تحضر المرأة في السينما المغربية منذ البدء، أي منذ الإرهاصات الأولى، وتستمر في تسجيل وجودها كل سنة. لا تحضر أمام الكاميرا ممثلة أو ضمن فريق التقنيين فقط، بل تتغيا وراءها كمخرجة حمل وتقديم رؤية إخراجية خاصة، بواسطة خيال ذاتي تجسده صوراً حيّة. وهو ما تلتقي فيه مع حالة سينماتوغرافيات عالمية، من حيث إن نسبة المرأة المُخرجة هي دوماً متقلصة كثيراً، بالمقارنة بالرجل المُخرج، لكنها مغربياً تظهر بخصائص سنحاول أن نتعرف إليها هنا.

أرقام الفيلموغرافية المغربية

لكي نقترب من علامات انخراط المرأة المبدعة في السينما المغربية، ليس هناك أفضل من قراءة العدد الكمّي للأفلام المغربية المُنتجَة منذ خمسين سنة، كما تظهر في المُشاركات في الدورات الست عشرة للمهرجان الوطني للفيلم. ومعلوم أن هذا الأخير هو الواجهة الأبرز للمخرجين المغاربة الذين يسعون إلى التنافس خلال فعالياته للفوز بإحدى الجوائز المقررة فيه، كما يشكل أرشيفاً يضم كل ما أنتجته السينما المغربية تقريباً، بحيث إن جل ما يُنتج يمر عبر بوابته، وذلك منذ سنة 1982 التي انعقدت فيها أول دورة بعد أن تم الوصول إلى عدد كافٍ من الأفلام التي يُمكن عرضها، ويُبرر تنظيم تظاهرة سينمائية وطنية. وهكذا نلاحظ وجود ستة وعشرين فيلما مطوﻻً من إخراج امرأة ضمن قرابة مئتين وثمانية وخمسين شريطاً، جلها سردية وروائية، مع بعض الأفلام الوثائقية. كما نلاحظ أن عدد الأفلام القصيرة التي أخرجتها نساء يكاد يقترب من عدد أفلام السينمائيين الذكور.

ونسبة الأفلام الطويلة، وهي الأهم هنا من حيث الدلالة، لا يمكن الانخداع بقلتها، لأن الأساسي هو تواجدها في حدّ ذاته، بما أن هذه السينما تنتمي إلى مجتمع عربي مسلم ميزته أنه ذكوري الطابع، ولكن خيارات الدولة والمجتمع المدني فيه تلاقى على تشجيع كل ما هو حداثي ويتماشى مع ضرورات العصر، مما يسمح للمرأة بالانخراط والدخول في كل المهن، وكل المبادرات، من دون تمييز. فعلى البلد الذي تبوأت فيه المرأة منصب القضاء منذ زمن طبيعي، أن يعرف كذلك وجود مخرجات سينمائيات.

الرائدات وسنوات الثمانينيات الثقافية: فريدة بورقية، وفريدة بليزيد، وإيزة جنيني

أولهن فريدة بورقية، هي خريجة معهد الفن الدرامي في الاتحاد السوفياتي سابقاً، وقد قدمت فيلمها «الجمرة» في وقت كان المنتج الفيلمي قليلاً، بل يكاد لا يذكر، فاتحة بذلك الباب منذ البداية إلى العنصر النسوي. وهو أمر له دﻻلة قوية، بما أنه عمل شَجع الأخريات على خوض المغامرة. ويدخل في سياق السينما ذات المنحى الفني الثقافي التي وسم سينما الثمانينيات. وهو عين ما سيميّز فيلم المخرجة الرائدة الثانية فريدة بليزيد، خريجة معهد السينما في باريس، «باب السماء مفتوح» الجميل الذي عرضته في الدورة الثالثة للمهرجان الوطني سنة 1991، بعد تجربة كتابة القصة والسيناريو. وهو شريط استبطاني شفاف مليء بالأجواء الروحانية، حيث تسعى البطلة الحاملة لأفكار المخرجة إلى حل أزمتها الوجودية الحائرة بين التقليد والحرية. وهكذا أكدت فريدة بليزيد أحقية ولوج المرأة السينما بفيلمها هذا الذي عرض في الكثير من الدول، وشكّل مرآة لمغرب تمتزج فيه الأصالة المتسامحة مع العيش بمواصفات الحاضر من دون توتر وﻻ إقصاء.

في الزمن ذاته ظهرت المخرجة المغربية إيزة جنيني التي اختارت منذ البداية التخصص في الفيلم الوثائقي والموسيقى المغربي. كما كان لها الفضل في إنتاج الفيلم التحفة «الحال» لأحمد المعنوني سنة 1980، والذي اختاره مارتن سكورسيزي في لائحة أفلامه المئوية الكبرى الصالحة للترميم والعرض. وقد عرضت أفلامها الأولى حول التراث الموسيقي المغربي في الدورات الأولى للمهرجان الوطني، وفي المحافل السينمائية. واستمرت على السيرة ذاتها في ما بعد.

وجود هذه العيّنة من المخرجات، سيتضح في ما بعد بأن ذلك كان متجذراً، ولم يكن اعتباطياً، ولا ضربة حظ، لأنهن سيشيّدن مشواراً سينمائياً لم يتوقف حتى الساعة. وهكذا أخرجت فريدة بورقية فيلماً ثانياً سنة 2006 بعد عقدين هو «طريق العيالات» (طريق النساء) ضمّنته ممثلات مقتدرات قدمن فيلماً لطيفاً وخفيف الظل. ثم قدمت فيلماً تاريخياً هو «زينب النفزاوية، زهرة اغمات» عن زوجة السلطان المغربي يوسف بن تاشفين الذي كان أول من ضم الأندلس إلى المغرب، وقد أدت دوراً كبيراً في ترسيخ حكمه. وهو عمل وإن كان ضعيفاً ومهلهلاً، إلا أنه ساهم في التعريف بشخصية نسوية تاريخية مجهولة.

أما فريدة بليزيد، فقد صارت على منوال فيلمها ذاته، وأخرجت أشرطة جدالية منغمسة في الهم المجتمعي، تنتصر فيها للمرأة كقضية وككيان وجودي كامل الأهلية. ففي سنة 2001، عرضت فيلمها «كيد النساء»، وهو عبارة عن خرافة سينمائية على طريقة ألف ليلية وليلة مع كل ما يفرض ذلك من ديكور وملابس وسرد. ثم اقتبست سنة 2007 رواية مغربية بالفرنسية تتحدّث عن حملة تطهير في دواليب الإدارة في الدولة تحت عنوان «الدار البيضاء، الدار البيضاء»، وأردفتها بفيلم مأخوذ من رواية إسبانية عن الجالية الإسبانية في طنجة، مدينتها التي لا تفتأ تنقلها وتتحدث عنها في كل أعمالها، وذلك سنة 2010. وأخيراً أخرجت فيلماً وثائقياً بعنوان «حدود وحدود» سنة 2013، تناولت فيه قضية الصحراء المغربية.

ظهور السينمائيات الشابات وتجديد الدماء

رغم تقلّص أفلام المرأة في التسعينيات، إلا أنها شكّلت منعطفاً كبيراً، لأنها كانت محطة إقلاع للإنتاج السينمائي الذي سيجد دعماً مادياً من طرف الدولة يعتمد على شروط فنية موضوعية وتقنين جديد في آلية تقديمه كمساعدة للمخرجين على تحقيق مشروعات أعمالهم الفيلمية. ففي سنة 1995، وبمناسبة انعقاد الدورة الرابعة للمهرجان الوطني، وفي ظاهرة جديدة، توافد مخرجو الجالية المغربية في أوروبا الذين قدموا أفلاماً قصيرة واعدة لقيت استحساناً كبيراً، وهم الذين أغنوا السينما الوطنية لاحقاً بأفلامهم الطويلة المعروفة.

مريم باكير: من فرنسا إلى تارودانت

المخرجة الوحيدة التي تميّزت بين الرعيل الوافد هي مريم باكير المقيمة في فرنسا، والتي دشّنت دخوﻻً نسوياً تواصل في ما بعد، وذلك في مجال سينمائي مهم، بما أنه مرحلة بدت ضرورية لكثيرات هو الفيلم القصير. وقد شاركت بفيلمها القصير الممتع «غداً نصور». كما أن المخرجة ذاتها منحت المغرب، وهي تمنح ذاتها فيلمها المطول «أكادير بومباي» سنة 2011، وهو فيلم متواضع أهم ما فيه أنه صوّر لأول مرة حياة فتيات مغربيات في منطقة جغرافية لم تدخلها السينما قط، هي تارودانت وأكادير، فتيات يحلمن ببساطة وبسذاجة تقليد النجمات الهنديات، فيسقطن في مهاوي وسبل غير مستساغة عرضة للتعنيف الجنسي والعاطفي.

فاطمة الجبلي وزاني: من هولندا إلى منطقة جبالة

تشرع مساهمة الجالية وتتجلى بأبهى صورة عبر المشاركتيْن الأولى والأخيرة (مع الأسف) للمغربية المقيمة في هولندا فاطمة الجبلي الوزاني، وذلك في الدورة الخامسة من المهرجان الوطني في الدار البيضاء سنة 1998، حيث عرضت فيلماً قوياً وعميقاً ومؤثراً، يمتزج فيه السردي المتخيل بالوثائقي الحيّ تحت اسم «في منزل أبي»، وفيه أعطت الكلمة والصورة لوالدتها كي تروي قصة حياتها، هي المرأة التي زُوجت في سن صغيرة، ورافقت زوجها إلى أوروبا من دون أن تستشار في الأمر جرياً على العادة المترسّخة في منطقة جبالة في وسط البلد. ينتقل الفيلم بين القارتين والعالميْن العربي والغربي عبر امرأة تتبع فقط التقاليد، ولا تدري مصيرها الذي ليس بين يديها، بحسب وقائع الفيلم المتأثر بالطروحات السائدة في دولة الأراضي المنخفضة التي تضم جالية مغربية مهمة. لكن هذه المرأة هي التي منحت الحياة لبنت أخرجت فيلماً عنها، وعن حالة من يشبهنها في بلد الغربية البعيد، كتعويض غير واعٍ لـ «حيف» وإعادة اعتبار لحالة إنسانية مفقودة الإرادة. وقد حصل الفيلم بإجماع الكلّ على الجائزة الكبرى، وعلقت عليه آمال طيبة. لكن صاحبته لم تظهر بعد ذلك في أي عمل سينمائي جديد، الأمر الذي يمكن تشبيهه بضربة حظ أو وجود انتاج مشترك أوروبي لقي فكرة طيبة حول مشكل اجتماعي في لحظة ما. لكن كيفما كان الحال، فقد فتح باباً، وتم تخصيب السينما المغربية بوجوه من خارج البلد.

لقد شاركت مريم باكير في السنة ذاتها بفيلم قصير ثانٍ هو «سامية». وفيلماها القصيران صوّرا في المغرب بمواضيع مغربية، عكس السينمائيين الشباب أمثال نور الدين لخماري، وإسماعيل فروخي، اللذين قدما أفلاماً ذات طابع أوروبي، وإن اتسمت جلها بثيمة الهجرة والهوية المجزأة.

بداية الألفية الثالثة والإبداع النسوي الجديد

ليلي المراكشي من فرنسا إلى فيلات البيضاء

ثلاث سنوات بعد هذا التاريخ المؤسس، أي في سنة 2001، قدمت المخرجة ليلى المراكشي فيلماً وثائقياً قصيراً جميلاً تحت عنوان: «الأفق المفقود» ، يتناول ظاهرة «الحريك» أو الهجرة السرية. وبذلك دشّنت المخرجة ظهوراً لافتاً ستؤكده تباعاً من خلال فيلمين قصيرين آخرين، هما «مائتي درهم»، و«مومو بامبو»، يتسمان بفنية مُتحكم فيها، لكنها قفزت القفزة الكبرى، وأثارت جدلاً واسعاً وقوياً أشبه بالرجّة داخل المجتمع والأوساط السينمائية المغربية حين قدمت سنة 2005 شريطها «ماروك». وهو العمل الذي تناول ظاهرة التديّن عبر صور جريئة وغير معهودة، كما تناولت لأول مرة علاقة عاطفية ما بين مراهقة مغربية وشاب يهودي مغربي. لكن أهم ميزة للشريط هي أنه شرّع الباب لمشاهدة مجتمع الطبقة الراقية المخملية في المغرب، في سابقة طيبة ومفيدة. هي طبقة ليلى المراكشي ذاتها. وجعلت المشاهد يعرف ما يجري خلف الفيلات الفخمة والأحياء المنعمة، من توتر ونفاق وشدّ وجذب ما بين التقليد والمحافظة، واتباع أخلاقيات الغرب أو الغيرة على أخلاقيات المجتمع، كل ذلك في أسلوب فني مميّز، ومن دون تحيز وبكامل الموضوعية. وقد لقي الشريط نجاحاً باهراً، وعرض في العديد من المهرجانات.

وسكتت ليلي المراكشي مدة لتعود سنة 2013 بفيلمها «روك القصبة». وهو فيلم يتناول الموضوع ذاته الذي هو الطبقة المخملية، وكيفية تعاملها مع التقليدانية السائدة في المجتمع، لكنها هذه المرة، ستفتح فيلمها على أفق عربي عام، هي التي تقطن باريس، وذلك بمنحها البطولة لممثلات عربيات متعدّدات المشارب، مثل المخرجة اللبنانية نادين لبكي، والفلسطينية هيام عباس، ثم مرجانة العلوي، ولبنى أزابال، المقيمتين في فرنسا وبلجيكا. في الفيلم لقطات خفة دم وسخرية لاذعة، وإن بشكل مرح تجاه العادات المترسّخة في وسط نخبوي ثري.

نرجس النجار والجغرافية المتعددة

لم تختر نرجس النجار السهولة في عملها الطويل الأول، حين انتقلت بالكاميرا إلى وجهة لم تحسبها جيداً، وهي مناطق جبال الأطلس الأمازيغية، ووضعت حكايتها في «كليشي» البغاء في الجبال، وصوّرت «العيون الجافة» سنة 2003. وهو فيلم أثار الجدل ما بين محبّذ ومستنكر، ليس للجرأة التي أبانت عنها حين أظهرت صورة بطل الفيلم عارياً من الخلف، وهو يمشي في بياض الثلج وقساوة البرد في اللقطة الأخيرة، ولكن للطريقة التي أظهرت بها جبال الأطلس الغريبة، ونساءه البدويات، كما لو كنّ مجموعة غجر منعزلين في غيتوهات، وهو ما يبتعد عن واقع الأمر كثيراً. الفيلم، وإن بدا متقناً فنياً، ويسرد مصائر نساء ورجال في وضع قصي تمتحن فيه الأجساد والعواطف بقوة، فقد أخفق في ادعائه الدفاع عن المرأة أو ما شابه، لأنه شريط من دون مواصفات جغرافية أو مجتمعية محدّدة بالفعل، بل يمكن أن تحدث وقائعه في أي مكان.

وقد حاولت المخرجة الخروج من ورطة هذا الفيلم الذي ساهم في شهرتها، بإخراج فيلم حاولت أن تصالح فيه الجميع، هو شريط «انهض يا مغرب» سنة 2006. إنه فيلم يودّ أن يكون تعليمياً يتضمّن العديد من المواعظ، وينطلق من المنافسة التي جمعت المغرب بجنوب أفريقيا لتنظيم كأس العالم لكرة القدم. وهو يتحدث عن كهل كان ذات يوم لاعب كرة مشهوراً، يتحسّر على ضياع فرصة لعب المونديال بعد أن قضى ليلة ليلاء برفقة امرأة.

وتدور وقائع الشريط في جزيرة صغيرة شهيرة بالقرب من الدار البيضاء اسمها سيدي عبد الرحمن، حيث يعيش الرجل برفقة حفيدة صغيرة. الجزيرة يرتادها المشعوذون، وفيها عرّافات، ومنها تستقي المخرجة إحدى شخصياتها هنا. لكن الشريط لا يفتأ ينتقل خارجاً، يحاول أن يحشر في القصة العادية خطاباً حول الدين مثلاً، وهو ما يتجاوز الدرامي والجهد الجمالي للصورة السينمائية المتوخاة، ويثقله، بل بدا مهلهلاً، وفكرته أكبر منه. وبالتالي، لم تتم المصالحة. وربما هذا ما حدا بالمخرجة على العودة إلى موضوعها الأثير في شريط «عاشقة من الريف « سنة 2012، الذي هو عن نساء العوالم السفلى، ومقاربات علاقاتهم برفقة الرجال الباحثين عن اللذة، وذلك بالانتقال إلى جبال الريف في الشمال المغربي، ووضع نسائها/شخصياتها في وسط تجار الحشيش في تعسف كامل على واقع اجتماعي معقّد، وكثير التشابكات، وبعيد عن الكليشيهات. وكل ذلك بدعوى الحديث عن وضع المرأة المزري والفاقد لمقومات تحقيق الذات والعيش بكرامة، وهو ما لا يتأتى عند مشاهدة الفيلم.

ياسمين قصاري من بلجيكا إلى جغرافية الحنين الدافئ

على عكس المخرجة السابقة، أبدعت ياسمين قصاري المقيمة في بلجيكا في عملها الوثائقي «عندما يبكي الرجال» عن عمال الفلاحة المهاجرين في جنوب إسبانيا، ومعاناتهم مع السرية والعمل المضني والحرمان الجنسي والعاطفي في ظروف سكن غير لائقة بتاتاً، في بوح موضوعي متوازن لا يفتعل ولا يتكلف. فيلم عبارة عن نقل لصيق وغيور لواقع لا يودّ أن يرضي أحداً. فقط يصور بنية حسنة واعتقاد راسخ في المهمة الفنية والمدى أثر الريبورتاج إذا تحكّمت في أدواته عملية مزج بين السردي والتوثيقي. وهذا المعطى الأخير يتجلى في فيلمها الروائي الأول «الراقد» المنتج سنة 2007، وهو فيلم حنيني كله فتنة صورية، وإن قاربت القحولة والجفاف والطبيعة غير الرحيمة، ومقاربة جمالية عالية للطبيعة والإنسان في صراعه للبقاء كريماً ومنتصباً ضد التجاهل والنسيان.

حكاية الشريط تتناول ظاهرة المعتقد الذي يسعى إلى تجميد نمو الجنين في بطن الأم عند غياب الأب المهاجر، وتحريكه بعد عودته. كل ذلك وسط واقع حرمان واتكال وانتظار سمته النفي الداخلي والاغتراب المزدوج. لا نشاهد في القرية التي تدور فيها الأحداث سوى نساء متروكات للزمن الطويل، أما الرجال فيظهرون في أشرطة الفيديو التي يبعثون بها عوض الرسائل. وكلما ظهر رجل/ذكر، وغالباً ما يكون الفقيه أو سائق ما يحدث الصراع الخفي. وتصوّر المخرجة الصراع والتجاذب بشكل سلس شبه خفي ما بين لحظات الصمت الطويلة وندرة الكلام، تاركة للوجوه الملتقطة من كل الزوايا أو المكبّرة قول كل شيء. هي واقعية جاذبة ومؤثرة مستقاة من المدرسة الواقعية السينمائية البلجيكية التي تعلي من شأن الطبقات الصغرى اجتماعياً، وترى في كفافهم تجلياً للشرط الوجودي للإنسان بعيداً عن النخبوية وثمتلات الطبقات الراقية وخيارات السينما التي يتسيّد فيها الفن الخالص بدل التصوير الحيّ الملتزم.

مخرجات وأنواع سينمائية

سلمى بركاش والموسيقى

بعد فيلم قصير متميّز بعنوان «المصعد»، قدمت المخرجة سنة 2011 فيلماً يحاور الموسيقى. لم تتخيّر الحديث عن المرأة في فيلمها الأول هذا عكس المخرجات الأخريات. أرادت فقط أن تمارس السينما، وتحكي قصة بعيدة عن الادعاء والهمّ المجتمعي في شكله المباشر، كمن وجد سيناريواً يتضمن كل مقوّمات نجاحه، مع توفر مادة تلتقي واهتمامات الذات، وهي هنا الموسيقى. وهكذا منحت رهافة الأنثى المبدعة لعازف على العود، قضية حياته أن يعثر على الوتر الخامس. أجواء تمتح من رواية إسحاق الموصلي وزرياب مع ما ميّز علاقتهما من تلمذة في البداية، ثم من منافسة في النهاية. مالك بطل الشريط لقي كل التشجيع من طرف عم له موسيقي، لكنه لقي المنع والاستنكار من والدته التي ترى عبثاً وقلة شغل في ما يأتيه داخل مجتمع لا يعترف بالفنان الإنسان والمهني بعد تجربة مع زوجها الذي توفي بعد أن ضحى بحياته من أجل الفن.

في الفيلم حكاية حب مع أجنبية، وفيه انتقال جغرافي بين الصويرة في الجنوب والدار البيضاء في الوسط، ثم طنجة في الشمال. إنه انتقال أقرب إلى السياحة الفنية منه إلى الضرورة السردية، لكن قدر الفن السينمائي وقدر المخرج أن يستغل حريته كي ينأى قليلاً لاختبار جمال التوثيق العابر من أجل جمال النظر.

ليلى الكيلاني والصدى السياسي الاجتماعي

مثل زميلاتها اللواتي أوردنا تجربتهن، عرّفت ليلى الكيلاني، خريجة التاريخ والاقتصاد، بنفسها عن طريق فيلم وثائقي مهم عرضته في المهرجان الوطني للفيلم، هو «أماكننا الممنوعة» سنة 2008 الذي يتحدث عن مرحلة سنوات الرصاص في المغرب من خلال بوح من عايشوها في أجسادهم التي تركت ندوباً فيها. في الشريط شحنة من الرصد المميز للاعتراف عبر مقاربة الجسد، وهو ثم يتمرأى من خلال من يتحدثون عنه، وفي الجغرافية التي عرفت هندسة ألم هذا الجسد الثائر. والجسد ذاته، لكن هذه المرة أنثوياً، سترصده المخرجة في فيلمها الطويل الرائق «على الحافة» الحائز الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني للفيلم سنة 2013.

إنه فيلم عن العاملات في معمل سمك في طنجة نهاراً، ونساء ليل ليلاً، وما بين الزمنين ترصد المخرجة كل تناقضات المجتمع في مدينة منفتحة على العالم، وتغار على مميزات الانتماء إلى جنوب البحر الأبيض المتوسط من عادات، وتقاليد ثقافية، وتعاليم دينية. كل شيء يُفضح هنا بلا غرائبية، لأن صور الفيلم نابضة بالاعتراف الذي تنبئ عنها سلوكات نساء مُجبَرات على موازنة لذة العيش، مهما قست مع القهر المُسلط عليهن من طرف مجتمع لا يسمح بالكثير من هوامش الحرية والانطلاق والمتعة غير المراقبة.

إنه فيلم تتلاقى فيه هموم عوالم الجريمة والجنس والتهريب، كحوامل سردية تعضد الحياة الشخصية للبطلات الأربع اللائي فرضت عليهن البطولة في اليومي القاسي. والمخرجة نجحت في إظهار هذه البطولة بنفس توثيقي ممتزج بالسردي من دون تعسف.

زكية الطاهري والضحك

إن الحضور النسوي ليس متساوياً، ولا بالقدر الفني المرغوب. ومثال ذلك الفيلم الذي قدمته الممثلة زكية الطاهري التي أدت الدور الأساسي في فيلم التحفة لفريدة بليزيد «باب السماء مفتوح» الذي تطرقنا إليه سابقاً. فبعد إقامة فرنسية أخرجت شريطاً سينمائياً طويلاً تحت عنوان: «رقم واحد»، أسندت فيه البطولة إلى الثنائي الفكاهي المعروف سعد الله عزيز، وزوجته خديجة أسد في عمل يقارب الشكل التلفزي، ويوظف النجاح الكبير والشهرة اللتين يعرفان بها لدى الجماهير. لا يقدم الفيلم شيئاً يذكر في ريبرتوار الفن السابع المغربي، لكنه يندرج في خانة الأفلام الخفيفة التي بدأت تحتل المشاهد السينمائية حالياً. يتناسب في الأمر المخرجون، نساء ورجاﻻً، ما دام الإنتاج المدعم من طرف الدولة متاحاً لكل المشاريع المقدمة التي تحقق قدراً أدنى من الشروط.

سناء عكرود والثراث

لا تختلف زكية الطاهري عن الممثلة القديرة سناء عكرود التي دلفت بدورها عالم ما وراء الكاميرا، مما يشكّل زخماً جميلاً، لكنه لم يعط إلى حدّ الساعة قدراً مهماً من الفنية المرجوة. وقد شاركت سناء عكرود قبل سنتين بفيلم قصير تحت عنوان «أعطني الناي وغني»، ثم قدمت هذه السنة (2015) شريطها المطول «خنيفسة الرماد». ووظفت في هذا الشريط الطويل تجربتها التشخيصية في أفلام التراث التلفزية وأجواء الحكاية الشعبية بمكوناتها من ديكور وألبسة ومعمار. وتدور الوقائع حول مقولة كيد النساء، مُعيدة خرافة السلطان وبنت الشعب. فهنا أحد السلاطين الذي وجد نفسه مجبراً على إيجاد عروس له من طرف والدته، فيقيم علاقة مع ابنة مؤذن، وقد أدت سناء عكرود دور ابنة المؤذن بما عرف عنها من إتقان له. إنه فيلم أرادته المخرجة صدى لسينما «عائلية» في توافق مع اتجاه عام حالياً.

بشرى بلواد و«حياة الآخرين»

لأن السينما ليست حكراً على أحد، فقد قدمت بنت مدينة سيدي قاسم الإعلامية بشرى بلواد فيلماً حاول أن يكون جريئاً وصادماً هو «حياة الآخرين»، وموضوعه يتناول البؤس الجنسي لدى زوج وزوجة من الأثرياء، تحت أنظار خادميهما، أي الزوج والزوجة الشابين الفقيرين اللذين يتنفسان صحة و«سعادة». وطبعاً، وكما يحدث في أفلام من النوع البسيط ذاته، خاصة المعروفة في الدراما التلفزيونية التركية، يفضي ذلك إلى تبادل أدوار ولقطات مضحكة، أو أريد لها أن تكون ساخرة حين تظهر التناقضات ما بين الواقع والحلم.

مليكة المانوك و«تاونزا»

وتبعاً للتطورات المتسارعة التي يعرفها المجتمع المغربي، ومن بينها النقاش الكبير حول اللغة الأمازيغية، فقد دلفت المرأة الأمازيغية المخرجة عالم السينما، على غرار الرجال الذين فعلوا الأمر نفسه، وإن كانوا قليلي العدد. وهكذا أخرجت مليكة المانوك، شهادة في مجال السمعي البصري، واشتغلت في الصحافة الأمازيغية فيلماً بعنوان: «تاونزا» (أي قصة الشعر على الجبهة بالعربية). وهو فيلم يتحدث عن علائق حب متعددة في قرية جبلية في منطقة سوس الأمازيغية المعروفة بتقاليدها القاسية ومجتمعها المحافظ الذي لا يقبل التغيير، ويحتاط من المظاهر الحديثة، كما تسود فيها تبعاً لذلك سلوكات المنع التي تؤدي إلى أمية البنات ولزومهن البيوت. والمخرجة حاولت أن تشرح المجال الجغرافي هذا للتغيير عن وجهة نظرها الطيبة، كباب مشرّع على واقع يجب أن يرى ويعرف.

سعاد البوحاطي و«فرنسية»

مثل من قدمن فيلماً واحداً واختفين تقريباً، قدمت المخرجة المقيمة في فرنسا سعاد البوحاطي فيلمها هذا حول الهجرة بعنوان: «فرنسية»، لكن بشكل معكوس. فحدوثة الفيلم تتحدث عن فتاة وجدت بين عشية وضحاها قد اقتلعت من القرية الفرنسية التي ترعرعت فيها كي تعود إلى العيش في المغرب. الفكرة أصيلة وجميلة جسدها الفيلم باقتدار حين يظهر التناقضات الكثيرة بين مجتمعين في مجال التربية والحرية.

طالا حديد من بريطانيا إلى بريطانيا

قدمت هذه المخرجة من أب عراقي وأم مغربية من بلاد الضباب إلى المغرب لأول مرة بفيلم قصير، هو «شعرك الأسود يا إحسان»، أبانت فيه إمكانات فنية قوية، وهي تروي حكاية مهاجر عائد إلى المغرب في رحلة تذكر للطفولة وأشيائها وأناسها. ثم عادت هذه السنة لتقدم فيلماً كبيراً تحت عنوان: «إطار الليل» نالت به الجائزة الكبرى للمهرجان الوطني.

إنه فيلم يحكي عن مصائر أشخاص حول عملية بيع بنت، وعن لقائها مع كاتب يحاول أن ينقذها، وفي الوقت ذاته يحاول أن يبحث عن أخ له مفقود في العراق. إنه فيلم عن رحلة في الزمن، وفي الجغرافيا، وفي الذات؛ في المغرب حيث المنطلق، وفي تركيا حيث العبور، وفي كردستان العراق حيث الوصول. عملها عبارة عن علاقة بالسينما تتسم بإظهار الجماليات الصورية في تناغم كبير من المحتوى.

هناك زوايا نظر متعددة لا تكفّ عن تغيير الرؤى في إغناء محمود للخيال، وتتبّع لشخوص بشكل محايث لا يعرف الجبهية، ولا المرور العابر. هي كتابة سينمائية عن الفرد التائه، وعن العنف والدم والضمير المجزأ، والقسوة الباطنية التي هي صدى لعبث الحروب ومجانية القتال الأهوج.

إيمان المصباحي بين التوزيع والإخراج

هي المخرجة الوحيدة التي تلقت تكوينها السينمائي في القاهرة في مصر، لكن لم يكتب لها النجاح بفيلمها «جنة الفقراء» مثلما أسعفتها مهنة التوزيع السينمائي، والإخراج التلفزي، والاهتمام بالمجال في كل مرافقه.

الأفلام القصيرة والوعود السينمائية

كان ﻻ بد للتراكم الإنتاجي، وتراكم الجوائز وحفلات الإشادة والتكريم، كما بالكلام الكثير الناتج من الحضور الفيلمي، بما له من آثار في العقليات المسيطرة، وتذليلها للعقبات بين التعبير النسوي بالسينما عن الهم العام الذي كان حكراً على الرجال؛ لكل هذه الأسباب، كان لا بدّ لها من أن تخلق ظاهرة اختراق النساء للإخراج السينمائي. وهو ما جعل الأفلام القصيرة تقتطع حيّزاً مهماً من الإنتاج الحالي، في كل لقاء سينمائي، مهرجاناً أكان أم ملتقى، وتَعد بإمكانات فنية غير متطابقة، فيها الغث والسمين، بعضها يضم ملامح إبداع، والبعض اﻵخر ليس سوى صدى لما يعتمل في المشهد السمعي البصري العام من تلفزيون وفيديو وتكنولوجيا صورية متطورة. لكن العدد الكبير المتزايد لهذه الأعمال مثير للانتباه، مثل أفلام جيهان البحار، وأسماء المودير، وغيرهما، وهو ينبئ بتكاثف واضح للإنتاج السينمائي ستحتل فيه المرأة مكانة مهمة.

خاتمة

مما سبق يمكن القول إن السينما المغربية في بعدها النسوي، أضافت إلى الكم المنتج من الأفلام أكثر مما أضافت نوعياً. لكن حصول ثلاث مخرجات على الجائزة الكبرى في المهرجان الوطني للفيلم، هو دليل على حضور ﻻفت، وهو بالفعل كذلك، لأن الأفلام الفائزة تتمتع بقوة النص الفيلمي والمقاربة الفنية التي تحترم خصوصية وقواعد الفن السابع.

وإلى جوار هذا المعطى، هناك ملاحظة ثانية تهم الانتماء الجغرافي المزدوج للعديد من المخرجات إلى بلدان أوروبية، وإلى المغرب في الوقت ذاته، والذي يسمح لهن بالحصول على الدعم، وعلى التوزيع والمشاهدة في قاعات البلد هنا، وبالحرية في الإبداع هناك، على ما يبدو، ويظهر أيضاً أن أمر الإخراج منحسر في دول اﻹقامة. ومن حسن الحظ أنها اختيارات صائبة. وطبعاً هذا لا يشفع لباقي الأفلام المنتجة التي تتراوح ما بين الضعف البيّن والتمكن الطيب.

ومن جهة حضور المرأة كقضية وكوضع اجتماعي إنساني، يلاحظ أن التطرق إليها، وإن بدا في الصورة منذ الوهلة الأولى، فهو يعوم في الغالب في ما هو اجتماعي عام نابع من طبيعة الحكاية الفيلمية التي تفرض تناولاً لا يتفق غالباً وأهواء المخرجات الملتصقات بالهم النسواني. فأكثر ما نرى هو أن كل مخرجة تحاول الانطلاق من تجربتها الحياتية الخاصة، ومن فضاء مدينتها أو منطقتها، لتخترق عالم السينما. ولذا فعدد من أنجزن شريطاً طويلاً واحداً مهم. وهن هنا لا يختلفن عن المخرجين الذكور، فالسمة الغالبة على السينما المغربية أنها سينما مخرجين ومخرجات لا ينتظمون في إطار سينمائي محدد بخيارات موحدة، وضمن «مدرسة» سينمائية.

ويمكن الجزم إجمالاً بأن السينمائية المغربية لم تتطرق إلى السينما للحديث فقط عن بنات جنسها بالتحديد في مسعى تحرري، بل إلى ممارسة الفن لا غير ما دام ذلك ممكناً.