها وحدّدها، وبهذا فإنه يعتبر أن التقاعس عن العمل على تحقيق هذه الإرادة هو خيانة لله. ومن القضايا الإلهية التي يجب تحقيقها إقامة صهيون لتكونَ مهبط العودة الثانية للمسيح. ولذلك فإن الربط بين المشروع الصهيوني والفكر الديني المسيحي الصهيوني هو ارتباط متداخل وعميق ومتكامل.

من جهة أخرى، نجد الفكر الإسلامي من خلال مؤتمرات القمم الإسلامية مرتبطاً بحسابات سياسية أكثر من ارتباطه بحسابات دينية. والمثال على ذلك اللجنة الإسلامية التي شُكّلت لوضع استراتيجية إسلامية لتحرير القدس وكانت برئاسة الملك الحسن الثاني لم تضع أي استراتيجية، في حين أن الملك الحسن الثاني – وكان لقبه أمير المؤمنين – استقبل شيمون بيريز ومبعوثي إسرائيل في المغرب، وتوسّط بين الفلسطينيين والإسرائيليين وهو رئيس لجنةٍ استراتيجية لتحرير القدس.

وهناك نقطة أخرى هي أنه عندما كان حسن التهامي أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي التي انعقدت في لاهور عام 1974 طلب البطريرك الأورثوذكسي العربي إلياس الرابع إلقاء كلمة في المؤتمر، إلا أن حسن التهامي رفضَ على أساس أنه إذا أردنا أن نفتح الباب لمتحدّثين مؤيّدين للقضية الفلسطينية والقدس فهذا يعني باباً واسعاً أمام مئات المتحدّثين من جميع البلدان.

كان ردُّ البطريرك إلياس الرابع لافتاً وعميقاً، إذ قال: «أنا لست مؤيداً للمسلمين في قضية فلسطين والقدس، فإن هاتين القضيتين قضيتاي. وإني أعتبر أن القمّة الإسلامية مؤيّدة لي ولست مؤيداً لها». وحدث أنه بعد انتهاء مهمة التهامي بوصفه أميناً عاماً لمنظمة المؤتمر الإسلامي (أصبحت الآن تعرف باسم منظمة التعاون الإسلامي) أن صار مبعوثاً للرئيس السادات إلى إسرائيل ممهداً لزيارته ومرافقاً له ومتابعاً لنتائج الزيارة إلى أن توفي.

إن المقارنة بين موقف البطريرك إلياس الرابع وموقف الأمين العام لمنظمة المؤتمر الإسلامي تؤكد موقفاً جوهرياً وأساسياً جداً وهو الخطأ الإسلامي القائم على اعتبار القدس قضية إسلامية فقط، وإقصاء دور غير المسلمين عنها. إن القدس قضية إسلامية – مسيحية؛ أدى إبعادُ العامل المسيحي العربي والدولي عنها إلى استفراد إسرائيل بالحركة الصهيونية المسيحية الأميركية وبالتالي التوسع والتهويد.

يلاحظ الآن وفي هذه المرحلة ظهور الإسلام العنفي والمتشدّد في أكثر من قطر عربي. أي إسلام هذا؟ وما هي أسبابه واتجاهاته؟

الإسلام العنفي منطلقه أفغانستان. وعلينا التمييز بين الإسلام العنفي والإسلام الجهادي. الجهاد في الإسلام ليس مرتبطاً بالحرب أو بالعنف، لأن كلمة الجهاد تأتي من كلمة الجهد وبذل الوسع، وليس لها أي أصل في العنف والإرهاب والقتال. ومعروف عن النبي محمد (ﷺ) أنه قال لدى عودته من إحدى مواجهاته العسكرية مع الكفار: «لقد عدنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» هذه الرسالة تقول لنا إنه حتى مقاتلة العدو هي جهاد أصغر، والجهاد الأكبر هو جهاد النفس والجهاد الاجتماعي والاقتصادي والبنائي.

وكيف انقلب هذا الوضع رأساً على عقب؟

خطأ وقعت فيه الأنظمة العربية المستبدة التي بنَت استمرارها على الاستبداد، واستبدادها على التجهيل والإفقار.

اصطدمت الحركة العنفية الإسلامية التي أُخرجت من أفغانستان بمجتمع إسلامي يتوق إلى الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان في التعلّم والحياة الكريمة. لكنها لم تكن تملك مشروعاً من هذا النوع. وكل ما كانت تملكه هو رفض الاستبداد القائم بالوسائل التي واجهت بها من كانت تعتبرهم كفاراً في أفغانستان. باختصار لم تكن حركة إصلاحية تغييرية تتوسّل العنف، لكنها كانت حركة عنفية.

هل يمكننا وضع الإسلام المتشدّد في سياق إعادة النظر في خريطة المنطقة وتقسيمها إلى دويلات لها أبعادها الكيانية القزمية وكذلك خلق ثقافات وفكرويات تستجيب للواقع الجديد؟

في عام 1978 طُلبَ من المفكر المستشرق برنارد لويس وهو يهودي بريطاني من قبل وزارة الدفاع الأميركية إعداد دراسة حول العالم الإسلامي لمواجهة الشيوعية التي كانت تتوسع في الوطن العربي. وضع لويس دراسة لإعادة النظر في خريطة المنطقة، مبنية على الاعتقاد بأن في المنطقة شعوباً مظلومة، وأن الشيوعية تستغلّ حالات الظلم للانتشار، وأن التصدّي للتوسّع الشيوعي يستلزم إعادة النظر في خريطة المنطقة بما يستجيب لحقوق الشعوب ومطالبها. وانطلاقاً من هذا المبدأ اقترح لويس مخططاً لإقامة دويلات دينية ومذهبية وعنصرية من شرق باكستان حتى المغرب. هذا المشروع يقسِّم باكستان وإيران والدول العربية كافة بحيث تكون هناك دول عنصرية (الأكراد، والأمازيغ، بلوش في إيران وباكستان) ودول دينية إسلامية ومسيحية، ودول مذهبية شيعية وسنية على أساس أن قيام هذه الدول يحقّق أمرين أساسيين يقعان في إطار الاستراتيجية الأميركية في المنطقة:

الأول: إن إسرائيل لن تبقى الدولة الدينية الوحيدة في المنطقة، بل ستقوم حولها وفي إطارها دول دينية متعدّدة، ومن ثم فإن هذه الدول المتعدّدة ستدخل في صراعات في ما بينها حول الحدود والموارد المائية والنفطية ما يحقّق الأمن الاستراتيجي لإسرائيل.

الثاني: هذه الدول ستبقى تحت المظلة الأمريكية، وهي ستطلبها باستمرار للمحافظة على ديمومتها ما يشكّل سداً في وجه التغلغل الشيوعي.

هل تحدّد بصورة أدقّ علاقة إسرائيل بدراسة برنارد لويس؟

دراسة لويس تبنَّتها إسرائيل تحت عنوان: «استراتيجية – إسرائيل في الثمانينيات» (النص موجود في مجلة إيغونيم [الحقيقة] الإسرائيلية، وقد نشر ترجمة له مركز الدراسات الفلسطينية في بيروت).

ومن ترجمات هذه الوثيقة كان الاجتياح الإسرائيلي للبنان في العام 1982، والدعم الإسرائيلي للحركة الانفصالية الكردية في شمال العراق، والدعم الإسرائيلي والسياسي للحركة الانفصالية في جنوب السودان. وفي لبنان حاولت إسرائيل تقسيمه إلى دويلات طائفية ومذهبية. لقد نجحت إسرائيل في جنوب السودان وإلى حدٍّ كبير في شمال العراق.

هل تعتبر أن ما يجري في سورية اليوم يقع في هذا الإطار؟

الحالة السورية نموذج للتكامل بين وجود مخطط خارجي يستهدف تقسيم الوطن العربي، وسوء سلوك الأنظمة العربية في المحافظة على الوحدات الوطنية داخل البلدان العربية.

الأنظمة العربية تعرف بوجود هذه المخططات بالتأكيد، وهي ليست طرفاً فيها، لكن اعتقادها بأن الاستبداد يحافظ على الوحدة هو الذي يؤدّي إلى نجاح المشروع التفتيتي.

لقد رأينا كيف أن الاستبداد عندما ضعفت قبضته أدى إلى تفسخ الاتحاد السوفياتي السابق، والاتحاد اليوغوسلافي السابق، وبالتالي فإن الوحدة الوطنية القائمة بالقمع والاستبداد هي وحدة وهمية تتبدّد فور انحلال القبضة العسكرية عليها. غير أن الوحدة الوطنية القائمة على حقوق الإنسان المفرد، واحترام حقوق الجماعات وهوياتها وثقافاتها هو الذي يحفظ الوحدة مع التنوّع. وهنا أقدّم مثلين: المثل المغربي في التعامل مع الأمازيغ، والمثل السوداني في التعامل مع قبائل الجنوب. في المغرب تعترف الدولة اليوم بالأمازيغية لغة قومية وثقافية تتمثّل في أحزاب سياسية وجمعيات وبرامج تعليم.. واللغة الأمازيغية تدرّس في المدارس. والشيء الذي جهله كثير من العرب هو لماذا يلقِّب ملك المغرب نفسه بأمير المؤمنين. الواقع والحقيقة أن هذا اللقب يأتي تكريساً للوحدة الوطنية بين مسلمي المغرب العرب والأمازيغ، وبهذا أعطى الملك نفسه بعداً دينياً ليس لأنه من سلالة النبي (ﷺ) فقط، ولكن لأن مقتضيات الوحدة الوطنية في المغرب تحتاج إلى هذه الرمزية. ونشير هنا إلى أن الملك يحرص على أن يتزوج أمازيغية دائماً، وأن تكون هذه الزوجة تحديداً أم أولاده.

ومعادلة جنوب السودان؟

في السودان قبائل غير إسلامية، وبعضها مسيحي، تحاول السلطة أن تفرض عليها الشريعة الإسلامية. وتجدر الإشارة إلى أن الأفارقة الذين يؤمنون بعقائد محلية لا يعرفون من معنى الشريعة الإسلامية سوى أنها قانون عقوبات بقطع اليد والرحم. كذلك فإن القبائل المسيحية غير مستعدة لتفهّم وتقبل فرض الشريعة الإسلامية عليها لأنها تعتبر ذلك نقضاً لعقيدتها المسيحية، علماً بأن القرآن الكريم يصف الإنجيل بأن فيه هدى ونوراً، ويقول: ﴿‍وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ﴾ [«سورة المائدة،» الآية 47]، ولم يقل بما أنزل الله في القرآن. ولذلك فإن محاولة السودان فرضَ الشريعة الإسلامية على المسيحيين تتناقض مع النص القرآني. هذا السلوك يؤدّي إلى التكامل مع مشروع التقسيم والدور الإسرائيلي التقسيمي وهذا ما حصل للأسف.

بعضهم يعتقد أن ظهور الأصوليات في المنطقة هو جزء من حركة كبيرة تنمو فيها تيارات متشدّدة كالأصولية اليهودية في إسرائيل والأصولية المسيحية في أمريكا، وتحاول أن تمسك بالقرار السياسي والسلطة.. هذا بالإضافة إلى أصوليات أخرى كالقاعدة وغيرها.

أين تتقاطع هذه الأصوليات وكيف تنظر إلى مآلاتها؟

الملاحظة المهمة التي يجدر التوقّف عندها هي تحوّل إسرائيل من كيان عنصري علماني صهيوني إلى كيان عنصري ديني يهودي. هذا التحوّل يتجسّد في الأحزاب الدينية الحاكمة في إسرائيل وصعودها، وفي تراجع الأحزاب المدنية العلمانية.

الأرقام الإسرائيلية تدلّ على أنه في العام 2020 سيكون 40 بالمئة من الإسرائيليين من الأصوليات الدينية. هذا الأمر بمؤشراته ووقائعه أدّى إلى هجرة معاكسة من إسرائيل إلى الغرب بسبب عدم القدرة على التعايش مع الأصولية اليهودية. ونعرف أنه في القدس على سبيل المثال تُبرمَجُ المصاعد في الأبنية بحيث تتوقّف آلياً صعوداً وهبوطاً عند كل طابق حتى لا يقترف اليهودي الأصولي إثم انتهاك حرية يوم السبت بالضغط على الزر للصعود إلى منزله أو النزول منه.

المجتمع الإسرائيلي «الحديث والإلكتروني» يحتفل بعيد الغفران، فما الذي يحدث في هذا العيد؟

يخرج رب البيت إلى السوق فيشتري دجاجة حيّة ويعود بها إلى المنزل. يتجمع أفراد العائلة حول طاولة الطعام، يحمل رب الأسرة الدجاجة ويطوف بها حول رؤوس أفراد العائلة. بهذه الحركة تنتقل خطايا الأسرة إلى الدجاجة، ثم تذبح الدجاجة وتؤكل على أساس أن الله غفر لنا خطايانا.

المقارنة بين هذا السلوك الديني والمجتمع العصري المدني تكشف عن الهوة العميقة والمتزايدة بين الاثنين. وهذا يرتبط بالتحوّل في إسرائيل من كيان علماني عنصري إلى كيان عنصري ديني.

وبالنسبة إلى الأصولية الإسلامية؟

صعود الأصولية في إسرائيل يتلازم مع صعود إسلامي في المنطقة، وهذا الأخير نجد نماذج عنه في دول عربية عدة، من حيث إنه إلغائي للآخر واحتكاري للحقيقة وللإيمان وللطريق إلى الله.

الأصوليتان اليهودية والإسلامية تسوّغ إحداهما الأخرى، وتسوّغ الأصوليتان معاً الأصولية الإنجيلية الأمريكية المتمثلة في المسيحية الصهيونية، لأن هذه الحركة مرتبطة عقيدياً بالشرق الأوسط.

كيف؟

تؤمن هذه الحركة بالعودة الثانية للمسيح، وبأن لهذه العودة شروطاً لا بدّ من توافرها، وفي مقدمها إقامة صهيون وتجميع اليهود في فلسطين. وتستعجل هذه الحركة العودة لحثِّها على بناء الهيكل لأن المسيح لا يعود إلا إلى الهيكل ومنه ينطلق.

في إيمان هذه الحركة أن المسيح قبل أن يعود ستقع معركة هرمجدون التي يقتل فيها الملايين بحسب نبوءة يوحنا، وأن المسيح يظهر في سماء المعركة ويرفع إليه بالجسد المؤمنين به من بقايا اليهود الذين يبادون جميعاً في المعركة مع الكفار الآخرين، أي المسلمين، ثم ينزل إلى الأرض مع هؤلاء المؤمنين به ليحكم لمدة ألف سنة يسمونها الألفية ثم تقوم الساعة.

هذه الحركة – الخرافة يؤمن بها سبعون ألف أمريكي. ومن المؤمنين بها دبلوماسيون وعسكريون ورجال أعمال وأعضاء في الكونغرس.. ونذكر منهم الرئيس الأسبق رونالد ريغان الذي يقول «أتمنى أن يكرمني الله بأن أضغط على الزر النووي حتى تقع هرمجدون وأساهم بذلك في العودة الثانية للمسيح»، ومن الرؤساء جورج بوش أيضاً…

هذه الحركة أقوى من اللوبي الصهيوني اليهودي في أمريكا لأنها حركة مسيحية إنجيلية. ويعتقد اليهود في أمريكا وإسرائيل أنها حركة فيها عنصرية ضدّ اليهود لأنها تقسمهم في الحسابات الأخيرة إلى قسمين: الأول يتحوّل إلى المسيحية ويلتحق بالمسيح، والقسم الثاني يُباد في هرمجدون. ولكن بالرغم من ذلك، وإلى أن يعود المسيح وتقع هرمجدون لنستفد من دعمهم المادي والسياسي والديني في إسرائيل.

والأصوليات الإسلامية؟

عندما نتحدث عن الأصولية الإسلامية لا بدّ من أن نتحدّث عن النص الشرعي الإسلامي. فهذا الأخير نص قرآني بالدرجة الأولى وحصراً. هو نص مقدس لأنه كلام الله. نص ثابت غير قابل للإضافة والتحول والتبديل. نصّ مطلق المعرفة، لأنه يحمل إشارات إلهية. أما فهم النص فهو عمل إنساني. وبمجرد أن يدخل النص الإلهي في العقل الإنساني يصبح فهمه خاضعاً للحسابات الإنسانية، وبهذا يخرج من قدسية النصّ. لأن كل ما هو إنساني مفتوح على الخطأ والصواب، وبهذا لا يعود الفهم ثابتاً، بل يصبح متحركاً وفقاً لمتغيرات الزمان والمكان. ثم إن إطلاقية المعرفة الموجودة في النص الإلهي تتحول إلى نسبية المعرفة في الفهم الإنساني.

المشكلة لدى الأصولية الإسلامية تكمن في التعامل مع الفهم بقدسية النص، ولذلك لا تضع حدوداً فاصلة بين ما يقوله الله، وما نفهمه نحن البشر من قوله. وهناك آية في القرآن الكريم تقول: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [«سورة يس،» الآية 40].

كيف فهم المسلمون الأولون هذه الآية وما يشبهها من الآيات وكيف يفهمها الأصوليون الجدد؟

–  عندما كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة كغيرهم من شعوب العالم جاء القرآن الكريم ليقول لنا: ﴿وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [«سورة يس،» الآية 40] أي أن القمر والشمس والأرض والكواكب، وحتى كل موجود من الذرة حتى المجرة له فلك يسبح فيه.

في الأصوليات المعاصرة هناك من يؤمن بنصوص قرآنية من دون أن يربطها بالفهم العصري الحديث ويعطيها فهماً يعود إلى قرون مضت باعتبار أن ذلك النص يُفهم كما تُفهم قدسية النص نفسه. ومن هنا فإن عدم رسم خط فاصل وواضح بين قدسية النص ولاقدسية فهمه يؤدي إلى أصوليات تتناقض مع روح الإسلام ورسالاته.

في هذا الضوء أين تضع إيران، وأين تضع حركة القاعدة؟

هذه الأنظمة والحركات تحاول أن تنتج أفكاراً وتربطها بالمرجعية الدينية، وهي أفكار لها منطلقات ذاتية ولا تعبّر بالضرورة عن النصوص الدينية. النظام الإيراني استحدث نظريات دينية واجتهد في صياغتها، كما اجتهد في البحث عن روابط بين ما توصّل إليه اجتهاده لحاجاته المستجدّة وبين تفسيراتٍ لنصوصٍ دينية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى القاعدة التي أعطت نفسها تفسيراً هو نفسه التفسير الذي اعتمده الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش الابن وهو تقسيم العالم إلى قسمين:

الأول: من معنا هم أهل الخير.

الثاني: من ضدنا هم أهل الشرّ والشيطان.

بن لادن قسّم العالم إلى فسطاطين: أهل الإيمان وأهل الكفر. النظرة واحدة. وهي أن الحقيقة في جانب، وأن الآخر خارج الحقيقة وهو في النار. إن كلاً منهم يرسم الطريق إلى الله، وكل من لا يسير على هذا الطريق لا يمكن أن يصل إلى الرحمة الإلهية وهو في ضلال مبين.

تحاول تنظيمات إسلامية كالقاعدة وحركة الإخوان المسلمين الوصول إلى السلطة، وإن اختلفت الطرق وتباينت. كيف تقوّم طرق الوصول؟

أفهم أن يكون لكل حركة سياسية علمانية أو دينية حق السعي لأجل الوصول إلى السلطة.

ذلك أن هذا الأمر مشروع، لكن المسألة الأساسية ما هو البرنامج بعد الوصول؟ ولا بد من التأكيد أن حق الوصول ديمقراطي وشرعي وإنساني، وهو مفتوح أمام الجميع.

وهنا يجب أن نضرب أرجلنا في الأرض للفصل بين الارتباط الديني والعمل السياسي، لأنه في الإسلام لا وجود لدولة دينية. فالإسلام، كما الإمام محمد عبده، أقصى رجال الكهنوت الإسلامي عن أمرين أساسيين: ممارسة الدين وممارسة السلطة. ممارسة الدين بمعنى أنني كمسلم أستطيع أن أؤدي أركان الإسلام الخمسة من دون الحاجة إلى رجل كهنوت. فإذا كان رجل الكهنوت لا دور حتمياً له في مناسك العبادة وأركانها، فمن الأحرى أن لا يكون له دور في الممارسة السياسية، لأن العبادة تتعلّق بعلاقة الإنسان بخالقه، والسياسة تتعلّق بعلاقة الإنسان بالإنسان. فكيف يكون الكهنوت جزءاً منها.

كيف تنظر إلى مآلات هذه الحركات؟

عرف العالم الإسلامي مثل هذه الحركات في السابق. الظاهرة ليست جديدة بالمعنى الكامل، لكنها متعصرنة. لقد مرّت روسيا القيصرية وأوروبا الغربية في هذه المرحلة. والأخيرة عرفت حروباً دينية وطائفية أودت بحياة الملايين من المسيحيين البروتستانت والكاثوليك إلى أن انتهت إلى صيغة إقصاء الدين عن الحياة العامة، وإعادة بناء مجتمعاتها على أساس فكّ الارتباط بين الكنيسة والدولة.

 

في الوطن العربي والعالم الإسلامي، هل يمكن فكّ الارتباط بين المسجد والدولة؟

توجد علاقة بين المسجد والمجتمع، لا بين المسجد والدولة. وعندما نقول إن الاجتهاد الإسلامي أقصى رجالات الكهنوت عن السلطة، فإننا لا يمكن أن نحوّل المسجد إلى حزب سياسي حاكم أو معارض.

الخلفاء الراشدون لم يتّفقوا على صيغة للحكم مبنية على الدين الإسلامي. فهم اتفقوا على صيغة «منا أمير ومنكم وزير» بين الأنصار والمهاجرين. ولم يجرِ اختيار أي من الخلفاء الأربعة على خلفية دينية. فمنهم من كان تاجراً كعثمان وأبي بكر وحتى عمر. علي بن أبي طالب كان مرجعاً فكرياً دينياً. في المرحلة الراهنة نعم يمكن الفصل بين المسجد والدولة.

في ظلّ تصاعد الإسلام المتشدّد كيف تقوّم مسألة الدعوة إلى المجتمع المدني والدولة المدنية العربية؟

من الواضح والملموس أن هناك صعوداً سريعاً وفوضوياً للتشدّد الديني. وهذه مرحلة لا يمكن الجزم بأنها مرحلة ثابتة ودائمة، وأنها تُرسي فعلاً قواعد المستقبل في هذه المنطقة من العالم. التعامل مع هذه الظاهرة يرفعها أحياناً إلى أمام ويمدّها بقوة لا تملكها أساساً. ومصدر ذلك هو انكفاء القوى المدنية في المجتمعات العربية، وأحياناً إلى حدّ الاستسلام. ومن مظاهر ذلك الهجرةُ المسيحية من أقطار عربية عديدة. فإذا قارنا بين دور المثقّفين المسيحيين في صناعة المجتمع العربي وتعريبه في المرحلة الأخيرة من الحكم العثماني وخلال فترة الاستعمار والانتداب الأوروبي بالهجرة اليوم نجد أن الدور انقلب رأساً على عقب. فمن العمل على بناء المجتمع وصياغة وحدته في إطار تنوّعاته تشكّل الهجرة المسيحية اليوم استسلاماً لهذا الانفلاش الإسلامي المتشدّد، الأمر الذي يمدّ هذا التشدّد بمزيد من القوة التي يفتقر إليها أصلاً.

ما انعكاس التشدد الإسلامي على القوى المدنية العربية؟

هناك قوى مدنية إسلامية تؤثِّر وتتأثر بهذه الهجرة. فهي إما ترافقها بالهجرة أو بالانكفاء في الداخل. ويستمدّ التشدد في هذا الأمر قوة اندفاع توحي بأنه قادر على صناعة المستقبل، وعلى إملاء رؤيته لصيغة المجتمعات العربية. غير أن ذلك وهمٌ يحتاج إلى عملية تُبدِّده وتكشف عن نقاط الضعف في كينونته وأساسه. ونعرف أن مجتمعات عديدة مرّت بهذه التجربة، ونعرف كيف خرجت منها حتى وصلت إلى درجة فك الارتباط بين الدين والمجتمع لا بين الدين والدولة فحسب. هذا ما حصل في فرنسا. وأهم تجربة يمكن تعلُّمها أن التشدّد مرحلي وطارئ ولا يقع في سياق التكوين، وأن التغلّب عليه يتطلّب جرأة أدبية في تفكيك منطقه من حيث إنه منطق يتناقض مع سماحة الإسلام لا تسامحه. فالإسلام سمحٌ وليس متسامحاً كأي دين آخر. فهو يقبل التنوّع والتعدّد ويحترم الاختلاف ويترك الحكم في الخلاف بين الناس إلى الله يوم القيامة، وبهذا يجرد أيَّ حركة أو أي شخص وأي مرجعية من التفتيش في ضمائر الناس والحكم على إيمانهم أو تصنيفه. وهو ما تقوم به حركات التطرّف والتشدّد الإسلامية.

هل هناك نماذج تدلّ على ما تقول؟

معركة المواجهة بين التشدّد والسماحة الإسلامية ظهرت وتظهر في مصر بين الأزهر وحركات التشدّد، فثوابت الأزهر التي أُعلن عنها في هذا الصدد ليست جديدة في حدّ ذاتها، لكنها نفضت الغبار عن ثوابت عقيدية وإيمانية وكشفت عن أُسسٍ تسفِّه المنطق الذي تقوم عليه حركات التطرف.

إذ من خلال المواجهة، لا بالانكفاء والاستسلام، نستطيع مواجهة هذا التشدّد. وعندما يقول الأزهر بالدولة الوطنية والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين على اختلاف أديانهم، وعندما يقول إن الحكم للشعب عبر انتخابات مباشرة تشكل سلطات تشريعية وتنفيذية، فإن ذلك يضرب أساس نظريات التشدّد من حيث هي احتكار للإيمان وللحقيقة.

هل تجد دوراً للغرب الأمريكي والأوروبي في دعم قوى التشدّد والتطرف الإسلامي لوضع الحواجز أمام قيام الدولة الوطنية المدنية؟

أن تقوم دولة مدنية ديمقراطية حرّة على أساس احترام التعدّد الديني والعرقي في المشرق والمغرب العربي أمر يتناقض جوهرياً مع ما تريده إسرائيل لهذه المنطقة من العالم. وإسرائيل ليست وحدها، هنا، فهي جزء من استراتيجية غربية واحدة. الأمن الاستراتيجي لإسرائيل يتمثّل في قيام كيانات دينية وعرقية متصارعة حولها. ولذلك فإن الاعتقاد بأن الغرب يريد دولاً عربية على شاكلته ومثاله في الديمقراطية والحرية هو اعتقاد ساذج فيه الكثير من حسن النية، وهو ما لا ينسجم مع مفاهيم لعبة الأمم ومصالحها أيضاً.

الغرب يعلن عكس ما يمارسه بدليل التعثّر والتنقّل من موقف إلى آخر وفق متغيّرات اللعبة. إن قيام الدولة المدنية العربية التي تتمتع بالحرية والديمقراطية هو أكبر خطر على استمرار إسرائيل وتوسّعها في المنطقة. وهو آخر ما نتصوّر أن يقبل به الغرب أو ما تريده إسرائيل. لأن تحرير الأرض المحتلة يبدأ من تحرير الذات واستعادة الكرامة الوطنية الذاتية. والتحرير ليس هروباً إلى الأمام كما كان يجري حتى الآن، لكنه يبدأ من الداخل، من إعادة صياغة المجتمعات العربية على قاعدة المساواة الحرية والعدالة.

كان لهزيمة 5 حزيران/يونيو 1967 نتائج عسكرية حاولت بعض الدول القومية الردّ عليها بحروب استلحاقية (حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973، وأعمال حركات المقاومة الفلسطينية وغيرها)، لكن الهزيمة المذكورة لم تُنتج على صعيد الفكر العربي حالة نقدية عميقة وجادة ولم تطرح تغيير البُنى التي أدّت إلى الهزيمة بمعناها الشامل؛ الاقتصادي والثقافي والإنساني والسياسي، فهل تعتقد أن هذه المرحلة أدّت إلى صعود الأصولية الإسلامية أم ماذا؟

صعود التطرّف الإسلامي كانت بدايته هزيمة 5 حزيران/يونيو. وأشير، هنا، إلى أمرين أساسيين؛ الأول هو أن الهزيمة العربية فُسِّرت على أنها هزيمة للقومية العربية وللفكر القومي العربي. وعزّز هذا الاعتقاد أن إسرائيل وظّفت انتصارها دينياً.

والأمر الثاني هو تجربة مشاركة الإخوان المسلمين في حرب 1948، ومنعها من المشاركة في حرب 1967 على اعتبار أنها حرب جيوش، وبهذا محاولة الإيحاء بأن البعد الديني أكثر صدقيّة في معركة التحرير. وقد جرت ترجمة هذا الأمر في تصعيد زاوية المشاركة من زاوية دينية على حساب العجز العربي في تحرير المقدّسات والتطلّعات القومية في فلسطين. ومن هنا كانت الانطلاقة الأولى لفكرة البديل الديني للعجز القومي العربي.

في هذا الصدد، هل تعتقد أن الاستبدادية التي ينسبها البعض إلى القومية العربية كانت سبباً في صعود الإسلام المتشدّد؟

لا يمكن فصل نظرة الإسلام المتشدّد إلى الاستبدادية التي مارستها الأنظمة العربية بمعزل عن علاقة هذه الأنظمة الاستبدادية بالقوى الغربية وبمحاولتها التسوية مع إسرائيل بشروط إسرائيلية. وفي هذا النطاق تجمّعت ثلاثة عوامل شكّلت دفعاً للحركة الإسلامية، ومن ثم التشدّد الإسلامي وهي: الاستبدادية والغرب وإسرائيل. والعوامل الثلاثة كانت تلتقي حول ليّ ذراع الحركات الإسلامية وتدجينها. وعند ذاك وجدت هذه الحركات الفرصة سانحةً للقفز إلى مقعد القيادة لحركات التغيير التي شهدها الوطن العربي عموماً. غير أن تصدّي الحركات الإسلامية للاستبدادية أوقعها في الوقت نفسه في استبداد أسوأ هو الاستبداد الديني.

إن أخطر ما يواجهه المجتمع العربي هو حتمية الانتقال بحكم المتغيّرات من حالة الاستبداد السياسي إلى حالة الاستبداد الديني الذي تمارسه حركات التطرّف الإسلامي. الاستبداد السياسي يمكن مواجهته والاعتراض عليه وتسفيهه، لكن لا يمكن التعامل مع استبداد يمارَس باسم الله، وعلى أنه تنفيذ لشريعة الله.

هذا الواقع دفع إلى تهجير المسيحيين من الوطن العربي، ولذلك نلاحظ أن وثيقة الإرشاد الرسولي التي أطلقها البابا بنيدكتوس السادس عشر لم تتحدّث عن موضوع الحرية الفردية فقط، بل هي تحدثت عن موضوع حرية الجماعات أيضاً. وهذا جدير بأن نتوقّف عنده لأنه يعكس خوفاً على حرية الجماعات المسيحية في الوطن العربي. كذلك، استخدم البابا بنيدكتوس السادس عشر عبارة فاقعة حينما قال إنه يرفض أن يكون المسيحي مواطناً من الدرجة الثانية. وهذا يعكس خوفاً مسيحياً من أن يؤدي تنامي التشدد الديني الإسلامي إلى استبدادية دينية تقضي على الدولة المدنية من حيث هي مساواة بين المواطنين، وهذا أخطر ما يمكن أن تتعرض له مجتمعاتنا العربية، وهو أمر يتطلّب تحركاً عربياً إسلامياً مسيحياً في ضوء وثاق الأزهر ومواقفه.

الحركات الاحتجاجية العربية التي يحلو للبعض تسميتها بالربيع العربي جرت منذ أكثر من سنتين تاركة أمامنا اتجاهات تغيير في الحياة السياسية العربية. ويلاحظ البعض أن هذه الحركات لا تحمل برامج ورؤى ربيعية.

في الضوء هذا، كيف تقوِّم دوافع هذه الحركات ودور القوى الأجنبية فيها وفي مآلاتها؟

أعتقد أن وصفك هذه الحركات أنها حركات احتجاج هو أصدق وصف، لأنها جاءت احتجاجاً على الاستبداد والتفقير وامتهان الكرامة الإنسانية العربية وتعطيل الحقوق الوطنية. ولقد عرف الوطن العربي حركات تغيير بأشكال مختلفة، لكن هذه هي المرة الأولى في تاريخ حركات الاحتجاج التي يكون الفرد منطلقها ومحركها، لا جماعة أو حزب، كما هي الحالة التونسية والمصرية. أما حالات الاحتجاج العربية في اليمن وليبيا وسورية فلها أسباب وظروف إقليمية ودولية أخرى. وهذا لا يلغي أنها في منطلقاتها الأساسية تعبّر عن إرادة الإنسان العربي في رفضه الواقعَ السيئ الذي يعيشه بتوصيفها أنها أدّت إلى تفتّح أزهار الحرية والعدالة والمستقبل الأفضل، لكننا نعرف أن للأزهار أشواكاً، ونعرف اليوم أن هذه الأشواك تدمي أناملنا حتى قبل أن نشمّ رائحة الورد الربيعي.

بعيداً من اعتبار اللغة العربية والوعاء الثقافي العربي من العوامل الموحدة والطابعة للهوية العربية.. استمرّ الفكر العربي على صعيدي السلطة وأعمال المفكرين والمثقفين بعدم تحوّل وتفكيك مسألة الأقليات العرقية وغير العرقية في الوطن العربي كمسألتي الأمازيغ والأكراد على سبيل المثال، اللتين اتخذتا توجّهات انفصالية.

لماذا هذا العجز، وما هو دور قوى الغرب الكبرى في تغذية هذه النزعات الانفصالية؟

مسألة الأقليات ليست مسألة قومية أو إسلامية. لقد كانت دولية وخارجية منذ العهد العثماني، وربما منذ العهد البيزنطي عندما وقف المسيحيون مع المسلمين الفاتحين ضدّ البيزنطيين أبناء دينهم، وحتى أثناء حملات الفرنجة (الحملات الصليبية) كان المسيحيون والأكراد والأمازيغ في موقف واحد ضدّ هذه الحملات. وأذكر هنا ما أخبرني إياه البابا شنوده الثالث من أن ثلاث راهبات قبطيات قدّستهم الكنيسة بعد قتلهن على أيدي الفرنجة.

في الأساس كان المسيحيون في الشرق متعاطفين مع المسلمين لأنهم تعرّضوا للاضطهاد الديني من قبل الكنيسة البيزنطية. وكانوا متعاطفين ومتعاونين مع المسلمين في مواجهة حملات الفرنجة أيضاً لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم جزءاً من هذه الأمة التي تتعرّض للهجمات الخارجية. وقد ترجموا هذا الموقف إبَّان عملية التتريك التي استهدفت اللغة العربية والهوية العربية أيضاً.. وعندما تعرّض الوطن العربي للهجمة الاستعمارية تصدّى لها المسلمون الأمازيغ في شمال أفريقيا إلى جانب المسلمين العرب، وكذلك فعل المسلمون الأكراد في المشرق العربي.. وهذا ما فعله المسيحيون أيضاً. الأمر نفسه في موقف المسيحيين المعادي لإسرائيل والحركة الصهيونية، وفي هذا السياق نذكر أن معظم قيادات المقاومة الفلسطينية كانت مسيحية.

كذلك أشير إلى أنه في العام 1973 أرسل المغرب قوة عسكرية إلى سورية لمقاتلة إسرائيل. وكان عشرات من هذه القوة من الأمازيغ، وقد تعرفت إلى أحدهم وقد بترت ساقه في مستشفى رزق في بيروت وكان ضابطاً أمازيغياً انفجر لغم أرضي فيه. وبعد إجراء العملية كان يطالب بشكل هيستيري بالعودة إلى الجبهة وكان يقول: «إني أطلق النار بيدي لا بساقي».

أين تكمن المشكلة إذاً؟

المشكلة أننا – نحن العرب – لم نعرف كيف نحسن معاملة الأكراد والأمازيغ وأن نحترم خصوصياتهم الاجتماعية والثقافية.. يقول فرويد في نظريته عن «النرجسية الوطنية» إن في كل إنسان وكل مجتمع خصوصيات تختلف عن خصوصيات المجتمع الآخر، وإنه مهما كانت هذه الاختلافات صغيرة أو محدودة فإننا نجعل منها أساساً في شخصيتنا وفي هويتنا.

لقد حاولنا أن ندمج الأمازيغ والأكراد في هويتنا من دون مراعاة خصوصياتهم، فبدا ذلك كأنه إلغاء لخصوصيات الآخر.

ومع الوقت توسّع الأمر وازداد توسّعاً بتدخّل دول خارجية لاستغلال الاختلاف وتمزيق المجتمعات العربية والإسلامية. ولذلك نجد أنفسنا اليوم أمام مشروع دولة كردية في شمال العراق، وأمام بلورة شخصية أمازيغية تكاد تكون متميزة إلى حد الانفصال عن الشخصية العربية المغاربية.

وبالنسبة إلى المسيحيين العرب؟

المسيحيون يشعرون الآن بعد الاجتياح الأمريكي للعراق وما يتعرّضون له من معاناة على يد جماعات التطرّف الإسلامي وكأنهم خارج الدائرة العربية. فالمسيحيون العراقيون لم يستدعوا قوات الاحتلال الأمريكي إلى العراق، ولم يستقووا بها، بل إنهم اصطدموا بالبعثات التبشيرية الإنجيلية المسيحية التي جاءت من الولايات المتحدة خلف الدبابات الأمريكية. ولقد رفض مسيحيو العراق دعوات الكنائس الأمريكية التبشيرية، ومع ذلك تعرضوا للاضطهاد على يد التطرّف الإسلامي فنُسفت كنائسهم وبيوتهم وهجّروا من قراهم علماً بأنهم ليسوا جزءاً من الصراع على السلطة في العراق. أكثرية الأكراد من السنة الشافعية، وكل الأمازيغ من السنة المالكية، وهذا يعني أن الوحدة الدينية متوافرة، وحتى في إطار الوحدة المذهبية. لكن هذه الوحدة لم تتحوّل إلى عامل يمسك بمكونات المجتمع العربي والكردي، لأن الإسلام أُخرج من دوره الاجتماعي. وعندما نعطِّل دور الدين كجامع، ونحاول فرض القومية كجامع تظهر الخلافات وتنفجر على النحو الذي شهدناه ونشهده في العراق ومناطق عربية أخرى.

هذا الانقسام هو النافذة التي تتسلّل منها المشاريع الخارجية لتقسيم الوطن العربي وتفتيته إلى دويلات دينية وعنصرية ومذهبية متناحرة.

كيف تقوِّم علاقة الإسلام بالأقليات الدينية المسيحية؟

لقد وضع النبي محمد (ﷺ) ما يعرف بالعهدة النبوية، وذلك بعد لقائه مسيحيي نجران، وفيها ألزم المسلمين باحترام دين المسيحيين وعدم التدخّل في هرميّتهم الكنسية أو إجبارهم على الإيمان بالإسلام. وقد استخدم لأول مرة عبارة: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». أما الترجمة العصرية لهذه العبارة فهي المساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين. كذلك جاءت عبارته المشهورة: «من آذى ذمّياً فقد آذاني»، والذمّية هنا تعني أن المسيحي في الدولة الإسلامية هو في ذمة الإسلام، وأيضاً بمعنى أن المسلم ملتزم بالعهد النبوي لكل المسيحيين.

أدّيتَ دوراً بارزاً في أعمال ونشاطات لبعض الهيئات العاملة على التقريب بين الديانات، وخصوصاً أنك الأمين العام للّجنة الوطنية الإسلامية – المسيحية للحوار، وأمين سرّ الفريق العربي الإسلامي – المسيحي للحوار، وشاركت في السينودس حول لبنان 1995 والسينودس حول الشرق الأوسط 2010.

في هذا السياق هل تلقي ضوءاً على موقع لبنان وصيغته في العلاقات الإسلامية المسيحية؟

صيغة التعدّد في لبنان وتنظيمه دستورياً وقانونياً صيغة فريدة في العالم. وفي لقاء في منزل السفير الفرنسي في بيروت، جمع الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك ورؤساء الطوائف الإسلامية والمسيحية، تحدّث البطريرك مار نصر الله صفير عن هذا التنوّع والتعدد بكثير من الاعتزاز مردداً أن لبنان بتنوّعه هو نسيج وحده في العالم، وردّ شيراك قائلاً: ولكن نحن في فرنسا أكثر تنوّعاً من لبنان. عندنا أديان بوذية وهندوسية وغير مؤمنين…

ويمكن القول، في هذا السياق، إن القضية ليست في التنوع في حد ذاته، إنما في الأنظمة التي تضمن حقوق الجماعات المختلفة في الثقافة التي تحترم الاختلاف. وفي لبنان توافر الأمران: ثقافة الاحترام وتنظيم التعدد.

والآن إما أن يكون لبنان مصدراً لصيغة العيش المشترك، وإما أن يكون مسرحاً لاستيراد صراعات المختلفين في المنطقة أو في العالم.

حرصُ الفاتيكان على هذه الصيغة هو الذي دفعه إلى تنظيم السينودس حول لبنان عام 1995 لإنقاذ صيغته من براثن الحرب التي كانت تدور على أرضه. وهذه كانت المرة الأولى في تاريخ الفاتيكان الذي يُعقد فيه «سينودس» خاص بدولة، لأن الفاتيكان كان يعتبر لبنان صيغة للعيش المشترك تحتاج إلى الحماية والصيانة حتى تكون صالحة للتصدير. وبسبب عجز السياسيين اللبنانيين والأحزاب السياسية اللبنانية عن الحفاظ على هذه الصيغة يجد لبنان صعوبة بالغة في أن يمارس دوره كوطن ِرسالة.

ألا تعتقد أن العروبة الحضارية التي تحمل مشروعاً للتقدّم والديمقراطية والمصالح المشتركة هي الجامع الأكبر لكل تلوينات المجتمع على قاعدة المواطنية المدنية الواحدة، ولحل مشاكل الأمة الطائفية والمذهبية وغيرها؟

لا شك في أن العروبة الحضارية جامعة للمسلمين والمسيحيين؛ فالمسلمون والمسيحيون ينتمون إلى إثنية واحدة ولغة واحدة، وبهذا فإنهم يشكّلون مجتمعاً واحداً. غير أن المظلّة الجامعة – أي العروبة – يساء استخدامها من خلال ربطها بالإسلام. فمن خلال هذا الربط يشعر المسيحي اللبناني كأنه استُدرج إلى خارج هذه المظلّة الحضارية.

وأودّ الإشارة، هنا، إلى الإرشاد الرسولي الذي أذاعه البابا يوحنا بولس الثاني عام 1995 الذي أكد الانتماء العربي لمسيحيي لبنان وحثّهم بصورة واضحة على مواصلة أداء دورهم التاريخي، لا في الحضارة والثقافة في لبنان فحسب، وإنما في الوطن العربي كله، كما كانوا سابقاً.

أما الإرشاد الرسولي الثاني الذي أذاعه البابا بنيدكتوس السادس عشر في أيلول/سبتمبر 2010 فأكد الأمر نفسه حينما دعا المسيحيين إلى التجذّر في بلدانهم العربية والمساهمة في نهضتها وتطوّرها، لا كمواطنين من الدرجة الثانية، لكن كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات ويتمتعون بالحرية الدينية التي وصفها بأنها أم الحريات. وتجب الإشارة في هذا الصدد إلى أنه يوجد عند المسيحيين في لبنان قلق من أمرين: ارتفاع موجة الأصولية في بعض الأقطار العربية، وتناقص عدد المسيحيين العرب بسبب هجرتهم ونسبة الولادات المتدنية.

هذان العاملان يؤديان دوراً أساسياً في تراجع الثقة لدى المسيحيين اللبنانيين بالعروبة الحضارية لا لضعف فيها، وإنما لاستضعافها من قبل التطرّف الإسلامي، ولأنه يطرح شعارات إقصائية وإلغائية للمسيحيين.

هناك قضية ظهرت منذ زمن بعيد هي موقف إسرائيل وأمريكا من العيش المشترك والمصير الواحد بين المسلمين والمسيحيين في الوطن العربي. ماذا تقول؟

الثابت في موقف إسرائيل هو أن صيغة الوحدة في التنوّع التي يمثّلها لبنان، والقائمة في عدد من الأقطار العربية وخصوصاً سورية والعراق ومصر… تجد فيها إسرائيل خطراً عليها، لأنها تقوم على عقيدة الدين الواحد، وعلى أن الدين هو قومية في الوقت نفسه. ولذلك فإن إسرائيل تعمل على ضرب صيغة الوحدة في التنوّع التي تميّز دول الوطن العربي. وكذلك الولايات المتحدة، فهي تعتقد أنه إذا كانت صيغة الوحدة في التنوع تشكل خطراً على أمن إسرائيل، وعلى أساس وجودها كدولة عنصرية، فإن من مصلحة الأمن الاستراتيجي الأمريكي الاستجابة إلى التطلعات الإسرائيلية في ضرب هذه الصيغة وإفشالها.

هل تلقي ضوءاً على المسيحية الصهيونية في أمريكا وأثرها في المسيحية المشرقية العربية؟

المسيحية الصهيونية في أمريكا ليست كل المسيحية. فهناك كنائس إنجيلية أمريكية ترفض فكر المسيحية الصهيونية أساساً ومبدأً وفي مقدمتها الكنائس الكاثوليكية والأورثوذكسية والإنجيلية المشيخية، وكنيسة المسيح الإنجيلية الأولى. هذه الكنائس تشكّل قوى دينية في وجه المسيحية الصهيونية. وقد سبق لهذه الكنائس أن عبَّرت عن مواقفها باتخاذ إجراءات عملية في دعم القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني. وقد تعرّضت بسبب ذلك لموجات التشهير والمقاطعة. الكنيسة المشيخية اتخذت قراراً بسحب جميع استثماراتها وتوظيفاتها المالية من إسرائيل أو من المؤسسات الاقتصادية الإسرائيلية لذلك تعرّضت للتشهير، لا على أساس خلفية مالية اقتصادية فحسب، بل على أساس خلفية دينية، لأن قرار الكنيسة المشيخية كان مسوّغاً للإعراب عن إدانة الاحتلال الإسرائيلي.

هذا الموقف يتناقض مع موقف المسيحية الصهيونية التي تقول بأن الله يرضى عن أمريكا لأنها تدعم إسرائيل وتؤيدها، ولأنها تعتبر وجود إسرائيل تحقيقاً للإرادة الإلهية. وبالنسبة إلى كنيسة المسيح الأولى فقد قدّمت في العام 2011 مذكرة إلى الكونغرس الأمريكي تحتجّ فيها على تقديم مساعدات عسكرية غير مشروطة لإسرائيل غير خاضعة للدستور والقوانين الأمريكية التي تنصّ على احترام حقوق الإنسان وعلى عدم استخدامها لانتهاك حقوق الإنسان، وهو عكس ما تفعله إسرائيل بالمساعدات الأمريكية.

ما تأثير المسيحية الصهيونية في المسيحية المشرقية؟

تعتبر المسيحية المشرقية أن المسيحية الصهيونية تشكل خطراً عليها لسببين رئيسين: الأول هو أن المسيحية الصهيونية تبشيرية، وهي تعتبر أن المسيحية المشرقية خارجة عن المفهوم الديني الحقيقي، وأنها تحتاج إلى إعادة إدخالها في المسيحية. والسبب الثاني هو ارتباط المسيحية الصهيونية بإسرائيل بما يتناقض مع موقع المسيحية المشرقية ضدّ إسرائيل.

وباختصار تعتقد المسيحية المشرقية أن المسيحية الصهيونية تعمل لمصلحة إسرائيل بما يتعارض مع المبادئ الإيمانية للكنائس المشرقية، ومع الموقف الوطني لهذه الكنائس من القضية الفلسطينية. والجدير بالذكر، هنا، أن المسيحية الصهيونية أقامت إذاعة في جنوب لبنان إبّان الاحتلال الإسرائيلي الذي بدأ في العام 1978، لكن المقاومة قامت بنسف موقع هذه الإذاعة أكثر من مرة.

ألا تعتقد أن الأنظمة الغربية تسهم بعمق وفعالية في خلق التطرّف الإسلامي، وأن هذا الأخير جزء من الاستراتيجية الغربية؟

هناك العديد من العناصر المتطرّفة التي تعرّضت للتضييق وللملاحقة في بعض الأقطار العربية كمصر والأردن وسورية لجأت إلى دول غربية، وخاصة إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا، حيث وجدت الملاذ الآمن تحت مظلّة ادعاء هذه الدول الالتزام بقوانين اللجوء السياسي واحترام الحريات العامة. وقد رأينا كيف أن هذه العناصر وظّفت الحماية التي توافرت لها للاستقواء على البلدان العربية التي كانت تطاردها وتطالب بمحاكمتها بتهمة الإرهاب.

ومن السذاجة الاعتقاد بأن أمريكا وأوروبا كانتا في غفلة عن أمر هذه العناصر المتطرفة، أو أنها احتضنتها احتراماً لحقوق الإنسان. والمعروف أن لهذه الدول الغربية باعاً طويلاً في استقطاب قوى متطرفة وتأهيلها ومن ثم إعادة استخدامها في توجيه الضربات إلى المجتمعات التي تخشى منها على مصالحها.

إن الإرهابيين العرب الذين لجأوا إلى مراكز الاستخبارات الغربية عادوا إلى بلدانهم محمَّلين بالأحقاد ضدّ مجتمعاتهم ومشبعين بنظرية «تكفير المجتمع» تسويغاً لهدمه.

إن من السذاجة الاعتقاد بأن مراكز الاستخبارات الغربية كانت بمنأى عن إعداد هذه العناصر أو أنها لم تكن متورّطة في المهمات التخريبية التي كانت تؤهلهم للقيام بها.