المؤلف: امحمد مهدان

مراجعة: حسن اشرواو (** )

الناشر: منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر، أكادير.

سنة النشر: 2015

عدد الصفحات: 190

 

– 1 –

يأتي هذا الكتاب، لأجل عرض الإرث السوسيولوجي المكتوب حول القرية بالمغرب، وكما يقول صاحب هذا الكتاب، امحمد مهدان (باحث في سوسيولوجيا التنمية والقروية، وأستاذ بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، جامعة ابن زهر المغرب): «أردت من خلال هذا الكتاب وضع نتائج بعض الدراسات والأبحاث التي أجريت على المجتمع القروي بالمغرب، منذ بداية القرن العشرين إلى اليوم، أمام جمهور القراء من أساتذة وطلبة وباحثين وفاعلين اجتماعيين، عمـلاً بمقترح السوسيولوجي المغربي بول باسكون (Paul Pascon) الذي طالب الباحثين بقطع الصلة مع الصمت والتحفظ والسرية، وجعل معرفة المجتمع لنفسه بنفسه شاملة، وعامة، وذلك عبر نشر الدراسات العلمية ونتائجها، بحيثياتها وماجرياتها وصعوباتها، وحتى إخفاقاتها، بمعنى تعميمها بلغة مفهومة أكثر فأكثر» (ص ٦). إن ما يميز هذا الكتاب، هو أنه يستجيب لهذا الطلب ويقدم المعرفة/الإرث السوسيولوجي للقارئ بلغة بسيطة، دقيقة وعلمية، بعيداً من الإطناب والحشو، وفي الوقت ذاته يستجيب لطلب قوي يصدر عن الطلبة والباحثين؛ وأنه يلبي رغبة أكيدة في استئناف التفكير في الإرث السوسيولوجي بالمغرب، ما دام طقس الكتابة، الذي ينخرط فيه المؤلف هو جمع وعرض وتبسيط ونقد للإرث المعرفي/السوسيولوجي المكتوب حول القرية بالمغرب. إننا اليوم كباحثين في العلوم الاجتماعية بحاجة ماسة إلى إيقاظ هذا الإرث وإعادة إحيائه والتفكير فيه، والبناء عليه.

إن هذا الكتاب، وإن كان ينصب على الإرث المنجز سوسيولوجياً حول القرية المغربية، إلا أنه دعوة صريحة إلى الاهتمام، بحثاً وتدريساً، بالإنتاجات السوسيولوجية السابقة – حتى لو كانت إرثاً كولونيالياً، وأخذ العبرة والدروس منها، ليس فقط في المغرب، وإنما في الوطن العربي عامة. إنه يقدم إذاً أطروحة تتجاوز تلك الأطروحات القائلة بقطع الصلة مع كل إنتاج معرفي يضم رائحة كولونيالية أو استعمارية، ويدعو إلى ولادة جديدة لهذا الإرث لأجل بناء ممارسات ونظريات سوسيولوجيا جديدة تستجيب للطلب المغربي بخاصة والوطن العربي بعامة.

يثير المؤلف، في خاتمة الكتاب، إشكالية الإبداع النظري في العلوم الاجتماعية المعاصرة، ويتساءل: «لماذا لم يستطيع أي باحث سوسيولوجي مغربي بناء نظرية سوسيولوجية معاصرة جديدة ومتكاملة؟» ويجب عن هذا السؤال بطريقة استفهامية في قوله: «ألم يحن الوقت لإعادة فتح الحدود بين مختلف العلوم الاجتماعية؟». وتشكل هذه المركز والحجر الأساس لهذا الكتاب، إذ باستناده إلى الإرث السوسيولوجي (الذي كان بطبيعة الحال انفتاحاً على علوم اجتماعية مختلفة، كالتاريخ والجغرافيا والإثنوغرافيا… إلخ) يؤكد أن من الضروري تحقيق هذا التكامل بين العلوم الاجتماعية لأجل تجاوز المآزق الإبستيمولوجية التي تقبع فيها السوسيولوجيا.

– 2 –

يركز الكاتب اهتمامه في هذا الكتاب على القضايا الكبرى الآتية:

  •  قضية المؤسسات الاجتماعية بالمجتمع القروي بالمغرب (كالعائلة، القبيلة، الجماعة… إلخ)؛
  •  قضية المعتقدات الدينية للسكان القرويين (كتقديس الأولياء، زيارة الأضرحة والزوايا… إلخ)؛
  •  قضية السلطة السياسية بالمجتمع القروي (المخزن، القياد، الأعيان القرويون… إلخ).

وكانت هذه القضايا التي يتمحور عليها هذا الكتاب، محور الإرث السوسيولوجي بالمغرب، كما لا يزال الاهتمام بها حاضراً في الإنتاجات السوسيولوجية الحالية، رغم ما يعرفه المجتمع المغربي من تحولات كبيرة ورغم ظهور حقول وميادين بحثية جديدة كالسوسيولوجيا الحضرية، التربية، الأسرة، المقاولات، الصحة… إلخ.

ينقسم هذا الكتاب إلى ثلاثة أقسام، القسم الأول معنون بـ «رواد السوسيولوجيا الكلاسيكية بالمغرب»، ويعرض هذا القسم للإرث الكلاسيكي، أو كما سماه الكاتب «المقاربة الكلاسيكية» التي انطلقت مع بداية القرن العشرين وامتدت خلال فترة الحماية، وبخاصة عند كل من إدموند دوتي (١٨٦٧ – ١٩٢٦)، وإدوارد ميشوبلير (١٨٥٧ – ١٩٣٠) وروبير مونتاني (١٨٩٣ – ١٩٥٤)، ويعرض كل فصل من هذا القسم للإسهامات النظرية والبحثية والمنهجية لهؤلاء الثلاثة.

– 3 –

يعرض الفصل الأول لإسهامات إدموند دوتي ومساره العلمي بالإضافة إلى منهجه في البحث والمواضيع التي اهتم بها من قبيل القبيلة، المخزن (نظام سياسي مغربي، ويقصد به عادة السلطة السياسية المغربية)، المعتقدات الدينية… إلخ. ويتميز منهج دوتي في البحث والتحليل «بالاعتماد على مبادئ المدرسة الفرنسية في السوسيولوجيا، وبخاصة منهج الملاحظة المباشرة والمقابلات الفردية ومنهج تحليل الظواهر الاجتماعية» (ص ١٢). وقد شكل البحث الميداني منطلقاً رئيسياً لدى دوتي، وأحد أسس مشروعه العلمي، وهو ما مكّنه من مراكمة عدة كتابات ومونوغرافيات متعددة. تصنف هذه الإسهامات إلى ثلاثة أصناف (وذلك حسب الببليوغرافيا النقدية التي أنجزها أندري آدم (١٩٧٢)، الصنف الأول عبارة عن رحلات استكشافية إلى عدة مناطق بالمغرب (ومن ضمنها الكتابات الآتية: «مراكش» (١٩٠٥)، «مهمة في المغرب: في رحاب القبائل» (١٩١٤)…) والصنف الثاني يناقش بعض الظواهر الاجتماعية والثقافية بالمغرب (ومن بين هذه الكتابات: «عيد الطلبة» (١٩٠٥)، «التنظيم المنزلي»، «سقوط السلطنة»…). أما الصنف الثالث فهو دراسات تتعلق بظواهر دينية («ملاحظات حول الإسلام المغاربي: الزوايا» (١٩٠٠)، «كومة الأحجار المقدسة وبعض الممارسات المتعلقة بها في جنوب المغرب» (١٩٠٣)، ثم الكتاب الأهم «السحر والدين في إفريقيا الشمالية» (١٩٠٩)). تبقى هذه الكتابات الموروثة عن دوتي أهم أعمال الإرث الكلاسيكي السوسيولوجي بالمغرب، وحجتنا في قولنا هذا، حجم الاهتمام الذي لقيته أبحاثه من طرف مارسيل موس (١٨٧٢ – ١٩٥٠) وإميل دوركايم (١٨٥٨ – ١٩١٧) وجاك بيرك (١٩١٠ – ١٩٩٥)، يقول عنه هذا الأخير: «ملاحظ نافذ، ورحالة متيقظ، وجد متفطن لتصحيح المعرفة عبر الخيال، وجدت فيه الإثنولوجيا الإنكليزية والسوسيولوجيا الفرنسية مطبقاً منظماً» (ص ٢٠).

ويقدم مهدان في الفصل الثاني لباحث آخر لا يقل أهمية عن دوتي، وهو إدوارد ميشوبلير، أو كما وصفه مهدان بصاحب السوسيولوجيات الثلاث، إذ ميز ميشوبلير في السوسيولوجيا المغربية بين ثلاثة أصناف، سوسيولوجيا «المخزن»، وسوسيولوجيا «الإسلام»، وأخيراً سوسيولوجيا القبائل. ويتميز منهج ميشوبلير بجمعه بين البحث النظري (النصوص التاريخية، المخطوطات… إلخ) وملاحظة العادات والطقوس المحلية والتركيز على المقابلات وسير الحياة، و«الوصف الدقيق وكذا التحليل وفق منهج نقدي وبأسلوب موسوعي كل المعطيات التي حصل عليها» (ص ٢٢). لقد خلف ميشوبلير العديد من الإسهامات الفردية والمشتركة، منشورة على مجالات متعددة كمجلة «الأرشيفات المغربية»، «الأرشيفات الأمازيغية» وفي «مدن وقبائل المغرب»، «هيسبريس»… إلخ، وكانت هذه الكتابات تنصبّ أساساً على علاقة المخزن المغربي بالقبائل، والكشف عن آليات اشتغال المخزن (النظام القيادي). ورصد وظائف المؤسسات الدينية وأنماط المعتقدات المميزة للمجتمع القروي المغربي، وقد تركز اهتمامه كذلك على البحث في القبائل الأمازيغية، ودعا إلى تركيز الاهتمام على هذه القبائل «التي تعود إلى مرحلة ما قبل الإسلام والتي حافظت على نظامها الاجتماعي وعاداتها وقوانينها العرفية وذلك للتمييز بين ما هو أمازيغي محلي وبين ما هو عربي إسلامي مستورد» (ص ٢٩).

تبقى إسهامات ميشوبلير، رغم ما يمكن أن يقال عنها من خدماتها للمصالح الاستعمارية… إلى غير ذلك، ذات وقع كبير على تاريخ السوسيولوجيا بالمغرب. لكن سرعان ما سينكسر التوازن بين السوسيولوجيات الثلاث التي قال بها ميشوبلير، مع الفرنسي روبير مونتاني، إذ ركز هذا الأخير فقط على «المكونين الأخيرين: أي سوسيولوجيا المخزن وسوسيولوجيا القبائل الأمازيغية. وبهذا أصبحت لديه المسألة الأمازيغية واقعاً علمياً بعد أن كانت مجرد مقترح عند ميشوبلير» (ص ٣٣).

أنجز مونتاني العديد من الدراسات، من أهمها الدراستان اللتان أنجزهما ما بين ١٩٤٩ – ١٩٥١، الأولى حول الهجرة القروية ومسألة اندماج الطبقة العمالية في المدن، وهي التي نشرها بعنوان: «ميلاد البروليتاريا المغربية» (١٩٥١)؛ والثانية حول «الثورة بالمغرب» (١٩٥٢) (ص ٣٥).

– 4 –

أما القسم الثاني من الكتاب، فقد عنونه الكاتب بـ «النظرية الانقسامية مطبقة على المجتمع القروي». وهو عرض للمقاربة الأنكلوسكسونية التي اهتمت بدراسة بعض الظواهر القروية لما بعد الاستقلال وتفسيرها من منظور انقسامي، كما هو الشأن عند إرنست اندريه غيلنر (١٩٢٥ – ١٩٩٥) ودايفيد مونتكمري هارت (١٩٢٧ – ٢٠٠١).

عرض مهدان في الفصل الأول من هذا القسم لإنتاجات وإسهامات ومنهج إرنست غيلنر، أما الفصل الثاني فقد خصصه لدايفيد هارت ولإرثه النظري والمنهجي. يفتتح الفصل الأول مؤكداً أن: «دراسة غيلنر حول صلحاء زاوية أحنصال والقبائل المحيطة بها (١٩٦٩) ستحمل جميع عناصر نظرية متكاملة حول انقسامية القبائل ووظائف صلحائها في التحكيم والوساطة التي يقترحها غيلنر لدراسة مورفولوجية القبائل في المغرب الكبير بشكل عام» (ص ٥٥). وقد شكل كتاب صلحاء الأطلس (١٩٦٢) أهم إنجاز ضم في كل طروحاته حول النظرية الانقسامية، التي أثارت ردود الفعل والنقاش من طرف العديد من الباحثين كعبد الله حمودي وبول باسكون.

أما دايفيد هارت، الذي خصص له مهدان الفصل الثاني من القسم الثاني، فقد كانت محاولته تنصب على تعميم التحليل الانقسامي من خلال دراسته «لعدة جهات من الغرب، من الريف إلى الأطلس الكبير والصغير وكذا حول مختلف البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للعديد من القبائل» (ص ٨١). ويتساءل مهدان في نهاية هذا القسم حول مدى قدرة الأطروحة الانقسامية على أن تنفذ إلى عمق المجتمعات المدروسة؟ وهل استطاع روادها أن يلامسوا مختلف جوانب الحياة العامة للمجتمعات المدروسة؟ وكيف يمكن أن نعتبر الخلاصات التي انتهوا إليها ذات صدقية علمية؟

يبين مهدان في نقده الأطروحة الانقسامية؛ منطلقاً من دراستها الميدانية المنجزة حول سوسيولوجيا تدبير الماء، يبين أنه رغم صدقها في تفسير بعض الظواهر الاجتماعية والبنيات الاجتماعية للمجتمع (تفسير تدبير الموارد وفق المنطق الانقسامي)، إلا أنها تجانب الصواب أحياناً ولا تمتلك القدرة على النفاذ إلى عمق البنى الاجتماعية.

– 5 –

أما القسم الأخير من هذا الكتاب، فقد عنونه الكاتب بـ «رواد السوسيولوجيا القروية المعاصرة» لكونه يضم أبحاثاً ودراسات «انطلقت من دراسة التحولات التي عرفها المجتمع القروي المغربي منذ الاستقلال، وبخاصة عند جاك بيرك وبول باسكون وغريغوري لازاريف». ويؤكد صاحب الكتاب أن هؤلاء السوسيولوجيين المعاصرين «عملوا على نقد المقاربات السابقة وتقديم قضايا جديدة للبحث كمسألة تفكك المؤسسات التقليدية والتحولات الاجتماعية والتنمية التي عرفتها المجتمعات القروية بالمغرب بعد الاستقلال، وذلك وفق مناهج ومفاهيم جديدة ومعاصرة» (ص ٨٤). وتميزت هذه الأعمال بتجاوز عتبة الاستعمار وتقديم مداخل جديدة للتحليل الموضوعي العلمي ما أسهم في انفتاح أفق البحث في السوسيولوجيا القروية بالمغرب.

لا يمكننا إلا أن نؤكد القيمة العلمية لهذا الكتاب، فالكتابة كما يقال إما لاستنباط شيء إن كان مقفـلاً، أو شرحه إن كان غامضاً، أو حسن نظم تأليفه، أو جمعه إن كان متفرقاً. ويندرج هذا التأليف ضمن النمط الأخير؛ فهو جمع وتأليف للإرث الكلاسيكي السوسيولوجي بالمغرب. ورغم الأهمية العلمية لهذا العمل، إلا أنه أهمل البحث في بعض القضايا المعرفية التي يثيرها موضوع من هذا القبيل، وبالأخص التطرق إلى إشكالية تصنيف الإنتاجات الواردة في هذا الكتاب ضمن حقل السوسيولوجيا القروية؛ فبعض الإنتاجات التي تطرق إليها الباحث تنتمي إلى حقل الإثنوغرافيا، ولذلك كان من المفروض أن يطرح الباحث قضية إشكالية التصنيف لأهميتها القصوى، كما يمكن نؤكد كذلك محدودية النقد الذي مارسه الباحث على هذا الإرث، إذ من المفروض أن يكون هذا العمل نقدياً بامتياز؛ لكن الحجم المخصص للنقد يبقى محدوداً ويغفل الإنتاجات المغربية الكبرى التي تبحث في نقد هذا الإرث الكلاسيكي، وعليه فإننا نشدد على الضرورة القصوى للنقد في حالة التعامل مع مثل هذه المواضيع التي، بطبيعة الحال، أثارت العديد من الإشكالات حول العلاقة بين العلم والأيديولوجيا. وفي الختام، بالرغم مما يمكن تسجيله من ملاحظات بخصوص هذا العمل إلا أنها لا تنتقص من شأن هذه المبادرة التي أخذها الباحث.