مقدمة:
تزامن حصول كلٍّ من المغرب وموريتانيا على استقلاليْهما مع تحَدٍّ أساسٍ واجَه بناءَ عَلاقات طبيعيَّة بينهما. وقد ارتبط هذا التحدِّي بالمُطالَبة المغربية بموريتانيا؛ تلك المطالبة التي ظلَّت محور صراعٍ دبلوماسيٍّ وسياسيٍّ بينهُما، دارت رحاهُ طوال ما يناهز العقد من الزَّمن، وانتهى باعتراف المغرب بموريتانيا في العام 1969، وهو الاعتراف الذي شكَّل نهاية عهدٍ من القطيعةِ الكاملة بين البلدين.
وعلى الرغم من أنَّ ذلك الاعتراف كان يجب أن يشكِّل بدايةً لعهد جديد من العلاقات بين الدولتين يكونُ قوامه التعاون المثمر على الصعد كافَّة، وبخاصَّة أنَّ هناك الكثيرَ ممَّا يجمع بين البلدين، وأن آمالاً كبيرةً كانت مُعلَّقةً على أن يُشكِّلَ تعاونُهما نموذجاً يُحتذى به في شبه المنطقة، وأن يمثِّل قوة دفعٍ للمشروع التوحيديِّ المغاربيِّ، فإن كل تلك الآمال سرعان ما مُنيت بانتكاسةٍ، ولا سيَّما أنَّ خبرة العقود الخمسة التي أعقبت الاعتراف المغربي بموريتانيا قد كشفت هشاشة وضعف العلاقة بين البلدين، بحيث غدت العلاقة بينهما تشكل نموذجاً للعلاقة المتقلِّبَة وغير المستقرَّة.
تسعى هذه الورقة البحثية إلى النَّفاذ إلى عمق إشكال عدم الاستقرار في العلاقات المغربيَّة – الموريتانيَّة، مُحاولةً التعرف إلى الأسباب الحقيقية التي تؤدِّي إلى إذكاء الصِّراع بين الطرفين وتغذيته من جهة، كما ستحاول من جهة أخرى أن تُقارِب العوامل التي يمكن أن تدفعهما مستقبلاً إلى نبذ الصِّراع وتفضيل التَّعاوُنِ، كما ستسعى إلى استعراضِ بعض مظاهر الصِّراع والتَّعاوُنِ التي عرفتها تلك العلاقة. وأخيراً ستحاول الخروج بخلاصاتٍ مُركَّزةٍ حول أُطُر تلك العلاقة ومحدداتها الأساسِيَّة.
تستمدُّ هذهِ الورقة أهمِّيتها من كونها تأتي في وقتٍ تمرُّ فيه العلاقات بين البلدين بمرحلةٍ من أصعب المراحل التي مرَّت بها عبر تاريخها، بحيْث تقف تلك العلاقات على مفترق طرق: إمَّا أَن يُفضي بالبلدين إلى إقامة علاقاتٍ قويَّةٍ بينهما عمادها التفاهم والاحترام المتبادل، والحرص على تحقيق المصالح المشتركة، وتوحيد الرُّؤَى تجاه القضايا الإقليميَّة والدوليَّة، وإقامة تعاونٍ اقتصاديٍّ مُثمرٍ بين الدولتين؛ وإما أن تمر عبره إلى الرجوع إلى مربع القطيعة الأول، ليستمر البلدان في اجترار خلافات الماضي وعُقَد التَّاريخ، لتضيع عليهما بذلك المزيد من فرص التعاون البنَّاء في عالمٍ لا يرحم ولا يعترِفُ إلا بالتكَتُّلاتِ والتحالفات وما أشبهها من أنواع التعاون بين الدول.
من هنا، يغدو من المهم التساؤل عن أسباب عدم استقرار العلاقات بين الدولتين؟ وعن العوامل التي جعلت العلاقات بين البلدين لا ترتقي إلى المستوى المطلوب؟ وعن المحدِّدات التي تشجع على التعاون بينهما وتجعل منه توجهاً استراتيجياً لا بديل منه في علاقاتهما؟ فما هي يا ترى أسباب التذبذب الذي تعرفه علاقات البلدين؟ وهل يعود الأمر إلى عوامل موضوعيَّة لا دخل للطرفين فيها؛ أم إلى عوامل ذاتية ترتبط بالإرادة السياسية للسُّلطات الحاكمة في الدولتين؟ وهل كانت علاقتهما في الغالب علاقة صراعٍ أم تعاون؟ وهل هنالك عوامل خارجيَّة تغَذِّي الصِّراع بين الطرفين وتذكيه؟ وما هي تلك العوامل؟ وما دور العوامل الداخليَّةِ المُتعلقة بالسِّياسة الداخليَّة لكل بلدٍ في ذلك التذبذب الذي تعرفه العلاقة بينهما؟ وما هي محدِّدات التعاون بين البلدين؟ وكيف يمكن استثمار تلك المُحدِّدات على نحوٍ أمْثل لجعل تلك العلاقة أكثر ثباتاً واستقراراً؟ وأي مستقبلٍ للعلاقات بين البلدين؟ وما هي المداخِلُ الأساسيَّة التي يُمكنُ من خلال استثمارها جعلُ مستقبل تلك العلاقة يغدو أفضل من ماضيها وحاضرها.
من أجل الإجابة عن الأسئلة السَّالفة الذِّكر سنعتمد مُقارَبةً تقوم على توظيف كُلٍّ من المنهجَين المقارن والوصفي التحليلي، بحيث يُعتمَد على المنهج الأول في رصد أوجه التشابه بين البلدين، وهي نفسها ما سنسمِّيه في هذه الدراسة البحثية محددات الاستمرارية، بينما سيُستفادُ من المنهج الثاني في التعرف إلى عوامل القطيعة بين الطرفين وهي ذاتُها الأسباب التي تؤدي إلى تذَبذُبِ علاقاتهما ووسْمِها بعدم الاستقرارية؟
سنتناول موضوع هذه الدراسة من خلال محورين: يتناول الأول منهما محددات التقارب والتواصل بين البلدين؛ فيما يخصَّصُ الثاني منهما للحديث عن عوامل القطيعة والتباعد بينهما.
أولاً: عوامل التَّواصل والتَّقارب بين موريتانيا والمغرب
إن العلاقات المغربيَّة الموريتانيَّة منذ استقلال البلدين وحتى اليوم قد تحكّمت فيها عواملُ عديدةٌ، بعضُها كان يدفع إلى التَّقارب والتعاون وبعضها الآخر إلى القطيعة والصِّراع، وكلما غلب نمطٌ من أنماط تلك العلاقة على الآخر انعكس ذلك على العلاقة بينهما سلباً أو إيجاباً.
سنتعرَّض في هذه الفقرة بإيجازٍ لبعض محدِّدات التقارب والتعاون بين الطرفين، على أن نتحدث لاحقاً عن بعض عَوامل القطيعةِ والصِّراع بينهما، وإن كان الحديث عن محدِّدات للتقارب وأخرى للقطيعة لا يخلو من صعوبات ومشكلات منهجية، مردُّ بعضِها إلى أن متغيِّرات ومحددات العلاقات بين الدول تشكل – كما يرى بهجت قرني – جزءاً لا يتجزَّأُ، ونسقاً واحداً، بحيث لا يستطيع باحثٌ ما، أن يتحدث عن بعض المُؤثرات التي تؤثر في العلاقة بين دولتين، ويغض الطرف عن بعضها الآخر، أو أن يتحدث عن محدِّد من تلك المحددات، بمعزل عن باقي امتداداته، في المحددات الأخرى.
وليس ذلك هو مكمن الصعوبة الوحيد من الناحية المنهجية الذي يُطرح عند الحديث عن محدِّداتٍ للعلاقات المغربية – الموريتانية، وإِنَّما هناك نوعٌ آخر من الصعوبات يتعلق بنسبية تأثير تلْكَ المُحدِّداتِ، بحيث نجد أحياناً أنَّ نفس العامل قد يؤدي أدواراً إيجابيةً في مرحلةٍ من مراحل العلاقة ويؤدي أدواراً سلبيةً في مرحلةٍ أخرى من مراحلها، مثل قضية الصَّحراء على سبيل المثال، التي شكَّلت عامـلاً من أهم العوامل التي شجَّعت على التعاون والتقارُب بين البلدين في السنوات الأولى من سبعينيَّات القرن الماضي؛ وهي نفسها القضية التي ستمثل أهم عاملٍ للصِّراع ومبررٍ للقطيعة بينهما في السنوات الأخيرة من السبعينيات والسنوات الأولى من الثمانينيات من القرن نفسه.
وعلى الرغم من الصعوبات المنهجية السابقة فإنه لا يمكن تناول العلاقات المغربية – الموريتانية من غير الحديث عن مجموعة العوامل والمؤثرات التي تتحكم فيها بالسلب أو الإيجاب وهي ما يُسمَّى أيضاً بالمُحددات، وبوجهٍ عامٍّ يمكننا أن نجمل المحددات التي تدفع الطرفين المغربي والموريتاني إلى التعاون والتقارب في العوامل التالية:
1 – العامل الجغرافي
يمكن القول إن هنالك مجموعة من العوامل التي تجمع ما بين المغرب وموريتانيا، ولعلَّ من بين أهم تلك العوامل العامل الجغرافي، ذلك أن كلّاً من البلدين من الناحية الجغرافية يحتلُّ موقعاً مهمّاً ومحورياً. فالمغرب يقع في غرب الوطن العربي ويجعل منه موقعه الجغرافي المتميز البلد الأفريقي الوحيدُ الذي يتوافر على الواجهتين البحريتين المتوسطية والأطلسية، كما أن للمغرب، إلى جانب ذلك، ثلاثة أبعاد: البعد الأطلسي؛ والبعد المتوسطي؛ ثم البعد الصَّحْراوي الذي يربط المغرب عبر الصحراء بموريتانيا وأفريقيا جنوب الصحراء.
أدَّى هذا الموقع الجغرافي المهمُّ الذي يحتله، إضافةً إلى قُربه من القارَّة الأوروبية التي يفصله عنها 14 كلم فقط إلى دخوله في مسلسلٍ استعماريٍّ أثرت نتائجه وما زالت تؤثر في سياسته الخارجية وعلاقاته الإقليميَّة والدولية. وقد كان الوعيُ بالأهمية الجيوستراتيجية لموقع المغرب الجغرافي حاضراً منذ البداية لدى صُنَّاعِ السِّياسَة الخارجية المغربية، وفي هذا الصَّدد يقول الملك الحسن الثاني في كتابه التحدي: «يُشبِهُ المغربُ شجرةً تمْتَدُّ جُذورها المغذية امتداداً عميقاً في التراب الأفريقي، وتتنفس بفضل أوراقها التي يقوِّيها النَّسِيم الأوروبي، بيد أن حياة المغرب ليست عمودية الامتداد فحسب، بل هي تمتد كذلك امتداداً أفقياً نحو الشرق الذي نحن مرتبِطون معه بالتالد والطارف من الصلات الثقافيَّة، وحتى لو أردنا – ونحن لا نريد قطعاً – فإنه من المستحيل علينا قطع هذه الصلات. ولقد كان الملك الراحل الحسن الثاني يرى أن المغرب قد تمكَّن فعلاً من استرجاع المكان الذي كان جغرافيّاً وتاريخياً وسياسياً مكانه، فقد «عاد أمة تركيبٍ وجمعٍ ووصل بين الشرق والغرب».
أما موريتانيا فتحتل هي الأخرى موقعاً جغرافيّاً مهمّاً، إذ إن موقعها في غرب الوطن العربي يجعل منها نقطة الالتقاء بين العرب والأفارقة من ناحيةٍ، وبين شمال القارَّة الأفريقية وجنوبها من ناحية أخرى. يضاف إلى ذلك وجود موريتانيا في شرق المحيط الأطلسي، وهو ما يعطيها أهمية من الناحيتين الاقتصادية والجيوستراتيجية.
ثم إن لموريتانيا بعداً صحراويّاً مهمّاً حيث تمتد هذه الصحاري على امْتداد التراب الموريتاني، إذ يُعَدُّ هذا الأخير بلداً صحراوياً، له إطلالةٌ مهمَّةٌ على مجابات الصحراء الكبرى الممتدة حتى النيجر. وقد كان هذا الموقع الجغرافي المتميز عامـلاً حاسماً في خضوع موريتانيا للاستعمارِ الفرنسي، وخصوصاً أنه حين استعمار موريتانيا في بدايات القرن العشرين لم تكن – على خلاف جيرانها – تتمتع بأي موارد اقتصاديَّةٍ تُذكر، وقد صنفها المستعمر الفرنسي مُجرد صحراءَ قاحلة ومُترامية الأطراف يناط بها دور واحِد لا غير وهو ربط مستعمرات فرنسا في شمال أفريقيا بمستعمراتها في أفريقيا جنوب الصحراء.
وقد تأكدت أهمية ذلك الموقع الجغرافي بعد استقلال موريتانيا، حيث نظرت إليه النُّخْبة الحاكمة آنذاك بوصفه إحدى الأوراق الرابحة التي يمكن أن تراهن عليها موريتانيا في سياستها الخارجية، وهذا ما أشار إليه الرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد داداه عندما قال في كتابه موريتانيا على درب التحديات بأن هذه الأخيرة «لمْ تَعُدْ تلك الصحراء الشاسعة، الوعرة التي تشكِّل شبه حاجزٍ يصعُب على الأفكار والبشر اجتيازُه بين عالم حوض البحر الأبيض المتوسط وبين أفريقيا (جنوب الصحراء)… فموريتانيا هي في الواقع جسرٌ طبيعيٌّ وهمْزَةُ وصل بين عالم عرب وبربر البحر الأبيض المتوسط، وعالم أفريقيا (جنوب الصحراء)».
وإضافة إلى الأهمية الكبيرة التي يحتلها كلا البلدين من الناحية الجغرافية، والتي تجعل من الموقع الجُغرافِيِّ لكُلٍّ منهما أداةً مهمّةً من أدوات سياسته الخارجية، وتجعل كذلك من البُعد الجغرافي أحد الأبعاد الأكثر تأثيراً في سياستيهما الخارجيتين، فإن المغرب يُعَدُّ بحق بوابة موريتانيا إلى أوروبا، في حين أن موريتانيا تشكل واجهة لانفتاح المغرب على عمقه الأفريقي وبالتالي فإنه ليس بإمكان أي من الطرفين أن يستغني عن العلاقة مع الطرف الآخر.
كما أن وجود كلٍّ من الدَّولتين في هذه المنطقة الجغْرافيَّة ذات الأهميَّة الخاصَّة يحتِّم عليهما تطوير أوجه متعددة من التعاون. ونظراً إلى تداخُل المصالح الجيوسياسية بين الطرفين على المستوى الإقليمي، فإنَّ منطق المصالح يُملي على البلدين مستوى من التَّجانُس والتنسيق بين المواقف وقدراً من المُرونة الدِّبلوماسية وتناسي الخلافات من أجل ضمان انسياب حركية الأطرِ الإقليمية والمُنتدَيات التي ينتميان إليها، أو التي تنظم فعالياتها في إحدى العاصمتين وتستدعي حضور البلد الآخر للمشاركة فيها.
2 – العامل التاريخي والحضاري
ليس العامل الجغرافي هو الوحيد الذي يجمع بين البلدين وإنما هنالك العامل التاريخي والحضاري أيضاً، فمن الناحية التاريخيَّة هنالك ما يقارب القرنين من التاريخ المشترك بين الدولتين، كما أن كلا البلدين قد ظلَّ لفترات طويلة من الزمن، يمثل جزءاً من إمبراطورية واحدة مُترامية الأطراف، وهي الإمبراطورية الإِسلامِيَّة، وكان ذلك بوجه خاصٍّ في عَهدِ الخلافتيْن الأموية والعباسية اللتين ظلَّ وَلاء البلدين لهما قائماً، وإن كان ذلك الولاء يتم بصورة غيْرِ مُباشِرة غالباً كون البلدين – وبخاصَّةً المغرب – قد عرفا قيام حركاتٍ استقلاليَّةٍ بل وأكثر من ذلك قيام دولٍ مُسْتقلَّةٍ، كما أن كلا البلدين لم يكُنْ جُزْءاً من سُلطان الدولة العثمانية.
كما أن الصلات والروابط بين البلدين استمرت على مر العصور وظلت راسخة وقوية، سواء من خلال الأدوار المهمة التي اضطلع بها الموريتانيون والمغاربة في عدد من الإمبراطوريات والدول التي عرَفتها المنطقة – وبخاصَّة الإمبراطوريتان المرابطية والموحدية – أو من خلال الهجرات التي ظل خط التواصل فيها غالباً شمالياً – جنوبياً، أي من المغرب إلى موريتانيا، إلا ما كان مِنْ أمر الهِجْرة التي حصلت على عهد المرابطين حيث عكست خط التواصل الحضاري بين الطرفين ليُصْبِحَ جنوبياً – شمالياً، أي من موريتانيا إلى المغرب.
مِنْ جهةٍ أخرى، كان لعلماء ومثقفي كل من البلدين دور مهم في النهضة الثقافية التي عرفها البلد الآخر؛ فالفُقهاء المغاربة أسهموا بدور فاعل في الصحوة الثقافية التي عرفتها بلاد شنقيط من خلال إسهامهم في تأسيس بعض الحواضر العلمية التي أصبح لها في ما بعد شأن كبير في النهضة الثقافية والعِلمية التي شهدتها البلاد، وفي المقابل كان للمثقفينَ والعلماء الشناقطة أيضاً دورٌ مهمٌّ في الحركة الثقافية والفكرية التي عرفها المغرب على عهد العلويين، وتظهَرُ بعضُ معالم ذلك الإسْهام من خلال المشاركة الفاعلة في المناظرات العلمية التي كان يُنظمها سلاطين المغرب في ذلك الوقت حول ما يُمْكِنُ أن نُسَمِّيَهُ «قضايا الساعة» التي كانت تنالُ النَّصيبَ الأكْبرَ من اهتمام النُّخبة، مثل قضايا الإصلاح الديني والوهابية ومَكانة فقه الفُروع.
علاوةً على ما سبَقَ ذِكْرُه ظلَّ المغربَ يُشكِّلُ – ولقُرونٍ عَديدةٍ – مَمَراً لقوافلِ الحُجَّاج الموريتانيين؛ وهو ما أسهم في تقوية الأواصِرِ بين الطرفين، ثم جاءت مرحلة الإمارات التقليدية التي شَهدتْ حُصولَ العَديد من التَّحالفات بين المغرب وبعض تلك الإمارات.
ونظراً إلى قُوة تلك العلاقة وتَجذُّرها فإنَّ المُستعمِر الفرنسي لم ينجح في قطعها نهائياً، وعلى الرغم من المحاولات المتكررة التي بذلها في هذا الصدد من خلال سعيه إلى إدماج موريتانيا على نحوٍ كامل في المنظومة الغرب الأفريقية، وقطع كل رابط أو صلة لها بميحطها العربي والإسلامي وذلك عبر عزلها على نحوٍ شبه كلي عن الدول المغاربية وبخاصة المغرب.
هذا من الوجهة التاريخية، أما من الناحية الحضارية فإن كـلاً من البلدين كان ولا يزال يشكِّلُ جزءاً من الحضارة الإسلامية بإسهاماتها المتميزة وإشعاعِها العِلْمِي والمعرفي الكبير، ذلك بأن كُلّاً منهما قد دخل منذ الفتح الإسلامِي طَوراً جَديداً من تكوينه الحَضاري والتاريخي، حيث أتاح الفتح الإسلامي لهما الفُرْصَة لتجاوز الواقع المتخلف الذي كانا يعيشانه، وهو واقع البدواة القبلية، وهي المرحلة التي لم يكونا يختصان فيها بأرضٍ بعينها، كما لم يكونا يشكلان فيها جزءاً مِن جَماعَةٍ بَشَريَّةٍ واحِدَةٍ، لينتقلا مع الفتح الإسلامِي إلى مرحلةٍ أكْثرَ تَطَوُّراً من تاريخهما حيث أصبحا يختصان بأرضٍ بعينها ويشكلان جزءاً من جماعةٍ بَشريةٍ واحِدةٍ.
إضافةً إلى ذلك فتحَ الفتحُ الإسْلامي أيضاً الباب واسِعاً أمَامَ المغاربة والموريتانيين للتفاعل فيما بينهم من جِهَةٍ وبينهم وبين باقي الشُّعوب الإسلامية من جهةٍ أخرى وبينهم وبين باقي الجماعات والشعوب المجاورة من جهةٍ ثالثَةٍ، الأمر الذي منح لهم فرصاً هائِلةً للتَّطَوُّرِ، بحيث أصبحوا بعْدَ عِدَّةِ قُرونٍ من الفتح الإسْلامي يُشَكِّلونَ مع باقي الشعوب العربية والإسْلامِيَّة جماعةً بَشَريَّةً واحدةً لها مُدركاتها الخاصة.
هذا الأمْرُ هو الذي يبرِّرُ لنا كونَ المَغارِبة والموريتانيين يَتَمتَّعُونَ بدرجةٍ عالِيةٍ من التَّجانُسِ اللغَوِيِّ والثَّقافِيِّ، ويَظْهَرُ ذلك التَّجانُسُ مِن خلالِ عددِ مِن المُعطَيات من بينها أنَّهُم ينتمون إلى دينٍ واحدٍ تقريباً، ويتحدَّثونَ لغَةً واحِدةً، ويَصدُرونَ عن التقاليد الثقافية نفسها، كما يشتركون في تاريخٍ واحدٍ.
ومن النَّاحية الاجتماعية ترتبط المملكةَ المغربيَّةَ «بعلاقاتٍ واسِعَةٍ ذات امتدادٍ ثقافيٍّ وروحِيٍّ مع بعض الأوساط الاجتماعية في موريتانيا، وتؤسس هذه العلاقات الروحية لتأثيرٍ سياسِيٍّ وثقافِيٍّ كبيرٍ في المحيط الإقْليمِيِّ لموريتانيا،.. بينما تمتلِكُ موريتانيا عُمْقاً اجتماعياً يُشكِّلُ رافعةً لنفوذها السِّيَاسيِّ داخِلَ المَناطِقِ الصحروِايَّةِ»، فالموريتانيون – كما هو مَعْروفٌ – لديهم عدد من المشتركات الثقافية مع الصحراويين.
إضافةً إلى ما سبق يُلاحَظُ هَيمَنةُ النَّمَطِ نفسه تقريباً من التديُّن على الفكر الديني في المغرب وموريتانيا، وهو نمط يتسم عموماً بالتسامح والبعد من الغلوِّ والتطرفِ، ويمكن أن يلخَّص في أقانيم ثلاثة هي: العقيدة الأشْعَرِية، والفِقه المالِكِي، والتصوُّف الجنيدي؛ بوصفها الخيار الفقهي والعقدي والديني الذي انتهجه المغاربة والموريتانيون منذُ قُرونٍ خَلَتْ، ليس ذلك فحسب، بلْ إنَّ الخيارات الثقافية الدينية تكادُ تكون هي نفسها لدى كِلا الشعبين.
فبحسب تعبير ددود ولد عبد الله: «هنا وهناك مالكيةً راسخةً لم تَعُدْ مَحَلَّ نقاشٍ، والمعتبَرُ من المالكية هو ما اشتهر عن ابن القاسِم العُتَقِي، حتى ولو خالف ما عند مالِكٍ في المؤطأ، وحلَّت مُخْتصرات الفروع مَحَلَّ أُمَّهاتِها، حتى أصبح المُعَوَّلُ النهائي على الأحكام الواردة في مختصر خليل بن إِسْحاقَ وشروحه وحواشيه».
كل تلك العوامل السالفة الذكر تجعلُ من المحدد التاريخي والحضاري أحد أهم عوامل التقريب بين المغرب وموريتانيا، وواحداً من أهم محددات التواصل بينهما، ولا سيَّما أن انتماءاتِهِما تكادُ تكونُ واحِدَةً تقريباً، فكلٌّ من المغرب وموريتانيا يُعَدُّ بلداً مغاربياً، وعربياً وإسلامياً، من دون أن ننسى الانتماء الأفريقي للدولتين.
هذه الانتماءاتُ يؤكِّدها دُستورا البلدين، فدستور المملكة المغربية الصادر عام 2011 يتحدث في ديباجته عن أن «المملكة المغربية دولةٌ إِسلامية ذات سيادةٍ كامِلةٍ، […]
وتأسيساً على هذه القيم والمبادئ الثابتة، وعلى إرادتها القوية في ترسيخ روابط الإخاءِ والصَّداقة والتعاوُن والتضامن والشراكة البناءة، وتحقيق التقدم المشترك، فإن المملكة المغربية، الدولة الموحَّدَة، ذاتَ السيادة الكاملة، المنتمية إلى المغرب الكبير، تؤكد وتلتزم بما يلي:
- العمل على بناء الاتحاد المغاربي كخيار استراتيجي ؛
- تعميق أواصر الانتماء إلى الأمة العربية والإسلامية، وتوطيد وشائج الأخوّة والتضَامنِ مع شعوبها الشقيقة؛
- تقوية علاقات التعاون والتضامن مع الشعوب والبلدان الأفريقية، ولا سيَّما مع بلدان الساحل وجنوب الصحراء».
الأمر نفسه تقريباً نصَّتْ عليه ديباجة الدستور الموريتاني الأخير، التي جاء فيها «إن الشعب الموريتاني ووعياً منه بضرورة تثبيت الروابط مع الشعوب الشقيقة فإنه كشعب مُسْلِمٍ عربِيٍّ أفريقيٍّ يُعلن تصميمَه على السعي من أجل تحقيق وحدة المغرب العربي الكبير والأمة العربية وأفريقيا».
كُلُّ هذه العوامل التاريخية والحضارِيَّةِ تَجْعَلُ مِن المُسْتبعَدِ حصولَ قطيعةٍ كامِلةٍ بين البلدين، فمهما كانت نقاطُ الخلاف بينهما متعددةً ومهما كانت هُوَّة ذلك الخلاف عميقةً، فإنه لا يُمكن لمسؤولي البلدين وصُنَّاع سياستيهما الخارجيتين أن يُغفِلوا عُمْقَ العلاقة بين الشعبين وتجذُّرها، وهي العلاقة التي تضرب بجذورها في التاريخ، وتمتَدُّ إلى أكثر من عشرين قرناً من الزمن، قبل الدولة المعاصرة، وما يُقارِبُ الخمسة عقودٍ في ظل الدولة المعاصرة، وبالتالي فإنَّ من شأن استحْضارَ البُعْدِ التاريخي والحضاري للعلاقة، إن حصل، أن يجسر هُوة الخلافات القائمة بينهما، وأن يساعد على تقريب وجهات النظر تجاه القضايا الخلافية، أو على الأقل أن يحصر تلك الخلافات في حدها الأدنى.
3 – العامل الاقتصادي
هنالك عدد من القواسم المشتركة التي تجمع بين البلدين من النواحي الاقتصادية، فمِن جهةٍ تتشابه كلتا الدولتين في أنهما – على الرغم من حصولهما على استقلالهما السياسي منذُ عُقودٍ – ما زالتا من الناحية الاقتصادية تعانيان تبعيةً واضِحَةً، للدول الغربية المتقدمة، ويعودُ ذلك إلى كون البلدين لم يتمكَّنا من تغيير هياكلهما الاقتصادية، أو تحسين موقعهما، في إطار النظام الاقتصادي العالمي، على النحو الذي يُعَزِّزُ من موقفهما الضعيف، والتابع للاقتصاد الرأسمالي، ويحقق لهما الاستقلال الاقتصادي، وينفي تبعيتهما للخارج.
كما أنَّهُما تتشابهان في كونهما تعرفان تركُّزاً سلعيّاً واضحاً، في جانب الصادرات، وتنوعاً مُفرطاً في جانِب الواردات، في ما يتعلق بتجارتهما الخارجية، فضلاً عن أنَّ كلاهما يُعاني انكشافاً اقتصادياً واضحاً على العالم الخارجي. وقد تسبَّبَتْ تلك العوائق الاقتصادية في عدم تمكنهما من استثمار ثرواتهما على النحو الأمثل: الفوسفات والسمك في ما يتعلق بالمغرب، والحديد والذهب والنحاس والأسماك في ما يتعلق بموريتانيا.
كما كان لتلك العوائق تأثيراتٌ سَلبيَّةٌ في العلاقات الاقتصادية بين البلدين، وأدَّت إلى إضعافها؛ فعلى الرغم من أن حجم المبادلات التجارية بين البلدين يصِلُ إلى حدود الملياري درهم أيْ ما يعادل 60 مليار أوقية، فإن هذا الرقم لا يزال دون تطلعات مسؤولي البلدين وشعبيهما، كما أنه لا يعكسُ بجلاءٍ قُوة العلاقات التَّاريخيَّة والاجْتماعِيَّة بيْن الشَّعبين الشقيقين؛ الأمر الذي يجعل مَسْؤولي البَلدَيْنِ مَدْعوَّينَ إلى النظر بجدٍّ أكبرَ إلى السُّبل الكفيلة بتقوية العلاقات بينهما، وإزاحة كل العراقيل التي مِنْ شأنها أنْ تُعيقَ نمو تلك العلاقات وتطورها.
مع ذلك فإن الحجمَ الحَالِيَّ للمَصَالحِ الاقْتصادِيَّة بيْنَ البلدَيْن لا يَسْمَحُ بأن تبقى العلاقات بينهما مُتوتِّرةً؛ فإذا أخذنا قطاعَ الاتصالات على سبيل المثال سنجد أن المعطيات التي كشَفَتها شركة «اتصالات المغرب» في شباط/فبراير 2013 قد أظهرت امتلاكها أكثر من 61 بالمئة من حصة سُوق الهاتِفِ النقال والثابت والإنترنت في موريتانيا للعام 2012. يعطينا هذا المثال صورةً عَن الحَجْمِ المهم للاسْتثمارِ المَغْرِبِيِّ في موريتانيا، وعن أن مثل هذه الاستثمارات إن تم تعزيزُها قد تشكل قاطرةً لعلاقات مُتميزة بين الطَّرفيْن عِمادُها التَّعاون الاقتصادي مع تجسير هوة الخِلافات السياسية بين الطرفين أو إبقائِها عِند حُدودِها الدُّنيا. وهذا ما تعمل مَجْموعةٌ من الشركات والمُسْتثمِرينَ المَغاربة على إقناع سلطات بِلادِهم به، مِنْ خلال تأكيدِهم أنَّه قدْ أضْحى من الضَّرورِي التَّعالي عن الخِلافات السِّياسية وإكراهاتها، والسعي نحو تفعيل آليات الاقتصاد والأعمال، لاستغلال الفرص المتاحة مع بلدان جنوب الصحراء بما فيها موريتانيا.
الأمر نفسُه هو الذي يجب أن يعمل المستثمرون ورجال الأعمال الموريتانيون على أن يقنعوا به صنّاع السياسة الخارجية الموريتانية، فقد آن الأوان أن يؤسس البلدان لعلاقات اقتصادية قوية مبنية على المصالح المشتركة، الأمر الذي يحتِّم على الطرفين تسريع وتيرة علاقاتهما الاقتصادية ومبادلاتهما التجارية، والقيام باستثمارات مشتركة سواء بين حكومتي البلدين أو بين رجال الأعمال فيهما، على أن تتم تلك الاستثمارات في البلدين أو حتى في أفريقيا جنوب الصحراء.
4 – العامل السياسي
هناك عدد من العوامل السياسية التي تدفع الطرفين إلى محاولة تحسين العلاقات بينهما، وعدم السماح لأي خلاف بينهما أن يتفاقم ليصل إلى إحداث قطيعة كاملة في العلاقات؛ ولعل من بين تلك العوامل أن البلدين يشتركان في كونهما عضوين، في عدد من المنظمات الإقليمية والدولية، مثل منظمة الأمم المتحدة، ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وحركة عدم الانحياز، وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي، وغيرها، مع ما يعنيه ذلك من حتمية أن يتعاونا معاً من خلال هذه الأطر بوصفهما جزءاً من تعاون أكبر متعدد الأطراف.
إضافة إلى ما سبق، فإن لكل من الدولتين جواراً جغرافياً غنياً بالطاقة بحيث يجعل من المنطقة التي يوجدان فيها هدفاً دائماً لتصارع المصالح بين القوى الكبرى؛ وما يؤكد ذلك هو التنافس الأمريكي – الأوروبي الحالي على هذه المنطقة، وبالتالي فإن أياً منهما ليس بإمكانه أن يبني سياسته الإقليمية الخاصة أو أن يرسم سياسته الخارجية من دون أن يأخذ في الحسبان رقابة الدول الكبرى وحاجاتها، وتلك الدول الكبرى لن تسمح لأي خلاف بين الطرفين أن يتفاقم ليصل إلى الإضرار بمصالح تلك القوى في المنطقة، ولا سيّما أن تعطيل التعاون بين الطرفين أو تجميده لبعض الوقت قد تكون له انعكاسات مهمة على مصالح تلك القوى، سواء في ما يتعلق بمحاربة الإرهاب أو الهجرة السرية، وكلاهما من الملفات التي ينهض فيها البلدان بدور مهم على المستوى الإقليمي.
علاوة على كل تلك المعطيات السالفة الذكر نجد تشابهاً كبيراً حاصـلاً بين محددات السياسة الخارجية في البلدين والعوامل المؤثرة فيها نظراً إلى أنهما استقلتا في المرحلة نفسها تقريباً (المغرب في سنة 1956 وموريتانيا في 1960)، كما أنهما تفاعلتا وتتفاعلان نسبياً مع الدوائر نفسها.
إضافةً إلى ما تقدم فإن كلا البلدين يحتل أهمية خاصة بالنسبة إلى الطرف الآخر؛ فالمملكة المغربية تعد دولة مهمة ومحورية ضمن المحيط الإقليمي لموريتانيا، ليس فقط بسبب الروابط الروحية والثقافية والاجتماعية التي تربط المملكة بقطاعات متعددة من المجتمع الموريتاني، وإنما أيضاً بفعل النفوذ الواسع والقدرة الكبيرة على التأثير اللتين تمتلكهما المغرب في بعض دول الجوار الإقليمي لموريتانيا وبخاصة السنغال، وبدرجة أقل مالي وباقي دول غرب أفريقيا.
ليس ذلك فحسب، بل إن تأثير المغرب في علاقات موريتانيا مع الدول الأخرى يتجاوز حدود المحيط الأفريقي لموريتانيا ليصل تأثيره إلى علاقات موريتانيا مع بعض الدول الخليجية، وتحديداً السعودية التي يمتلك المغرب قدرة كبيرة على التأثير في علاقاتها بموريتانيا، بحكم العلاقات المتميزة وذات الطبيعة الخاصة التي تجمع المغرب بالسعودية.
أما المغرب فإنه يولي أهميةً خاصَّةً لموريتانيا ضمن سياسته الإقليمية في المنطقة المغاربية، كما أنه يعوِّل كثيراً على استمرار حياد موريتانيا تجاه قضية الصحراء، وهو الحياد الذي يحاول المغرب بشتى الطرق أن يضمن استمراره من أجل أن يشكل حافزاً لجهوده الساعية إلى عزل جبهة البوليساريو وتضييق دائرة المعترفين بها والمتعاطفين معها، ولا سيَّما أن المغرب يدرك جيداً أن موريتانيا لديها العديد من الأوراق التي يمكن أن تؤديها في الملف الصحرواي سلباً وإيجاباً.
كل تلك العوامل التي أسلفنا الحديث عنها تجعل من الصعب تصور حدوث قطيعة كاملة في العلاقات بين الدولتين، وبالتالي فإن التوتر الذي يحصل بينهما في بعض الأحيان يظل دائماً محكوماً بسقف معيَّن لا يمكن تجاوزه. كما أن الخبرة التاريخية لتلك العلاقات تفيد بأنه حتى في ظل التوترات التي تحصل بين الطرفين فهناك دائماً سبل للتواصل ظلت قائمة بينهما.
ثانياً: مبررات القطيعة والتباعد
1 – العلاقة مع الجزائر والموقف من قضية الصحراء
بخلاف المغرب الذي يعَدّ من بين البلدان المغاربية المهمة التي تنافس على زعامة منطقة شمال أفريقيا، ويعد أحد قطبَي الرحى فيها إلى جانب الجزائر، فإن موريتانيا تعَدّ بلداً محدود الإمكانيات، ولا تمتلك القدرات التي تؤهلها للمنافسة على زعامة تلك المنطقة، وبالتالي فإن هدفها الأساسي في هذه الدائرة هو أن تنأى بنفسها من ذلك الصراع وتبني سياسة مستقلة عن هذين القطبين وموازنة بينهما قدر الإمكان.
وبالرغم من حرص أغلب الحكام الذين تعاقبوا على سدة الحكم في موريتانيا على تجسيد ذلك التوازن في سياستها الخارجية تجاه هذين القطبين إدراكاً منهم للمخاطر التي قد تنجم عن إقحام موريتانيا في الصراع الجزائري – المغربي، فإن إحداث ذلك التوازن الفعلي في سياسة موريتانيا الإقليمية قد ظل يصطدم بصعوبات متعددة، لعل من أهمها أن مشكل الزعامة في شمال أفريقيا – كما ترى ذلك «زهرة طموح» – مطروح بإلحاح وحدّة أكثر مما هو مطروح في باقي القارة الأفريقية.
فإذا كانت الزعامة محسومة سلفاً في غرب أفريقيا لمصلحة نيجيريا بحكم مساحتها ووزنها الديمغرافي وقوتها الاقتصادية والعسكرية؛ وإذا كان التوافق كذلك حول زعامة جنوب أفريقيا أمراً بديهياً لمجموع دول أفريقيا الجنوبية، نظراً إلى ريادتها الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية؛ وإذا كانت كينيا تؤدي دور الزعامة ولو نسبياً في شرق أفريقيا، فإن الوضع يختلف تماماً في منطقة شمال أفريقيا بحيث لا يبدو أن الزعامة قد حُسمت حتى الآن لأي من الأطراف المتنافسة؛ فبعد أن ظلت مصر لسنوات طويلة تؤدي هذا الدور في تلك المنطقة فإن دورها الأفريقي قد تراجع مؤخراًَ إلى حدٍ كبير عن ما كان عليه في الماضي، وقد ترك هذا التراجع فرصة للتنافس على تلك الزعامة بين بعض البلدان المغاربية، وبخاصة المغرب والجزائر، سواء على مستوى المغرب العربي بوجه خاص أو في شمال أفريقيا بوجه عام، في ظروف يصعب فيها الحسم الطبيعي نظراً إلى التقارب في المؤهلات بين البلدين. وقد دفعت شدة التنافس والصراع الحاد بين المغرب والجزائر مستشار الرئيس الجزائري السابق محيي الدين اعميمور إلى مقارنة وضعية التنافس بين البلدين بالصراع الحاد الذي كان يدور بين فرنسا وألمانيا قبل قيام مصالحة بينهما، وهي المصالحة التي شكلت في ما بعد بداية لقيام المشروع الوحدوي الأوروبي.
وإزاء ذلك الواقع المعقد الذي يطبعه الصراع بين البلدين الشقيقين، المغرب والجزائر، وجدت موريتانيا نفسها مجبرة على بذل جهد مضاعف من أجل إحداث التوازن المطلوب في سياستها الخارجية بغية الحفاظ على علاقات جيدة مع البلدين، مع البقاء على الحياد في الصراع القائم بينهما وعدم التورط فيه قدر الإمكان.
وعلى الرغم من أن هذا الأمر يبدو قابـلاً للتحقق من الناحية النظرية، فإنه يطرح من الناحية العملية عدة صعوبات، لعل من بينها أن حدة الاستقطاب الجزائري – المغربي القائم منذ عقود تجعل من كل خطوة تقوم بها موريتانيا تجاه أي من البلدين تفسَّر من جانب البلد الآخر على أنها موجهة ضده.
وتدل الخبرة التاريخية على أن أغلب الأنظمة التي تعاقبت على الحكم في موريتانيا واجهت صعوبات متعددة حالت دون تمكنها من الحفاظ على علاقات بالدرجة نفسها من القوة مع البلدين في الآن نفسه. على سبيل المثال فإن النظام المدني بقيادة الرئيس المختار ولد داداه لم يتمكن من الحفاظ على علاقات جيدة مع الطرفين معاً إلا في الأعوام 1970 – 1974، أما في ما عدا عن ذلك فإن علاقات موريتانيا مع المغرب قد عرفت في السنوات العشر الأولى من حكمه قطيعة كاملة مع المغرب، وكان ذلك في السنوات 1960 – 1969، بسبب مطالبة هذه الأخيرة بموريتانيا.
أما علاقات موريتانيا مع الجزائر خلال حكمه فقد عرفت منذ العام 1974 توتراً متصاعداً وصل إلى حد حصول قطيعة كاملة في العلاقات بين البلدين بسبب التباين الكبير في مواقف البلدين من قضية الصحراء، وذلك في ظل التقارب الكبير الحاصل بين المغرب وموريتانيا آنذاك من جهة، وبين الجزائر وجبهة البوليساريو من جهة أخرى.
أما الرئيس محمد خونا ولد هيدالة فقد عرفت فترة حكمه حدوث توترات متعددة في العلاقات الموريتانية – المغربية، بلغت أوجها في أعوام 1981 – 1984، عندما انقطعت العلاقات كلياً بينهما على خلفية اتهامات متبادلة بين الطرفين، حيث اتهم نظام الرئيس محمد خونا ولد هيدالة المغرب بالسعي إلى إطاحة نظام حكمه من خلال دعمه لمحاولة 16 آذار/مارس الانقلابية، بينما اتهم المغرب نظام الرئيس ولد هيدالة بالتخلي عن الحياد في قضية الصحراء، وذلك من خلال دعمه لجبهة البوليساريو وتمكينها من شن هجمات على المغرب انطلاقاً من الأراضي الموريتانية.
وعلى النقيض تماماً من الضعف الشديد الذي عرفته علاقة موريتانيا مع المغرب فإن علاقاتها مع الجزائر قد عرفت على عهده تحسناً مطرداً، وصل إلى حد التنسيق والتطابق التام في وجهات النظر تجاه عدد من الملفات الإقليمية والدولية وفي مقدمتها قضية الصحراء، التي عرفت خلال هذه الحقبة دعماً متواصـلاً من البلدين لجبهة البوليساريو في صراعها مع المغرب.
أما الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد ولد الطايع فيمكن القول إنه كان من بين الرؤساء الموريتانيين القلائل الذين تمكنوا من أن يجسدوا حياداً صارماً تجاه قضية الصحراء، وأن يحافظوا على علاقة جيدة في الوقت نفسه مع كل من طرفَي المعادلة في منطقة المغرب العربي أي المغرب والجزائر.
وقد تأكد هذا الخيار بمجرد وصول الرئيس معاوية إلى الحكم بعد نجاح انقلابه على سلفه الرئيس محمد خونا ولد هيدالة، فمن جهة أبقى الرئيس معاوية على قرار الاعتراف بـ «الصحراء» كدولة مستقلة، وهو القرار الذي كان قد اتخذه ولد هيدالة أثناء وجوده في السلطة، وكان قد اتخذه بصفة فردية ومن دون أن يستشير فيه أحداً من معاونيه. ومن جهة أخرى قام معاوية، وبالتوازي مع ذلك، بتجميد العلاقة مع جبهة البوليساريو عند حدودها الدنيا، كما قام بوقف جميع الأنشطة التي كانت تقوم بها عبر التراب الموريتاني، وطردها من القواعد العسكرية التي كانت تقيمها في الشمال الموريتاني، وهي القواعد التي كان الرئيس ولد هيدالة قد سمح لجبهة البوليساريو بإقامتها، ويتعلق الأمر بكل من قاعدتَي «عين بنتيلي» و«بئر أم اكرين».
إضافة إلى ذلك، أعلن بيان صادر عن اللجنة العسكرية للخلاص الوطني التي يتزعمها الرئيس معاوية في يوم 13 كانون الأول/ديسمبر 1984، أي بعد يوم واحد من الانقلاب، عن تأكيد «النظام الجديد» تمسكه بـ «معاهدة الأخوة والصداقة» الموقعة في العام 1983 مع كل من الجزائر وتونس. ومن جهة أخرى، ومن أجل تجسيد فكرة التوازن بوضوح فقد أعادت موريتانيا علاقاتها الدبلوماسية مع المغرب في نيسان/أبريل 1985، بعد أن كانت تلك العلاقات قد قُطعت على عهد ولد هيدالة، في إثر اتهام الأخير للمغرب بدعم انقلاب ضده في عام 1981.
وإذا كانت سياسة التوازن في علاقات موريتانيا المغاربية بوجه عام وعلاقاتها مع المغرب والجزائر بوجه خاص، التي اتبعها الرئيس معاوية قد آتت أُكلها ونجحت في إبعاد موريتانيا من أتون الاستقطاب الحاد الذي تعرفه المنطقة المغاربية بسبب توتر العلاقات المغربية – الجزائرية، كما نجحت في أن تخفف من تأثير نزاع الصحراء في الداخل الموريتاني، وفي سياسة موريتانيا الخارجية، فإن هذه السياسة التي اتبعها كل من الرئيسين معاوية واعلي سرعان ما بدأ التراجع عنها على عهد الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله الذي بدأت موريتانيا على عهده تميل بقوة إلى الجزائر وجبهة البوليساريو على حساب المغرب؛ وهذا الأمر هو الذي يفسر إلى حد كبير أن المغرب كان من أول الدول التي باركت ودعمت الانقلاب عليه، وهو الانقلاب الذي قاده الرئيس محمد ولد عبد العزيز الذي كان آنئذ قائداً للحرس الرئاسي.
أما خلفه الرئيس محمد ولد عبد العزيز فقد عرفت سياسته تجاه القطبين المغاربيين المغرب والجزائر حالة من التقلب وغياب الاستقرار عكست حالة من عدم اليقين وغياب الثقة عبرت عنهما التحولات المتسارعة التي عرفتها علاقة موريتانيا مع هذين القطبين، فمن علاقة ممتازة مع المغرب وسيئة مع الجزائر خلال العامين الأولين من حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز، إلى تحسن مفاجئ وملحوظ في علاقة موريتانيا مع الجزائر يقابله على الطرف الآخر تراجع وضعف كبيران في علاقات موريتانيا مع المغرب خلال السنوات الأخيرة وتحديداً منذ عام 2012، وقد عكس ذلك الوضع حالة من البحث المستمر لدى الرئيس محمد ولد عبد العزيز عن إحداث نوع من التوازن في علاقة موريتانيا بالقطبين المغربي والجزائري من جهة، كما عكست من جهة أخرى رغبة نظام الرئيس محمد ولد عبد العزيز في إثبات نوع من الاستقلالية تجاه الطرفين، وهي الرغبة التي تعكسها بعض المواقف الحادة التي اتخذتها موريتانيا تجاه البلدين في السنوات الأخيرة مثل طرد السلطات الموريتانية لمدير مكتب الوكالة المغربية للأنباء في موريتانيا، وإبعادها كذلك أحد كبار الدبلوماسيين الجزائريين العاملين في سفارة الجزائر في نواكشوط من أراضيها، وهي المواقف التي كانت لها تداعيات سلبية على علاقات موريتانيا الإقليمية، إذ إنها أدت في حينها إلى توتر علاقة موريتانيا بكل من البلدين على حدة.
2 – المطالبة المغربية بموريتانيا
مثّلت المطالبة المغربية بموريتانيا واحداً من أهم وأكبر التحديات التي واجهت إقامة علاقات طبيعية بين البلدين كما كانت هي السبب الأساس الذي أدى إلى الصراع بين الطرفين خلال العقدين الأولين من استقلالهما، كما أن تلك المطالبة علاوة عن كونها قد ساهمت في توتير وتأزيم العلاقة بينهما فإنها قد أدت إلى أن تعرف تلك العلاقة على المستوى الرسمي حالة من القطيعة الكاملة استمرت طوال السنوات العشر التي أعقبت نيل موريتانيا استقلالها، أي الحقبة ما بين العامين 1960 و1970.
ويعود تاريخ تلك المطالبة إلى العام 1955 حين كتب السياسي المغربي المعروف وزعيم حزب الاستقلال علال الفاسي مقالاً أكد فيه أن حدود الدولة المغربية المعاصرة يجب أن تكون مطابقة كلياً لحدود الدولة المغربية التاريخية التي كانت تمتد حتى نهاية نهر السنغال، أي أنها تشمل كامل التراب الموريتاني الحالي؛ ولدعم أطروحته هذه ارتكز الفاسي على التاريخ والفكر الإسلاميين، معتبراً أن دار الإسلام هي عبارة عن كل موحد خاضع لسلطة الخليفة أمير المؤمنين روحياً وزمنياً.
أما التعبير الرسمي الأول الصريح والواضح من الدولة المغربية عن تلك المطالبة فقد جاء بعد ذلك بثلاث سنوات، أي عام 1958، وتحديداً في 25 شباط/فبراير، على لسان الملك محمد الخامس في خطاب ألقاه في محاميد الغزلان أمام القبائل الصحراوية، وعبر من خلاله عن كون كل من الصحراء وموريتانيا يشكلان جزءاً لا يتجزأ من الأراضي المغربية وعلى هذا الأساس فإن المغرب يطالب باستعادتها.
ويؤكد الملك محمد الخامس موضوعية تلك المطالب وشرعية الأسس التي تستند إليها بقوله: «مهما كانت اختيارات الموريتانيين والصحراويين، فإنهم سيظلون جزءاً من الجماعة المغربية.. سنبقى متضامنين في السراء والضراء، إذ إن جميع المغاربة في أسرة واحدة يشتركون في نفس العقيدة – الإسلام – يتكلمون نفس اللغة – العربية – ويرتبطون في الطاعة للعرش العلوي الذي يعتبر ضامن استمرارية الجماعة المغربية».
وعلى الرغم من أن ذلك الخطاب قد أسس بوضوح لمطالبة المغرب رسمياً من الناحية النظرية بموريتانيا، فإن المملكة المغربية من الناحية العملية والواقعية لم تعبر عن سياساتها تجاه موريتانيا دفعة واحدة، وإنما عبرت عنها خطوة خطوة حسب الظروف السائدة والإمكانيات المتاحة والضمانات الدولية، وكذلك تطور وضع موريتانيا في إطار علاقتها بفرنسا.
وعموماً فإن الموقف المغربي المطالب بموريتانيا قد انبنى على مجموعة من الأسس أهمها رفض اعتبار المشكلة الموريتانية نزاعاً حدودياً على غرار ما شهدته القارة السمراء بالنسبة إلى معظم الدول الأفريقية عقب استقلالها من جهة، ورفض اعتباره نزاعاً مغربياً – موريتانياً من جهة أخرى؛ أي نزاعاً بين دولتين. كما سعى إلى حرمان موريتانيا من كسب الاعتراف الدولي باستقلالها وذلك عبر محاولة تأكيد مغربيتها، وهو التأكيد الذي انبنى على نوعين من الحجج بعضها ذو طابع تاريخي، وبعضها الآخر ذو طابع قانوني، وقد تضمنهما الكتاب الأبيض الذي أصدره المغرب في الموضوع.
وكردِّ منها على هذه المطالب أصدرت الحكومة الموريتانية وثيقة رسمية عرفت بـ الكتاب الأخضر حاولت من خلالها أن تفند المطالب المغربية والأسس التي استندت إليها تلك المطالب، بما فيها نظرية الحق التاريخي ومدى إمكان اعتمادها أساساً للدولة الحديثة، كما طعنت في مفهومين أساسيين استندت إليهما الأطروحة المغربية، هما: مفهوما الإقليم المغربي وسلطة المخزن. وقد شكلت تلك الوثيقة السند القانوني لحملة دبلوماسية قامت بها موريتانيا طوال سنوات الستينيات وهدفت من خلالها إلى تأكيد استقلالها عبر إثبات عدم تبعيتها للمغرب.
وقد ركزت الاستراتيجية الموريتانية في الرد على المطالب المغربية على مجموعة من المحاور هي: تأكيد الاستقلال، والتحالف مع الجزائر، والعلاقات الوطيدة مع تونس، وتوظيف العلاقات المتميزة مع الدول الأفريقية، ثم محور المطالب التاريخية لموريتانيا في الصحراء.
وقد آتت تلك الاستراتيجية الموريتانية في نهاية المطاف أُكلها، فتم الاعتراف باستقلال موريتانيا من جانب المغرب في نهاية الستينيات، وتحديداً عام 1969، وذلك بمناسبة استضافة المغرب مؤتمر القمة الإسلامي الأول الذي انعقد في الرباط، وقد أتى هذا الاعتراف ليعزز المكاسب التي كانت موريتانيا قد حققتها على الساحة الدولية وذلك بنيلها لاعتراف الكثير من دول العالم، كما أن هذه الأخيرة كانت قد اكتسبت عضوية العديد من المنظمات الإقليمية والدولية، بما فيها الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية.
مهما يكن من أمر المطالبة المغربية بموريتانيا والملابسات والظروف التي اكتنفتها، فإن ما يهمنا منها هنا في هذه الدراسة البحثية هو أنه كانت لها تداعيات بالغة الخطورة على العلاقات بين البلدين، كما أنها طبعت المسار المستقبلي لتلك العلاقات بالكثير من الشكوك وعدم اليقين، كما أنها أخرت كثيراً قيام علاقات دبلوماسية بينهما، بحيث لم يُقم البلدان علاقات دبلوماسية إلا في عام 1970، أي بعد مرور عقد كامل من استقلال موريتانيا، وعقد ونصف العقد على استقلال المغرب.
3 – عدم استقرار نظام الحكم في موريتانيا
بخلاف المغرب الذي يعَدّ من بين أكثر البلدان استقراراً في المنطقة المغاربية بل ومن بين الأكثر استقراراً في الوطن العربي بأسره، فإن موريتانيا لم تعرف الاستقرار إلا في مراحل متفاوتة من تاريخها، بسبب الانقلابات العسكرية المتكررة والصراع المحتدم بين العسكريين على السلطة، وهو الأمر الذي كانت له بالتأكيد تداعيات سلبية على العلاقات الموريتانية – المغربية، إذ إن عدم استقرار الحكم في موريتانيا تسبب في تذبذب تلك العلاقة وعدم استقرارها على حال، كما ألقى بالمزيد من الأعباء على صنّاع القرار في البلدين، في سعيهم إلى إرساء دعائم وأسس متينة لعلاقة قوية بينهما.
والمتابع لتاريخ تلك العلاقات سيجد أن السمة الأساسية التي طبعتها هي التذبذب وعدم الاستقرار، وتحولها المفاجئ من النقيض إلى النقيض؛ فمن علاقة قوية بين الطرفين وتنسيق كامل بينهما على المستويين الإقليمي والدولي خلال مرحلة السبعينيات، إلى تدهور مفاجئ في العلاقة بينهما وصل بها إلى أدنى مستوياتها في الحقبة ما بين نهاية السبعينيات ومنتصف الثمانينيات، مروراً بتحسن ملحوظ في تلك العلاقات واستقرار نسبي استمر طوال الفترة ما بين منتصف الثمانينيات ومنتصف الألفية الأولى من القرن الحادي والعشرين، إلى تراجع مفاجئ في تلك العلاقات بدءاً من عام 2007، تزامناً مع وصول الرئيس المدني سيدي ولد الشيخ عبد الله إلى الحكم، وصولاً إلى تحسن ملحوظ في تلك العلاقة وصل بها خلال السنوات الأولى من حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز إلى أفضل مراحلها منذ عقود، قبل أن تنهار على نحوٍ مفاجئ لتدخل في مرحلة من الأزمات المتلاحقة والضعف الشديد خلال الأعوام الأخيرة وتحديداً منذ عام 2012، حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة.
4 – تباين مواقف البلدين من الربيع العربي وأساليب التعاطي معه
يمكن القول إن الدول المغاربية واجهت في العام 2011 واحداً من أكبر التحديات التي عرفتها عبر تاريخها، وقد تمثل ذلك التحدي باندلاع موجة من الإضرابات والانتفاضات اصطلح على تسميتها ثورات الربيع العربي، وإذا كانت بعض دول المنطقة المغاربية، وبخاصة تونس وليبيا، قد اختبرت تجربة الثورة بما فيها من زخم وعاطفة ومشاركة شعبية عارمة، فإن بقية الدول المغاربية، أي المغرب والجزائر وموريتانيا، قد ظل شغلها الشاغل هو الحفاظ على مؤسساتها الدستورية والسياسية من أن يجرفها مد ثورات الربيع العربي.
وقد أفرز ذلك الوضع الطارئ تبايناً في رؤية تلك البلدان الثلاثة للربيع العربي والسبل الكفيلة بتجاوزه بأقل الأضرار الممكنة، ففي حين أن كـلاً من الجزائر وموريتانيا قد مثلتا ما أسماه البعض «محور الممانعة» ضد تلك الثورات في المنطقة المغاربية، متخذين موقفاً موغـلاً في المناوءة والعداء لها، اتخذ المغرب خلافاً لذلك، موقفاً مؤيداً إلى حد ما لتلك الثورات، كما أنه حاول أن يستبق وصول المد الثوري إليه عبر القيام بمجموعة من الإصلاحات الدستورية والسياسية المهمة، وهي الإصلاحات التي آتت أُكلها بحيث مكنته من الصمود في وجه تلك الثورات.
من جهة أخرى، فإن ذلك الوضع الذي نجم عن اندلاع ثورات الربيع العربي والاختلاف في طريقة تعامل تلك الدول معه قد كانت له تداعيات سلبية على العلاقات المغربية – الموريتانية، بحيث مثل عامل ضغط جديداً على تلك العلاقات وأسهم في توتيرها، ولا سيما أن تلك الأحداث قد قربت إلى حدٍ كبير بين موريتانيا والجزائر، الذين جمع توجس نظاميهما من الثورات العربية بينهما وجعلهما يتقاربان.
5 – وسائل الإعلام
على الرغم من الدور المهم الذي أصبحت تضطلع به وسائل الإعلام في العلاقات الدولية المعاصرة، وهو الدور الذي تزايدت أهميته بصورة ملحوظة منذ مطلع التسعينيات بفعل الثورة التكنولوجية التي عرفها العالم، وهي الثورة التي مكّنت وسائل الإعلام من التأثير الكبير في الرأي العام المحلي والدولي، وذلك نظراً إلى التمازج الذي حصل بين تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا الاتصال الجماهيري، وعلى الرغم أيضاً من أن تلك الوسائل يمكن أن تؤدي أدواراً مهمّة في تقوية العلاقات بين الدول إذا ما تم استثمارها على نحوٍ إيجابي، فإنها من جهة أخرى يمكن أن تؤثر سلباً أيضاً في تلك العلاقات إذا ما ترك لها المجال لتختلق الشائعات ضد الدول الأخرى وتوفر منصة للهجوم عليها.
والدارس للعلاقات الموريتانية – المغربية سيجد أن وسائل الإعلام في البلدين قد أدت في أغلب الأحيان دوراً سلبياً في تلك العلاقات، إذ استغلت المساحة الكبيرة نسبياً من الحرية التي تتمتع بها في الدولتين مقارنة بباقي البلدان العربية لتختلق الكثير من الإشاعات المغرضة التي أضرت بالعلاقة بين الطرفين. وقد بلغ ذلك الدور السلبي لوسائل الإعلام أوجَهُ في السنوات الأخيرة، حيث سُخِّرت لأول مرة بعض وسائل الإعلام الرسمية في أحد البلدين للهجوم على البلد الآخر، في خطوة تتنافى مع منطق الأخوة وحسن الجوار الذي يجب أن يحكم العلاقة بين الطرفين.
6 – التنافس بين البلدين حول بعض الملفات الإقليمية
إضافة إلى العوامل السابقة التي كان لها دور في إضعاف العلاقات الموريتانية – المغربية وعدم وصولها إلى المستوى المأمول فإن هنالك عامـلاً آخر – لا يقل أهمية عن العوامل السابقة – قد ساهم في تذبذب تلك العلاقات ووصولها أكثر من مرة إلى شفا القطيعة. ويتعلق هذا العامل بالخلاف بين البلدين حول بعض الملفات الإقليمية، وهو الخلاف الذي وصل إلى حدود التنافس بينهما حول تلك الملفات في بعض الأحيان، وهو تنافسٌ كانت له تداعيات سلبية على العلاقة بين الطرفين.
أ – الملف الإيراني
لعل من بين تلك الملفات التي أثارت خلافاً بين الطرفين ملف العلاقة مع إيران والتباين في رؤية الطرفين لطبيعة الدور الإيراني في المنطقة المغاربية وما إذا كان الوجود الإيراني في المنطقة يشكل بعض الخطورة على النسيج الاجتماعي الداخلي في تلك الدول.
وقد اتضحت شقة الخلاف بين البلدين في التعاطي مع الملف الإيراني حين شهدت العلاقات الموريتانية – الإيرانية عام 2009 تحسناً مفاجئاً انعكس في تقارب كبير بين البلدين وفي رؤيتهما لعدد من الملفات الإقليمية والدولية وبخاصة بعد إغلاق موريتانيا السفارة الإسرائيلية في نواكشوط، الأمر الذي أغضب المغرب الذي رأى أن هذا التقارب الموريتاني – الإيراني الذي جاء في وقت كانت موريتانيا تعاني فيه من عزلة شبه كاملة بسبب تداعيات انقلاب 2008 يشكل تحدياً واستفزازاً للمغرب، ولا سيَّما أنه تزامن مع قطع المغرب علاقاته الدبلوماسية مع إيران وطرده أفراده السفارة الإيرانية رداً على ما اعتبره تدخـلاً من قبل هذه الأخيرة في شؤونه الداخلية ومحاولة منها للمساس بوحدته ونسيجه الاجتماعي عبر قيام مسؤولين إيرانيين بإجراء اتصالات مع عبد السلام ياسين زعيم حركة العدل والإحسان المحظورة من قبل السلطات المغربية، وعبر قيام السفارة الإيرانية بنشر التشيُّع بين المواطنين المغاربة كما قيل.
ب – ملف الأزمة المالية
يعَدُّ هذا الملف من بين الملفات الإقليمية التي أثارت الخلاف بين البلدين في السنوات الأخيرة، وبخاصة في ظل التقارب الكبير الذي حصل بين موريتانيا والجزائر بسبب تداعيات تلك الأزمة والذي انعكس في شكل تنسيق متبادل وتوحُّدٍ شبه كامل في وجهة نظرهما تجاه ذلك الملف، وهي وجهة النظر التي كانت تختلف عن وجهة نظر المغرب، الذي تصرّف إزاء ذلك التقارب الجزائري – الموريتاني بواقعية وحذر مخافة أن يترك ابتعاده من موريتانيا الفرصة للجزائر لتنفرد بهذه الأخيرة تحت ذريعة التعاون الأمني المشترك في مواجهة مخاطر الإرهاب في المنطقة.
ج – ملف التنافس على العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن
يُعدُّ هذا الملف من بين الملفات التي كانت لها تأثيرات سلبية في العلاقة بين الطرفين، ويرتبط بالتنافس الذي دار بين البلدين على شغل منصب عضو غير دائم في مجلس الأمن عن أفريقيا للعامين 2012 – 2013، وبخاصة أن موريتانيا رأت ترشح المغرب لمقعد العضوية غير الدائمة في مجلس الأمن استهدافاً واضحاً لها، لكونه جاء في وقت كان فيه ترشُّح موريتانيا قد لقي تأييداً واسعاً من جانب الدول الأفريقية؛ غير أن ترشح المغرب لنفس العضوية قد قلب كل المعطيات لمصلحة هذا الأخير نظراً إلى الزخم الكبير الذي يحظى به هذا الأخير على الساحة الأفريقية، كما أنه قلل من حظوظ موريتانيا في نيل المنصب.
كما زاد من ذلك الخلاف الدور الذي أدته الجزائر عبر مساندتها القوية للملف الموريتاني مستفيدة من الثقل الكبير الذي تتمتع به في الاتحاد الأفريقي، الذي تعد من بين الدول القيادية فيه، وعلى الرغم من الدعم الجزائري الكبير فإن المغرب قد فاز بالمقعد بفارق كبير جداً من الأصوات، ومن ضمن من صوَّت لمصلحة المغرب دول عديدة أعضاء في الاتحاد الأفريقي.
خاتمة
رغم أنَّ نيْل المغرب وموريتانيا استقلاليهما كان يجب أن يؤرخ لمرحلة جديدة من العلاقة بينهما يكون عمادها التعاون بين البلدين لتحقيق الأهداف المشتركة، من أمن وتنمية ورفاه اقتصادي، ولا سيَّما أن ذلك المسعى كان يمكن التعويل فيه على المشتركات الكثيرة التي تجمع بين الطرفين، لكون المصالح متقاربة والانتماءات والتوجهات هي نفسها تقريباً؛ فإن الذي حصل هو أن العلاقات بينهما لم ترْقَ إلى المستوى المطلوب رغم كل الجهود التي بذلها صنّاع القرار في البلدين منذ استقلالهما وحتى اليوم من أجل تقويتها وبنائها على أسس متينة.
كما أن تلك العلاقات عانت حالة مزمنة من عدم الاستقرار والتذبذب، وهو ما ولّد نوعاً من الشك وعدم اليقين لدى صنّاع القرار في كل بلد تجاه البلد الآخر، الأمر الذي خلق مع الوقت حالة من غياب الثقة لدى كل طرف في الطرف الآخر، وهذه المعطيات يمكن استنتاجها من خلال إلقاء نظرة فاحصة على تاريخ تلك العلاقة منذ الاستقلال وحتى اليوم، وهي النظرة التي من شأنها أن تؤكد الاستنتاج الذي خلصت إليه هذه الورقة البحثية والقاضي بأن العلاقات بين البلدين كانت دائماً تفتقد إلى الثبات والاستقرار، كما أنها كانت في الكثير من الحالات تتحول من النقيض إلى النقيض من دون أن تمر بمرحلة انتقالية.
فقد انتقلت العلاقات من حالة القطيعة الكاملة بين البلدين خلال ستينيات القرن الماضي إلى علاقات قوية وصلت إلى حد التنسيق الكامل على المستويين السياسي والاقتصادي والتحالف بينهما على المستوى العسكري خلال مرحلة السبعينيات، لتعود وتنحدر فجأة إلى أدنى مستوياتها وتبلغ حد القطيعة الكاملة بل والتهديد باللجوء إلى الحرب لتصفية الخلافات بينهما خلال نهاية السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات، لتعرف بعد ذلك تحسناً مفاجئاً وتعود علاقات قوية ومزدهرة ومستقرة إلى حد ما منذ منتصف الثمانينيات وحتى النصف الثاني من الألفية الأولى، قبل أن تعرف حالة من المد والجزر منذ النصف الثاني من الألفية الأولى وحتى تاريخ كتابة هذه الدراسة.
حاولت هذه الدراسة البحثية أن تتناول محددات الصراع ومرتكزات التعاون بين البلدين. وقد جاء ذلك خدمة للتوجه العام الذي حكم كتابة هذه الدراسة والقاضي بأن ما يجمع بين البلدين أكثر مما يفرِّق بينهما، وأن محددات التواصل هي دائمة وثابتة في حين أن مرتكزات وعوامل الفصل والتنافر هي ظرفية وعابرة، وأن الأصل الذي تقوم عليه تلك العلاقات هو التعاون والوفاق أما الصراع والخلاف فيظلان مجرد استثناء.
عموماً يمكن القول إن التعاون بين الطرفين أصبح أمراً ضرورياً لا غنى عنه لأي منهما، وبخاصة في ظل هذا العالم المُعَوْلَم الذي لا يرحم الضعفاء، وهذه البيئة الدولية المليئة بالأخطار التي تفتقد فيها كل الدول حتى الكبيرة منها اليقين والأمن، بسبب التحولات المُتسارعة والتقلبات المفاجئة التي تعرفها العلاقات الدولية في العقود الأخيرة، وبيئة إقليمية محفوفة بمخاطر الإرهاب والجريمة العابرة للقارات. ليس بسبب ذلك فحسب، ولكن هذا التعاون يظل ضرورياً حتى انطلاقاً من المعطيات الذاتية المتعلقة بكل بلد على حدة؛ فبالنسبة إلى المغرب فهو يرى أن موريتانيا تعد ذات أهمية خاصة في ما يتعلق بأمنه القومي، كما أنه يقدِّر جيداً الثقل الذي تتمتع به في ملف الصحراء، وهو ما يجعل الحفاظ على حيادها تجاه هذا الملف أمراً لا غنى عنه إذا ما أراد تضييق الخناق على البوليساريو وتقليص دائرة الدول التي تعترف بها، كما أن صنّاع القرار المغاربة يجب أن يعوا جيداً أن تمتع المغرب بعلاقات جيدة مع الدول الأفريقية وحصوله على نفوذ كبير على الساحة الأفريقية لا يمكن إلا أن يمر أولاً عبر تقوية العلاقات المغربية – الموريتانية وتحصينها من التذبذب والأزمات المفاجئة، فحتى لو تم النظر من زاوية براغماتية صرفة فلا مناص من الاعتراف بأن موريتانيا تشكل العمق الاستراتيجي للمغرب في أفريقيا وبوابته تجاه هذه الأخيرة.
أما موريتانيا فإنها تدرك جيداً أن عدم احتفاظها بعلاقة طبيعية مع المغرب يحمل في طياته مخاطر كبيرة على أمنها واستقرارها، وبخاصة أن الخبرة التاريخية دلّت على أن مَيل موريتانيا لمصلحة أي من الطرفين القويين في المعادلة المغاربية، أي المغرب والجزائر، كثيراً ما تسبب انقلابات عسكرية، كما أنه كان من العوامل المهمة التي أدت إلى افتقاد موريتانيا الاستقرار. إلى جانب ما سبق فإن موريتانيا تدرك جيداً مدى الثقل الكبير الذي يتمتع به المغرب على الساحة العربية، الأمر الذي يجعل تأثير طبيعة ونمط العلاقة التي تربط موريتانيا بالمغرب يمتد لتصل تداعياته إلى علاقة موريتانيا ببقية البلدان العربية، كما أنه حتى من ناحية مصلحية صرفة، يظل الاحتفاظ بعلاقة جيدة مع المغرب دعامة قوية للحفاظ على وحدة موريتانيا وانسجامها الاجتماعي، كون المغرب يمثّل عمقاً استراتيجياً لموريتانيا وبوابة لها على الوطن العربي، هذا الأخير الذي يشكل رافداً مهماً من روافد الهوية الموريتانية وبُعداً حضارياً مهماً لجزء معتبر من مواطنيها. كما أن بقاء موريتانيا وأمنها واستقرارها كلها أمور تظل رهينة بقدرتها على الحفاظ على ذلك التوازن الحرج بين متطلبات انتمائها العربي ومقتضيات انتمائها الأفريقي.
قد يهمكم أيضاً
الدولة المدنية في موريتانيا .. جذور الأزمة في أصل القطيعة بين المجتمع والدولة
الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي: كيف وإلى أين؟
#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المغرب #موريتانيا #العلاقات_بين_المغرب_وموريتانيا #العلاقات_المغربية_الموريتانية #المملكة_المغربية #علاقات_موريتانيا_الخارجية #علاقات_المغرب_الخارجية #المغرب_العربي
المصادر:
(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 468 في شباط/فبراير 2018.
(**) أحمد محمد الأمين انْداري: أستاذ جامعي وباحث في العلوم السِّياسيّة والعلاقات الدولية، جامعة نواكشوط العصرية – موريتانيا.
أحمد محمد الأمين انداري
أستاذ جامعي وباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، جامعة نواكشوط العصرية- موريتانيا.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.