مقدمة:

معروف أن الشباب أساس تقدم الشعوب وازدهارها. وتمثل هذه الفئة دينامو الدولة ومحركها الرئيس لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة؛ كما تعد قاطرة الإقلاع الاقتصادي، وقوة الأمة لتحقيق استقلالها وكينونتها وهويتها وإنيتها الوجودية.

وإذا كان عدد سكان الوطن العربي يقدر بثلاثمئة مليون نسمة، فإن الشباب يمثلون قرابة ثلثه. ويعني هذا أن ساكنة الوطن العربي شبابية بامتياز. وما زال الشباب العربي يعانون مشاكل متعددة كالفقر، والأمية، والبطالة، والجهل، والتخلف، والعزوبة، والعنوسة، والتغريب، والاستلاب، والإقصاء، والتهميش…

وفي ما يخص المغرب، يبلغ عدد الشباب الذين يصل سنهم إلى ما بين خمس عشرة سنة وأربع وعشرين سنة أحد عشر مليون شاب، موزعين بين البادية والمدينة، أو بين الريف والحضر. ومن ثم، يعاني الشباب المغربي المشاكل نفسها التي يعانيها الشاب العربي، ما دامت الدول العربية واحدة في هويتها وهمومها ومآسيها ومحنها، وتشترك في كثير من الميزات البارزة كالتخلف، والإقصاء، والتهميش، والبطالة، والفقر…

وما يهمنا في هذا الموضوع هو التوقف عند موضوع سوسيو-سياسي بامتياز، يتمثل بدراسة (المشترك والمختلف بين شباب الحضر والريف في المجتمع المغربي حول الشأن العام الداخلي والخارجي)، وفق منظور علم الاجتماع السياسي الذي يدرس أثر المجتمع ونخبه وفئاته وجماعاته في السياسة واتخاذ قراراتها، بالضغط على الحكومة من جهة، وتوجيه دفة المجتمع السياسي (الأحزاب السياسية والنقابات العمالية) من جهة أخرى.

أولاً: شباب الأرياف والمشاركة السياسية

لا يمكن الحديث عن الديمقراطية والتنمية السياسية إلا إذا قسنا نسبة المشاركة السياسية في بلد من البلدان؛ وقسنا أيضاً مدى تمتع المواطنين بالحريات الطبيعية والمكتسبة؛ ومدى انتشار ثقافة حقوق الإنسان في البلد نظريةً وخطاباً وممارسةً؛ ومدى السماح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم بكل حرية بلا خوف، أو عنف، أو ضغط، أو محاسبة.

إذاً، تقاس ديمقراطية الدول وتنميتها السياسية بنسب المشاركة السياسية، وانتعاش الثقافة السياسية، ومدى مساهمة مؤسسات الدولة ومجتمعها المدني في إثراء التنشئة السياسية لدى المواطن.

وعليه، «تعتبر المشاركة السياسية هي أساس الديمقراطية من خلال اتساع الاقتراع الشامل وامتداده بدرجات مختلفة من دولة إلى أخرى لكل أعضاء المجتمع حيث الرجال مثل النساء ومن خلال أيضاً المؤسسات الشرعية التي تشجع وتيسِّر اللقاءات والتجمعات السياسية، والتواجد الحزبي أو التنظيمي، وحق وضع الملصقات، والقيام بالاتصالات وغير ذلك، ويساهم تشجيع المشاركة في تطبيق الشرعية السياسية مما يجعل الإنسان كائناً سياسياً»[1].

من هنا، فالمشاركة السياسية هي أس الديمقراطية والمواطنة في بلد ما، ومن خلالها نحكم على بلد ما بأنه بلد ديمقراطي أو متخلف. ويعني هذا أن «المشاركة هي جزء لا ينفصل عن مفهومات الديمقراطية الأخرى كالتجمع، والمساواة، وسيادة الشعب، ومناقشة القوانين أو تعديلها، كما أن المشاركة السياسية تعد المقياس لنمو الحكومات الديمقراطية. وهناك من يعتبر عملية المشاركة السياسية من الأنشطة الإدارية التي يشارك الأفراد بمقتضاها في اختيار الحاكم، وصياغة السياسة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر. أي: إنها تعني اشتراك الأفراد في مختلف مستويات النظام السياسي»[2].

وتختلف المشاركة السياسية للشباب حسب النوع والجغرافيا والبيئة. ويعني هذا أن العمل السياسي لا يمارس في فراغ، وإنما داخل حيز مكاني وجغرافي له سماته الفردية، وفي بنية مجتمعية لها خصائص معينة. فالحيز المكاني محكوم بمساحة محددة، وبموقع جغرافي له خصائص وتضاريس ومناخ وحدود معينة، وبموارد طبيعية قد تكون شحيحة أو وفيرة متنوعة أو غير متنوعة… إلخ. أما البنية المجتمعية، فهي محكومة بشعب له خصائص اجتماعية وثقافية وعرقية ولغوية ودينية معينة. وهذه كلها سمات وعوامل من شأنها أن «تؤثر تأثيراً كبيراً في العملية السياسية في أي مجتمع، وتتيح فرصاً أو تفرض قيوداً قد تضيق أو تتسع في ما يتعلق بإدارة شؤون الدولة والمجتمع»[3].

معنى ذلك أن «لكل نظام سياسي بيئة تؤثر فيه ويؤثر فيها. فالنظام السياسي، بشكل عام، والحكومة، بشكل خاص، هما مرآتا البيئة وإفرازان لها، كما أنهما قد يكونان أداة لتغيير هذه البيئة وتطويرها في الوقت نفسه. لذلك تبدو العلاقة بين النسق السياسي والفاعل السياسي علاقة تفاعلية في الأساس وتسير دائماً في اتجاهين وليس في اتجاه واحد»[4].

من هنا، يتأثر الفعل السياسي جغرافياً وبيئياً ومكانياً، كاختلاف المشاركة السياسية من البادية إلى المدينة، أو من الوبر إلى الحضر. من هنا، يمكن الحديث عن علم الاجتماع السياسي القروي، وعلم الاجتماع السياسي الحضري.

من هنا أيضاً، ما زال شباب الأرياف والبوادي بالمغرب، بعد الاستقلال، وبخاصة في العقود الأخيرة، أقل اهتماماً بالشؤون السياسية الداخلية والخارجية لوطنهم مقارنة بشباب المدن والحواضر المغربية. ويعود ذلك إلى عوامل ذاتية وموضوعية يمكن حصرها في ما يلي:

1 – هجرة أغلب الشباب المغربي من الريف إلى المدينة، أو هجرتهم من المغرب إلى الضفة الأخرى للبحث عن لقمة الخبز؛ وهذا ما جعلهم لا يبالون بالشأن العام لبلدهم على المستويين الداخلي والخارجي. من هنا، فهم يركزون بالدرجة الأولى على الهموم الاقتصادية والاجتماعية والدينية على حساب الهموم السياسية التي تقلقهم وتزعجهم وترهبهم.

وعند عودة هؤلاء الشباب المغتربين إلى بلدهم لقضاء عطلة الصيف، نجدهم يهتمون فقط بأسرهم وعائلاتهم القريبة والبعيدة، مع الانشغال بالبناء والعمران لإيواء أولادهم، من دون الاهتمام بالأمور السياسية التي لا تعنيهم في شيء، ولا سيَّما في عهد الحسن الثاني الذي فرض على البلاد سياسة دكتاتورية، وساس البلاد بقبضة من حديد، حتى إن المغاربة كانوا لا يستطيعون ذكر اسمه خوفاً من عيون الاستخبارات، وقد امتد ذلك الأمر من سنوات السبعين (سنوات الرصاص) إلى وفاته في تسعينيات القرن الماضي.

2 – انعزال أهل البادية في الكهوف والجبال والمغارات، وابتعاد بعضهم من بعض في قمم الجبال وروابيها وتلالها محافظة ومقاومة وتمنعاً، كما هو حال الشباب الأمازيغي بالريف والأطلس الكبير والمتوسط والصغير؛ وهو ما حال دون الاهتمام بأمور السياسة الداخلية والخارجية لبلدهم، أو دون ممارسة الفعل السياسي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

3 – بُعد شباب البوادي والأرياف من مراكز الحضر؛ وقد منعهم ذلك من الاستفادة المثلى من التوعية السياسية، والتنشئة السياسية. ناهيك بقلة المؤسسات السياسية والأحزاب والنقابات التي تقوم بدور التأطير والتوعية السياسية في الأرياف والبوادي.

4 – ضعف أداء الأحزاب السياسية والنقابات العمالية التي يمكن أن يكون لها دور في تفعيل المجتمع القروي، وتنميته سياسياً وثقافياً، على الرغم من الشعارات السياسية الكبرى التي كان يرفعها كل من حزب الحركة الشعبية، وحزب الحركة الوطنية الشعبية، وحزب الحركة الديمقراطية الشعبية من أجل تطوير المجتمع القروي وتنميته على جميع الصعد والمستويات. ناهيك بغياب المؤسسات التربوية والتعليمية والفنية والثقافية التي يمكن أن تعد قاطرة التنمية بمختلف أنواعها.

5 – صعوبة الحديث عن مجتمع مدني في بوادي المغرب وأريافه، بمختلف مقوماته وأسسه الديمقراطية والتشاركية، وحتى إذا وجد هذا المجتمع، فإنه يتخذ طابعاً اجتماعياً واقتصادياً محلياً يُعنى بمشكل الجفاف، ومشكل البطالة، ومشكل التصحر، ومشكل البيئة، ومشكل الطاقة، ومشكل التربية والتعليم، ومشكل النقل، ومشكل الصحة. وقلما يهتم بالقضايا والشؤون السياسية الكبرى الداخلية والخارجية؛ بسبب الخوف من السلطة الحاكمة المستبدة، وعدم الجدوى من الخوض في المشاكل السياسية التي لا تعود على الشباب إلا بالويل والثبور والهلاك والمحاسبة.

6 – انتشار الأمية والجهل والفقر والتخلف بين شباب الأرياف والبوادي المغربية، وانقطاعهم عن الدراسة المبكرة بسبب ارتفاع نسبة الهدر المدرسي، واهتمامهم بالفلاحة والزراعة. ناهيك ببُعد المدارس والمؤسسات التعليمية من أغلب المناطق الريفية، وبخاصة الجبلية منها.

7 – ضعف المشاركة السياسية في الانتخابات مقارنة بنسبة المشاركة في المدن والحواضر المغربية؛ بسبب اللامبالاة، وانشغال الشباب بأمورهم الشخصية، ورغبتهم في الهجرة نحو المدن، أو الهجرة نحو خارج المغرب للبحث عن العمل الشريف، ثم اقتناعهم بعدم جدوى الفعل السياسي بشكل من الأشكال.

8 – غياب الوعي السياسي لدى معظم شباب الأرياف، ما عدا شباب الجامعة الذين يعودون إلى مواطنهم من لحظة إلى أخرى، ولكن من دون أن يكون لهم دور مهم في التغيير السياسي، أو في توعية أهل الريف الذين يغرقون في دياجي الاستلاب والوعي الساذج واللامبالاة، وعدم الاهتمام بأمور السياسة الداخلية والخارجية.

9 – إذا كانت هناك مشاركة سياسية ضيقة وضئيلة ومحدودة في البوادي والأرياف المغربية، فإن ذلك يخضع لمنطق الولاءات المصلحية والانتهازية رغبة في إرضاء بعض الشخصيات الكاريزمية النافذة في البادية أو الريف، أو من أجل الدفاع عن عصبية قبلية معينة قصد تثبيت نفوذها مادياً ومعنوياً، أو مساندة الأقرباء احتراماً لرابطة الدم، أو دفاعاً عمَّن يحامي الدين وفق أيديولوجيا المعتقد، أو نزولاً عند إغراءات المال والفساد، أو المشاركة في الانتخابات الوطنية أو المحلية خوفاً من العقاب والمحاسبة، وعدم قضاء حاجاته الإدارية والمرفقية. وقلّما نجد من يشارك سياسياً في الانتخابات بسبب البرامج السياسية لانتشار الأمية والجهل والتخلف، وغياب وسائل الإعلام والبنية التحتية واللوجيستية.

10 – يلاحظ غياب الديمقراطية الحقيقية والتنمية السياسية في البوادي المغربية أكثر فأكثر؛ بسبب رقابة التسلط، ووصاية المحاسبة، وشطط المحاكمة، وانتشار الأمية والجهل والتخلف، وغياب التنشئة السياسية، وانعدام الوعي والثقافة السياسية لدى معظم شباب البوادي المغربية. لذلك، فهم لا يهتمون بالشأن الداخلي العام، فكيف يهتمون بالشأن الخارجي الذي لا يعنيهم في أي شيء؟!!

خلاصة القول، لا يمكن لشباب الأرياف والبوادي المشاركة في الحياة السياسية، والانخراط في المجتمع المدني والسياسي إلا إذا وجدت بنية تحتية مناسبة وملائمة للإقلاع الاقتصادي والتنموي، وتوافرت مؤسسات تربوية وجامعية وسياسية ومدنية وإدارية كافية لتسمح للشاب البدوي أو الريفي بالمساهمة في إثراء الحياة السياسية وتنشيطها وتفعيلها.

ولن يتحقق ذلك أيضاً إلا بوجود تنمية اقتصادية واجتماعية وبشرية تحد من بطالة الشباب تدريجاً، بخلق فرص العمل، وتنمية القطاع الزراعي، وبناء المعامل والمنشآت والوحدات الإنتاجية في مجال الفلاحة والزراعة والقطاع الحيواني، وجلب الاستثمارات الوطنية والأجنبية إلى القرى، وخلق التعاونيات الفلاحية والصناعية، وتثقيف الشباب سياسياً ومدنياً، وتأسيس فروع مختلفة للأحزاب السياسية والنقابات العمالية في كل نواحي البادية المغربية، ورسم سياسة استراتيجية للحد من الفقر والأمية والجهل والتخلف، وبناء قرى نموذجية مجهزة بالماء والكهرباء والهاتف والإنترنت… لذلك، نلاحظ مشاركة ضعيفة لشباب البوادي والأرياف مقارنة بشباب المدن والحواضر الكبرى والمتوسطة والصغيرة. بيد أن مشاركة هؤلاء الشباب مشاركة محدودة وضيقة وضحلة، ولكنها تتميز بالعنف الثوري، والميل نحو الاحتجاجات الصاخبة، واستعمال العنف والتطرف والتشدد في التغيير مقارنة بالاحتجاجات السلمية في المدن والحواضر.

علاوة على ذلك، يتم استخدام الوسائل التقليدية في البوادي المغربية التقليدية، مثل: استغلال الولاء والقرابة والدين والتصوُّف وهيبة الشخصية في حث الشباب على الاندماج والانخراط والمشاركة السياسية. من هنا، فمشاركة شباب البوادي هي مشاركة تقليدية على عكس المشاركة في المدن والحواضر، وهي مشاركة سياسية عصرية وتقنية واعية بمعنى الكلمة. ويرى صموئيل هنتنغتون في كتابه النظام السياسي لمجتمعات متغيرة أن «المشاركة السياسية في المجتمعات التقليدية منتشرة على مستوى القرية، لكنها في أي مستوى أعلى من القرية تكون محدودة في فئة صغيرة جداً. وقد تتوصل المجتمعات التقليدية الكبيرة أيضاً إلى مستويات عالية نسبياً من السلطة العقلانية والتفصيل البنيوي؛ لكن المشاركة السياسية ستكون أيضاً محدودة في نخبة أرستقراطية وبيروقراطية صغيرة نسبياً. إن أهم أوجه العصرنة السياسية هو، بناء على ذلك، مشاركة فئات اجتماعية في السياسية، فوق مستوى القرية أو المدينة، في نطاق المجتمع كله، وتطوير مؤسسات سياسية جديدة، كالأحزاب السياسية، لتنظيم هذه المشاركة»[5].

ويعني هذا أنه لا يزال في البوادي المغربية نخب أرستقراطية أو بيروقراطية محدودة ومعدودة هي التي تمتلك الوعي السياسي، وتتحكم في إدارة شؤون القرية أو البادية في علاقة تامة بالسلطة الحاكمة، ويكون لها اطلاع محدود على ما هو سياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي، كما هو حال العمدة في البوادي والقرى المصرية.

عموماً، نسجل، إلى حد كبير، غياب الثقافة السياسية بين شباب البوادي والأرياف المغربية، بغياب فروع الأحزاب السياسية والنقابات المهنية والحرفية التي تتمركز، غالباً، في المدن والحواضر. ناهيك بضعف الأداء الحزبي والنقابي بصفة عامة بالمغرب بسبب فقدان الثقة في هذه المؤسسات المدجنة؛ دع عنك غياب الديمقراطية الحقيقية، وغياب المشاركة السياسية، وانعدام الحريات وحقوق الإنسان، وتدني الوعي السياسي، وغطرسة الحكم الاستبدادي، وفساد النظام السياسي، والعزوف السياسي، وفساد الانتخابات، وغياب النزاهة والصدقية والشرعية.

ثانياً: شباب الحواضر والمشاركة السياسية

إذا كان شباب الأرياف والبوادي يتميزون باللامبالاة والعزوف السياسي على جميع الصعد والمستويات والمجالات، فإن شباب المدن والحواضر بالمغرب يهتمون بأمور بلادهم السياسية على الصعيدين الداخلي والخارجي، سواء أكانت مشاركتهم إيجابية أم محايدة أم سلبية.

لقد كان شباب الحواضر بالمغرب أكثر نشاطاً ومشاركة ووعياً في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الماضي، بعد صعود أحزاب اليسار التي كانت أحزاباً شعبية راديكالية تعارض توجهات الأحزاب اليمينية من جهة، وتعارض سياسة القصر من جهة أخرى. بيد أن السلطة الحاكمة قد منعت هذه الأحزاب المعارضة من أداء دورها السياسي والأيديولوجي كما يجب، ودبرت لها مكيدة جهنمية في إغلاق مقارّها، ومصادرة صحفها ومطبوعاتها وكتبها وبياناتها ومنشوراتها، ومحاكمة زعمائها، ولا سيّما في تلك الحقبة العصيبة التي تسمى «سنوات الرصاص». وقد شهد المغرب في هذه الحقبة بالذات انقلابات عسكرية عديدة باءت بالفشل؛ أثرت في الوضع السياسي للبلاد سلباً، ولا سيَّما بعد التظاهرات الشبابية الدموية في 1984. وقد نتج من ذلك عزلة الشباب المغاربة عن المشاركة في الأحزاب السياسية المغربية، أو الانخراط في العمل السياسي، وبخاصة بعد فشل التجارب الحكومية لأحزاب اليسار إبان التناوب الحكومي الذي كانت تمثله أحزاب تقدمية واشتراكية انتهازية كحزب الاتحاد الاشتراكي، وحزب التقدم الاشتراكي، وحزب جبهة القوى الديمقراطية…

ولقد ازداد العزوف السياسي عند الشباب في المدن المغربية، بعد فشل تجربة حزب العدالة والتنمية الذي كان نموذجاً سيئاً للأحزاب الإسلاموية التي استغلت الدين وثقة الناس من أجل الوصول إلى السلطة لتحقيق مصالحها المادية والمعنوية. وقد نتج من ذلك أن انطلق الحراك الاجتماعي في الحسيمة وجرادة وسيدي إفني، وتعاظمت قوة المجتمع المدني بعد فشل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية، وأصبح قوة مهددة وضاغطة على الدولة، ما دام هذا المجتمع المدني إطاراً جمعوياً عفوياً غير منظم وغير مؤطر، وبالتالي، يصعب التحكم في انفعالاته وثوراته وانتفاضاته. وقد انتهى الأمر، أخيراً، بشباب المدن والحواضر المغربية إلى إشعال فتيل المقاطعة الفايسبوكية لبعض المنتجات الاقتصادية التي قرر أصحابها الجشعون رفع أسعارها في شهر رمضان 2018.

ولم يقتصر اهتمام شباب الحواضر والمدن على الشأن العام الداخلي فحسب، بل اهتموا كذلك بأمور المغرب على الصعيد الخارجي، كالاهتمام بملف الصحراء المغربية في مختلف تطوراته السياسية والعسكرية، والتعرض للبوليزاريو بالانتقاد والهجاء والسخرية والمعايرة، وتحميل الجزائر مسؤولية التحريض والاعتداء والعدوان على المغرب. فضلاً عن الاهتمام بالقضايا الأفريقية والأوروبية بمختلف ملفاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرياضية والأمنية. من دون أن ننسى الاهتمام المبالَغ فيه بالملف الرياضي أو الكروي على الصعيد الوطني والإقليمي والدولي، بعد ترشح المغرب لاستضافة كأس العالم سنة 2026.

وستظل مشاركة الشباب المغربي في المدن والحواضر مشاركة بارزة وفعالة ومتميزة عربياً، سواءٌ أكانت مشاركة إيجابية، أم مشاركة محايدة، أم مشاركة معارضة.

وإذا كان شباب الحواضر الكبرى في الدار البيضاء والرباط وطنجة أكثر حضوراً وفعالية في السنوات التي خلت، فإن شباب المدن المهمشة والمقصية، كشباب الحسيمة وجرادة والناظور وسيدي إفني وآخرين، أصبحت لهم كلمتهم في إشعال فتيل الحراك الاجتماعي من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية، والحد من الفساد السياسي.

وغالباً، ما يحتكم شباب المدن إلى البرامج السياسية للأحزاب المغربية المتعددة، بالميل نحو الأحزاب اليسارية المعارضة، أو الميل نحو الأحزاب الإسلامية التي تستغل الدين للوصول إلى السلطة، أو الانخراط في الأحزاب أو الجماعات الممنوعة بقوة القانون كجماعة العدل والإحسان، وحزب النهج الديمقراطي، والأحزاب الأمازيغية…

عموماً، يمكن الخروج بمجموعة من الملاحظات المتعلقة بالاهتمام الشبابي الحضري بشؤون الدولة الداخلية والخارجية، ويمكن حصرها في النقط التالية:

1 – برزت ظاهرة العزوف السياسي، بما فيه العزوف الانتخابي، عند الشباب المغاربة القاطنين بالمدن والحواضر بعد حالة الاستثناء وسنوات الرصاص، واتسع ذلك العزوف اتساعاً كبيراً بعد تسعينيات القرن الماضي[6]، بمقاطعة الانتخابات المزيفة والمزورة والمطبوخة مسبقاً، والنفور من العمل السياسي نظرية وخطاباً وممارسة وأداءَ ومشاركة، وعدم الثقة في الأحزاب السياسية، ولا في النقابات العمالية، وعدم الانشغال بالشأن العام الداخلي أو الخارجي؛ لأن الخطاب السياسي المغربي، بصفة عامة، قد أصبح مجرد نظرية أو خطاب ديماغوجي أو أيديولوجي فارغ، ولم يتعدَّ ذلك إلى ممارسة عملية واقعية حية وفعالة؛ ناهيك بكون الأحزاب السياسية لا تؤمن بالديمقراطية الداخلية، فالأمين العام للحزب لا يتغير عبر انتخابات المؤتمرات المزيفة المتوالية، بل يظل على كرسي الأمانة حتى يشيخ أو يموت ليتولى ابنه الحكم بعد ذلك. يعني أن ثمة وراثة مستدامة على مستوى الحكم من جهة، وعلى مستوى الأحزاب السياسية والنقابات العمالية من جهة أخرى. ومن ثم، ليست هناك ديمقراطية مواطنة حقيقية. وهذا هو السبب الذي جعل الشباب المغاربة بالحواضر والمدن يبتعدون من الأحزاب والنقابات، ما دامت غير ديمقراطية، وغير عادلة إطلاقاً. وفي الوقت نفسه، تظل مكاتبها السياسية المركزية مغلقة في وجه الشباب بصفة عامة.

يلاحظ كذلك أن الأمين العام وأصحابه المقربين أو المناضلين أو أفراد العائلة هم وحدهم الذين يصلون إلى الحكم أو البرلمان بطرائق مشروعة أو غير مشروعة، ثم يتنافسون على المال والجاه والسلطة والنساء ضمن ما يسمى «الفساد السياسي».

2 – للعزوف السياسي عند الشباب المغاربة بالحواضر عوامل ذاتية وموضوعية، يمكن حصرها في استبداد النظام السياسي، وفساد المخزن، وغياب الديمقراطية الحقيقية، وانتشار الفساد بمختلف أنواعه، وضعف أداء الأحزاب السياسية المغربية، وتداخل العمل النقابي بالعمل السياسي، ولامبالاة الحكومات السياسية، وضعف المشهد البرلماني، وغياب معارضة حزبية وبرلمانية حقيقية، وغياب الفعالية على مستوى المشاركة السياسية، وضعف الثقافة السياسية، وغياب التنشئة السياسية الفعالة، وعدم وجود نخبة سياسية عضوية قائدة لتأطير الشباب وتوعيتهم وتوجيههم وجهة سياسية إيجابية. من هنا، فالعزوف السياسي أنماط متباينة، «وليس نمطاً واحداً، فهناك عزوف موقفي مبني ومؤسس، وواعٍ بأهدافه ومراهناته السياسية والاجتماعية، وهناك عزوف ناجم عن بدائل استقطاب متعددة مثل الانشغال بثقل الأعباء اليومية وبعض أشكال التدين والتصوف، أو تفضيل العمل الجمعوي والثقافي، أو تعاطي المخدرات وارتياد الملاهي ومقاهي الإنترنت ونوادي الألعاب الرياضية… وهناك عزوف لامبالٍ ناتج عن نفور مجاني من المشاركة السياسية عموماً كنوع من الرفض للواقع الاجتماعي والسياسي»[7].

أكثر من هذا، فلقد تحول العمل السياسي في الساحة السياسية المغربية إلى لعبة أيديولوجية مكيافيلية قائمة على المراوغة، والمكر، والخداع، والدهاء، والتسويف، ودغدغة عواطف الشباب بغية الوصول إلى الحكم من أجل الاستفادة من الامتيازات المادية والمالية والمعنوية.

3 – يمكن الحديث عن أنواع وفئات متعددة من شباب الحواضر بالمغرب، كالشباب الجامعي، وشباب المجتمع المدني، وشباب الأحزاب السياسية، وشباب النقابات العمالية، والشباب الحاكم، والشباب المثقف، وشباب التنظيمات والجمعيات والأحزاب الدينية والإسلامية، والشباب الرياضي، والشباب اللامبالي، والشباب المنشق المعارض، والشباب الراديكالي المتطرف، والشباب الفايسبوكي…

ويمكن تصنيف هؤلاء الشباب الحضري ضمن ثلاث فئات كبرى على النحو التالي:

أ- الفئة الإيجابية المنخرطة من خلال اهتمامها بشؤون الدولة الداخلية والخارجية كشباب الجامعات والأحزاب السياسية والنقابات العمالية.

ب- الفئة المحايدة التي لها موقف معين من سياسة الدولة الداخلية والخارجية كالشباب المثقف.

ج- الفئة المعارضة السلبية التي تلتجئ إلى آليات الحجاج، والحراك الاجتماعي، والرفض، والإضرابات، والتظاهرات، والمقاطعة كشباب الجمعيات الإسلامية والدينية المعارضة (جماعة العدل والإحسان، مثلاً)، والجمعيات المدنية الثورية كحركة 20 فبراير، أو بعض الأحزاب السياسية المنشقة والمتطرفة كحزب النهج الديمقراطي، والحزب الليبرالي المغربي…

4 – تراجع نسبة المشاركة السياسية لدى الشباب المغاربة بصفة عامة، وشباب المدن والحواضر بصفة خاصة، من انتخاب إلى آخر، بفعل تكرار الانتخابات السياسية الفاسدة والمزورة التي سئم منها الشباب والكبار.

 

الجدول الرقم (1)

بعض النسب المئوية للانتخابات المغربية من حقبة الملك الحسن الثاني إلى حقبة الملك محمد السادس كما أقرتها وزارة الداخلية

تاريخ الانتخاباتنسبــة المشــاركةالحــزب الفـــائــز
196371.80الفديدك لرضا اكديرة
197085.4المرشحون الأحرار
197782.4التجمع الوطني للأحرار
198467.4الاتحاد الدستوري
199362.8الاتحاد الدستوري
199758.3حزب الاتحاد الاشتراكي
200252حزب الاتحاد الاشتراكي
200737حزب الاستقلال
201145.4حزب العدالة والتنمية
201643حزب العدالة والتنمية

لقد بدأت المشاركة السياسية الشبابية بالمغرب منذ 1963، بتولي الحسن الثاني مباشرة دواليب السلطة الملكية، بعد وفاة والده السلطان محمد الخامس. وقد شهد المغرب، آنذاك، أول انتخاب اقتراعي بعد الاستقلال بنسبة للمشاركة تقدر بـ 71.8 بالمئة. وقد فاز حزب الفيديك لرضا اكديرة، مستشار الحسن الثاني، بأغلب المقاعد البرلمانية (69 مقعداً).

الشكل الرقم (1)
تطور نسبة المشاركة وعدد الناخبين في المغرب
(1963 – 2016)

ووصلت نسبة المشاركة في انتخابات سنة 1970 إلى 85.4 بالمئة، وهي نسبة عالية جداً في تاريخ الانتخابات المغربية، وقد فاز المرشحون الأحرار بأغلب المقاعد الحزبية (169 مقعداً). وبعد ذلك، تراجعت هذه النسبة إلى 82.4 بالمئة إبان انتخابات 1977، وقد فاز حزب الأحرار بأغلب المقاعد البرلمانية (141 مقعداً).

تراجعت هذه النسبة سنة 1984 إلى 67.4 بالمئة، وفاز حزب الاتحاد الدستوري بأكثر المقاعد البرلمانية (83 مقعداً). في حين، كانت نسبة المشاركة السياسية والانتخابية في 1993 تقدر بـ 62.8 بالمئة. وفاز الحزب الدستوري أيضاً بأغلب المقاعد البرلمانية (54 مقعداً).

وفي ما يخص انتخابات 1997، بلغت نسبة المشاركة 58.3 بالمئة، وكان الفوز لحزب الاتحاد الاشتراكي بـ 57 مقعداً .

أما انتخابات 2002، فلقد بلغت نسبة المشاركة 52 بالمئة، وفاز حزب الاتحاد الاشتراكي بـ50 مقعداً.

وفي انتخابات 2007، بلغت نسبة المشاركة الانتخابية 37 بالمئة، وفاز حزب الاستقلال بأكثر المقاعد البرلمانية (52 مقعداً).

وبعد ثورة الربيع العربي، نظم المغرب انتخاباً استثنائياً، فاز فيه حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى بـ 107مقاعد . وكانت نسبة المشاركة 45.5 بالمئة.

وفي انتخابات 2016 فاز حزب العدالة والتنمية بالمرتبة الأولى بـ 125 مقعداً. وتقدر نسبة المشاركة السياسية الانتخابية بـ 43 بالمئة.

يلاحظ مما تقدم، أن نسبة المشاركة كانت قوية في انتخابات عام 1970 بنسبة 71.8 بالمئة. ولكنها تراجعت بعد ذلك لتصل إلى أدنى مستوى لها في انتخابات 2007 بنسبة 37 بالمئة حسب النتائج الرسمية لوزارة الداخلية. ومن ثم، عرفت نسبة المشاركة مدّاً وجزراً ما بين 1970 و2011.

هكذا يتبين لنا تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات السياسية بين الشباب المغربي. وفي هذا، يقول الباحث المغربي نبيل الأندلوسي في كتابه العزوف السياسي بالمغرب: «إن ظاهرة انخفاض المشاركة في الانتخابات المغربية، ظاهرة ملحوظة منذ استحقاقات 1984 على الأقل (الإحصائيات الرسمية لوزارة الداخلية نفسها تفيد ذلك). أما الجديد في هذه الظاهرة، فهو الانخفاض المتواصل لنسبة المشاركة، رغم ما عرفته انتخابات 2011 من ارتفاع نسبي في معدل المشاركة مقارنة بالانتخابات التشريعية التي سبقتها، وهو ما يوضح لنا خلفيات توجّس الدولة من هذه الظاهرة، ويمكننا من فهم وظيفة بعض الجمعيات المنخرطة في التعبئة للانتخابات من قبيل جمعية 2007 دابا التي كانت تقدم نفسها كائتلاف يضم مواطنين من حساسيات مختلفة، ويهدف إلى إعادة الاعتبار للعمل السياسي عبر تحسيس المواطنين (وبخاصة الشباب والنساء) للانخراط في الحياة السياسية. ويبدو واضحاً من مشروع عمل هذه الجمعية وأهدافها أنها تعبر عن الخطر الذي أصبحت الدولة تستشعره من الارتفاع المتزايد لنسبة الامتناع عن التصويت ومقاطعة صناديق الاقتراع»[8].

ويعني هذا أن نسبة المشاركة السياسية في الانتخابات البرلمانية المغربية قد تراجعت بين 2011 و2016 من 45.4 بالمئة إلى 43 بالمئة. ومن ثم، يلاحظ عزوف سياسي واضح لدى شباب المدن والحواضر المغربية، وكذلك رفضهم الانخراط في الحياة السياسية للمغرب على المستويين الداخلي والخارجي.

5 – يمكن الحديث عن عدة عوامل ذاتية وموضوعية وراء نفور الشباب الحضري من المشاركة السياسية، وعدم الانشغال بأمور الدولة الداخلية والخارجية، وفق استمارات واستجوابات ميدانية، ويمكن تحديد هذه العوامل في غياب ثقة الشباب في الأحزاب السياسية التي تتناسى حاجات الشباب ورغباتهم عند وصولها إلى سدة الحكم، وعدم الاطمئنان إلى أدائها في الحكم والمعارضة، وعدم امتلاكها السلطة الحقيقية التي يمتلك القصر فعلياً، وعدم الاقتناع بالشخصيات المنتخبة التي توضع في بداية اللائحة الانتخابية، وضعف البرامج السياسية، وعدم واقعيتها على مستوى الأداء والإنجاز والممارسة، وتفشي ظاهرة الفساد السياسي والإداري، ثم ضعف المستوى التعليمي لدى المرشحين لتولي زمام السلطة؛ لأن أغلب هؤلاء أُمّيون جهلة من أصحاب النفوذ والأموال، هدفهم الأول هو حماية ممتلكاتهم في إطار الحصانة البرلمانية أولاً، ثم التهرب من فاتورة الضرائب ثانياً، ثم الحصول على الامتيازات المادية والمالية والمعنوية ثالثاً. ولا ننسى أن الإحساس بالإحباط هو من العوامل الرئيسة التي جعلت الشباب المغاربة في المدن والحواضر لا يهتمون بأمور السياسية الداخلية والخارجية لبلادهم بوجه أخص. وقد يتحقق هذا الإحباط النفسي بعجز المجالس المحلية عن حل مشاكل الشباب المختلفة، وقصورهم في إيجاد الحلول الواقعية المستعجلة لمختلف أزماتهم الكثيرة، منها أزمة السكن، وظاهرة البطالة، وظاهرة الفساد الإداري، وغياب الخدمات. وثمة سبب آخر يتمثل بالوعود الوهمية الزائفة التي يئس منها الشباب المغربي الحضري والبدوي معاً من فينة لأخرى، أو من انتخاب لآخر.

وهناك أسباب أخرى للعزوف السياسي تتمثل بغياب الديمقراطية الحقيقية، وغياب منظومة حقوق الإنسان ممارسة وتطبيقاً وواقعاً، وفقدان المواطنة الحقيقية، وغياب الاهتمام بالمواطن المغربي بوصفه كائناً إنسانياً، وتهافت السلطة الحاكمة على جمْع الثروات ونهبها واستغلال المرفق العام لتحقيق أغراضها وامتيازاتها المادية والمعنوية. ناهيك بغياب المواطنة الحقيقية، وضعف المجتمع المدني، وتراجع الأداء الحزبي والنقابي، وحياد المثقف، وعدم وجود نخبة سياسية مؤطرة وقائدة، كما كان ذلك في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين (المهدي بن بركة، وعبد الرحيم بوعبيد، وعبد الكريم الخطيب، ومحمد اليازغي، وعلال الفاسي، والحسن الوزاني، وعبد الرحمن اليوسفي، وعلي يعتة، ومحمد عابد الجابري، وعبد الله العروي، ومحمد جسوس، ومحمد عزيز لحبابي، والمهدي المنجرة، وعمر بن جلون…).

علاوة على إقصاء الكفاءات السياسية الفاعلة والمنتجة والمتميزة وطنياً وعربياً ودولياً، بممارسة لغة التهميش واللامبالاة في حقهم، ومنعهم من أي مشاركة إعلامية تظهر قدراتهم وكفاءاتهم ومهاراتهم المتميزة، حتى أضحت التلفزة المغربية بوقاً للتدجين والاستلاب والتخدير المجاني، وصارت قناة أيديولوجية تمارس العنف الرمزي في حق الشعب المغربي بصفة عامة، والشباب المغربي بصفة خاصة.

وتذهب الباحثة المغربية مونية بناني شرايبي، في كتابها المنقادون والمتمردون من الشباب المغربي؛ إلى أن 63 بالمئة قد امتنعوا عن التصويت في انتخابات 2002، ويُجمع الشباب على ضرورة البحث «عن الحلول الفردية ولديهم شعور بأنهم مكبوحون ومقموعون بشكل غير منصف من طرف نظام سياسي عاجز عن تدبير الشأن العام، وهم يعتبرون السياسة كنشاط خفي وغريب، محجوز من طرف نخب محدودة وهي مجرد مصدر للمآسي»[9].

يعني هذا أن الشباب المغربي لا يستطيع أن يعبر بحرية وصدق عن مواقفه السياسية، بسبب قوة سلطة القهر والقمع والمحاسبة والتضييق. وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على غياب الديمقراطية الحقيقية في المغرب، وانعدام مفهوم المواطنة، وغياب المفهوم الحقيقي للمجتمع المدني الفعّال والمنتج، في ظل نظام إقطاعي تقليدي مستبد وتيوقراطي بامتياز، همه الوحيد هو ترويع الشعب المغربي الآمن، بتوظيف الدين في تخديره من جهة أولى، والتهديد باللجوء إلى السلاح العسكري من جهة ثانية، وتوظيف الإعلام الزائف لاستلاب الشباب من جهة ثالثة.

من هنا، استجوبت جريدة الاقتصادي (L’Economiste) المغربية عيِّنة من الشباب المغاربة، فكانت النتيجة ألّا أحداً «من الشباب المبحوثين تقريباً يعلن انخراطه في نشاط جمعوي أو سياسي، وأن 95 بالمئة من هؤلاء الشباب يجمعون على القول إنهم لا يجدون ذواتهم في أي تيار سياسي، و68 بالمئة منهم يصرحون عن فقدانهم الثقة في السياسة كلية، و73 بالمئة من العيِّنات موضوع الدراسة المشار إليها يرون أن الذين يمثلونهم في المجالس المنتخبة يقومون بذلك بكيفية سيئة»[10].

ويمكن الحديث كذلك عن مجموعة من الممارسات السلوكية السيئة التي دفعت الشباب إلى الانزواء والابتعاد من السياسية، كالغش والتزوير، واستعمال الرشوة والزبونية، وبلقنة الخريطة السياسية، وإخضاع التقطيع الانتخابي للسلطة التقديرية لوزارة الداخلية[11]. ناهيك باستعمال الدين لاستغلال الشباب والوصول إلى السلطة، كما هو الحال مع حزب العدالة والتنمية.

ثالثاً: المشترَك والمختلف بين شباب الأرياف والحواضر

لا يبالي الشباب المغاربة الموجودون بالبوادي والأرياف بالشؤون السياسية لبلدهم على نحوٍ لافت للانتباه على المستويين الداخلي والخارجي؛ والسبب في ذلك انعدام البنية التحتية الملائمة على جميع الصعد والمستويات، وغياب المؤسسات السياسية، وضعف المجتمع السياسي، وغياب الثقافة السياسية نظراً إلى غياب التنشئة السياسية لدى الأحزاب السياسية من جهة، وإلى انعدام التكوين النضالي للنقابات العمالية والمهنية. ناهيك بالتأثيرات السلبية للهجرة والفقر والأمية والجهل والتخلف والبطالة والهدر المدرسي في المشاركة السياسية والانخراط في شؤون الدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي. ومن ثم، ففاقد الشيء لا يعطيه بطبيعة الحال. وإذا كانت هناك مشاركة سياسية، أو اهتمام بالشأن العام الداخلي أو الخارجي في البوادي المغربية، فتبقى تلك المشاركة محدودة وضيقة ونسبية لا يمكن القياس عليها، وليس لها أي تأثير فعّال في القرارات السياسية التي تتخذها السلطات الحاكمة.

أما شباب المدن والحواضر بالمغرب، فهم أكثر مشاركة مقارنة بشباب البوادي والأرياف؛ بسبب نضج وعيهم السياسي، واكتسابهم للثقافة السياسية المتينة، والاستفادة من التنشئة الاجتماعية في حضن الأحزاب السياسية والنقابات العمالية منذ سبعينيات القرن الماضي إلى غاية سنوات التسعينيات، فترة بداية العزوف السياسي. ومن ثم، فمشاركة الشباب في الحواضر والمدن مشاركة إيجابية بكل المعاني: فهي، أولاً، مشاركة منخرطة فاعلة ومثمرة بالفعل والممارسة؛ وثانياً، فهي مشاركة بالرفض والامتناع والمقاطعة والاحتجاج والتظاهر والثورة والتطرف؛ وثالثاً، فهي مشاركة محايدة لدى الشباب المثقفين الذين يرفضون التعامل مع ما هو سائد من الأنظمة والحكومات السياسية الفاسدة؛ فضلاً عن تكتل الشباب في منظمات المجتمع المدني للضغط على الحكومة لتغيير قراراتها السياسية أو تثبيتها أو تعديلها أو توجيهها.

والمختلف أيضاً أن شباب المدن والحواضر أكثر وعياً وعلماً ومعرفة، كما يبدو ذلك جلياً في تنظيم تظاهرات وإضرابات واحتجاجات سلمية ناجحة في المدن المغربية الكبرى. في حين، يميل شباب البوادي والقرى إلى العنف والتطرف والتشدد واستعمال القوة مع العسكر والسلطة الحاكمة؛ بسبب كثرة الإحباط والقلق والخوف من المستقبل المتردي في واقع موبوء ومنحط ميئوس منه.

من ناحية أخرى، يستعمل شباب المدن والحواضر الوسائل الإعلامية الرقمية والإلكترونية والمنشورات الورقية بكثرة، إذا ما قورن ذلك بأغلب شباب البوادي الذين لا يزالون يفتقدون الكهرباء من جهة، ولا يملكون أجهزة الحاسوب والإنترنت من جهة أخرى.

بيد أن المشترك – اليوم – الذي يجمع بين هذين النوعين من الشباب المغربي هو الفقر المدقع، والبطالة المتزايدة، والمعاناة السيزيفية، ومواجهة الواقع المغربي بالانزواء، والعزوف السياسي، وعدم المشاركة في الانتخابات المزيفة، وعدم الانشغال بالشأن العام المغربي الداخلي والخارجي، على الرغم من وجود مشاركة نسبية عبر الفايسبوك والإنترنت لجيل جديد من الشباب المغربي الذين يستعملون سلاح المقاطعة لمواجهة الظلم والاستبداد والفساد بكل أنواعه فضحاً، وتشهيراً، وتعرية، ونقداً، وسجالاً…

وعليه، فالابتعاد من الحقل السياسي، كما يقول الباحث السوسيولوجي المغربي عبد الله حمودي في كتابه: مصير المجتمع المغربي؛ «هو نقد ضمني للممارسة السياسية للمجتمع وللمجتمع السياسي لمساره العام اليوم وهذا في ظني أمر خطير جداً هذا الابتعاد من قبل الشباب عن العمل السياسي يمكن أن يفرز ممارسات لها أبعاد ومغازٍ سياسية ضمنية (احتجاج، رفض…) لم نتوصل بعد لتأويلها بشكل دقيق، ومن جهة أخرى هذا الابتعاد وهذا الاحتجاج يمكن لهما أن يفضيا إلى أعمال خطيرة في المجال العام في تحركات هذا الشباب غير المؤطر، كالفوضى في الشارع أو عدم احترام القانون أو المسّ بكرامة الناس، وحتى التظاهر السياسي والاجتماعي في الشارع يمكن أن تنجم عنه أعمال تخريب في الممتلكات وهو ما قد يثير غضب الدولة لترد على هذه الأعمال بشكل قوي وصارم مما سيفرز نتائج دامية وضحايا كثراً، والأكثر خطورة من كل هذا أن هذه النتائج الدامية لا تكون لها فائدة في مجال التعبير عن رؤية جديدة أو أنها لا تكون سبباً في المراجعة العامة للسياسة حتى نقول: إن ضحايا هذه الحوادث جاءت بنتيجة»[12].

ومؤخراً، يمكن الحديث عن ظاهرة لافتة للانتباه تتمثل بتراجع أداء الأحزاب السياسية عن مهماتها النضالية الحقيقية، وضعف دور النقابات العمالية في توجيه الشباب سياسياً ومهنياً وحرفياً، ليحل محلها المجتمع المدني الفايسبوكي الذي التجأ إلى سلاح المقاطعة الاقتصادية للتأثير في القرارات السياسية والاقتصادية التي تتخذها الحكومة من جهة، أو يتخذها سماسرة الاقتصاد لتجويع الشعب المغربي من جهة أخرى.

خاتمة

تلكم، إذاً، نظرة مقتضبة إلى مفهوم الشباب لغة واصطلاحاً. وتلكم كذلك نظرة موجزة إلى واقع الشباب المغربي في البوادي والأرياف، ذلك الواقع الذي يتميز فيه الشباب بعدم انشغالهم بأمور الدولة وشؤونها السياسية والمجتمعية داخلياً وخارجياً. بمعنى أن اهتمامهم بأمور السياسة محدود وضعيف جداً؛ بسبب غياب البنى التحتية، وانعدام الوعي السياسي، وانتشار الفقر والأمية والجهل والتخلف؛ ناهيك بغياب الإعلام الرقمي والإلكتروني، واستعمال القوة والعنف والتطرف في ممارسة الرفض والاحتجاج والمقاومة وقيادة الحراك الاجتماعي.

أما شباب الحواضر والمدن المغربية، فهم أكثر اهتماماً بالشؤون السياسية للبلد؛ بسبب انتشار الوعي السياسي والحزبي والمدني، ووجود البنى والمؤسسات السياسية والثقافية على نحوٍ وافر، وتعاملهم المستمر مع التكنولوجيا الرقمية المعاصرة في الاحتجاج والرفض والمقاطعة والمشاركة. بيد أننا نسجل عزوفاً سياسياً لدى هؤلاء الشباب منذ تسعينيات القرن الماضي إلى يومنا هذا.

 

قد يهمكم أيضاً  الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي: كيف وإلى أين؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الديمقراطية #التنمية #المشاركة_السياسية #المغرب #الشباب_المغربي #الانتخابات_في_المغرب #عزوف_الشباب_المغربي_عن_المشاركة_بالانتخابات #مشاركة_الشباب_المغربي_بالسياسة #شباب_المدن_بالمغرب #شباب_الريف_بالمغرب #الأحزاب_المغربية #العزوف_السياسي_للشباب_المغربي