[wonderplugin_carousel id=”6″]
أشكر مركز دراسات الوحدة العربية على هذه الدعوة الكريمة وأعيد وأكرر أن هذا المركز بإذن الله، وبجهود أعضائه، سيستمر في عطائه القومي وفي الزخم الفكري والعلمي الذي تميّز به عبر عشرات السنين.
إن موضوع لقائنا اليوم هو «العرب بين تحديات الحاضر وآفاق المستقبل». وأنا كطبيب أوصِّف المرض، ثم أحاول أن أتبيّن الأسباب، ثم أسعى لتقديم العلاج، إن وُجد. إن أعراض الحالة العربية، يُكتب عنها يومياً، ودون استثناء، ولكن مع ذلك، سأمر عليها مرور الكرام، لكي ننتقل معاً للتفكير في موضوع العلاج.
* * * * * *
إذا كان لا بد لي من أن ألخص الوضع العربي الحالي في جملة واحدة، فأنا أعتقد أنه عصر تراجع لكل ثوابت الأمة من دون استثناء. من هنا دعونا ننظر في بعض مظاهر هذه التراجعات؛ فمنذ منتصف القرن الماضي على الأقل، كان الحديث عن وحدة الأمة هو الهاجس الأساسي، وبخاصة عند النخب. اليوم، كما ترون، حتى إن وحدة الأمة أصبحت أمراً مشكوكاً فيه، بل حصل المزيد من التجزئة المستمرة وتجزئة المجزأ. إذاً هناك تراجع في مسيرة الوحدة العربية أو وحدة الأمة، وهناك تراجع في النظام الإقليمي، إذ كان هناك نظام إقليمي معقول متوازن متمثل بالجامعة العربية التي كانت تستطيع أن تقول «لا» للدول المختلفة والخارج وأن تتخذ مواقف أساسية، ولا أحتاج إلى أن أبين أنها باتت الآن أقرب إلى نظام يلفظ أنفاسه الأخيرة ما لم نفعل شيئاً، إذ لم يعد يوجد اليوم أي دور أو فكرة لدى الجامعة تجاه أي من القضايا العربية. بل لا يكفي القول إن الجامعة باتت بلا دور، وإنما هي أدت أدواراً سلبية أساسية تدميرية في بعض القضايا العربية؛ فطرد سورية من الجامعة العربية كان فضيحة كبرى حدثت، بدلاً من عمل الجامعة على لمّ الشمل حول سورية لمساعدتها على التغلب على هذه المحنة ومحاولة الربط بين الحكم والمعارضة. وإن وُجدت معارضة فقد طردوها وأبعدوها وجعلوها تسقط في حضن هذه الجهة أو تلك. أما في ليبيا، فقد بصمت جامعة الدول العربية على تدخل قوات حلف الأطلسي في ليبيا وإسقاط حكومتها الشرعية، وعلى تدمير البلد وتجزئته، واليوم يتفرج العالم كله على ما يحصل في ليبيا. أما في موضوع اليمن فلم يكن للجامعة العربية أي دور هناك، لا في بداية الأزمة ولا في وسطها ولا حتى اليوم. إذاً نحن أمام نظام إقليمي يلفظ أنفاسه الأخيرة فعـلاً.
إضافة إلى ذلك، هناك المجالس ما دون الإقليمية التي كنا نعتقد أنها خطوة نحو الوحدة العربية أو نحو التضامن العربي، وهي أيضاً تبدو أنها تلفظ أنفاسها، مثل الاتحاد المغاربي الذي يواجه تفعيله عقبة قضية الصحراء، وهي قضية خلافية بين بلدين مغربيين لا يبدي أي منهما استعداده للتفاهم مع الآخر حولها. وأنا أذكر حديثاً لي في الماضي مع وزير خارجية الجزائر: نحن نتكلم على توحيد الأمة العربية وأنتم تتكلمون عن مزيد من التقسيم في الأمة العربية، فقال لي إنها قضية مبدأ. وقلت له أي مبدأ، هل تتكلم عن حق أهل الصحراء في تقرير مصيرهم أم عن الوحدة العربية التي أنتم نفسكم طرحتموها قبل سنين، فكان الجواب أن هذا أمر مرتبط بالسياسات الدولية… إلخ. الأمر نفسه يتعلق بمجلس التعاون الخليجي، الذي اعتقدنا أنه سيكون على الأقل الإطار الوحدوي الوحيد المتماسك على الأراضي العربية، وها هو بات الآن فعـلاً في خطر الانقسام والتجزؤ بعد كل العمل الجاد على مدى 35 سنة من أجل بنائه ووضع أسسه.
لنأخذ أيضاً ثابتاً آخر من ثوابت الأمة، فقد كان هناك سعي لبناء اقتصاد اشتراكي في معظم البلدان العربية، أو على الأقل دولة رعاية اجتماعية، وها نحن الآن نتحول إلى اقتصاد رأسمالي متوحّش مرتبط بالشركات والدول الكبرى… إلخ، ولم يعد لدى الدول العربية أي هم سوى خصخصة جميع مؤسسات الإنتاج والخدمات، وحتى نحن في الخليج حيث يتوافر المال، تتم خصخصة الكثير من الخدمات الاجتماعية، المتعلقة بالصحة والتربية والتعليم… إلخ.
على صعيد آخر، كانت هناك أيديولوجيات حديثة سادت في المنطقة العربية عقب الحرب العالمية الأولى، مثل الأيديولوجيا القومية أو الاشتراكية أو الشيوعية أو حتى الإسلامية. أما اليوم فتتراجع هذه الأيديولوجيات بقوة في الأراضي العربية ويحل محلها صراعات طائفية وقبلية وإثنية… إلخ. كان هناك خلافات بين الأديان أما اليوم فقد أضحت الخلافات داخل الدين نفسه. وكان هناك في السابق محاولة حقيقية لبناء اقتصاد إنتاجي في كل من مصر والعراق وسورية والجزائر؛ واليوم انتهى هذا الاقتصاد الإنتاجي وعدنا إلى مزيد من الاقتصاد الريعي المتخلف المعتمد على موارد النفط تحديداً. والأحداث التي جرت في الأردن تؤكد أن الأردن الذي كان باستطاعته أن يكون بلداً إنتاجياً وجد نفسه للأسف مكبـلاً في الأيام الأخيرة، لأنه لم يبنِ اقتصاداً إنتاجياً. الأمر نفسه ينطبق على كل الأراضي العربية.
كذلك كانت هناك حركات تحرر عربية تسعى للاستقلال والتحرر من الهيمنة الخارجية، فماذا عن تلك الحركات اليوم؟ لا توجد أمة مستباحة من الخارج كالأمة العربية. اليوم صاحب القرار الفعلي هو المتحدث الرسمي لوزارة الخارجية الأمريكية، فهو يقول ما يجب أن يحدث وما يجب ألّا يحدث. ولا يقتصر هذا التدخل على الطرف الأمريكي، فهذا ينطبق على الفرنسي أيضاً وعلى الإنكليزي. وحتى الكيان الصهيوني بات له متحدثون يعطون هذه الأمة دروساً يومية في ما يمكن أن تفعله وما لا يمكنها فعله، وما هي الخطوط الحمر أمامها. وهذا تراجع مأسوي في حياة هذه الأمة التي دفعت ملايين الشهداء من أبنائها من أجل تحقيق الاستقلال الوطني.
نأتي الآن إلى القضية العربية المركزية، فقد كان هناك التزام قومي لا رجعة عنه ولا شك فيه، هو القضية الفلسطينية. واليوم نرى هذا التراجع المرعب الذي يحدث على صعيد هذه القضية، فهناك حركة تطبيع واسعة مع الكيان الصهيوني. وللأسف الشديد، استطاعت بعض الأنظمة العربية تجنيد كتّاب يدافعون عن الكيان الصهيوني ويبررون فكرة احتلال قطعة من الأرض العربية واستيطانها وإزالة شعبها منها. ونحن نحترق بذلك، وخصوصاً داخل منطقة الخليج العربي، حيث الآن يوجد تجنيد كبير لهذا الاتجاه.
أخيراً، ننتقل إلى الطغيان، وأنا أريد أن أتحدث عن قضية تمت إثارتها بعد الربيع العربي؛ فليس صحيحاً أن ما شهدته الساحات العربية لم يكن ثورة. أنا أعتقد أن ما حصل كان حراكاً كبيراً متنامياً، كان قادراً على إحداث تغيير ما، وكان يجب أن نبقي عليه، لأنه كان محاولة حقيقية للقيام بثورة كبيرة جداً في الأرض العربية كلها، وأهم ما كان فيه هو كسر حاجز الخوف عند الإنسان العربي الذي كان خائفاً على مدى عشرات السنين، سواء من الدول والأنظمة وسطوة وزارات الداخلية ومن الأمن والاستخبارات، وفجأة خرج الملايين من الشعوب العربية بتظاهرات ساخنة أسقطوا فيها بعض الأنظمة. وأرى أنه كان يجب أن نبقيها كثورة، ولكنها تعثرت بعدما استغلها البعض وجنح بها إلى جوانب خاطئة. أما أن نسمي ما حصل الخريف العربي أو الشتاء العربي فكأن هؤلاء الملايين الذين خرجوا لم يكن لهم قيمة ولا معنى لخروجهم، وهذا في رأيي موقف يجب أن نتحاشاه.
هذه هي باختصار شديد التراجعات الكبرى في حياة هذه الأمة، وهي يجب أن نعطيها وصفاً محدداً لكي يدرك الناس أن الوضع اليوم بات مغايراً تماماً لما كانت الأمة تتجه نحوه. وهذه قضية مرعبة، هل من المعقول أن تتراجع أمة في كل حقل من حقولها وكل فكرة من فكرها السابق وفي كل توجهاتها السابقة؟ فعـلاً لا يمكننا أن نعرف كيف يمكن أن نفكر حيال هذا الموضوع. لكن يبقى موضوعنا أننا تراجعنا كثيراً.
والأمر كان سيكون سهـلاً لو أن الأمر اقتصر على هذه التراجعات في حياة هذه الأمة، إذ إضافة إلى ذلك حدث أمران أساسيان: الأمر الأول هو ظاهرة الجهادية الإسلامية العنفية التي خرجت في هذه الأرض العربية، والتي لم تكن موجودة على الإطلاق في السابق، مُدخـلة الأمة في محنة لا يمكن تصورها، إذ إنها في المقام الأول أساءت إلى أبعد الحدود إلى الدين الذي تتكلم باسمه، وهي ثانياً استطاعت أن تأتي بعشرات، بل مئات، الألوف من الشبان والشابات وتخرجهم عن طورهم وتدخلهم في وضع مجنون وإجرامي وحقير تحت مسمى الدين الإسلامي (وهذه ظاهرة لا ترجع إلى التراجع العربي بل هي بحد ذاتها ظاهرة جديدة لم تكن موجودة من قبل). الأمر الثاني هو ما يمكن أن أسميه الظاهرة الخليجية. لماذا أستخدم تسمية الظاهرة الخليجية؟ أولاً لأن هناك سقوطاً مذهـلاً في تنمية الأمة العربية من جانب الخليج. ففي العقود الأربعة الأخيرة على الأقل دخل إلى الخليج عشرات التريليونات من الدولارات. ولو أن الظاهرة الخليجية كانت عاقلة ومدركة وواعية وملتزمة بأمتها وبوطنها العربيين لكان من الممكن أن يكون الخليج إحدى أهم رافعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية في أرض العرب كلها ومن دون أي خسارة تذكر تقع على دول الخليج، وما كانت لتساوي حتى ربع ما خسرته هذه الدول من جراء الاستثمارات في باريس وإنكلترا وأمريكا. وهذه ظاهرة غريبة، لأنه بدلاً من أن تستثمر في جوارك ومحيطك، تذهب للاستثمار في مناطق بعيدة جداً. كما أنه ما كان أحد ليتصور أن بعض دول الخليج كانت تستطيع أن تستعمل هذه الأموال لتدمير بعض الأقطار العربية الأخرى، نحن هنا لا نتحدث عن جميع دول الخليج طبعاً. والنتيجة هي أن الخليج الذي كان يعتمد على إخوانه العرب في المشرق والمغرب من أجل استقلاله وتعليمه وصحته وغير ذلك يتحول ليكون أحد الأسباب لخوض حروب بالوكالة من خلال دعم جهاديين في كل مكان ومدِّهم بالمال والسلاح والتدريب. وهذه ظاهرة غريبة لا يمكن أن يتصورها أحد، إلا أن هناك جنوناً في هذه المنطقة.
الأمر الآخر الغريب هو خلط أوراق إيران بأوراق الكيان الصهيوني. هناك بالتأكيد مشاكل مع إيران، ولكن أن تخلط أوراق خلافك مع إيران، التي هي دولة إسلامية أولاً، وهي من دول المنطقة وستبقى كذلك ثانياً، وبدلاً من الحديث في المشاكل القائمة معها نذهب إلى جعل الكيان الصهيوني صديقاً وإلى تقليل خطره علينا وتحويل إيران إلى عدو!!! في ظل آلة إعلامية خليجية واسعة النطاق والتأثير. وأنا أقرأ ما يكتبه الكثيرون من الشبان الصغار في الخليج في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي. وأستغرب كيف أنه لم يكن أحد يتجرأ على كتابة مثل هذا الكلام في الماضي، في حين بات هذا الكلام اليوم منتشراً في كل مكان. مثل بسيط، كانت هناك منذ يومين إعلامية كويتية ترحب بكاتب صهيوني وتقول له أنت أخي وأنا أرحب بك. واعذروني على القول إن ما يحدث هو نوع من العهر الفكري.
الأمر الآخر هو أن دول الخليج تتبنى الآن الفكر العولمي النيوليبرالي إلى أبعد الحدود، إذ نشهد انفتاحاً لا يمكن تصوره على الشركات الأجنبية وعلى العمال الأجانب (غير العرب) إلى حد أنه بات يهدد هوية الخليج فعـلاً في المستقبل. ودول الخليج التي يبلغ مدخولها مئات المليارات من الدولارات باتت اليوم تخصخص التعليم والصحة، والفقير بات يجد نفسه يبيع ما فوقه وما تحته، والتعليم الذي كان يتقدم بخطى سريعة جداً أخذ يتراجع، في حين أن الأمية أخذت تعود إلى بعض المناطق؛ فالعراق مثـلاً، الذي كنا نعتقد أن الأمية ستنتهي فيه خلال بضع سنوات عادت لترتفع نسبتها اليوم إلى حدود 30 – 40 بالمئة. أمر آخر هو أن الخليج عليه قيادة الأمة العربية، فكرسي القيادة يجب أن يكون داخل الخليج وليس مصر أو الجزائر أو سورية أو العراق. كانت هناك قيادات تاريخية معروفة منذ الأزل تقود هذه المنطقة، والآن فجأة وجدنا أن دولاً صغيرة هي التي باتت تريد أن تقود وتضع ثوابت هذه الأمة. ولا يوجد ذرة من الشك في أن بعض دول الخليج تآمرت على الربيع العربي بطرائق مختلفة، منها طبعاً الوقوف مع الجهاديين التكفيريين. أنا كان لدي صديق في دولة خليجية، لا أريد تسميته، كان يقول لي أنا كنت أطّلع شهرياً على 11 ألف اسم من النصرة تدفع لهم رواتب شهرية من دون أي تساؤل حول هذه الأسماء، هل يعقل هذا؟ النصرة التي كانت تعيث فساداً في سورية تتسلّم رواتب شهرية، وهذه جبهة واحدة لدولة واحدة، وطبعاً هناك الكثير غيرها. أنا لا أستطيع أن أفهم كيف وقعنا في هذا الإشكال وهذا النوع من التفكير؟ والآن مجلس التعاون الخليجي نفسه الذي كان يمكن أن يكون متناسقاً بات في خطر حقيقي. مرة أخرى، يتم رمي تجربة عربية في البحر بعد كثير من الجهد وكأنها لم تكن، وكأنه لم يكن وراءها أجيال تعبت من أجل التجربة والفكرة، وهذا فقط بسبب تفكير سياسي غريب غير منطقي. أنا لن أدخل في أسباب قضية هذا المرض لأنها معروفة لدى الجميع وترجع لأسباب داخلية وخارجية، الأسباب الخارجية ترجع إلى التآمر الصهيوني والأمريكي والمؤسسات التابعة لهما والاستخبارات الدولية وبعض الدول الأوروبية والأفريقية، سمِّها كما تشاء. أما الأسباب الداخلية فترجع إلى الاستبداد وهذا النوع من التفكير السياسي الجاهل المرافق لهذا الاستبداد. وما أود تأكيده هنا هو أن هذه الأسباب الداخلية والخارجية مترابطة إلى أبعد الحدود ولا نستطيع فصلها بعضها عن بعض، فالأسباب الداخلية تهيئ للأسباب الخارجية وتتعاون معها وتتناغم معها من أجل مصالح فئات صغيرة هنا وهناك.
* * * * * * *
حسناً، ما هو العلاج؟
أنا أريد أن أبدأ بقضايا محددة هي ما يجب البدء به وأن يسري العمل من أجلها، هي ستكون العلاج على مستويات متعددة، بعضها رسمي وهذه ليست في أيدينا، وبضعها مدني وهذا يمكننا العمل عليه. الأهم هو الجهود المدنية، لأننا جميعاً قطعنا الأمل من الجهات الرسمية في أغلبيتها الساحقة، وأنا أشك في أن يحدث أكثر من ذلك في القريب العاجل. وكما يقال: «كلما دخلت أُمّةٌ لعنت أختها»، حيث يتغير الحكم في بلد ما وسيكون الحكم الجديد أسوأ، ثم يتغير ومَن يأتي بعده يكون أسوأ، أي إنها مرحلة مكررة مفروغ منها. وبالتالي فالعلاجات التي نتحدث عنها هي جزئية وليست شاملة، والأهم في الدرجة الأولى هو الموضوع الصهيوني، لقد تكلمت مع بعض جمعيات مقاومة التطبيع وأخبرتهم أنه عليهم كجمعيات في الأرض العربية بناء فدرالية، حيث إدارات خاصة بكم وتنسيق في العمل المتواصل وتأخذون على عاتقكم ليس قضية مقاومة التطبيع فقط بل مقاومة الكيان الصهيوني بكامله، لأنه لا يوجد غيركم الآن. صحيح أنه توجد أحزاب ولكن الجهد المركز المتناغم يجب أن يتم من خلال جمعيات مقاطعة التطبيع، وعلمت من بعضهم أنهم الآن يسعون للتنسيق بين كل جمعيات مقاومة التطبيع لتعمل بعضها مع بعض. وهي لن تقوم بمقاومة التطبيع فقط بل ستقاطع المطبعين أيضاً. أنا أستغرب أن يجرؤ البعض، سواء كان فناناً أو مغنياً أو لاعب كرة أو استخباراتياً جاسوساً، أن يعبروا عن آرائهم المؤيدة للصهينة أمام العالم من دون خوف من أي عقاب. على هذه الجمعيات فضح جميع الجهات التي تطبع من العدو، وبيدها أهم سلاح وهو وسائل التواصل الاجتماعي، وهي يمكن أن تقوم بحملات غير متوقفة ليـلَ نهار لإحراج كل من يتعامل مع الكيان الصهيوني. كما يجب مقاطعة الشركات العربية التي تطبع مع العدو وفضحها.
هذه أسلحة لها قيمة كبيرة جداً ويجب ألّا نستخف بها. ولدينا أحسن درس وسابقة في هذا الموضوع، فأحسن درس استفدنا منه هو حركة الـ BDS التي تفضح الكيان الصهيوني عبر العالم أجمع ولا تطالب إلا بمقاطعة الكيان الصهيوني من جانب المؤسسات المدنية الأوروبية والأمريكية. لا تستطيع أن تتصور ما فعلته هذه المؤسسة بمال قليل وكادر صغير، ولكنها نجحت في الخارج، فلماذا لا ننجح نحن في الداخل أيضاً، فلم يعد هناك من لا يستخدم الإنترنت وأساليب التواصل الحديثة. الموضوع الثاني، أنه يستحال التخلص من الهيمنة الخارجية الفجّة إلا بأن تحل الجامعة العربية مشكلتها، لأنه ما دام هناك غياب لكيان واحد مشترك فكل من الدول ستلتهي بنفسها، وبخاصة أن عدداً محدوداً وقليـلاً من الدول باتت تنفرد بقرارات. وهذا واضح في دول مجلس التعاون الخليجي. أما بالنسبة إلى سبل تفعيل دور جامعة الدول العربية، فأنا لا أعرف. وبالنسبة إلى قضية الجهادية الإسلامية، فهذا يحتاج إلى رجال دين ملتزمين بالموضوع. وأعتقد أن هناك كتابات بالغة الأهمية والامتياز بالنسبة إلى الموضوع الفقهي الإسلامي بأكمله، الموضوع ليس تجنيد الشبان المسلمين من مختلف بقاع الأرض للقتال بل هو موضوع الفقه الإسلامي وعلوم الأحاديث المليئة بالخرافات والسخافات وبالأمور السياسية البحتة وبالتصورات الوهمية وبالدسائس، التي لا تليق بالنبي محمد ولا بالقرآن، وبالتالي لا بد من جهات تنقدها نقداً مستمراً من أجل إخراجها من الذهن العربي، وهذا أمر دعوت إليه منذ 25 سنة فقلت إنه يجب تأسيس مدرسة فقهية جديدة، لا تكون سنيّة ولا شيعية ولا إباضية، بل تأخذ أفضل ما في المذاهب وتضيف إليها أفضل ما أنتجته العلوم الإنسانية الحديثة والتجارب البشرية الحديثة.
هذا السؤال مطروح عليكم فهل تعتقدون أن هذا معقول؟
قيل لي إنني سأضيف مذهباً جديداً يزيد الخلافات. يجب حل مشكلة الفقه الإسلامي، وهذه ليست قضية بسيطة بل قضية كبرى لأنها هي المهيمنة على الثقافة العربية، وخصوصاً الثقافة السياسية العربية. هل يمكن أحداً أن يتوجّه إلى الأحزاب المتشابهة والمنقسمة على نفسها لكي تجتمع بعضها مع بعض؟ ألا يمكننا على الأقل تطوير جبهة واحدة متنساقة بعضها مع بعض وتجاوز الخلافات السابقة؟ سواء في لبنان أو في مصر أو في المغرب؟ هذه الكوارث كلها، ألا تقنع هؤلاء بتكوين حزب واحد، أو على الأقل جبهة واحدة متناسقة متناغمة وتجاهل الخلافات السابقة؟ وأشمل في كلامي هذا البعثيين والقوميين والناصريين والشيوعيين وعلى جهات مختلفة منها إسلامية. لا يمكن أن يتصور الإنسان أمة تعيش هذه المأساة كلها وهذا الدمار كله وهذا التراجع؛ والإخوة الذين يمارسون السياسة همهم الوحيد عدم الاجتماع مع الطرف الآخر. تكفي الانقسامات السابقة السخيفة. لما كنتُ طالباً في الجامعة الأمريكية وكنتُ بعثياً، أتاني إخوة من القوميين العرب وقالوا لي لماذا لا تنضم إلينا؟ فقلت لهم ماذا تبغون أنتم، الوحدة العربية؟ الثأر؟ لماذا لا تدخلون حزب البعث وتطرحون موضوع الثأر فيدخلونه ويتبنونه. وبالتالي كلما دخل تفكير، تم تقسيم الأحزاب، والآن باتوا كلهم شيوعيين. أنا في اعتقادي أن هذا يحتاج إلى نظرة حول السبيل إلى أن تعود هذه الكيانات كيانات ضخمة وقوية، بدلاً من أن يقتصر عملها على إصدار بيانات بين الحين والآخر.
نقطة أخرى، وهي النقطة الأساسية منذ عدة سنوات قلت للإخوة في المؤتمر القومي العربي، إن هذه الأمة تحتاج إلى تكوين كتلة تاريخية جديدة. لا أتكلم على كتلة حزبية واحدة مثلما كان حزب البعث والقوميون وغيرهم، لأن الحكومات العربية ستبطش إلى أبعد الحدود إذا ما حصل هذا الأمر. المقصود بالكتلة التاريخية ما يشبه الفدرالية تبدأ بكتلة صغيرة وتتوسع شيئاً فشيئاً وتجتمع حول ما تتفق عليه، وكل ما هو مختلف عليه يتم حيْده، مثـلاً هناك قضية الاحتلال الصهيوني وقضية رجوع الاستعمار من الباب الواسع جداً، وقضية الديمقراطية التي يصر الجميع على أنه لا بد من وجود نوع من الديمقراطية، وهناك نوع من العدالة الاجتماعية التي لا بد منها، وغيرها لا يوجد شيء، ليس من حقنا أن نختلف على أي شيء آخر الآن، وبعد تحرير الأمة ووحدتها، يمكن أن نختلف حول ما قاله لينين وتروتسكي وميشال عفلق وجورج حبش… إلخ.
هذا يذكرني بالإخوة الفلسطينيين، المنقسمين بين إسلامي ويساري وغير ذلك، والمختلفين على كعكة غير موجودة الآن وليست بيدهم، بدلاً من أن يتفقوا على حركة تحرير واحدة لا غير. وبالتالي هذه قضية أعتقد أنها أهم شيء.
سبق أن اقترحنا أن يقوم المؤتمر القومي العربي والمؤتمر القومي – الإسلامي بتأليف مجموعة صغيرة تتفق على هذه الأمور وتضع ورقة، ثم توسّع شيئاً فشيئاً لتشمل اتحاد الكتاب العرب والمحامين وغيرها ممن يريد ذلك، سواء كانت أحزاباً موجودة في المغرب وراغبة في ذلك. أنا أتكلم على مجموعات معروف عنها أنها نظيفة وليس لها تاريخ سيئ، ومن المهم أن يعرف العالم أن هناك تجمعاً شعبياً عربياً ذات قرار، أي أنه إذا قرر خروج تظاهرات تخرج تظاهرات في 200 مدينة عربية، لا تظاهرات متقطعة هنا وهناك وفي أوقات مختلفة. هل هذا الأمر ممكن. فلنتفق على الحدود الدنيا. لدينا الكثير من المفكرين، فلماذا لا يتم إعداد مراجعة فكرية كاملة لكل ما مر علينا وإدخالها في المشروع العربي للتجديد الثقافي والحضاري، وهي قضية كبيرة جداً وتحتاج إلى سنوات طويلة.
إخواني، حاولتُ أن أكون عملياً في هذا الموضوع وأن لا أشت في الأمور النظرية، لأن المرحلة هذه ليست مرحلة نظريات ولا أفكار كبرى، بل هي مرحلة تحتاج إلى صب الماء على الحرائق ومحاولة الخروج من المأزق، لأن أي نجاح في أي منطقة سيرفع مستوى الشعور. أنتم لا تستطيعون أن تتصوروا ارتفاع المشاعر عند الإنسان العربي سنة 2011 عندما تفجرت التظاهرات في تونس وفي القاهرة. لا يمكن تصور الآمال التي دخلت في أذهان الشعوب العربية بعد سنين طويلة من السبات العميق والحزن واليأس والخوف والإحباط، فالانتصارات تؤدي إلى مزيد من الانتصارات والهزائم تؤدي إلى مزيد من الهزائم، أتوقف هنا وأشكركم جزيل الشكر على الاستماع.
(*) في الأصل نص محاضرة شفهية ألقيت في بيروت بتاريخ 12/6/2018، بدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية.
(**) علي فخرو
كاتب ومفكر سياسي عربي من البحرين،
ورئيس مجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.