المؤلف: فواز طرابلسي

مراجعة: بول طبر (*)

الناشر: دار الساقي، بيروت

سنة النشر: 2015

عدد الصفحات: 256 ص

ISBN: 13 9786144258668

هناك أسباب متعددة يجوز ذكرها في معرض الحديث عن أفول البحث والكتابة عن الطبقات من المنظور الماركسي، أكان في الوطن العربي أم في لبنان. من هذه الأسباب ما هو موضوعي، يتعلق بالسقوط المريع لتجربة الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي، ما أدى إلى إضعاف الأحزاب الشيوعية التي كانت تستلهم تلك التجربة في نشاطها السياسي والفكري، كما من هذه الأسباب تحويل التركيب الطبقي الناتج من العولمة وانتشار السياسات النيوليبرالية. أما في الحالة اللبنانية، فينبغي إضافة عامل «الموضة» الفكرية التي يتأثر بها أغلبية الباحثين والمفكرين اللبنانيين، فتراهم دائماً يغيرون «نظرياتهم» تمشياً مع «الدّارج». وبما أنه لم يعد دارجاً استخدام المنظور الماركسي الطبقي في الأبحاث التي تتناول المجتمعات وقضاياها، فقد سارع أغلبية الباحثين والكتّاب في لبنان إلى «تطليق» النظرية الماركسية واعتماد آخر «موضة» في «النظريات» الواردة من هناك وهناك.

بهذا المعنى، فإن كتاب طرابلسي عن الطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية في لبنان، هو كسر لهذا التقليد وعودة جريئة إلى نقاش موضوع الطبقات في لبنان. ولكن الأهم في هذا الصدد، هو إصرار الكاتب على أن يستخدم المنظور الماركسي مع محاولته تطويره.

ماركسية طرابلسي

ماركسية طرابلسي مقارنةً مع الكتابات الماركسية الأخرى عن الطبقات في لبنان، هي الأكثر قدرة على مقاربة هذا الموضوع، ولا سيّما في سياق علاقته بالطائفية كبنية سياسية (أو السلطة السياسية) وكبنية اجتماعية (انظر الفصل الأول من الكتاب حيث ينتقد الكاتب كـلاً من كتابات مهدي عامل ودوبار ونصر في هذا المضمار). فطرابلسي ينتقد مهدي عامـل لاعتباره الطائفية مجرد علاقة سياسية لا دخل لها بالبنية الاجتماعية (والأيديولوجيا) ولا بالبنية الطبقية إلا لكونها تنتج دولة متخلفة بالقياس مع مصلحة الطبقة البرجوازية. كذلك ينتقد طرابلسي دوبار ونصر بعد الإقرار بالميزة الكبرى لمساهمتهما على «أنها تعترف بوجود بنيتين في المجتمع اللبناني: بنية طبقية وبنية طائفية» (ص 37)، إلا أنه يضيف بأن مساهمة دوبار – نصر تبقى «مضطربة في تعيينها العلاقة بين السياسي والاقتصادي وبين الطائفي والطبقي». فالكاتبان لا يزالان يحيلان «الطوائف إلى حيز السياسة والرمز والوعي – بما هو وعي زائف؛ والطبقات إلى الحيز الاقتصادي» (ص 37).

أعتقد هنا، أن نقد طرابلسي لدوبار ونصر غير دقيق. وحجتي في ذلك، ما ورد في كتابه في الصفحتين 35 و36 حيث ينهي النقاش باستشهاده من كتاب دوبار ونصر عن الطبقات في لبنان الصادر عام 1974: «أن الانقطاع الظاهر بين الحيز السياسي والحيز الاقتصادي في تشغيل المجتمع اللبناني ناتج من تمفصل مزدوج: تمفصل الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية على الانتماءات الطوائفية من جهة، وتمفصل العلاقات الطوائفية على المؤسسات السياسية من جهة أخرى». ويضيف الاستشهاد: «إن البنية الطوائفية تشكل، إذاً، مستوىً وسيطاً بين الأوضاع الاقتصادية – الاجتماعية والوقائع السياسية، مستوى قد يفيد بما هو حاجز أمام الترجمة السياسية للمطالب الاقتصادية قدر ما هو حافز مضخم لها… وهكذا فإن الذين يراكمون الاستغلال الاقتصادي مع الحرمان الطوائفي يتمكنون من إدراك الجذور السياسية للاستغلال والحرمان، فيتعزز الحرمان الاقتصادي مع مطالب «المشاركة الطوائفية»»  (ص 36).

الواضح أن هذا الكلام لا يعني القطع بين الطبقي والسياسي، وإنما المقصود منه القول إن العلاقات الطائفية تؤثر في العلاقات الطبقية عبر تأثيرها في البنية السياسية للدولة في لبنان.

على أية حال، من الواضح أن طرابلسي يريد أن يؤكد الوجود الفعلي (المادي) لكلا البنيتين: الطبقية والطائفية، وأن يميّز الحضور الاجتماعي والأيديولوجي للطائفية من حضورها السياسي. وفوق ذلك يريد أن يقول إن «العلاقة بين الطبقة والطائفة ليست علاقة تطابق بقدر ما هي علاقة توزيع عمل وتقاطع وفعل متبادل» (ص 43).

اللافت للنظر في هذا القول عدة أمور: أولاً ما المقصود بالقول إن العلاقة بين الطبقة والطائفة هي علاقة توزيع عمل؟ وما هي القسمة بين البنيتين؟

ما أخافه في هذا القول هو العودة إلى المربع الأول، فإذا كان المقصود أن «الطائفة» تقسِّم الطبقة المستغَلَّة و«الطبقة» تستغِل العمال ومختلف المأجورين. عندئذ، يتناقض هذا الكلام مع قول الكاتب التالي، إن العلاقة بين الطبقة والطائفة هي علاقة تقاطع وفعل متبادل. وما المقصود فعـلاً بعلاقة التقاطع؟ عندما يتقاطع شيئان، فهذا يعني أنهما متماثلان عند النقطة التي يتقاطعان عندها. وهذا قد يحدث كما في حالة رصد علاقة البنيتين الطائفية والطبقية، ولكن التدليل على أماكن التقاطع هذه لا ينبغي أن يترجم بأن البنية الطبقية (البناء التحتي) هو الذي «يفسِّر» ما يحدث على المستوى السياسي، والعكس صحيح أيضاً. لذلك يصح قول طرابلسي إن تفسير السياسة بـ «السياسة» هو تفسير سياسوي أو كمن يفسر الماء بالماء جرْياً مع القول المأثور،ولكن مع الإقرار بأن علاقة التقاطع والفعل المتبادل بين البنيتين لا تستقيم مع القول إن تبيان «الوظيفة» الطبقية للسياسة هو الأساس في فهم السياسة، إلّا إذا أراد الكاتب أن يأذن للاختزالية الاقتصادية وللنزعة الاقتصادوية أن تدخل من الطاقة بعد أن طردها من الشبَّاك.

دعونا نوضح قليـلاً: تتجلى حقيقة تأثير الطبقة في الطائفة (السياسية) عندما تقوم السلطة والدولة في لبنان بسن قوانين واتخاذ قرارات تؤدي صراحة إلى الدفاع عن المصالح المشتركة للطبقة البرجوازية عموماً أو تجْبر هذه الأخيرة على دفع ثمن تحسين شروط عمل الطبقة العمالية ككل (كما في حالة اتخاذ القرار برفع أجور العمال) تحت ضغط التحركات العمالية. غير أن الملاحظة التي يمكن تسجيلها هنا، هي أن الاكتفاء بالإضاءة على هذه الحقيقة تركز على «تمفصل العلاقات الطبقية على السلطة والمؤسسات السياسية والدولة» ولا تولي اهتماماً كافياً بالحالات الأخرى، بحيث يكون تمفصل «السلطة والمؤسسات السياسية والدولة على العلاقات الطبقية» أساسياً لتفسير الكثير من الصراعات السياسية والقرارات الاقتصادية لجهة الاستحواذ على الريوع والفائض الاجتماعي. أقول هذا الكلام اقتناعاً مني أن التحليل الشامل والأدق للطبقات والسلطة السياسية (الطائفية)في لبنان، لا يمكن منه أن يتغافل عن التأثير المتبادل (في الاتجاهين) للعلاقات الطبقية والطائفية في المجال السياسي (والاجتماعي أيضاً). أضف أن الإقرار بالتأثير المتبادل هذا، لا يستنفد «حقيقة» العلاقات الطبقية ولا العلاقات السياسية. فما يجري أساساً في البنية الطبقية (وأنا أفضل تعبير «الحقل» جرياً على نظرية بورديو لاعتبارات لا مجال لنقاشها هنا) هو الصراع على رأس المال الاقتصادي، كما أن الأساس في فهم «البنية» الطائفية السياسية هو ليس «الانطلاق من أن السياسة هي ميدان الصراع للاستحواذ على الفائض الاجتماعي» (ص 46)، بل الصراع على رأس المال السياسي بما هو أساساً مواقع نفوذ والأدوات الملازمة له.

دعنا ندقق أكثر في النص قبل الوصول إلى التقييم الأخير لمنظور الكاتب في تحليله البنية الطائفية والبنية الطبقية والسلطة السياسية في لبنان. يكتب طرابلسي مختزلاً نظرته إلى موضوع العلاقة بين الطائفة والطبقة بالنقاط التالية:

«أولاً، إن البنية الطائفية تخترق كل مناحي الحياة المجتمعية وتتدخل في الاقتصاد والاجتماع والثقافة قدر تدخلها في السياسة والرمز والأيديولوجيا.

ثانياً، إن الطوائف لا تختزل المجال السياسي. فهذا المجال هو أيضاً وخصوصاً مجال السلطة الطبقية.

ثالثاً، إن الطوائف والطبقات في المجتمع اللبناني جماعتان تتنازعان على الاستحواذ على الفائض الاجتماعي، في ظل نظام رأسمالي (التشديد في الأصل)، وتخوضان نزاعاتهما على صعيد المجتمع والسلطة معاً. ومع ذلك فالعلاقة بين الطبقة والطائفة ليست علاقة تطابق …» (ص 43).

في هذا النص، يتضح منظور طرابلسي في تحليله، ليس الطائفية فقط، وإنما المجال السياسي وعلاقة الاثنين بالطبقات. وفي الواقع تقوم الفصول اللاحقة في الكتاب بتقديم بعض الوقائع الراهنة والمعطيات التاريخية لدعم هذا المنظور، وينبغي التذكير بأن هذه الفصول في غاية الأهمية، إن لجهة تقديم معارف جديدة حول هذا الموضوع، أو لجهة البرهنة على صلاحية الفرضيات النظرية أعلاه.

ولكن قبل القيام بتقييم أدق للمنظور أعلاه، دعني أشير هنا إلى دور البنية الطائفية في التأثير في جانب من الحراك الاجتماعي لأبناء الطوائف في لبنان لم يأتِ على ذكره طرابلسي بالقدر الكافي في سياق تحليله علاقة الطائفة بالطبقة. إن تحديد العلاقات والبنية الطائفية للمعيار الأساسي لاشتغال وانتظام الدولة في لبنان يؤدي إلى تحويل «الدولة الطائفية» إلى بنية تتوسط البنية الطبقية والبنية السياسية للدولة في لبنان. بذلك تتحول البنية الطائفية ليس فقط إلى عامل قد يضخّم الاستغلال الطبقي الذي تعانيه الفئات العمالية من الطائفة الأقل حظوة في البنية التراتبية للطوائف، وإنما أيضاً إلى عامل مخفِّف للاسْتغلال الطبقي لدى الفئات العمالية في أوساط الطائفة الأكثر حظوة في التراتب الطائفي المذكور. ينطبق هذا التحليل أيضاً على الفئات الطبقية المتوسطة والعليا لدى مختلف الطوائف. وبذلك يتحول العامل الطائفي إلى لاجم أو داعم لتطلعات هذه الفئات وفقاً للموقع التراتبي للطائفة التي تنتمي إليها هذه الفئات الطبقية. وتفسِّر هذه الحقيقة إلى حد كبير الأصول المهْجرية للكثيرين من أبناء الطبقتين الوسطى والعليا الذين ينتمون إلى الطوائف التي كانت تاريخياً أقل حظوة في التراتب الطوائفي في لبنان. ففي ظل الانسداد المتأتي من البنية الطوائفية المتراتبة والمتمفصلة على انسدادات البنية الطبقية، وجد الكثيرون من أبناء الطوائف المسْلمة في الهجرة، ولا سيما في مرحلة ما قبل اتفاق الطائف، مخرجاً لتحقيق تطلعاتهم في الصعود الطبقي قبل عودتهم إلى لبنان وانضمامهم إلى صفوف البرجوازية الوسطى والعليا.

نعود إلى المنظور الماركسي أعلاه لطرابلسي ونسجل ما يلي:

أولاً، عندما نقول «إن البنية الطائفية تخترق كل مناحي الحياة المجتمعية وتتدخل في الاقتصاد والاجتماع والثقافة، قدر تدخلها في السياسة والرمز والأيديولوجيا»، فإن هذا الإقرار لا يعفينا من مهمة دراسة البنية الطائفية بما هي حقل اجتماعي مستقل له نظامه السلطوي المتمحور حول درجة امتلاك الرأسمال «الطائفي» للاعبين في هذا الحقل ولامتلاك رأس المال الرمزي المشرِّع له.

أما القول «إن الطوائف لا تختزل المجال السياسي. فهذا المجال هو أيضاً وخصوصاً مجال السلطة الطبقية (التشديد مني)»، فينبغي تفْكيكه لعدة اعتبارات: ماذا نعني بأن «الطوائف لا تختزل المجال السياسي؟» الطوائف ككيانات اجتماعية بالطبع لا تختزل ومجال اشتغالها هو غير مجال الحقل السياسي. أما القوْل إن العلاقات الطائفية لا تختزل المجال السياسي، فهذا يستدعي بعض التدقيق: فمن الواضح أن العلاقات الطائفية والمعايير الطائفية هي الأساس في تنظيم السلطة وأدواتها في لبنان. وهذا الأمر يجعل من الطائفية «الرأسمال السياسي» الذي يتصارع على امتلاكه اللاعبون السياسيون في الحقل السياسي في لبنان. وعليه، تتحدد مواقع النفوذ وقدرة الذين يتبوؤون هذه المواقع على السيطرة ومن ضمن ذلك ضبط وتنظيم الصراع «للاستحواذ على الفائض الاجتماعي». من هذا المنطلق، فإن السلطة الطبقية في الحقل السياسي هي غير ما هي عليه في المجال الاقتصادي البحت. وهي عندما تتمظهر سياسياً عبر «التقاطع والفعل المتبادل»، فإن ذلك لا يلغي أن الطابع الرئيس للمجال السياسي هو الطابع الطائفي والصراع الأساسي هو الصراع على رأس المال الطائفي الدائر في الحقل السياسي في لبنان. فكما أن «التقاطع والفعل المتبادل» بين الحقل السياسي والحقل الطبقي هو حقيقة راسخة، فإن خصوصية كل حقل واستقلاله (النسبي) من الحقل الآخر هو أيضاً حقيقة لا يجوز التغاضي عنها.

وأخيراً، فإن القول «إن الطوائف والطبقات في المجتمع اللبناني جماعتان تتنازعان على الاستحواذ على الفائض الاجتماعي (التشديد مني)، في ظل نظام رأسمالي (التشديد في الأصل)، وتخوضان نزاعاتهما على صعيد المجتمع والسلطة معاً…» (ص 43) يتناول في الحقيقة وظيفة هي أساسية بالنسبة إلى تحليل وفهم البنية أو الحقل الاقتصادي لكنها غير أساسية (أي تكوينية) في تحليل وفهم الحقل السياسي. ونص طرابلسي لا يميّز بين هاتين الخاصتين، أو في أحسن الأحوال يقلل من أهميتهما التحليلية والتفسيرية في مجمل كلامه على الطائفية والسياسة والطبقة في لبنان.

باختصار، فإنني أدعو إلى التمييز أولاً بين الطائفية كحقل اجتماعي وكحقل سياسي وبين هذين الحقلين والحقل الاقتصادي الطبقي. وأن لكل حقل من هذه الحقول «رأس ماله» الخاص ورهاناته الخاصة وعلاقات قوة مستمدة من درجة امتلاك «الرأسمال» الخاص بكل حقل. وتبقى هذه الحقائق سارية المفعول رغم الإقرار بعلاقة «التقاطع والفعل المتبادل» بين هذه الحقول (وهنا أريد أن أضيف أيضاً أن العلاقة بين الطائفة والطبقة قد تكون علاقة تحييد مفعول الواحد على الآخر. يحدث ذلك عندما تتغلب العلاقات والمصالح الطبقية على مفعول الانقسامات الطائفية أو العكس).

هناك تقليد عريق في الكتابات الماركسية يتمحور حول توصيف العلاقة بين «البنية التحتية» و«البنية الفوقية» بما هي بنية سياسية وأيديولوجية. من هذه الكتابات ما يختزل البنية الفوقية وينفي خصوصيتها بجعلها مجرد صدى أو انعكاسٍ للبنية الاقتصادية. وفي هذا السياق، يتم تعريف البنية الاقتصادية بأنها «نمط إنتاج» وطبقات وعلاقة استغلال في ما بين هذه الطبقات. في المقابل، بعض الكتابات الأخرى (من إنغلز إلى ألتوسير وتلامذته، مروراً بغرامشي ولوكاش ومدرسة فرانكفورت) ترفض هذه النزعة الاختزالية وتقر بخصوصية البنى الفوقية وتفاعلها مع البنية الاقتصادية، لكنها تختم بالقول إن البنية الاقتصادية تبقى في «التحليل الأخير» المحدد لمجمل التشكيلة الاجتماعية. وعلى الرغم من إقرار ألتوسير بأن لحظة حدوث التحليل الأخير لن تأتي أبداً، أرى أنه لا مفر من الإقرار بالتمايز بين البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية، وبوجودها المادي والمستقل وبتفاعلها في الوقت نفسه مع بعضها بعضاً، والتأثير المتبادل في ما بينها. من هنا، أجد أن المفاهيم والمقاربة التي يقدمها بورديو في تحليله المجتمع (مفهوم رأس المال والحقل والهابيتوس، وغيرها) تشكل خطوة متقدمة على طريق تجاوز خطر الاختزالية الملازمة للكتابات الماركسية ومختلف الكتابات السياسوية والثقافوية التي انتشرت في العقود الأخيرة.