مقدمة:

ترتبط الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية بعلاقات تاريخية ومتطورة على نحوٍ ملحوظ ومستمر. ورغم امتداد هذه العلاقات لقرون طويلة عبر التاريخ، إلا أنّ جذورها في التاريخ المعاصر تعود إلى مؤتمر باندونغ الذي عبّد الطريق لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين الدول العربية وجمهورية الصين الشعبية‏[1]. وقد تطورت هذه العلاقات عبر العقود، حيث أضحت تربط الصين علاقات دبلوماسية بجميع الدول العربية‏[2]، وكان آخرها السعودية التي أقامت علاقاتها الدبلوماسية مع جمهورية الصين الشعبية عام 1990‏[3].

وشهدت العلاقات العربية – الصينية نقلة نوعية بعد إنشاء منتدى التعاون العربي – الصيني في عام 2004، الذي أصبح منصة متعددة الأذرع لتطوير وتعزيز العلاقات بين الجانبين في مختلف المجالات‏[4]. فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين الدول العربية والصين على سبيل المثال من 36,7 مليار دولار عام 2004‏[5] إلى 191 مليار دولار في عام 2017‏[6]. هذا التطور جعل الصين تصدر في عام 2016 لأول مرة وثيقة سياسية حول سياستها تجاه الدول العربية‏[7]. ورغم هذا التطور اللافت في العلاقات، إلا أنّه لا يعني بأيّ حال من الأحوال غياب التحديات التي تواجه هذه العلاقات التي يمكن الارتقاء بها إلى مستويات أرحب من التعاون في حال التغلب على ما يعترضها من صعاب.

تتناول هذه الدراسة بعضاً من أبرز التحديات المعاصرة التي تواجه العلاقات العربية – الصينية وسبل التغلب عليها. ومن أبرز التحديات التي واجهت هذه العلاقات تلك المرتبطة بما يسمى «الربيع العربي»، الذي بدأ البعض في البلدان العربية يطلق عليه تسمية الخريف العربي‏[8]. فلقد ألقى هذا «الربيع العربي» بظلاله على العلاقات العربية – الصينية ولو لفترة وجيزة. كما تتناول الدراسة بعض التحديات الأخرى التي تواجه هذه العلاقات كتلك المتعلقة بالطاقة المتجددة، وضعف الاهتمام العربي بالصين، وضعف الاهتمام بالدراسات الصينية في البلدان العربية، وتحديات أخرى ثقافية وإعلامية.

أولاً: الصين و«الربيع العربي»

لم يكن لموقف الصين من أحداث ما سمي الربيع العربي أي أثر يذكر في علاقاتها العربية باستثناء موقفها من الأزمة السورية. وهناك العديد من العوامل التي ساهمت في تشكيل الموقف الصيني من هذه الأزمة، يمكن إيجازها في النقاط التالية:

1 – شعور الصين بالقلق الشديد من تداعيات الأزمة السورية وإمكان امتداد النزاع إلى الدول المجاورة مثل العراق ولبنان وباقي الدول في المنطقة، الأمر الذي من شأنه الإضرار بالمصالح الصينية في عموم الشرق الأوسط، كما أن سقوط النظام في سورية قد يعني زيادة في النفوذ الأمريكي والغربي بشكل عام في المنطقة، وهو ما لا ترغبه بكين بكل تأكيد.

2 – الخشية من تمدد الجماعات الإرهابية التي تهدد وحدة واستقرار الدول، بما في ذلك وحدة واستقرار الصين ذاتها. وقد تجسد القلق الصيني من موضوع الإرهاب في المنطقة خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني «شي جينبينغ» للشرق الأوسط في كانون الثاني/يناير عام 2016 والتي شملت مصر والسعودية وإيران. فخلال زيارته للسعودية رافقت أربع مقاتلات سعودية طائرة الرئيس «شي» بمجرد دخولها الأجواء السعودية‏[9].

3 – ينطلق الموقف الصيني من الأزمة السورية أيضاً من التزام تقليدي بالمبادئ الأساسية لسياسة الصين الخارجية وعلى رأسها مبادئ التعايش السلمي الخمسة التي طورها رئيس الوزراء الصيني الأسبق «شو إن لاي» عام 1954، وفي مقدمها مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول‏[10].

4 – كان للعامل الداخلي أثر كبير في صياغة الموقف الصيني من الأزمة في سورية، إذ تعاني الصين وجود جماعات انفصالية متطرفة في التبت والشنجيان ومنغوليا الداخلية. ونتيجة لهذا الوضع الداخلي الصيني لا يمكن للصين أن تشرعن التدخل الغربي أو حتى تدعمه وهي تعاني مشاكل وتحديات مماثلة‏[11].

5 – ساهمت المنطلقات الفكرية والثقافية في تشكيل الموقف الصيني من الأزمة السورية، حيث إنّ للصين منظومة من القيم الأخلاقية والثقافية المعتدلة التي كرسها فلاسفة ومفكرو الصين القدماء. وعن اعتدال الشخصية الصينية يقول حسين إسماعيل في كتابه سفر الصين «إنّ الشخصية الصينية مؤيدة طيعة وسطية وليست شخصية ناقدة أو رافضة أو متطرفة»، وهذا في رأيه ما يفسر عدم اعتناق الصينيين للأديان‏[12].

ورغم أنّ الموقف الصيني من أحداث «الربيع العربي» قد أثر سلباً في سمعتها في عدد من الدول العربية في بادئ الأمر، إلا أنّ هذا التأثير سرعان ما أخذ يتلاشى، بل لعلنا نستطيع القول إنّ الموقف الصيني كان عقلانياً وحكيماً. وقد أثبتت السنوات القليلة الماضية صواب هذا الموقف بعد أن بدأت الدولة السورية بدعم حلفائها تسيطر على الأمور عسكرياً، وبعد أن تم دحر أكبر التنظيمات الإرهابية في تاريخنا المعاصر. وبذلك لم يعد اليوم هناك من تأثير لأحداث «الربيع العربي» في العلاقات العربية – الصينية التي تمكنت الصين من التعاطي معها بطريقة عملية، مع تمسكها بمبادئ سياستها الخارجية.

ثانياً: أثر مساعي الصين لتطوير مصادر الطاقة في علاقاتها بالدول العربية

تسعى الكثير من دول العالم اليوم، وبخاصة تلك التي تعتمد على المصادر التقليدية للطاقة، كالنفط والغاز الطبيعي، لتطوير مصادر أخرى للطاقة تغنيها أو تقلل من اعتمادها على المصادر التقليدية للطاقة. والصين واحدة من دول العالم التي لها باع طويل في هذا المجال، إذ إنّ لها استثمارات هائلة في مجال الطاقة المتجددة التي تعتبر جزءاً من الطاقة غير الأحفورية. هذه المساعي الصينية ستؤثر سلباً على المدى البعيد على التعاون الاقتصادي بينها وبين الدول العربية، حيث إنّ مصادر الطاقة التقليدية هي السلعة الأهم في التبادل التجاري العربي – الصيني.

ويعتبر العامل الاقتصادي أهم عامل مؤثر في العلاقات العربية – الصينية بعد تضاؤل أثر العامل الأيديولوجي في السياسة الخارجية الصينية منذ نهاية السبعينيات. ويعتبر النفط السلعة الأهم التي تحتاجها الصين من الدول العربية لمواصلة نموها الاقتصادي وتشغيل صناعاتها المختلفة. وتعاني الصين أزمة تلوث كبيرة مصدرها استخدام الطاقة غير النظيفة كالفحم والديزل والنفط. وتكمن المشكلة في هذا الخصوص في أنّ حاجة الصين إلى النفط ومصادر الطاقة التقليدية لا تزال مستمرة، بل إنّ وكالة الطاقة الذرية تتوقع أن تستمر شهية الصين لهذه المصادر وبشكل قوي حتى أواخر العشرينيات من هذا القرن‏[13].

وقد أنشأت الصين صندوقاً للاستثمار في الطاقة المتجددة برأسمال سيبلغ 361 مليار دولار بحلول عام 2020. وتحل الصين اليوم بموجب تقارير واحصاءات الأمم المتحدة في مقدمة دول العالم المستثمرة والمنتجة للطاقة المتجددة‏[14]. وبفضل مساعيها الحثيثة أصبحت الصين اليوم الدولة الأكثر تقدماً في العالم في مجال استخدام وتصنيع الطاقة الشمسية‏[15]، إلى درجة أنّ الشركات الأمريكية تسعى اليوم للاستفادة من التكنولوجيا الصينية المتقدمة في هذا المجال، وأخذت الولايات المتحدة تستورد طاقة شمسية من الصين‏[16].

ومن الجدير بالذكر أنّ الحكومة الصينية كانت قد أصدرت في عام 2012 وثيقة بيضاء حول سياستها في مجال الطاقة، تضمنت أهداف الصين في هذا المجال، ومنها العمل على الاستثمار في مجال الطاقة النظيفة، بما في ذلك من طريق زيادة الاعتماد على مصادر الطاقة المتجددة‏[17]. ويعتبر إصدار مثل هذه الوثيقة مؤشراً واضحاً على حجم التقدم الذي أحرزته ومدى الاهتمام الذي توليه الصين لمجال الطاقة في نهضتها الاقتصادية بوجه عام.

تعمل الإدارة الوطنية للطاقة في الصين (وكالة الطاقة النووية) من أجل الحصول على طاقة نظيفة ومنخفضة الكربون، إضافة إلى نظام طاقة حديثة وآمنة وفعالة. لهذا سيتم تقليل استخدام الفحم الذي يعتبر أحد مسببي التلوث الذي تعانيه الصين، وسيحل محله الفحم النظيف. كما ستتم زيادة حصة الغاز الطبيعي بنسبة 10 بالمئة بحلول عام 2020. كل هذه الجهود الرامية لتنفيذ استراتيجية الصين في مجال الطاقة المتجددة خلال الفترة 2016 – 2020 ستكلف الصين نحو 361 مليار دولار، أي أنّ الصين ستنفق نحو 70 مليار دولار سنوياً في هذا المجال‏[18]، علماً بأنّ حجم الاستثمار العالمي في مجال الطاقة المتجددة قد بلغ 276 مليار دولار عام 2015.

ومن الجدير بالذكر أنّ الصين تستهلك اليوم أكثر من ربع طاقتها الكهربائية من مصادر الطاقة الأحفورية‏[19]. وفي الولايات المتحدة تحقق تقدم كبير في مجال النفط الصخري منذ دخول الألفية الثالثة، ففي عام 2000 كانت تنتج 102 ألف برميل يومياً، أمّا اليوم فإنّها تنتج 4,3 مليون برميل يومياً، بمعنى أنّ انتاجها ارتفع من 2 بالمئة عام 2000 إلى أكثر من نصف إنتاجها من النفط الخام خلال عام 2016‏[20]. لذلك يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أنّ النفط الصخري على سبيل المثال بات يهدد البلدان العربية النفطية، إذ إنّ التقدم الذي حدث في مجال استخراجه بانخفاض تكلفة الانتاج من 80 دولاراً للبرميل الواحد إلى 40 دولاراً هو أحد أسباب أزمة تهاوي أسعار النفط التقليدي التي يمر بها العالم منذ منتصف عام 2014، فزيادة العرض بسبب إنتاج النفط الصخري ساهم في انخفاض أسعار النفط. ومن المتوقع أن تنخفض تكلفة انتاج النفط الصخري لتصل إلى حدود نسبة إنتاج النفط التقليدي والتي تبلغ 8 دولارات للبرميل الواحد، وذلك بسبب التقدم التقني في مجال استخراج هذا النفط‏[21]، وهذا سيمثل تحدياً كبيراً للبلدان التي تعتمد على النفط التقليدي كمصدر رئيسي للدخل وفي مقدمتها البلدان العربية.

إن مساعي الصين في مجال الطاقة المتجددة والتقدم الذي أحرزته في هذا الخصوص يمكن أن تكون تحدياً وفرصة في الوقت ذاته. فهي على المدى البعيد تحد حقيقي للبلدان العربية المنتجة للنفط، التي تعتمد بالدرجة الأولى على عائدات هذه السلعة في دخلها القومي. ولهذا فإنّ أيّ تطور في مجال الطاقة المتجددة سينعكس سلباً على مبيعات الدول العربية للصين من النفط والغاز، وهذا تحدٍّ لا بد من التفكير في عواقبه على المدى البعيد. أمّا الفرصة التي يشكلها تقدم الصين في مجال الطاقة المتجددة، وبخاصة في مجال الطاقة الشمسية، فتتمثل بإمكان استفادة البلدان العربية الغنية بالطاقة الشمسية من التكنولوجيا الصينية والخبرات الصينية لتطوير صناعة عربية في مجال الطاقة الشمسية تكون بديـلاً من مصادر الطاقة التقليدية مستقبـلاً.

وترى الصين أنّ ما أحرزته من تقدم في مجال الطاقة المتجددة يشكل فرصة لتعزيز التعاون مع الدول العربية في هذا المجال، ولهذا جاء في وثيقة سياسة الصين تجاه الدول العربية الصادرة عام 2016 أنّ الصين تعمل على «تعزيز التعاون في مجال الطاقة المتجددة وفي مقدمتها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة الكهرومائية»، كما أنّها ستشارك في «بناء مركز التدريب الصيني – العربي للطاقة النظيفة»‏[22]. ولهذا يمكن للبلدان العربية الاستفادة من آليات منتدى التعاون العربي – الصيني وأهمها مؤتمر التعاون العربي – الصيني في مجال الطاقة لتطوير وتعزيز التعاون في مجال الطاقة البديلة والاستفادة من الخبرات الصينية في هذا المجال.

وتفيد بعض الدراسات بأنّ دول مجلس التعاون الخليجي على سبيل المثال يمكنها الاستفادة من مواردها الشمسية لتوليد الكهرباء وتحلية المياه، الأمر الذي يمكن أن يقلل من استخدامها للمياه بنسبة 16 المئة سنوياً، وتوفير 400 مليون برميل من النفط، وخلق نحو 210 آلاف فرصة عمل والحد من وجود الكربون لكل فرد بنسبة 8 بالمئة بحلول عام 2030، إذا ما تم تنفيذ استراتيجيات الطاقة المتجددة في هذه الدول‏[23]. ومع ذلك ينبغي التأكيد مرة أخرى أنّ التقدم والتطور العلمي في مجال الطاقة المتجددة في الصين وفي العالم بشكل عام يؤثر سلباً في علاقات الدول العربية بالصين من الناحية الاقتصادية على المدى البعيد، إذ إنّ هذه العلاقات تقوم – بدرجة كبيرة – على التعاون في مجال الطاقة التقليدية.

ويقترح بعض المعنيين بالشؤون الاقتصادية أن تعمل الدول العربية على التغلب على التحديات التي تواجهها في مجال الطاقة الأحفورية من طريق إعداد استراتيجية عربية للطاقة المتجددة، واعتماد استراتيجية للبحث والتطوير وتفعيل مراكز البحث الجامعية، والاستثمار في شركات تكنولوجيا الطاقة المتجددة‏[24].

ثالثاً: تحديات أخرى أمام التعاون العربي – الصيني

على الرغم من كل التقدم الذي شهدته العلاقات العربية – الصينية في مختلف المجالات، فإنّ هذا التقدم ليس كافياً، إذ لا يزال بإمكان الجانبين تحقيق المزيد والمزيد لو تم مضاعفة الجهود، وبخاصة من الجانب العربي. وهناك مجموعة من التحديات الراهنة التي يتعين على الجانبين، ولا سيّما الجانب العربي إيلائها المزيد من الاهتمام حتى يتم تحقيق أكبر مصلحة ممكنة من علاقاته بالصين، ومن هذه التحديات ما يلي:

1 – ضعف الاهتمام بالصين من جانب بعض البلدان العربية

لا تزال بعض البلدان العربية تنظر غرباً وتتجاهل الشرق القريب جغرافياً وثقافياً وسياسياً. ومن المفارقة أنّ الغرب بات اليوم ينظر شرقاً نحو الصين وغيرها من دول آسيا الصاعدة، غير أنّ بعض البلدان العربية لا تزال ترى في الولايات المتحدة والدول الغربية العون والسند في شؤونهم الداخلية والخارجية، بينما لا يعرف بعض من مسؤولي هذه الدول إلا اليسير من المعلومات عن الصين واقتصادها ونهضتها وتاريخها وحضارتها وثقافتها. ولو سأل أحدٌ اليوم بعض هؤلاء عن اسم الرئيس الصيني أو رئيس الوزراء أو وزير الخارجية لكانت الإجابة في الغالب خاطئة أو «لا أعرف». وفي المقابل تراهم يعرفون عن الغرب وقادته أكثر حتى مما تعرفه شعوب تلك الدول الغربية. ويقال في هذا الخصوص أنّ مسؤولاً عربياً زار السفارة الصينية في بلاده لتقديم التعازي في وفاة الزعيم الراحل دينغ شياو بينغ عام 1997، وقد تفاجأ طاقم السفارة بأنّ ذلك المسؤول العربي لا يعرف شيئاً عن هذا الزعيم الصيني الكبير. لهذا يتعين على الجانب العربي العمل بجد على تصحيح هذا الوضع الذي ليس للصين أيّ ذنب أو تقصير فيه.

ويتجلى ضعف الاهتمام بالصين من جانب بعض البلدان العربية في مشاركات هذه الدول في منتدى التعاون العربي – الصيني وآلياته المختلفة؛ فعلى سبيل المثال كان تمثيل عدد لا بأس به من الدول العربية في الدورة السابعة للمنتدى التي عقدت في قطر عام 2016 دون المستوى الوزاري الذي تعقد به هذه الاجتماعات، وهذا قد يعطي للجانب الصيني انطباعاً بعدم اهتمام تلك الدول بالعلاقات مع الصين.

2 – قلة البحوث والدراسات العربية حول الصين

تعاني الدول العربية كثيراً من قلة الأبحاث والدراسات المتخصصة المعنية بالصين، كما لا توجد في هذه الدول إلا القليل من معاهد ومراكز الأبحاث المختصة بالشؤون الصينية‏[25]، الأمر الذي يساهم في جهل المسؤول والمواطن العربي بالصين بوجه عام. إنّ وجود مراكز ومعاهد الأبحاث المتخصصة في الشأن الصيني أمرٌ في غاية الأهمية، إذ إنّ هذه المعاهد والمراكز البحثية يمكنها أن تمد صانع القرار والرأي العام العربي بالدراسات والبحوث العلمية التي تتضمن توصيات واقتراحات حول سبل تطوير علاقات التعاون بين الجانبين العربي والصيني.

ويلاحظ من خلال استعراض آليات التعاون المنبثقة عن منتدى التعاون العربي الصين وجود آلية خاصة بالتعاون في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، لكنّها أقل آلية من آليات المنتدى التي تم تفعيلها، إذ لم تعقد «ندوة التعاون العربي – الصيني في مجال التعليم العالي والبحث العلمي»، إلا اجتماعاً يتيماً في الخرطوم بالسودان عام 2009. ويقال إنّ الجانب الصيني الذي شارك بفعالية قد تفاجأ بضعف مستوى المشاركة من الجانب العربي، الأمر الذي قد يُفهم منه عدم اهتمام عربي بهذا المجال من مجالات التعاون. وإن صح ذلك، فيجب على المعنيين بأمور التعليم العالي والبحث العلمي تدارُك هذا الخطأ وتصحيحه، من خلال العمل على تعزيز التعاون في هذا المجال. يمكن في هذا الخصوص للجامعات العربية العمل على توقيع مذكرات تعاون مع العديد من جامعات ومعاهد الصين المرموقة، فضـلاً عن إبرام مذكرات تعاون بين مراكز الأبحاث العربية ونظرائها في الصين.

هناك شح في عدد من يتكلمون اللغة الصينية (الماندرين) من العرب بخلاف من يتكلمون العربية من الصينيين وهم كثرٌ لا يحصون، والفضل في ذلك يعود إلى الجامعات الصينية المتخصصة المعنية بتدريس اللغات الأجنبية وفي مقدمها جامعة اللغات الأجنبية ببكين وغيرها من جامعات اللغات المنتشرة في مختلف أنحاء الصين، التي تخرِّج أفواجاً من الناطقين بالعربية يتم اختيار الصفوة منهم للعمل في مؤسسات الدولة الصينية كوزارة الخارجية ووزارة الثقافة وغيرها. في المقابل لا تكاد تجد سفيراً أو دبلوماسياً عربياً واحداً يتحدث اللغة الصينية بطلاقة أو يعرف الكثير عن الصين.

 

3 – أثر الإعلام الغربي

إنّ كثيراً مما يقرأه المواطن العربي أو يسمعه عن الصين مصدره وسائل إعلام غربية، وهذا الأمر ينطبق على الصين حيث يتم الاعتماد على معلومات مصدرها وسائل إعلام غربية لتداولها في وسائل الإعلام الصينية المختلفة بما فيها تلفزيون الصين المركزي. ووسائل الإعلام الغربية غالباً ما تعمل على نقل صورة غير واضحة أو غير دقيقة عن الصين وعن الدول العربية على حد سواء، تحقيقاً لمصالح غربية ضيقة، وبالتالي لا تساعد تلك المعلومات في تطوير التعاون العربي – الصيني. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ الصين قد بذلت جهوداً جبارة في هذا الصدد خاصة بافتتاحها قناة الصين العربية CCTV (العربية) عام 2007 حيث تعمل هذه القناة على مخاطبة المواطن العربي بلغة عربية من طريق مذيعين معظمهم من الصينيين المتقنين للغة العربية.

إنّ التحدي المتعلق بأثر وتأثير وسائل الإعلام الغربية في المواطن العربي وانطباعه عن الصين هو تأثير مشترك، بمعنى أنّ الجانب الصيني هو الآخر يستقي معظم أخباره عن المنطقة العربية من مصادر إعلامية غربية، فتجدها تنقل صورة سلبية عن المنطقة العربية في كثير من الأحيان، وهذا ما ينبغي للجانبين العربي والصيني على حد سواء تداركه والعمل على مواجهة هذا التحدي المشترك من خلال ندوة التعاون الإعلامي العربي – الصيني التي هي إحدى آليات منتدى التعاون العربي – الصيني. ومع ذلك يلاحظ إجمالاً أنّ النظرة العربية إلى الصين هي نظرة إيجابية، فهي دولة عظمى تسعى لتعزيز علاقاتها بالدول العربية دون أن يكون لها أطماع استعمارية أو تكون لها رغبة في استغلال هذه الدول، بقدر ما ترغب في تحقيق مصالح مشتركة وفقاً لصيغة «رابح – رابح».

ويمكن للجانبين العربي والصيني القيام بعدة خطوات لتقليل الأثر السلبي للإعلام الغربي في العلاقات بينهما، كأن يتم على سبيل المثال لا الحصر ترجمة بعض المجلات العربية للغة الصينية كمجلة العربي الكويتية ومجلة المستقبل العربي اللبنانية ومجلة السياسة الدولية المصرية حتى يكون لكل جانب فرصٌ للإطلاع على الآخر بطريقة أكثر موضوعية وبعيداً من أيّ عوامل أو مؤثرات خارجية‏[26]. كما يمكن أيضاً توقيع مذكرات تفاهم واتفاقيات بين التلفزيون المركزي الصيني ونظرائه في الدول العربية، بحيث يتم تبادل بعض البرامج والأفلام الوثائقية والمسلسلات والأفلام الناجحة لدى الجانبين، إضافة إلى تبادل الزيارات والدورات التدريبية في المجال الإعلامي.

4 – ضعف دور السفارات العربية

لا يزال دور السفارات العربية في بكين ضعيفاً، وبخاصة إذا ما قورن بدور السفارة الإسرائيلية هناك. ويقال في هذا الشأن أنّ مسؤولاً صينياً أبلغ أحد السفراء العرب عن مدى نشاط السفارة الإسرائيلية في بكين وتواصلها الدائم مع المجتمع الصيني عبر التحدث الدائم لوسائل الإعلام ومراكز الأبحاث والجامعات وغيرها. وفي المقابل قلّما يكون للسفارات العربية تحركات دبلوماسية نشطة من هذا القبيل، وذلك يعود لأسباب عديدة منها عدم وجود الكفاءات العربية القادرة والمدربة على التواصل الاجتماعي والشعبي في الصين، هذا فضـلاً عن غياب الرؤى الاستراتيجية والتخطيط الدبلوماسي لدى جل هذه البعثات العربية.

ولتفعيل دور السفارات العربية في بكين ينبغي على سبيل المثال الحرص على تعيين سفراء عرب يجيدون اللغة الصينية، حتى يتمكنوا من التواصل بشكل أفضل مع المجتمع الصيني. وفي أسوأ الحالات يتعين على السفراء العرب الجدد في بكين الحرص على دراسة اللغة الصينية منذ السنة الأولى لتعيينهم، لأن اللغة هي المفتاح الرئيسي الذي يمكن من خلاله كسر الحواجز الثقافية وخلق الثقة والمودة مع الطرف الآخر.

5 – غياب الأمن والاستقرار في بعض البلدان العربية

تعاني بعض البلدان العربية من حالة غياب الأمن والاستقرار، وهو ما يجعل الصين تتردد وتتحفظ في توسيع تعاونها معها وبخاصة في المجال الاقتصادي الذي يعد العامل الأكثر تأثيراً في سياسة الصين الخارجية.

لقد مرت بعض البلدان العربية في السنوات القليلة الماضية بأزمات سياسية وأمنية انعكست سلباً على علاقات التعاون بين الدول العربية والصين، مثل الأوضاع التي شهدتها السودان بسبب أزمة جنوب السودان الذي انفصل عن الشمال عام 2011، حيث إنّ للصين الكثير من الاستثمارات في هذا البلد. كما أنّ مشكلة دارفور في غرب السودان أثرت هي الأخرى في العلاقات العربية – الصينية بوجه عام وفي العلاقات مع السودان بوجه خاص. كما أن دولة عربية أخرى لا تزال تعاني من إرهاصات ما يسمى الربيع العربي، وهو ما يؤثر سلباً في نظرة الصين للتعاون معها في المجالات كافة.

6 – أهمية العامل الثقافي

رغم كون العامل الاقتصادي هو العامل الأبرز من بين العوامل المؤثرة في السياسة الخارجية الصينية، فضـلاً عن أهميته للجانب العربي، إلا أنّه ينبغي الأخذ بعين الاعتبار أنّ ذلك لا يعني أبداً تجاهل دور العامل الثقافي في العلاقات العربية – الصينية وأهميته. وقد أدركت جمهورية الصين الشعبية هذا الأمر، ولهذا عملت على تعزيز دور هذا العامل من خلال إنشاء معاهد كونفوشيوس في مختلف الدول بما فيها الدول العربية، إضافة إلى سعيها لإنشاء المراكز الثقافية الصينية. فهي تدرك أنّ العامل الثقافي هو الأساس الذي يمكن من خلاله تعزيز علاقات التعاون في المجال الاقتصادي مع الدول العربية وباقي دول العالم. وتسعى الصين لإنشاء نحو 50 مركزاً ثقافياً حول العالم بحلول عام 2020.

جدير بالذكر أنّ الصين افتتحت في 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2017 المركز الثقافي الصيني في تل أبيب وهو أول مركز ثقافي صيني في غرب آسيا والثاني من نوعه في منطقة الشرق الأوسط بعد المركز الثقافي الصيني في القاهرة، ضمن سلسلة المراكز الثقافية الصينية حول العالم والبالغ عددها حالياً 35 مركزاً. وتدرك «إسرائيل» أهمية العامل الثقافي في تعزيز علاقاتها بالصين. كما يولي «الإسرائيليون» اهتماماً كبيراً بالصين على المستوى الأكاديمي، إذ تحظى الدراسات الصينية بشهرة واسعة في «إسرائيل» فهناك مئات الطلبة المسجلين في أقسام دراسات شرق آسيا أو في معهد كونفوشيوس‏[27].

وهناك فرص كبيرة للتعاون الثقافي بين الصين والبلدان العربية التي تجمعها الكثير من المشتركات، مثل التحديات التنموية ذاتها والعقلية الشرقية المحافظة وغيرها من المشتركات. ويمكن القول إنّ هناك عدداً من التحديات الثقافية التي تواجه الدول العربية والصين في علاقاتهما، وهي تحديات ناتجة من حاجز اللغة وعامل البعد الجغرافي. لهذا يمكن القول إنّ التغلب على هذه المعوقات الثقافية يساعد دون شك في تعميق التفاهم المتبادل اللازم لتحقيق المنفعة المتبادلة.

ويمكن من طريق تعزيز التعاون الثقافي بين الجانبين معالجة بعض أشكال سوء الفهم المشترك، كالنظرة النمطية الصينية للعرب كشعوب تعيش في بحبوحة النفط، فضـلاً عن الربط بين الإرهاب والشعوب العربية نتيجة للتأثر بما يبثه الإعلام الغربي والإعلام الصيني المتأثر بالإعلام الغربي بدرجة كبيرة. ومن المفاهيم الخاطئة الأخرى لدى الصينيين حول العرب، نظرتهم لوضع المرأة في الدول العربية، إذ يعتقدون أنّ المرأة العربية تعيش تحت وطأة قيود كثيرة على حريتها، وأنّ النساء الأجنبيات يتعرضن أيضاً للتقييد في حال إقامتهم في الدول العربية‏[28].

وفي مقابل سوء الفهم لدى الصينيين حول العرب، هناك نوع آخر من سوء الفهم لدى العرب تجاه الصين والصينيين. ومن أمثلة سوء الفهم هذه، نظرتهم للصين كبلد مصدر للبضائع الرخيصة ذات الجودة المتردية، وهو فهم خاطئ ينم عن قصور في الفهم الصحيح لواقع الصين الاقتصادي والتجاري. سوء الفهم المتبادل هذا يحتاج إلى معالجة مشتركة من الجانبين العربي والصيني، ويمكن التغلب على بعض أوجه سوء الفهم المشترك من خلال:

أ – زيادة التعاون الثقافي بين الصين والدول العربية

وفي هذا الخصوص تؤدي معاهد كونفوشيوس دوراً معتبراً في تعزيز علاقات التعاون الثقافي بين الجانبين، من خلال ردم الهوة الثقافية عبر نشر اللغة الصينية في الدول العربية.

ب – الزيارات المتبادلة

يمكن للزيارات المتبادلة، سواء على المستوى الرسمي أو الشعبي، أن تساهم في تعزيز التعاون الثقافي، وإزالة بعض أشكال سوء الفهم لدى الجانبين، فالزيارات المتبادلة تتيح فرصة لكل طرف للتعرف عن كثب إلى واقع الطرف الآخر وثقافته، ومن ثم تزول أوجه سوء الفهم المغلوطة لدى الجانبين.

ج – أهمية دور وسائل الإعلام

تؤدي وسائل الإعلام دوراً كبيراً في نشر المفاهيم الخاطئة، لهذا ينبغي العمل على استغلال هذه الوسائل في إزالة أشكال سوء الفهم وتصحيح الصورة النمطية الخاطئة بشأن الآخر. ويمكن في هذا الخصوص التنسيق بين الجانبين عبر آليات منتدى التعاون العربي – الصيني التي تعنى بالتعاون في المجال الإعلامي مثل ندوة التعاون العربي – الصيني في مجال الإعلام.

7 – الترجمة ودورها في تعزيز العلاقات العربية – الصينية

تعتبر الترجمة من أهم الوسائل المتبعة في تحقيق التقدم العلمي والتكنولوجي وتعزيز التبادل الثقافي بين الأمم، وهي لا تنقل العلوم فحسب، بل تنقل أيضاً الأدب والعادات والتقاليد والتاريخ وغيرها. والترجمة وسيلة من وسائل الحوار بين الحضارات، وإزالة أسباب الصراع بين الثقافات، وتحقيق التواصل بين الشعوب. وقد أولى العرب قديماً الترجمة الكثير من الاهتمام، وبخاصة خلال العصر العباسي، حيث أسس المأمون دار الحكمة في بغداد واستقطب المترجمين وأغدق عليهم الأموال لنقل علوم اليونان في الطب والرياضيات والموسيقى والفلسفة والنقد وغيرها‏[29].

تعود جذور الترجمة من اللغة العربية إلى الصينية إلى ما قبل قيام جمهورية الصين الشعبية بقرون، حيث بدأت الترجمة من العربية إلى الصينية في أول الأمر للكتب الإسلامية، بهدف تعريف المسلمين الصينيين بأصول ومبادئ الدين الإسلامي. ومن الرواد الصينيين الأوائل في موضوع الترجمة من العربية إلى الصينية الشيخ وانغ داي يوي (1585 – 1670) في أواخر حكم أسرة مينغ وأوائل عهد أسرة تشينغ. كما برز في هذا المجال أيضاً العلامة «ما ليان يوان» (1841 – 1903) في أواخر عهد أسرة تشينغ. ورغم تركيز الترجمات من اللغة العربية في تلك الحقب على الكتب الدينية بوجه عام، إلا أنّ الترجمة شملت أيضاً مجالات أخرى غير دينية مثل الجغرافيا والفلك والأدب‏[30].

وقد أدرك قادة الصين المعاصرون أهمية الترجمة من اللغات الأخرى فأولوها الكثير من الاهتمام، لإيمانهم بأنّها وسيلة من وسائل الوصول إلى القواعد الشعبية في الدول، فضـلاً عن دورها في نقل العلوم والأفكار والتقريب بين الحضارات. وكانت اللغة العربية واحدة من اللغات التي حظيت باهتمام جيد في مجال الترجمة، رغم أنّه لا يزال هناك الكثير لإنجازه في هذا المجال. والاهتمام بموضوع الترجمة من شأنه المساهمة في تعزيز وتطوير التعاون الثقافي العربي – الصيني، والنهوض بالعلاقات العربية – الصينية بشكل عام. وخير شاهد على اهتمام القيادات الصينية بالترجمة دعمها لإنشاء العديد من كليات وأقسام للغة العربية في مختلف مقاطعات ومدن الصين الرئيسية.

ولا تزال الجهود العربية – الصينية في مجال الترجمة متواضعة على الرغم من التقدم الملحوظ الذي حدث في هذا المجال بفضل جهود عدد من الباحثين والمترجمين العرب والصينيين المتخصصين، وهي جهود فردية تستحق الثناء. غير أنّ هذه الجهود غير كافية، إذ ينبغي أن تساندها جهود من مؤسسات رسمية وغير رسمية، ذلك أنّ الترجمة في حاجة إلى تشجيع ودعم مالي ومعنوي.

ويلاحظ أنّ الصين تولي اهتماماً أكبر من الدول العربية لموضوع الترجمة بين اللغتين العربية والصينية. وقد أصدرت دار النشر «الصين للقارات» في بكين، وهي مؤسسة حكومية، نحو 120 كتاباً مترجماً من العربية إلى الصينية، حتى كانون الثاني/يناير 2016. كما أنّها ترجمت أكثر من 130 كتاباً من الصينية إلى العربية خلال عامي 2014 – 2015. وقد وقعت دار النشر آنفة الذكر أيضاً اتفاقات مع 70 في المئة من الناشرين العاملين في صناعة النشر الرقمي في العالم العربي، وحصلت على تخويل لطباعة 6500 عنوان على منصتها الإلكترونية التي تم إنشاؤها في نهاية عام 2014. وفي شهر أيار/مايو من العام المذكور توصلت دار النشر الصينية هذه إلى اتفاق مع اتحاد الناشرين العرب يقضي بإطلاق مشروع للترجمة بين اللغتين العربية والصينية‏[31].

كما عملت مجموعة نشر جامعة بكين للمعلمين على نشر «الترجمات العربية للمؤلفات الصينية الكلاسيكية»، بالإشتراك مع مجموعة من الأساتذة والمترجمين العرب والصينيين، منهم الأستاذ محسن سيد فرجاني، ومن هذه الكتب كتاب الطاو وسياسات الدول المتحاربة. وهناك جهود فردية في مجال ترجمة أمهات الكتب الصينية للغة العربية يقوم بها مستعربون صينيون أمثال وانغ يويونغ (فيصل) أستاذ اللغة العربية في جامعة شنغهاي للدراسات الدولية الذي ترجم بعضاً من هذه الكتب للغة العربية ككتاب شون تسي الفيلسوف الصيني الشهير (313 قبل الميلاد حتى 238 قبل الميلاد). ويقول هذا الأستاذ الجامعي إنّه لم تتم حتى الآن ترجمة إلا نحو عشرين كتاباً من تلك الكتب‏[32].

وقد أولت الصين المزيد من الاهتمام بأعمال الترجمة من الصينية إلى العربية بعد إطلاق مبادرة الحزام والطريق عام 2013، حيث تتضمن المبادرة شقاً ثقافياً تهدف من خلاله لردم الهوة الثقافية مع الدول الواقعة على طول الحزام والطريق، بما فيها الدول العربية‏[33]. كما دعت وثيقة «سياسة الصين تجاه الدول العربية» الصادرة في مطلع العام 2016 إلى «تشجيع مؤسسات الإعلام والنشر لدى الجانبين على إجراء التواصل والتعاون، والعمل على تنفيذ «مذكرة التفاهم حول الترجمة والنشر للكتب الصينية والعربية والأعمال الأدبية»، وتشجيع ودعم مشاركة مؤسسات النشر لدى الجانبين في معارض الكتب الدولية المقامة في الجانب الآخر»‏[34].

وتسعى الصين من خلال دعمها لمشاريع الترجمة من اللغة الصينية إلى اللغة العربية لتعريف القارئ العربي بالصين، ماضيها وحاضرها. كما تدرك الصين جيداً أنّ هناك نوعاً من عدم الفهم الجيد لدى القارئ العربي بالثقافة الصينية، لهذا فهي تعمل على تصحيح هذا الوضع من خلال ترجمة أمهات الكتب الصينية إلى اللغة العربية‏[35]. وهذه الجهود هي دون شك تساعد في تعزيز القوة الناعمة الصينية التي تتطلع إلى تسنم دور أكبر على الساحة الدولية.

وعلى الرغم من الدور الكبير والهام لمنتدى التعاون العربي – الصيني في تعزيز العلاقات العربية – الصينية في مختلف المجالات، إلا أنّ دوره لا يزال محدوداً ومتواضعاً في مجال دعم الترجمة من اللغتين العربية والصينية. وقد دعا المنتدى في دورته السادسة التي عقدت في بكين عام 2014 إلى العمل على توقيع مذكرة تفاهم بين الجانبين في مجال الترجمة والنشر للكتب العربية والصينية‏[36]، ولتطوير التعاون العربي – الصيني في مجال الترجمة، يمكن للجانبين ترجمة عشرين كتاباً سنوياً أو حتى أكثر من ذلك، مستغلين بذلك آليات منتدى التعاون العربي – الصيني، على أن يترجم الجانب الصيني نصفها ويتولى الجانب العربي ترجمة النصف الآخر. ويمكن لجامعة الدول العربية في هذا الخصوص الاستفادة من جهود المعهد العالي العربي للترجمة التابع لجامعة الدول العربية والذي يتخذ من الجزائر مقراً له. كما أن الجهود الفردية في مجال الترجمة في حاجة هي الأخرى للتشجيع والدعم من مختلف الجامعات والمؤسسات الفكرية والاجتماعية وحتى من جانب قطاع الأعمال.

وأخيراً لا بد من الإشارة إلى أنّ هناك حاجة ماسة لوضع سجل إلكتروني محدث بعناوين الكتب التي تُرجمت من اللغة الصينية للعربية وتلك التي تُرجمت من العربية إلى الصينية، بحيث تكون متاحة للباحثين والمترجمين، لأنّ مثل هذا السجل قد يساعد على تركيز جهود المترجمين في الأعمال التي لم تترجم بعد، بدلاً من إعادة ترجمة بعض الكتب بسبب عدم الاطلاع على ما أنجزه الآخرون. وهذه مهمة قد يكون بإمكان الجانبين العربي والصيني القيام بها، عبر آليات منتدى التعاون العربي الصيني. كما أنّ هناك حاجة لتفعيل الآليات القانونية الموجودة حالياً في هذا المجال، سواء تلك الموقعة بشكل ثنائي بين الدول العربية والصين كمشروع ترجمة ونشر الأعمال الأدبية القديمة الموقع بين المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت وإدارة الدولة للصحافة والنشر والراديو والأفلام والتلفزيون في جمهورية الصين الشعبية على سبيل المثال، أو تلك الموقعة في إطار منتدى التعاون العربي – الصيني.

رابعاً: نظرة مستقبلية إلى العلاقات العربية – الصينية

على الرغم من التقدم الكبير الذي شهدته العلاقات العربية – الصينية، إلا أنّه لا يزال دون المستوى المأمول، حيث إنّ جل ما تحقق من تطور في العلاقات العربية – الصينية في العقود الثلاثة الماضية التي أعقبت تبني سياسة الإصلاح والانفتاح الصينية عام 1978 يركز على الجانب الاقتصادي وعلى وجه الخصوص التعاون في مجال الطاقة التقليدية، في وقت لا يزال التقدم في العلاقات والثقافية والشعبية محدوداً.

ومن المرجح أن تشهد العلاقات العربية – الصينية مزيداً من التطور على المديين القصير والمتوسط، وبخاصة في ظل المساعي الصيني الحثيثة لإعادة إحياء طريق الحرير القديم من خلال مبادرة الرئيس الصيني «شي جين بينغ» لعام 2013 المعروفة بمبادرة «الحزام والطريق». ومع ذلك ينبغي على الجانبين العربي والصيني أن يعملا سوياً في المستقبل على تطوير التعاون بينهما في المجال الثقافي من خلال إعادة صياغة هذه العلاقات وتصحيح الانطباعات الخاطئة لدى الجانبين.

ويمكن للتعاون في مجال الإعلام أن يؤدي دوراً في تصحيح بعض هذه المفاهيم الخاطئة، كما أنّ الزيارات المتبادلة وعلى مختلف المستويات هي الأخرى يمكن أن تؤدي دوراً في توضيح الصورة الصحيحة لدى الطرفين العربي والصيني. ولا نعني هنا بالزيارات المتبادلة فقط تلك التي تتم بواسطة المسؤولين الرسميين من الجانبين، بل تشمل أيضاً – وهو الأهم هنا – الزيارات الشعبية المتمثلة في الوفود السياحية، والطلبة الذين يتلقون تعليمهم في الصين وفي البلدان العربية، فضـلاً عن زيارات الأكاديميين، حيث بإمكان هؤلاء جميعاً المساهمة في نقل الصورة الصحيحة وتوضيح ما هو خاطئ من مفاهيم وانطباعات.

إنّ ما هو معروف عن الصين ثقافياً في الوطن العربي ضئيل جداً، فكثير من العرب لم يقرأوا أو حتى يسمعوا بأسماء مفكري وفلاسفة الصين القدماء أمثال كونفوشيوس أو لاو تسي وغيرهما. كما يجهل الكثيرون النهضة الثقافية الكبيرة التي تعيشها الصين اليوم، حيث يتم سنوياً طباعة المليارات من أعداد الكتب والمطبوعات المختلفة، ففي عام 2011 على سبيل المثال بلغ عدد ما تم طباعته داخل الصين (7.7 مليار مطبوعة)‏[37].

ولا تقتصر النهضة الثقافية للصين على ذلك، بل تشمل النظام التعليمي الذي يعد الأكبر من حيث الحجم في العالم، ولا سيَّما التعليم العالي الذي شهد إصلاحات جمة ضمن سياسة الإصلاح فارتفع بذلك عدد مؤسسات التعليم العالي إلى نحو 2900 جامعة وكلية‏[38]، وأخذت الجامعات الصينية تتبوأ مراكز مرموقة في التصنيف العالمي كجامعة تشينخوا وجامعة بكين اللتين تصنفان في قائمة أفضل مئة جامعة في العالم‏[39]. لهذا يتعين على الجانبين العربي والصيني تعزيز تعاونهما في المجال التعليمي من طريق تبادل البعثات والأساتذة والمنح الدراسية، فضـلاً عن التعاون في مجال اللغة عبر زيادة عدد المنح التي تقدم من الجانبين لدراسة اللغة الصينية والعربية لما لذلك من دور كبير في تحقيق المزيد من التقارب والتعاون العربي – الصيني في مختلف المجالات.

ومن المجالات الأخرى التي تتطلب المزيد من التعاون بين الدول العربية والصين المجال التكنولوجي، حيث حققت الصين تقدماً كبيراً في هذا المجال. لهذا يمكن للدول العربية أن تستفيد من التجربة الصينية في هذا المجال، خاصة تجربتها في مجال تكنولوجيا الطاقة البديلة. ويمكن للجانبين العربي والصيني توقيع المزيد من اتفاقيات ومذكرات التعاون في المجال التكنولوجي، والاستفادة من الدورات والمنح التي تقدمها الصين سنوياً للدول العربية، بالإضافة إلى العمل على تبادل الزيارات بين المسؤولين المعنيين بهذا القطاع في الجانبين لاستكشاف فرص التعاون المتاحة والعمل على الاستفادة منها. وحسناً فعلت جامعة الدول العربية حين وقعت على مذكرة تفاهم مع وزارة العلوم والتكنولوجيا بجمهورية الصين الشعبية بشأن إنشاء مراكز صينية – عربية لنقل التكنولوجيا. وينبغي للجانب العربي في هذا الخصوص العمل على الاستفادة من كل ما تقدمه الصين حالياً من دورات تدريبية وورش عمل في مجال نقل التكنولوجيا.

وقد أكد الرئيس الصيني «شي جين بينغ» في خطابه الذي افتتح به الدورة السادسة لمنتدى التعاون العربي – الصيني في بكين عام 2014 على أهمية التعاون التكنولوجي بين الصين والدول العربية. ولتحقيق التعاون في هذا المجال الحيوي بادرت الصين بإنشاء المركز الصيني – العربي لنقل التكنولوجيا في منطقة نينغشيا الصينية خلال افتتاح الدورة الثانية لمعرض الصين والدول العربية (نينغشيا إكسبو) في 10 أيلول/سبتمبر 2015. يهدف هذا المركز لنقل التقنيات والتكنولوجيا الصينية للدول العربية، بما في ذلك في مجالات القطارات فائقة السرعة والاتصالات الفضائية والطاقة النووية والطاقة البديلة والزراعة الحديثة‏[40]. وعلى الرغم من أهمية هذا المركز ودوره في عملية نقل التكنولوجيا المتقدمة إلى البلدان العربية، إلا أنّه ينبغي للبلدان العربية أن تعمل أيضاً على المستوى الثنائي مع الصين على إنشاء مراكز وطنية للتكنولوجيا في ديارها يكون هدفها البحث عن فرص التعاون في المجال التكنولوجي، مع الأخذ في الاعتبار حاجات وإمكانات كل بلد عربي. كما يمكن للدول العربية العمل عبر الدبلوماسية الثنائية أيضاً على تعزيز التعاون في هذا المجال من خلال البعثات التي تقدمها الصين إلى الدول العربية، بحيث تشمل بعض هذه البعثات مجالات العلوم والتكنولوجيا، الأمر الذي من شأنه المساعدة أيضاً على تحقيق هدف نقل التكنولوجيا الصينية للدول العربية من خلال تأهيل كوادر عربية قادرة على الاشراف على هذه المهمة وتنفيذها بالتعاون مع الجانب الصيني.

لم يقتصر التقدم الذي أحرزته الصين في المجال التكنولوجي على الصناعات الصغيرة والمتوسطة، بل تعدته لتحقق إنجازات كبيرة في مجال الصناعات الثقيلة كصناعة الطائرات. ففي عام 2008 بدأت الصين تجربة طائرتها من طراز أي آر جي ARJ21‑700 التي دخلت طور التجميع في العام 2011 بعد أن حصلت على حقوق الملكية الفكرية للطائرة بالإضافة إلى حصولها على شهادة صلاحية الطيران‏[41]. وكانت الصين قد أنهت في عام 2008 عمليات البحث والتطوير لطائرة C919 كبيرة الحجم التي من المقرر استخدامها في الخطوط الرئيسية وتحتوي على 150 مقعداً وممراً واحداً. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2015 تم تجميع هذه الطائرة في شنغهاي بواسطة شركة كوماك COMAC الصينية‏[42]. وما لا شك فيه أنّ الاحتكار الذي كانت تمارسه شركتا بوينغ الأمريكية وإيرباص الأوروبية طيلة العقود الماضية أصبح في طريقه للزوال خلال السنوات القليلة القادمة. وعلى الرغم من أنّ صناعة الطائرات الصينية ما زالت في مهدها الأول، إلا أنّها من المجالات التي يمكن أن يستفيد الجانب العربي منها مستقبـلاً، إذ من المتوقع أن تكون أسعار هذه الطائرات تنافسية مع مثيلاتها الأمريكية والأوروبية.

ويمكن للدول العربية أيضاً تحقيق الكثير من المكاسب من علاقاتها السياسية الطيبة بجمهورية الصين الشعبية من خلال الاستفادة من التجربة الصينية الرائدة في مجال التنمية والاصلاح الاقتصادي، فقد حققت الصين ما يطلق عليه تسمية «المعجزة» في مجال التنمية الاقتصادية، وأصبحت مثـلاً يحتذى لجميع الدول النامية التي عليها إذا ما أرادت النهوض هي الأخرى استلهام الدروس من هذه التجربة الرائدة.

 

قد يهمكم ايضاً  استراتيجية الوجود الصيني في أفريقيا: الديناميات.. والانعكاسات

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التعاون_العربي_الصيني #العلاقات_العربية_الصينية #الصين #دراسات