هو من جيل صاغته، وربما شحذت موهبته، أحداث الوطن العربي في الثلث الأخير من القرن العشرين، وهي لا تبدأ من هزيمة الجيوش العربية أمام إسرائيل عام 1967 حين احتلت القدس، ولا تقف عند تبعات اتفاقية أوسلو عام 1994، حيث ظهرت سلطة فلسطينية بلا دولة!

وإنما يمثل الشاعر فيه أعلى درجة إنسانية، فانتصر لمبادئه وتمسّك بمواقفه، ويذكر الناس قصيدته جفرا التي تشكل إرثاً في تاريخ الأغنية الملتزمة، حيث اتكأت على حماسة الثورة الفلسطينية التي انطلقت عام 1964، وانعكست على الثقافة العربية قبل الفلسطينية، بالرغم من أنه يمكن تأريخ الثورة بنصوصه الشعرية، وقد صدرت أولى مجموعاته الشعرية «يا عنب الخليل» (1981) مع رفاق جايلوه، مثل محمود درويش، وفواز عيد، وسميح القاسم. وصولاً إلى: «لا سقف للسماء» (2009).

غير أنه بسبب السأم أو لتثقيف الشاعر في داخله، تربّى الناقد فيه، حيث تناول مجالات عديدة: السينما والشعر والنظريات النقدية والنظريات الموسيقية. فصدر أول مؤلفاته النقدية: «السينما الإسرائيلية في القرن العشرين» (1975)، وصولاً حتى آخر مؤلفين صدرا: الكتاب الأول «الأجناس الأدبية في ضوء الشعريات المقارنة» ( 2010)، والكتاب الآخر، وهو الذي يجرى هذا الحوار عنه: «الثورة الفلسطينية في لبنان» (1972 ـ 1982) (2010).

يدخل هذا الحوار تجربة عمله صحافياً ومناضلاً، بالإضافة إلى دوره كشاعر وناقد خلال وجود مؤسسات الثورة الفلسطينية في لبنان بين عامي 1972 و1982، ويتحدث من خلال نصّ هجين مزجه في المذكرات واليوميات والتأريخ والتقارير ليوفر للأجيال القادمة إجابة عن السؤال: ماذا فعل الفلسطينيون في لبنان من أجل فلسطين، وما تبقى من هزائم، وربما غضب، ما زال يتوقد؟

1 ـ السؤال الأول: يوحي كتابك الجديد «الثورة الفلسطينية في لبنان» (1972 ـ 1982) بأنه كتاب تاريخ، كما صنّفه الناشر (الدار الأهلية، 2010)، ولكنه كتابة للتاريخ بشكل غير اعتيادي، فهو يعطي صورة عن تهجين الكتابة التاريخية بين الدراسة ومنهجها ومتطلباتها (الفصل الثاني: أيديولوجيا أحزاب اليمين الطائفي اللبناني)، بينما سيطر على الفصول الأخرى شكل كتابة المذكّرات بما فيها اليوميات وسرديات الأحداث والمعارك والمواقف، والمواد الصحافية من مقالات وحوارات، وتقارير صحافية، وبيانات سياسية متعددة. كيف تصف لنا طريقة التأليف هذه؟

الجواب: واجهتني مشكلة «كيف أكتب؟»؛ هل ألجأ إلى كتابة مذكّرات كشاهد على الأحداث، وأكتفي بذلك، أم أكتب كتاباً تاريخياً موثّقاً عن هذه الأحداث نفسها؟ الطريقتان معروفتان، لكنني قرّرت اتباع طريقة ربما تكون جديدة، هي «الكتابة التهجينية»، أي المزج بين التوثيق، والمذكرات الشخصية، والتحليل ما أمكن. هناك «تفاصيل» تصلح للمذكّرات بسبب منظورها الشخصي. وعندما تكون شاهداً وشريكاً في الأحداث أحياناً، فأنت هنا تحرك الحدث وتمنحه حميمية أكثر، بل وقوة في بعض الأحايين. وللحق، لم أكن أعي آنذاك في تلك المرحلة (1972 ـ 1982) أن هذه الأحداث تدخل في «صناعة التاريخ»، فقد عشتها يومياً من دون النظر إلى مصيرها، بل لم أكن أعرف «الخلفيات السريَّة» السياسية التي تقف وراء الأحداث. طبعاً، كنا نعرف العموميات. كنا نعرف أنَّ «كيسنجر»، وزير الخارجية الأمريكي، هو المخطط الفعلي لإثارة الصراع في لبنان. وكنا نعرف أنَّ «إسرائيل»، هي اللاعب الرئيسي في الساحة اللبنانية في سبعينيات القرن العشرين من أجل القضاء على «الثورة الفلسطينية»، التي لم يكن لها مصلحة في الدخول في الصراع اللبناني الطائفي والطبقي، وكان هدفها هو القيام بعمليات عسكرية فدائية ضد إسرائيل في جنوب لبنان، من أجل بقاء قضية فلسطين في خريطة العالم. وبالفعل، كان هناك من ورَّط الثورة في الدخول في اللعبة اللبنانية، ولم تكن الثورة لتقف مكتوفة اليدين أمام تدمير مخيمات اللاجئين الفلسطينيين بتخطيط إسرائيلي مبرمج هدفه «الإبادة التدريجية» للشعب الفلسطيني في الوطن، وفي المنافي. وأنا أجزم بأنَّ تورط الثورة في لبنان كان وقائياً، ومن باب الدفاع عن النفس. وكنا نعرف أنَّ «أحزاب المارونية السياسية»، قد تجاوزت الخط الأحمر، باتجاه العلاقة مع إسرائيل. أما التفاصيل، فلم نكن نعرفها، ولم نكن نريد تصديقها، حتى عندما أبلغنا عرفات، ببعض هذه التفاصيل. إذاً، أنت أمام أحداث رأيتها وعشتها، وأمام آلاف التقارير، والمعلومات، والبيانات، والسرديات، فكيف تصوغ من كل ذلك، سردية متماسكة؟

المذكرات هي أسمنت بناء التاريخ:

أولاً: لاحظت أنَّ «قيادات الثورة الفلسطينية»، لم تقدم سردياتها للأحداث (كما يفعل الأمريكيون والإسرائيليون)، فالرؤساء الأمريكيون يكتبون مذكّراتهم، فور انتهاء مهامهم الرسمية. كذلك نلاحظ أن القادة العسكريين الإسرائيليين ينشرون مذكّراتهم فور تقاعدهم. لم أجد أمامي سوى ركام من شهادات فلسطينية (جزئية) مبعثرة لا رابط بينها. أعني عصر الثورة (1964 ـ 1994). هناك دراسات جزئية عن «الحرب الأهلية اللبنانية»، أو «صبرا وشاتيلا»، حيث لم يصدر تقرير رسمي عن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، بل لا توجد «شهادة رسمية» لمعركة الكرامة عام 1968. ولا توجد «شهادة رسمية» عن «حصار بيروت عام 1982». لهذا قررت تجميع هذه الأشلاء المبعثرة معاً. أما المذكّرات الشخصية، فهي «أسمنت هذا البناء».

ثانياً: هذه الثورة قدَّمت آلاف الشهداء والأسرى، ونحن نلاحظ أن «الجيل الجديد» لا يعرف شيئاً عن هذه الثورة التي انتهت إلى مصيرها المأساوي بتوقيع «اتفاق أوسلو» (1993)، ونشوء ما يُسمّى «السلطة الفلسطينية» تحت الوصاية الإسرائيلية. إنه «جيل العولمة» الذي بدأ يقرأ في الإنترنت، ويستمع إلى الفضائيات، حيث تنفجر الأسئلة عن هذه «الثورة المغدورة»، وهو يريد أن يفهم ما جرى في الماضي القريب. وهم من جهة أخرى، أبناء وأقرباء هؤلاء الشهداء والأسرى، وبقية المناضلين. إنني أعمل منذ عام 1983 في التعليم الجامعي، وبالتالي ألتقي يومياً بمئات الطلبة في الجامعة؛ تدخل مكتبي إحدى الطالبات، وتسألني سؤالاً شخصياً: هل أنت نفس الشخص الذي كان في معسكر بلدة قانا الجنوبية عام 1976؟ فأجيبها بـ «نعم». فتقول: إذاً، جدّي يهديك السلام. وأسألها: ومن هو جدّك يا بُنيتي؟ تجيب: اسمه فلان. أشرح لها عن بطولة جدّها وتفانيه في خدمة الثورة، وأسرد لها بعض القصص عنه. تعود في صباح اليوم التالي، لتقول لي: كانت الليلة الفائتة من أسعد ليالي جدّي. ظل يسألني: هل تذكّرني؟ فأجبته بسرد القصص، فكان في منتهى السعادة، لأنك تذكّرته. عمره الآن 87 سنة، ولا يقوى على الحركة. كذلك سائق سيارة أجرة في العاصمة الأردنية عمَّان، فقد كنت أقرأ كتاباً أثناء قيادته السيّارة، وكلما رفعت رأسي رأيته يحدّق في وجهي، وحين انتهى المشوار، وكنت على وشك الخروج، سألني فجأة: هل أنت فلان، أم أنا مخطئ؟ أجبته: نعم. ألا تتذكر وجهي؟ أحدّق في وجهه، فأتذكره تماماً. أعود إلى الجلوس، ويبدأ حوار طويل أستمع إلى سرديته الشخصية بعد الخروج من بيروت، وهي سردية مؤلمة. طبعاً لهؤلاء (الآلاف) الذين ضحّوا بسعادتهم العائلية من أجل الثورة، ولأبنائهم، وللجيل الجديد، كتبت هذا الكتاب، لكي يتعرّفوا إلى تضحيات وآلام ما أسميه بـِ «جيل المبادئ المهزومة»، الذي وضع «الهوية الفلسطينية» في خارطة العالم، قبل «فضيحة أوسلو» (1993). هكذا جمعت بين «صانع التاريخ»، و«الشاهد»، و«المؤرخ»، في إطار واحد، متعدد الأساليب.

 

2 ـ السؤال الثاني: هل يمكن أن نعدّ الكتاب، وهذا ما يوحي به من داخله، كتابة لتاريخ الثورة الفلسطينية مضادة للكتابة التاريخية اللبنانية لملف الحرب اللبنانية، مثل كتاب: «قصة الموارنة في الحرب» (1990) لجوزيف أبو خليل، و«حرب لبنان» (2007) لسمير قصير، و«المكتب الثاني» (2005) لنقولا ناصيف إذ تجادل هذه الكتب وتفنّد سردياتها مباشرة وإيحاءً؟

الجواب: «العامل الإسرائيلي» هو الأخطر على لبنان:

يجب أن نميّز مثلاً بين «مؤرخ لبناني»، مثل «فريد الخازن»، له وجهة نظر مختلفة عني، وبين «جوزيف أبو خليل»، المتورط في العلاقة مع إسرائيل، الذي يعترف (متأخراً، 1990) بعلاقته مع إسرائيل، ويقدم تبريرات سطحية، وغير حقيقية لتعامله مع العدو، فهو مثلاً يبرر العلاقة بـِ «نقص السلاح» لدى حزب الكتائب، والقوات اللبنانية، والصحيح هو أنهم كانوا يعملون في «تجارة السلاح» أصلاً. وهو يناقض نفسه حين يدّعي أن «الثورة الفلسطينية» هي «دولة فوق الدولة اللبنانية»، لكن التجربة تكذّبه، لأنَّ «حزب الكتائب» هو من «دمَّر الدولة اللبنانية»، واغتصب السلطة فيها (1982 ـ 1989)، بمساندة إسرائيلية!!. أما فريد الخازن، فهو مختلف، فهو يدّعي أن «العامل الفلسطيني»، هو الأكثر تأثيراً في تفكيك أوصال الدولة. أما أنا فأقول: العامل الإسرائيلي هو العامل الأكبر في تدمير لبنان، تليه عوامل أخرى: الطائفية، والصراع الطبقي. أما وجود العامل السوري، والعامل الفلسطيني، فهما نتيجة للعامل الإسرائيلي. ولم تتورط الثورة في هذا الصراع إلا بعد تدمير مخيمات: الضبية، وجسر الباشا، وحصار مخيم تل الزعتر وتدميره. ثم انسحبت نحو الاهتمام بالحدود الجنوبية حيث العدو، منذ عام 1977. أما التدخل الوحيد للثورة، فهو تحالفها مع «الحركة الوطنية اللبنانية» بقيادة كمال جنبلاط، وهذا التحالف، أزعج «أحزاب المارونية السياسية». لقد كان كتابي يهدف إلى إبراز «العامل الإسرائيلي» الذي شكَّل الخطر الأساسي على لبنان، وما يزال حتى الآن. أما نقولا ناصيف، وسمير قصير، فقد تجادلت معهما جدلاً عادياً حول تفسير بعض الأحداث.

 

3 ـ السؤال الثالث: هل أقنعك سبب رفض الرئيس ياسر عرفات لكتابك «عشاق الرمل والمتاريس»، وهو الآن أحد أجزاء كتابك الأخير الذي تعيد نشره؟

الجواب: بالفعل، لاحظ آخرون أن رواية عرفات لي حول منع توزيع كتابي عشاق الرمل والمتاريس عام 1976 غير مقنعة! أي بسبب وصفي للحرب الأهلية اللبنانية بأنها «حربٌ قذرة!». البعض قال لي آنذاك إن سبب المنع الحقيقي، هو أن «قيادة الثورة»، وخصوصاً عرفات، لا تقبل النقد، وتحب المدائح! وفي كل الأحوال، النص الكامل موجود في الكتاب أمام القارئ، سواءٌ ممن عاشوا تلك المرحلة، أو القارئ الجديد المحايد، ويمكنه أن يقدّم تفسيراً جديداً مقنعاً أكثر. أما أنا، فقد بقيت لديَّ فكرة راسخة تقول إن السبب هو «غياب الديمقراطية في الثورة»، إذْ كانت قيادة الثورة تسير بحسب ما سمّيته بـِ «نظام الأبوات الفلسطيني»، الذي لا يسمح بالتعددية الحقيقية، رغم وجود «التعددية الفوقية»، أي وجود «تنظيمات متعددة».

 

4 ـ السؤال الرابع: مراسل «نيوزويك» توني كليفتون يعرِّف الحرب بـ «حرب بين تيار صغير في المسيحية، يتوهم أن التحالف مع إسرائيل والغرب هو الحلّ، وتيار وطني لبناني يرغب في إصلاح النظام اللبناني، ويؤمن بالمقاومة ضد إسرائيل، ولهذا تحالف مع المقاومة الفلسطينية». إلى أي حدّ يصادم هذا رأي ذلك التيار المسيحي الصغير، كما تصفه، وإلى أي حدّ يمكن انسحاب هذا الوصف، بالتطابق أو التمايز، على الموقف السياسي العربي الرسمي والنخبوي والشعبي؟

الجواب: مركز المسيحية في العالم كله هو «المسيحية الفلسطينية»، لأنّ الرمز (عيسى بن مريم)، الملقّب بالمسيح، هو فلسطيني من «بيت لحم» الجنوبية، فالرمز والعقيدة ولدا في فلسطين. أما «الموارنة اللبنانيون»، فهم لا يمثلون كل المسيحيين اللبنانيين. كما أن أحزابهم التي كانت تمثل التيار الإسرائيلي في لبنان، لم تكن تمثل كل الموارنة، لهذا وصفته بـ «التيار الصغير». هناك تيار واسع من المسيحيين اللبنانيين ساند الثورة الفلسطينية، وكان موجوداً في أحزاب الحركة الوطنية التي لم تكن تؤمن بالطائفية. كما أنَّ الكثيرين من قادة الثورة الفلسطينية وشهدائها، وأسراها، هم مسيحيون فلسطينيون، بل هناك قريتان (إقرت، وكفربرعم) في فلسطين، هما مسيحيتان (مارونيتان). وهنا يجب التذكر أنَّ حزب الكتائب، والقوات اللبنانية المارونية، دمّرا مخيماً فلسطينياً مسيحياً عام 1976، هو «مخيم الضبية» في بيروت الشرقية، والمفارقة هي أنه بعد تدمير المخيم، وتهجير أهله إلى بيروت الغربية، لجأت عائلات من هذا المخيم إلى «بناية الصنائع» الضخمة عندئذ، وفي حصار بيروت عام 1982، قامت الطائرات الإسرائيلية بتدمير هذه البناية، بـ «القنبلة الفراغية» المحرّمة دولياً، وحوَّلتها إلى كومة من تراب اختلط بجثث أهل هذا المخيّم. أما تحالف هذا «التيار الصغير» مع إسرائيل، فقد أُعلن عنه لاحقاً (بعد اتفاق الطائف)، باعترافات منشورة في الصحف والمجلات والكتب. وبطبيعة الحال، لم أكن في الكتاب أرغب في إسقاط الحاضر الحالي على تلك الفترة، بل آثرت قراءتها كما هي في زمنها. أما مواقف الأنظمة العربية من «الثورة» خلال حصار بيروت، عام 1982، فقد كانت مثيرة للسخرية، إذْ لم تُعقد أية قمة عربية خلال الحصار الذي دام ثلاثة أشهر، عندما كنا نأكل الخبز اليابس مع الشاي كوجبة يومية، ونشرب «الماء الموحل» من «البانيو»، الذي كنا سابقاً نستحمّ فيه. ولم تستطع إسرائيل دخول بيروت، إلا بعد خروج الفدائيين الفلسطينيين من بيروت، بعد الاتفاق الذي صاغه فيليب حبيب عام 1982.

 

5 ـ السؤال الخامس: من بعض ملامح بعض الحروب، غير استظهار طاقة التوحش والقتل والتنكيل، ملاحظتك أنها امتحان لرجولة بعض المراهقين ـ والمراهقات أيضاَ ـ الذين دخلوا الحرب بعد أن تركوا مدارسهم «يمتحنون رجولتهم المستعجلة أمام بعضهم البعض، حيث ولد التباهي والاستعراض العسكري». كيف عاش هذا الجيل بعد أن صارت الحرب قدراً مأساوياً لمن حوله بقدر نجاته ومكاسبه منها، وذاكرته الحاملة لكل شيء حدث؟

الجواب: طبعاً، استمرت مأساة لبنان بعد خروج الفلسطينيين عام 1982، وهي، كما ترى، مستمرة حتى الآن، وهذا يؤكد ما قلته في كتابي من أن «العامل الإسرائيلي» هو الأخطر على لبنان منذ عام 1948 وحتى الآن. لقد زرع الفلسطينيون «بذور المقاومة» في لبنان، فنشأت منذ عام 1982 «مقاومة وطنية لبنانية»، و«مقاومة إسلامية لبنانية» لمواجهة الاحتلال والخطر الإسرائيلي.

هناك فارق بين «الحرب الأهلية» بين طوائف متقاتلة، وبين «مقاومة الاحتلال» بعد عام 1982. حاولت «الثورة الفلسطينية»، بتحالفها مع «الحركة الوطنية اللبنانية»، أن تبتعد عن المنحى الطائفي، فهناك عدد مهم من قادة الثورة الفلسطينية، كانوا مسيحيين، كما أن الحركة الوطنية اللبنانية، بأحزابها، لم تكن طائفية أصلاً، بل كانت تطالب ببرنامج إصلاحي للدولة اللبنانية، يتجاوز الطائفية. أما الفتيان والشباب الذين شاركوا في الحرب، فقد أغوتهم «قوة السلاح»، وكانوا يؤمنون بأنهم يدافعون عن الثورة الفلسطينية، ويكرهون العدو الإسرائيلي، والموالين له في لبنان. كما أن انفجار الحرب أدّى إلى إغلاق المدارس والجامعات، الأمر الذي ترك فراغاً، قامت قوى الحرب، بتعبئته، وهذا أدى إلى استعراض الرجولة، والتباهي بالسلاح ورموزه. طبعاً، حالياً، كبروا، وتغيّروا، ومنهم من أنكر دوره، ومنهم من يتباهى بدوره، باعتباره دفاعاً عن أفكار صحيحة، من وجهة نظره. ومنهم من اعتبر أنه أدى ما عليه، فارتحل نحو عالم جديد. الإشكالية في لبنان، أن «أحفاد التيارين»: الوطني، والموالي لإسرائيل، عادوا إلى اصطفاف جديد هو: «مقاومة»، و«ضدّ المقاومة»، وتحالف مع المقاومة في مقابل تحالف مع الإدارة الأمريكية، والإدارة الفرنسية، وحتى مع إسرائيل. رغم أن المطلوب، هو «الديمقراطية التوافقية»، و«العيش المشترك»، كما يقول تيار ثالث.

6 ـ السؤال السادس: هناك 45 تنظيماً سياسياً وعسكرياً بين تجمّعات وأحزاب وجبهات واتحادات كلها، بحسب إحصائية عام 1976، كانت في ساحة المعركة. كيف تصف انتماءك إلى حركة فتح وتجربة الصراع في الحرب نفسها؟

الجواب: إحصائية عام 1976، كانت تعني منطقة «الشيَّاح» وحدها، ولم تكن تعني عموم لبنان، لأن الطرف الآخر (أحزاب الموارنة)، كانت أيضاً لا يقلّ عدد جماعاتها وانشقاقاتها عن المناطق الوطنية.

بالنسبة إليّ شخصياً، كنت «مثقفاً مستقلاً» منذ عام 1964، وحتى عام 1994 في منظمة التحرير الفلسطينية.

أولاً: تحالفت في فترات متباعدة مع حركة فتح، والجبهة الشعبية، والجبهة الديمقراطية، والحزب الشيوعي الفلسطيني. ومعنى التحالف أنني لم أكن عضواً في أي تنظيم من هذه التنظيمات، بل كنت مثقفاً مستقلاً استقلالاً حقيقياً، لكنني كنت أتحالف معها، حول أفكار تعجبني، وأبتعد عنها إذا حدث تصادم بين ما أؤمن به، وما يؤمنون به في مرحلة معينة. أما الإطار الذي كان يجمعني فيها، فهو «منظمة التحرير الفلسطينية».

ثانياً: كانت «حركة فتح» تسيطر على جهاز الإعلام الفلسطيني الموحّد، الذي كنت أعمل فيه، محرراً ثقافياً لمجلة فلسطين الثورة. وعملت مديراً لمدرسة أبناء وبنات مخيم تل الزعتر في بلدة الدامور اللبنانية، وكانت مصاريفها ورعايتها من حركة فتح. أما المدرسة، فالمدرّسون فيها من كل التنظيمات، وكذلك آباء هؤلاء الأولاد. وعندما تلقيت «دورة عسكرية» في مخيم شاتيلا، كان الضباط المدرّبون من جيش التحرير الفلسطيني. وعندما كنت عضواً في القيادة العسكرية الفلسطينية ـ اللبنانية المشتركة لجبهة «جنوب بيروت»، كانت القيادة فتحاوية، أما «المقاتلون»، فهم لبنانيون. فالأمور مختلطة، لأن «حركة فتح»، هي العمود الفقري لمنظمة التحرير. ولهذا عملت مع حركة فتح، من دون أن أكون ملتزماً من الناحية التنظيمية، أي لم أحضر أي اجتماع تنظيمي. ولكن بسبب تجربتي النضالية، كنت «رئيس المؤتمر التأسيسي لحركة فتح» في ساحة بلغاريا، وحلّاً لمشكلات بين تيارات متعددة في حركة فتح، اتفقت على أن أكون رئيساً للمؤتمر، لثقتهم بي. ولكني عبَّرت عن استقلاليتي في مواقف عديدة. كنت ألتقي جورج حبش، ونايف حواتمة، بصفتي مثقفاً مستقلاً، حيث تحالفت معهما لاحقاً، عندما كنت أعيش في الجزائر، وقد انتخبتني الجالية الفلسطينية (عشرة آلاف)، رئيساً لـِ «اللجان الفلسطينية للوحدة الوطنية». وعندما حدثت مشكلة الانشقاق في حركة فتح، اعترضت حركة فتح، مثلاً، عام 1987 على ترشيحي من قبل التنظيمات الأخرى لموقع نائب رئيس اتحاد الكتّاب الفلسطينيين، ولم أكن عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، إذ اعترض على ترشيحي، الراحل ياسر عرفات، بتحريض من قبل الطبقة الفاسدة حوله، بسبب مواقفي المستقلة. وكان آخر موقع لي في منظمة التحرير الفلسطينية، هو موقعي كرئيس لقسم اللغة العربية وآدابها في جامعة القدس المفتوحة، التابعة للمنظمة (1991 ـ 1994)، وبعد نقل الجامعة من عمّان إلى فلسطين، بعد اتفاق أوسلو، لم يعُد لي أية علاقة بأحد في «السلطة الفلسطينية»، تحت الوصاية الإسرائيلية. لكنني منذ عام 1994، أناضل في سبيل فلسطين (قضيتي الأبدية)، كمثقف مستقل في حدود ما أستطيع بعيداً عن «طبقة فاسدة»، سياسياً، واقتصادياً، وثقافياً.

 

7 ـ السؤال السابع: تذكر أن في الحرب يلتزم المناضل أو الثائر بالمعنى الأخلاقي بدوره في المقاومة والدفاع، ويحرم نفسه من الحب أو العلاقة العاطفية. كيف استطعت أن تكبت أو تردع هذا القلب، وأنت شاعر، أي إنسان لديه الإحساس قبل أي شيء؟ الشاعر البحريني قاسم حداد تخلّص من هذا أثناء الاعتقال وكتب ديوانه «قلب الحب»؟

الجواب: كنت أشبه بقدّيس في كنيسة ثورة فاسدة. الفساد الحقيقي بدأ منذ عام 1984 في تونس. أما في بيروت، فقد وُضعت المرتكزات الأساسية لثقافة الفساد. ولاحقاً (عام 1993)، تمَّ قطع الرواتب عن المناضلين، ولم يكن ذلك القطع إلّا تمهيداً للموافقة على اتفاق أوسلو. عارضت اتفاق أوسلو، ودخل مثقفون فلسطينيون تحت سقف اتفاق أوسلو إلى فلسطين المحتلة (رام الله، وغزة). رفضت أن أتقاضى قرشاً واحداً من دوائر منظمة التحرير، أو دوائر السلطة منذ آذار/مارس 1994، ولم أطالب بأي راتب تقاعدي أسوة بالمثقفين الفلسطينيين في عمَّان، ودمشق، والقاهرة، وباريس، الذين يقبضون رواتبهم من «دوائر أوسلو». فتشت عن عمل جديد، وبدأت من الصفر من أجل الحصول على الطعام لعائلتي، ومن أجل استقلاليتي.

لقد رفرف قلبي مرَّات عديدة لفتيات فلسطينيات ولبنانيات، لكن العمل في الثورة كان صعباً وحسّاساً، لهذا ابتعدت عن الشبهات. وحاولت خلق توازن بين عقلي وقلبي. عشت بعد خروجي من فلسطين عام 1964 في ست دول، ومنها أوروبا الشرقية. ومن أصعب الأمور، أن تكون مثقفاً مستقلاً، فأنت تعيش عندئذٍ وحيداً في هذا العالم، وتدفع الثمن دائماً. ورغم معيشتي في هذه الدول، نجد النقد العربي الحديث، يسجنني في «سجن الفلسطنة»، عندما يقرأ أعمالي الشعرية، رغم أن هذه الصور الشعرية جاءت من أقطار عديدة عربية وأجنبية عشت فيها، ولم أكن مجرد زائر! قضية الحب في عصر الثورة كانت تعتبر من الموبقات، حتى في الشعر. فالجمهور لم يكن يتقبل شاعراً (فلسطينياً أو من أصل فلسطيني) مثلي حين يقرأ قصيدة حب. قالت لي إحدى السيدات: جئت أستمع لقصائدك الوطنية فقط!!. لاحقاً، تجاوزت ذلك، ووجدت حلاً.

 

8 ـ السؤال الثامن: الأسماء المستعارة للمقاتلين والثوار بقدر ما هي محاولة للحماية الشخصية، فهي مبرّرة إلى حدّ ما، غير أن ارتجال أسماء المجموعات القتالية يوحي بعضها بالسخرية والعبثية (مجموعة «يصطفلوا»، و«تيتي تيتي») أو تكشف عن تضخم الأنا الجماعية لهذه المجموعات («ثورة حتى النصر»، و«اليوم فييتنام وغداً فلسطين») أو ادعاء الغموض والسرية (مجموعة الجحفل الرابع: قرمطية التنظيم). ما تعليقك؟

الجواب: هذا التفسير صحيح. كانت الأسماء الحركية تعبيراً عن خصوصية سريَّة، لكن المعلومات الحقيقية عن المناضلين كانت موجودة لدى الأجهزة التي يعملون فيها. وكنا نحترم أسرار بعضنا البعض، وقليلاً ما نسأل الشخص عن هذه الأسرار، إلا إذا تطوَّع من تلقاء نفسه بكشفها. ذات مرَّة استدعاني الشهيد خليل الوزير (أبو جهاد) على عجل، للاستماع إلى شهادة «مناضل سرّي» قادم من الأرض المحتلة، ولم أكن أعرف هذا الشخص. لكن المفاجأة لي، ولأبي جهاد، أنه عندما رآني، هجم عليّ، وقبَّلني، وسمّى اسمي. عندئذ عرفت أنه أحد أفراد عائلتي في فلسطين. وكان أبو جهاد يتعامل معه باسمه الحركي فقط. أما المجموعات القتالية التي ذكرتها، فقد كانت تبحث عن الخصوصية والتميّز، وكانت الأسماء الحركية، عبثية بالفعل، لأن الحرب نفسها، كانت عبثية. بالنسبة إليّ، لم أتّخذ اسماً مستعاراً، لأنني كنت معروفاً باسمي الحقيقي كشاعر منذ أيام إقامتي في القاهرة في ستينيات القرن العشرين. وكان من الصعب (التستّر) باسم حركي. أتذكر في حصار بيروت، أن أحدهم طرح أمام هيئة تحرير جريدة المعركة، التي كنت مدير تحريرها ـ ولم يكن لها رئيس تحرير طيلة صدورها ـ مسألة الكتابة بأسماء مستعارة، لكن طلبه جوبه بالرفض. وكان الجواب هو أن نكتب بأسمائنا الصريحة، لكي ترتفع معنويات الفدائيين بأن مثقفي شعبهم يقفون معهم.

 

9 ـ السؤال التاسع: بين ذلك التعبير الذي ذكرته عن عدم محبة الرئيس صائب سلام للشعر الحديث، وبين علاقتك المتباينة، حيث عملت قريباً من الرئيس ياسر عرفات ووصفك بـ «المتطهر الثوري». حدّثنا عن علاقة المثقف والسياسي من خلال تجربتك، حيث إنك ذهبت إلى العمل السياسي والعسكري في شبابك، ولكنك انتصرت للمثقف باحثاً وناقداً وشاعراً قبل كل أمر.

الجواب: علاقة المثقف بالسياسي علاقة صعبة، فأنت تكون كمن يمشي في حقل الألغام. السياسي يريد المثقف تابعاً له، يردد كالببغاء مقولات الزعيم الأوحد. أما أنا، فقد ولدت معارضاً أبدياً، حيث وصفتني إحدى الصحف بـِ «الدبلوماسي العنيد». كان الأمر صعباً، لكن ما أنقذني هو أن علاقتي بالسياسي لم تكن علاقة شخصية، بل علاقة عمل عام شعبي. كما أنني ابتعدت عن مقولة: «إذا هبَّت رياحك فاغتنمها…»، وهذا ما منحني حصانة ما. فأنا أقوم بعملي خدمة للناس، ولم أكن أفكر بالحصول على مقابل (منصب، أو مال). لهذا عندما أراد عرفات تكريمي في مطلع عام 1977، بسبب جهودي في «جبهة الشياح ـ عين الرمانة»، وجهودي في تأسيس مدرسة أبناء وبنات مخيم تل الزعتر في بلدة الدامور، بعد تهجيرهم، طلب مني أن أعمل معه في موقع «المستشار الثقافي للقائد العام»، أو «المستشار العسكري» للعميد الشهيد سعد صايل، قائد القوات المشتركة، لكنني اعتذرت عن القبول، فدُهش المثقفون. أما لماذا اعتذرت، رغم معرفتي بأهمية أن تكون قريباً من صاحب القرار الأول في الثورة الفلسطينية، فقد كان ذلك يعود إلى الحفاظ على استقلاليتي الشخصية. كذلك، فإن العمل مع عرفات كان أمراً صعباً من الزاوية الشخصية، وكنت حسَّاساً جداً تجاه كرامتي الشخصية، لأنني شاهدت كيف كان يتعامل عرفات مع بعض المستشارين. وقد كان قراري صائباً، رغم خسارتي للموقع، ولم أندم على ذلك لاحقاً. لهذا سمَّاني عرفات بـ «المتطهر الثوري»، كصفة سلبية، وليس مديحاً. أتذكر أثناء «الحرب الأهلية الفلسطينية» في طرابلس، لبنان (1983)، أنَّ المثقفين اصطفوا إما مع «جماعة تونس»، وإما مع «جماعة دمشق». أما أنا، فاتخذت موقفاً ثالثاً، هو «الوحدة الوطنية» على قاعدة عدم ذهاب عرفات إلى كامب ديفيد، فانزعج أبو عمار من موقفي، ولم تقبل بموقفي «جماعة الشام». وكنت في أحد حواراتي الصحافية، قد وصفتُ «حرب طرابلس»، بأنها «حرب العار»، بينما اصطف محمود درويش إلى جانب عرفات، واصطف آخرون إلى جانب «جماعة الشام». هكذا كان السياسي، يريدك معه ظالماً أو مظلوماً، وإلا فهو يصنفك تصنيفاً معادياً له، أي لا يريدك أن تفكر تفكيراً صحيحاً بأن تلك الحرب هي «حرب العار» للطرفين المتقاتلين، رغم أنني وصفت عرفات آنذاك بأنه القائد الشرعي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وفي النهاية، انتصرت أفكاري، كشاعر، وناقد، ومفكر من أجل شعبي، رغم أنني عانيت كثيراً، ودفعت الثمن أكثر من مرَّة.

 

10 ـ السؤال العاشر: لا يمكن أن يكتب تاريخ الغناء السياسي في تاريخ الثقافة العربية من دون أن ندرك أن أحد أسباب نشوئها وتطورها واستمرارها وتجدّدها هو مسار القضية الفلسطينية منذ هزيمة 1948 (ولن أقول: نكبة)، ومن ثم هزيمة 1967 (ولن أقول: نكسة)، والحرب الأهلية في لبنان (1975)، والانتفاضة في فلسطين (1987). كيف تقيّم خلال الفترة التي عايشتها في بيروت فوران الأغنية السياسية عند أصدقاء القضية الفلسطينية، مثل مرسيل خليفة، وأحمد قعبور، وعدلي فخري، وقبلهم الشيخ إمام، ومحمد حمام، ومخول قاصوف؟

الجواب: طبعاً عشت في مصر هزيمة 1967، وقد حفرت هذه الهزيمة حفرة عميقة في وجداني وعقلي. تلك الهزيمة هي التي قادت إلى ما يُسمّى «ثقافة السلام» في مقابل «ثقافة المقاومة»، وبدأ العقل العربي في الهبوط التدريجي حتى وصل هذا العقل إلى الحضيض (مصر، والجزائر، وكرة القدم)، حيث وصل العقل إلى القدم، وهو ما أسميه: «العقل الحاراتي» في مقابل «التلذذ بالتبعية». آنذاك (عام 1967)، برزت ظاهرة الشيخ إمام ـ أحمد فؤاد نجم، وهي ظاهرة نقدية سُمح لها في البداية بالانتشار من أجل «التنفيس» عن المكبوت، ثمّ حوربت في عهد الرئيس السادات. وظهر محمد حمام النوبي المصري بشفافيته الرومانتيكية. وكنت صديقاً شخصياً للشيخ إمام، وأحمد فؤاد نجم، وعدلي فخري الذي عاش معنا حصار بيروت عام 1982، وكان عضواً في هيئة تحرير جريدة المعركة. في عام 1975، كتبت قصيدتي جفرا، وهي قصيدة حُرَّة تفعيلية، ففوجئت بمطرب شاب آنذاك، هو اللبناني خالد الهبر يغنيها، ولم أكن أعرفه، وقد أصبحنا أصدقاء في ما بعد. ثمَّ غناها مارسيل خليفة في أول أسطوانة له في حياته الفنية، وصدرت في باريس، ولم أكن أعرفه، وكان ذلك في عام 1976، ثم أصبحنا أصدقاء. ثمَّ غنى مارسيل قصيدة أخرى لي، بعنوان: بالأخضر كفنَّاه عام 1984، وكنت أعيش في الجزائر. ولاحقاً في الألفية الجديدة، غنّت جفرا، المغنية التونسية الملتزمة آمال المثلوثي، وأنا لم ألتق معها حتى الآن. وغنى لي مطرب آخر لبناني قصيدة مواصلات إلى جسد الأرض، هو عصام الحاج علي المقيم في باريس. وفي فلسطين غنى لي المطرب المقدسي الملتزم مصطفى الكرد، قصيدتي يا عنب الخليل، وقصيدة أخرى بالعامية اللبنانية. وغنّى لي في عمَّان كمال خليل، قصيدتي الباب. هؤلاء كلهم مطربون ملتزمون بالقضايا الوطنية. لقد اعترضت على تسميتهم بالمطربين السياسيين (الأغنية السياسية)، لأن كلمة «سياسية» في وصف الفن، كلمة مبتذلة! فمصطلح «الأغنية الملتزمة» بالقضايا العامة أفضل، ولها جماهيرها الكثيرة. ملايين من العرب يحفظون جفرا، وبالأخضر كفنّاه، وهم لا يعرفون اسم شاعرها. ورغم مرور 35 سنة مثلاً على غناء جفرا، فهي لا تزال تُسمع وتغنّى. فالسرّ يكمن في تراجيدية «جفرا» كنص شعري، وفي صوت مارسيل الشجي الحنون. وفي آذار/مارس 1976، أذاع التلفزيون اللبناني الرسمي جفرا، خمس مرات متوالية، وقام العميد عزيز الأحدب بانقلابه العسكري الشهير على أنغام جفرا. أهم شهادات المديح تلقيتها، هي قول النقاد: «تغلبت قصيدة جفرا الفصيحة على الفولكلور نفسه». وبسبب هذه القصيدة، ظهرت فرق شعبية، ومحلات، وأفلام سينمائية، ومراكز ثقافية، بل وتلفزيون باسم «جفرا». وتسمَّت بنات كثيرات في الوطن العربي باسم «جفرا». ولو كتب القراء على محرك «غوغل» اسم «جفرا عز الدين المناصرة»، فسوف يجدونها متكرّرة 334 مرّة في مواقع إلكترونية. أعتقد أن هذا يكفي لقصيدة كنت أعتبرها عادية. بطبيعة الحال، أدى الغناء دوراً مهماً في إيصالها إلى الملايين. أما قصيدتي يتوهج كنعان، التي نشرتها جريدة القبس الكويتية عام 1988، وتناقلتها آنذاك خمس عشرة جريدة ومجلة، فهي في «الإنترنت» موجودة 416 مرّة، والفضل يعود إلى القرّاء المجهولين بالنسبة إليّ. عندما انتشرت ظاهرة «الأغنية الملتزمة» منذ منتصف السبعينيات في بيروت، لم يكن هناك «إنترنت»، ولا «فضائيات». كذلك انتشرت «السينما البديلة»، وألحان زياد الرحباني الذي تعرفت إليه عام 1972. وكان عمره ستة عشر عاماً، وقد عرَّفني به «أدونيس» أمام مستشفى أوتيل ديو. ثمَّ صاغ ألحاناً لحلقة كاملة من قصائدي أذاعتها إذاعة الثورة الفلسطينية عام 1976. وهنا أتذكر أن كتابي هذا، لم يتعرّض لعلاقاتي الثقافية الواسعة في بيروت، لأنَّ هدف الكتاب مختلف.

 

11 ـ السؤال الحادي عشر: كيف ترى تطورات الموقف العربي من الثورة الفلسطينية داخل ساحة الحرب اللبنانية، سواء من أصدقاء الثورة ومناصري القضية، مثل: كتيبة المثقفين العرب أثناء الحصار، وبعد مرور زمن ليس بالقصير على ما مضى؟

الجواب: كان المثقفون الفلسطينيون والعرب من أصدقاء الثورة الفلسطينية خلال حصار بيروت، مثل «الأسرة الواحدة». كنا نقلق إذا انهارت معنويات مثقف، ونحاول مساندته ما أمكن. جاء بعض المثقفين العرب إلى الثورة الفلسطينية، وأصبحوا أعضاء في هذا التنظيم أو ذاك، وبعضهم وصل إلى مراتب قيادية سياسية أو عسكرية. وهناك فئة أخرى، جاءت إلى الثورة، هرباً من دكتاتورية أنظمتها، فاعتبرت الثورة ملجأً لها. وهناك فئة ثالثة، جاءت إلى الثورة لأسباب «انتهازية». عندما أستعرض مصائرهم حالياً، أجد معظمهم ظلَّ وفياً لتلك التجربة الثورية، رغم سلبياتها عندما عاد إلى بلده الأصلي.

وهناك فئة انتهازية عادت إلى بلدها الأصلي، تسبّح بحمد نظامها، ولا تتذكر سوى سلبيات الثورة، لكي ترضي نظامها. وهناك بين بين. ولكنهم جميعاً مصابون بـِ «نوستالجيا بيروت». أحياناً كان «المثقف الفلسطيني» أكثر كفاءة من زميله العربي في الثورة، لكن المثقف الفلسطيني كان يصمت ولا يعترض على تبوُّء المثقف العربي لموقعٍ ما، لأننا كنا نعتبر الاعتراض في هذه الحالة، عيباً. وأشهد أنَّ بعض هؤلاء المثقفين عندما عاد إلى بلده بعد عام 1982، تعرَّض للأذى من قبل نظامه، ومع هذا، ظل وفياً لتجربته في الثورة. وكان من بينهم أبطال حقيقيون، مثل فهد العبيدي، محرر الشؤون العربية في مجلة فلسطين الثورة، وهو أردني من مدينة «الطفيلة»، توفي مجهولاً عام 1994 من دون أن يذكره أحد. هذا المثقف كان بطلاً حقيقياً في معارك الثورة الفلسطينية ضدّ إسرائيل في الحدود الجنوبية اللبنانية. كذلك اللبناني الشهيد طلال رحمة، الذي كان مترجماً في مجلة فلسطين باللغة الفرنسية، وغيرهما. نعم، الزمن يمتحن البشر، ويغربلهم، حيث تختلف مصائرهم، بل تتناقض، رغم أن التجربة واحدة.

 

12 ـ السؤال الثاني عشر: تتعدّد الكتابات النقدية لديك، سواء في مجال النظرية النقدية والشعرية، بالإضافة إلى النقد السينمائي والتشكيلي والموسيقي. كيف أغنت هذه التعددية المسيرة النقدية لديك؟ وهل خسرت شيئاً بسبب ذلك؟

الجواب: كان عمري ثمانية عشر عاماً، عندما كنت مراسل مجلة الأفق الجديد الأدبية المقدسية في القاهرة. هكذا بقيت مع «الصحافة» حتى عام 1983، حيث انتقلت إلى التعليم الجامعي، وعملت في خمس جامعات عربية وفلسطينية (1983، وحتى الآن). الصحافة هي التي أدخلتني إلى عالم النقد، واحترفت «النقد» بسبب مهنتي الجامعية. ومعنى ذلك أنني جئت متأخراً نسبياً إلى عالم البحث العلمي والنقد، أي بعد أن ترسّختُ «شاعراً». وبقيتُ حريصاً على التوازي بين الشعر والنقد. طبعاً أصدرت أحد عشر ديواناً، و18 كتاباً في النقد والفكر والتاريخ. إشكالية الشعر في السنوات الأخيرة، أنَّ «قصيدة النثر» قامت بـ «تبريد اللغة الشعرية»، حيث أوصلت الشعر إلى ما أسميه «النصّ الكشكولي»، حيث فقدنا متعة الإيقاع في ظل أيديولوجيا العولمة، ففقدنا الجمهور جميعاً، شعراء القصيدة الحرّة، وكُتَّاب قصيدة النثر. لقد سبق لي أن قلت: «جمهور محمود درويش صناعي»، أي ليس جمهوراً طبيعياً، بل هو جمهور تسوقه الحكومات والأحزاب، ولهذا لا أعتبره مقياساً صحيحاً على رواج الشعر. أما بالنسبة إلى تعددية كتبي، فهي نابعة من السأم أحياناً، أو هي محاولة لتثقيف نفسي كشاعر، وربما يكون في ذلك فائدة للآخرين. كما أنني أؤمن بتقارب الأدب مع الفنون الأخرى، فنحن نعيش عصر «التهجين».

 

13 ـ السؤال الثالث عشر: كيف تصف تجربتك الشعرية، وأنت شاعر كبير ومكرّس ليس على مستوى فلسطين، بل الوطن العربي؟ وما جديد مشروعك الشعري؟

الجواب: صدر عشرون كتاباً عن تجربتي الشعرية، معظمها رسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعات العربية، لكن على ما يبدو أن وسائل الإعلام أقوى من البحث العلمي، لهذا لم يصل وصف تجربتي الشعرية العلمي إلى وسائل الإعلام، وهو وصف أعتزّ به. ورغم أنني ناقد وأكاديمي، إلا أنني لا أستطيع وصف تجربتي الشعرية بالذات. أما آخر دواويني، فهو لا سقف للسماء (2009)، وما زلت أخربش باتجاه المجهول (عمري: 65 سنة)، لأنَّ الشعر هو اكتشاف هذا المجهول .