تمهيد:

بداية لعلّ من المفيد الإشارة إلى أن التعابير السياسية الساخرة والنكتة لم تشكل في الماضي مكوِّناً بارزاً في الثقافة الشعبية وتمثلاتها اليومية في الحوار الشعبي، كما أن الليبيين لم يتداولوا خلال أربعة عقود خلت الطرفة أو النكتة بقدر كبير. يرتبط ذلك في الحقيقة بكون نظام القذافي فرض سيطرة شاملة جعلت الليبيين يحجمون عن المخاطرة بمخالفة الرواية الرسمية، ويفضلون الهمس على التصريح كلما اتصل الأمر برؤاهم أو مواقفهم السياسية بوجه عام. وضمن ترتيبات الدولة الشمولية المتسلطة وسعيها الدؤوب للهيمنة والتغلغل في بنى المجتمع وفئاته المختلفة، قامت السلطة بإنشاء إدارات متخصصة بالتعبير الشعبي تجاه السياسة سواء في شكل النكت أو الملح والطرائف والتعابير السياسية الساخرة أو في بث ومقاومة الإشاعات ذات الطابع السياسي أيضاً، كما كان اختصاص متابعة ورصد وتحليل الرأي العام واتجاهاته وتعبيراته الظاهرة من اختصاص الأجهزة الأمنية. من هنا انصرف الليبيون عن هذا الصنف من التعبير وخلت الحياة اليومية في حواراتها الشعبية تقريباً منه ومن النقد السياسي، وهو ما عكس بوجه عام ما يمكن للدكتاتورية أو النظم الشمولية فعله ليس بالحريات فقط، بل بالمزاج الشعبي أيضاً‏[1].

إن فهم هذه الظاهرة يقع عموماً ضمن ما قدمه علماء السياسة والاجتماع من نظريات وتحليلات تتعلق بكل تعبيرات الدكتاتورية والشمولية، وهو ما برز بصورة خاصة في الدراسات المتعلقة بشرق أوروبا؛ حيث سجل الدارسون التقنيات والآليات التي استخدمتها هذه النظم ليس في قمع أي تعبير للرفض أو المعارضة فقط، بل إعادة إنتاج الثقافة السياسية في بلدانها جملة وتفصيـلاً. ومن المؤكد هنا أننا سنستحضر كتابات جورج أورويل الشهيرة مثل مزرعة الحيوانات و1984 وغيرها من الأدبيات التي سجلت سطوة القمع على إنسان العصر وأساليبها المختلفة. رغم ذلك فقد تمكنت تلك الشعوب من خوض غمار الثورة وإسقاط الشمولية، ولاحظنا كيف أمكن لما أسماه فاتسلاف هافيل «قوة من لا حول لهم»‏[2] إنتاج ثقافة المواجهة التي كانت تنمو تحت الأرض وبخاصة في الكنائس والنقابات لتنتج مزاجاً وروحاً شعبية كانت انتفاضتها التعبيرية الثورية عارمة بالقدر الذي كان كافياً للإجهاز على الشمولية. ولعل من المفيد هنا أن نذكر أن الدراسات المعاصرة للثقافة السياسية في هذه البلدان تظهر خلوَّها تقريباً من أي مكونات ذات صلة بعمليات التوجيه والتنشئة التي باشرتها الشمولية بشكل يوحي وكأن تللك النظم لم تقم أصـلاً.

إن اللجوء إلى التعابير الساخرة، أو النكتة والطرفة السياسية، أثبت في مختلف التجارب الإنسانية أنه وسيلة تعبير عن المعارضة في حدها الأدنى في مواجهة النظم التسلطية ولم تتجاوز كونها سلاحاً لمن لا حول ولا قوة لهم أمام ملاحقة تلك النظم للإنسان بحجج ودعاوى مختلفة ارتدت في أغلب الأحيان قفازات الأيديولوجيا بمستوياتها وتمثلاتها المتعددة. لذلك تكون التعابير السياسية الساخرة أبرز مظاهر التعبير عن الواقع السياسي وطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكومين وما يمكن أن يكتسي تلك العلاقة من توتر أو تصادم. بهذا التوصيف تتأرجح هذه الأصناف من الثقافة الشعبية بين «الدفاع عن الذات ومحاولة المقاومة والتعبير عن الرفض وعدم التقوقع، وبين الانسحاب الفعلي والانكفاء نحو مناطق أقل ضرراً والاكتفاء بالقليل»‏[3].

تنظر هذه الدراسة في التحول الذي طرأ على التعابير الساخرة التي أنتجها الليبيون، وبخاصة في عهد القذافي وفي عام سقوط نظامه مقارنة بما تم إنتاجه بعد سبع سنوات من انطلاق الاحتجاجات عام 2011 وسقوط النظام وانحدار البلاد إلى حالة هي أقرب ما تكون إلى الدولة الفاشلة والحرب الأهلية متعددة المستويات. وتسعى الدراسة لبيان التحول الكيفي في التعابير الساخرة في الثقافة الشعبية الليبية عبر ما تم تبادله من رسائل نصية عبر الهواتف المحمولة وبخاصة ما يتعلق بعيد الأضحى وبالأضحية ذاتها، علاوة على الحالة الاقتصادية المتردية. كما تهدف الدراسة إلى تقديم تفسير لهذا التحول ومضامينه وصلته بالوضع السياسي.

أولاً: التعابير الساخرة في ليبيا في عهد القذافي

سعى نظام القذافي إلى استنساخ التجربة الأوروبية الشرقية مثلما استعان بخبراء ومختصين من هذه البلدان وعمل من خلال استخدام آليات التوجيه والأدلجة للسيطرة على كل وكلاء التنشئة الاجتماعية بدءاً من الأسرة والمسجد والمدرسة مروراً بالأعلام ووسائطه المتعددة. لقد أمعن نظام القذافي في تبني سياسات وأساليب أراد من خلالها تشكيل الثقافة والمخيال الشعبي ولم يترك مناسبة إلا واستثمرها لهذا الغرض مثل اللعب على الحساسيات القبلية أو الجهوية وتوجيه القدرة المحدودة عموماً على إنتاج النقد السياسي في مستواه الشعبوي نحو إنتاج النكت الموجهة لمناطق أو قبائل بعينها لإخراجها من حيز الشأن العام. لقد وصل الأمر لإصدار قانون يجرّم ويقضي بعقوبات قاسية على كل من يتهكم أو يشيع نكتاً أو إشاعات تتعلق بشخص القذافي أو مؤسسات النظام.

ووفقاً لبعض الدراسين، فقد واجه النظام الرغبة الشعبية في التنفيس من طريق النكتة وقدّم حلولاً سياسية للاستجابة لهذه الحاجة النفسية. يوضح الكاتب الليبي عمر الككلي أن النظام ساهم في إنتاج نكت محلية الصنع وليبية تماماً بترويج نكت اتخذت من بعض الشخصيات في النظام مادة لها، ومن بينهم أبو بكر يونس جابر، الذي كان أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة وقائداً عاماً للقوات المسلحة. «هذا كان أمراً مخططاً له من قبل القذافي يتمثل في إيجاد «بالون حراري» هو أبو بكر يونس جابر يجتذب «صواريخ» التعابير السياسية الساخرة بدلاً من أن تتجه إليه هو شخصياً. إن اختيار أبو بكر يونس جابر مادة لهذه العملية يمثل فعـلاً دهائياً من قبل معمر القذافي استغل فيه العنصرية الكامنة لدى الليبيين من حيث تصورهم لذهنية الزنوج وقدراتهم العقلية»‏[4]. غير أن الليبيين، وبحكم حداثة الكيان السياسي ذاته من ناحية، وبفعل الآثار الواسعة لاقتصاد الريع من ناحية أخرى، الذي يمد الدولة بقدرات هائلة على جميع المستويات مثلما يجعل الأفراد يحرصون على الحصول على الثروة من خلال ما توزعه الدولة وليس من خلال ما ينتجونه مباشرة، لم يتمكنوا على ما يبدو من إنتاج نمط المقاومة الذي شهدته مجتمعات أوروبا الشرقية على المستوى الذي أشرنا إليه وإن قاموا بعد أكثر من أربعة عقود من الشمولية بإحداث المفاجأة التي حيّرت في نطاقها ودرجتها ليس الخارج فقط بل وأكثر علماء السياسة والاجتماع متابعة وفطنة عندما انضموا إلى مسيرة الاحتجاجات التي عُرفت بالربيع العربي.

ثانياً: التعابير الساخرة والنكتة السياسة بعد إسقاط النظام: سلاح الضعفاء يقسمهم

مات القذافي ليتم بذلك إصدار شهادة الوفاة الرسمية لنظامه الذي أرهق الروح الشعبية لكنه لم يتمكن من وأد البذور الجنينية لنشوء روح السخرية والدعابة والنكتة في الحاضر الشعبي اليومي. إسقاط النظام عبر التدخل الخارجي فسح في المجال أمام الليبيين فأثبتوا أن مكوّن التعابير السياسية الساخرة والطرافة أو المداعبة لم يمت تماماً، وإن كان لا يزال بحاجة إلى فترة أطول ليؤتي ثماراً إيجابية. ورغم أن المرحلة الحالية لم تُظهر أي تعبيرات واضحة لأي مكوّنات كانت تعتمل تحت الأرض بالمستوى أو الدرجة التي شهدتها بلدان أوروبا الشرقية، فإنه يبدو أننا أمام ظاهرة تستحق الاهتمام لما لها من صلة بمسائل العلاقة بين المجتمع والدولة من ناحية ولصلتها بالسياقات العامة لعمليات التحرر من الشمولية والانتقال الديمقراطي من ناحية أخرى. هذه الظاهرة تطرح أيضاً أسئلة حول الربيع العربي وحول عملية الاستقطاب التي سببتها الإطاحة بالقذافي في المجتمع الليبي.

يمكن الاستدلال على هذا التطور بما تم إنتاجه في الثقافة الشعبية اليومية من تعابير ساخرة أو طرائف ونكات غلب عليها الطابع والمدلول السياسي وتم تداولها على نطاق واسع في المرحلة التالية لإسقاط النظام من خلال الرسائل النصية الهاتفية التي تغني عن الحاجة إلى القيام بزيارة الأصدقاء والأقارب. ظاهرة الاستقطاب تجاه القذافي ونظامه برزت واضحة للعيان خلال هذه الرسائل النصية التي تبادلها الليبيون بمناسبة أول عيد أضحى بعد إسقاط النظام ومقتل القذافي والتي يمكن أن نتبين منها أن القذافي ورغم تأكد مقتله ظل حينها يشغل الليبيين ميتاً مثلما شغلهم وشاغلهم وهو حي اثنين وأربعين عاماً وبقوة حضور لافتة للنظر. يمكننا أن نلمس من خلال استعراض نماذج من هذه الرسائل النصية العيدية درجة الانشغال بالقذافي، حيث يبدو ميتاً منتهياً في قسم منها بينما يبرز حياً ماثـلاً للعيان في قسم آخر. لا شك في أن هناك توتراً في الخيال الشعبي إزاء هذه المسألة وأن الجدل حول القذافي لم ينتهِ بعد رغم مرور سبع سنين على وفاته، بل قتله بطريقة بشعة بعدما تم أسره حياً وبأسلوب لا يمت بصلة لما تحتويه الثقافة اللليبية من قيم أخلاقية وإسلامية، وإن عبر عن درجة الحقد والكراهية التي تراجعت أمامها كل تعاليم الإسلام عن قيمة النفس البشرية وقواعد الحرب ومعاملة الأسير وعدم جواز القتل بلا محاكمة عادلة.

يمكن القول بأن جل الرسائل النصية التي أُتيح لي الاطلاع عليها سجلت الفرح الغامر بالخلاص من القذافي ونظامه. لقد اختار القسم الأعظم التعبير عن فرحتهم برسائل نصية لكنهم اختاروا خروف العيد في الغالب لينطق بلسانهم ويعبر عن فرحتهم!! هذا بلا شك يذكّرنا بالفيلسوف الهندي بيدبا وقصته الشهيرة كليلة ودمنة حيث الحديث في السياسة يتم بلسان الحيوان، كما يمكن هنا أن نتلمس آثار ممارسات وقمع القذافي، وهو ما يؤكد أن الدكتاتور يأخذ وقتاً أطول من موته البيولوجي لكي يختفي من المخيال والثقافة الشعبية. تقول إحدى هذه الرسائل: «كبش العيد سعيد وطاير! فرحان بثورة فبراير! كبش العيد امحول (أزال) صوفه خايف من قولة شفشوفة (إشارة للشعر المنكوش وغير المهذب للقذافي)! كبش العيد ضحك من جده (أي بجد) قال زمان عمورة (معمر) عدّى (ذهب لغير رجعة)! كبش العيد قال انعيد خير ما يقولوا مؤيد (أي اتفادي وصفي بتأييد القذافي)! كبش العيد اليوم اتهنى (ذاق الهناء) شفشوفة (تعبيراً عن شعر القذافي المنكوش) تفكينا منه! (خلصنا منه). بينما اختار بعض الليبيين ألوان العلم الجديد لليبيا أو رموزاً أخرى للتعبير عن الفرح بالتخلص من القذافي مثل قولهم: «غلاكم عندي غير الغير (أي أحبكم ليس مثل حب الغير)، سلام كبير، ايجيك يطير، يرفرف بجناحات حرير، مخطط بألوان التحرير(ألوان العلم الجديد)»!

لم ينسَ الليبيون استخدام الرمزية والحديث بلسان الخروف أيضاً. هنا يحضر القذافي شاخصاً بكل قوة حيث تستخدم وتوظف عبارات وكلمات من خطابه الشهير الذي هدد فيه بملاحقة المتمردين على النظام والمتظاهرين في كل حارة وشارع وبيت. من هذه الأقوال: «خروف ليبيا يتحدث لليبيين (وكأن القذافي يتحدث)!: هذه آخرتها يا ليبيين: خرفان مرتزقة! هذه آخرتها؟! سنزحف أنا والجديان (صغار الماعز) لتطهير الأسواق، سوق سوق، زريبة زريبة، سلخانة سلخانة (إشارة إلى قولة القذافي الشهيرة: زنقة، زنقة)، حتى نطهر البلد من التركي والروماني (الخراف المستوردة كأضاحي من تركيا ورومانيا)؟! أنا معي النعجات (إناث الغنم) ومعي الجديان! من أنتم؟ دقت ساعة الذبح، دقت ساعة الشواء، دقت ساعة العصبان (أكلة شعبية تصنع بأحشاء الخروف)! دقت ساعة القديد! إلى الأمام، كبدة، كبدة، وطني، وطني (خروف وطني).

هذه التعابير التي اتخذت من خروف العيد مادة لها ليست جديدة تماماً؛ فقد شهدت البلاد موجة مماثلة خلال عام 2009 عندما قرر القذافي مخالفة السعودية والمسلمين الذين كانوا يؤدون نسك الوقوف بعرفة والاحتفال بعيد الأضحى في يوم مختلف. عبّر الناس عن عدم قبولهم قرار القذافي بجعل يوم الخميس أول أيام عيد الأضحى، ورغبتهم المشاركة مع المسلمين بالعيد يوم الجمعة. وفي تلك السنة انتشرت رسائل نصية عبرت عن الرفض الشعبي لقرار السلطات الاحتفال بالعيد يوم الخميس واتخذت الخروف بطـلاً لها. من الأمثلة على ذلك: «كبش العيد امنزل دمعة.. حاير بين خميس أو جمعة».. «كبش العيد كتب وصية.. قال الجمعة ضحوا بيا».. «كبش العيد امنتش صوفه.. قال الوقفة مش معروفة».. «كبشي قدم احتجاج.. يريد العيد مع الحجاج».. «كبش العيد ركبله السكر.. بين خميس وجمعة يفكر»؛ «كبش العيد كفكف دمعه.. وقال الذبحة يوم الجمعة».. أما إحدى الرسائل فقد طرحت بسخرية حـلاً وسطاً لهذا الجدل عبر خروف صيني برأسين يذبح على يومين، تقول الرسالة: «بشرى سارة لليبيين.. تم تنزيل كبش صيني، دبل كبدة، ودبل راس، وينذبح على يومين، خميس وجمعة»‏[5]. من الواضح قوة التحاميل الرمزية في هذه النماذج أو العينات من الرسائل النصية التي تبادلها أغلبية مستخدمي الهاتف النقال أيام عيد الأضحى وهي معبرة بما فيه الكفاية للإشارة إلى أن القذافي وإن مات مادياً فهو يحضر في تمثلات التعابير الشعبية ولا يمكننا بطبيعة الحال القول بأن هذه التعبيرات ستعيش طويـلاً، لكن يمكن القول بأنها تعكس بداية تغير في المزاج السياسي في مستواه الشعبي.

وما يعزز هذا التطور الوجه الآخر أو المضاد لظاهرة الاستقطاب التي أشرنا إليها. هنا نعرض عيّنات لرسائل نصية هاتفية تداولها ليبيون يمكن الإشارة إليهم لا على أنهم «مؤيدون للقذافي أو أزلامه»، مثلما يوصفون من قبل الأطراف والقبائل أو المدن والتيارات التي عدّت ذاتها منتصرة، بل قطاع لا يمكن تجاهله من أبناء البلد الذين تبرز هذه الرسائل النصية التي تبادلوها الحاجة إلى تدابير لاستيعابهم وليس استبعادهم ووصفهم بنعوت غير لائقة منذ 2011 خدمت الأجندة السياسية القبلية والجهوية أو السياسية لبعض أطراف الصراع. تعكس الرسائل ميـلاً إلى استحضار القذافي واستدعاء مكونات سياسته على جميع المستويات. إن هذا يبين أيضاً تأثيرات السياق الذي قتل فيه القذافي وملابسات الدور الخارجي في إسقاط النظام على مخيلة قطاع غير محدد من الليبيين، وما لذلك من انعكاسات على أية سياسة تتبناها السلطات اللاحقة تجاه المناطق المنكوبة أو تجاه المصالحة والعدالة الانتقالية ومحددات المشاركة السياسية.

إن ما جرى من أحداث عنف واقتتال وسقوط ضحايا خلال السنوات اللاحقة لإسقاط النظام بين مناطق وقبائل ليبية مختلفة، وبخاصة في جنوب البلاد وغربها، أو بين من تم وصفهم بالمدن والمناطق الثائرة أو المنتصرة وتلك القبائل والمناطق الأخرى التي لا يزال يجري وصفها بأنها تضم مؤيدي أو «أزلام القذافي»، يمثل نوعاً من العنف الذي نجد له أيضاً تأسيساً في النكتة والطرفة ولغة التهكم السياسي التي بدأت تنتشر بين السكان. إن ما جرى في ليبيا لم يكن في الواقع صراعاً بين ثوار وبقايا مؤيدين للنظام المنهار بقدر ما كان تعبيراً عن صراعات ذات طابع قبلي، أو صراع جماعات من أجل السيطرة والنفوذ، وبخاصة بعد ما تبين أن ما قامت به أطراف سياسية أو أيديولوجية معينة كان يستهدف التأجيج وإخافة تلك المناطق والقبائل التي تمثل ثقـلاً سكانياً هائـلاً تمهيداً لاستبعادها من العملية السياسية التي توصف تجاوزاً بأنها ديمقراطية.

ما يمكن الإشارة إليه هو أن لغة التعابير السياسية الساخرة التي تبرز الآن لا تنفصل أيضاً عن أجواء التوتر السياسي والقبلي أو المناطقي الذي يصبح أكثر خطراً لامتشاق ممثليه السلاح في كل مكان. من هنا تكتسي التعبيرات التي نوردها هنا من نماذج هذه الرسائل النصية الهاتفية خطورة عالية إذا ما تبين أنها انتشرت في مناطق محددة من ليبيا لتكون تعبيراً عن حالة من الشحن العاطفي في مواجهة محاولات الإقصاء أو الاستبعاد السياسي مثـلاً. تشترك هذه الرسائل الهاتفية مع ما عرضنا له في ما تقدم في الأسلوب واللغة والرمزية أيضاً. من ذلك مثـلاً: «كبش العيد طلع مؤيّد (مؤيد للقذافي) وقال بدون معمر ما نعيّد!! كبش العيد دار (عمل) إعلان وقال ما نعيدش مع الجرذان! (أي لن يشارك (الجرذان) الثوار العيد). كبش العيد يبكي ويتمنى قال العقبة لبو شنة (العاقبة بالذبح لمصطفى عبد الجليل الذي قاد المجلس الانتقالي) كبش العيد دائماً زعلان، قال كله (أي كل ما يحدث) من الجرذان (بسبب الثوار)! كبش العيد حلف يمين بلا معمّر العيد حزين! كبش العيد يعيط (يصرخ) ووووه وووه راهو (إن) قائدنا قتلوه!!

من الواضح أن هناك تحولاً ما في الطريقة التي يتفاعل بها الليبيون مع الشأن السياسي معبراً عنه هذه المرة وفي مناسبة العيد بالموقف من القذافي. هذا التحول يستحق المتابعة وانتظار آثاره المحتملة على الثقافة السياسية الليبية، وعلى دور الفرد في الشأن العام، وترجمة ذلك على مستوى العلاقة بين المجتمع والدولة. هذا الأمر يكتسي أهمية مرحلية ومستقبلية، وخصوصاً أن ليبيا تمر بمرحلة انتقالية تتميز بالعنف والانقسام، ولكنها مع ذلك تبقى الإطار الزمني والموضوعي الذي سيتم فيه إقرار قواعد اللعبة السياسية والمستقبل السياسي لهذا البلد بوجه عام. إن لهذا أهمية كبيرة، خاصة إذا ما عرفنا أن بعض النكت أصبحت تجد مادتها في ما قامت به قبائل محددة أو سكان مناطق معينة من أعمال خاصة، بعد سقوط آخر معاقل النظام في طرابلس من سرقة ونهب للممتلكات العامة والخاصة، أو ما قامت به عناصر أو مكونات من قبائل ومناطق أخرى من أعمال باسم الثورة، رغم أنها كانت غير مساندة لها في البداية. الحقيقة أن التعبيرات التي تستخدم في هذه الحالة هي من الحساسية التي تجعلنا نُحجم عن إيراد أيٍّ منها هنا لما في مفرداتها من إثارة للنعرات.

كما تُظهر التعابير الساخرة والنكت السائدة اليوم أبعاد الصراع الذي انطلق منذ 2011 بين قوى الإسلام السياسي وقوى التطرف الإسلامي العنيف من جهة والقوى الوطنية أو الليبرالية والجهوية من جهة أخرى. ومع أنه ليس ممكناً اعتبار هذه الأخيرة قوى علمانية أو معارضة لإعطاء الإسلام مكانته في مجتمع كله من المسلمين، حيث تؤكد وتطالب بأن تكون الشريعة مصدراً للتشريع ورفض ما يخالفها، فإنها كانت، ومنذ 2011 وقبل أن يصمت دوي المدافع والرصاص، هدفاً لهجوم قوى الإسلام السياسي وحلفائهم في الداخل والخارج لإزاحتهم من المشهد والقضاء عليهم كمنافسين بوصفهم علمانيين، وربما ملحدين، سيقودون البلاد إلى الهاوية والليبيين المسلمين إلى جهنم إن هم انتخبوهم واختاروهم لقيادة البلاد. من هنا تبرز أهمية الإشارة إلى بعض التعليقات التي تداولتها الرسائل الهاتفية النصية في العيد والتي تناولت بقدر من التهكم وروح الدعابة ما جاء في خطاب رئيس المجلس الوطني الانتقالي بمناسبة إعلان تحرير ليبيا من نظام القذافي. لقد صورته بعض هذه الرسائل الهاتفية دكتاتوراً جديداً أو حاكماً بأمره، بينما ركزت رسائل أخرى على ما رآه كثير من الليبيين من اختيار غير موفق من طرف المستشار مصطفى عبد الجليل لقانون الزواج والطلاق كنموذج للقوانين الظالمة التي ينبغي إلغاؤها لعدم موافقتها للشريعة واضطراره لاحقاً إلى تعديل ما قال. استهجنت رسائل الليبيين الفكرة التي رأى فيها ليبيون ليبراليون، ومواطنون عاديون أيضاً، إشارة غير مريحة إلى ما يمكن توقعه من فرض لرؤية معينة بشأن التشريع.

من هذه الرسائل تلك التي تقول: «الولد (الشاب) الليبي يغني ويقول ثورتنا زين على زين وتتزوج واحدة واثنين!!»، والبنت الليبية تقول: يا قذافي ولي ولي (ارجع) ما نبوش (لا نريد) الحاج متولي!! (إشارة إلى المسلسل التلفزيوني المصري عن شخص باسم الحاج متولي متعدد الزوجات والذي قام ببطولته نور الشريف)، وهنا إشارة واضحة إلى موقف النسوة من مسألة تعدد الزوجات. بينما تستفيد رسالة أخرى من أخبار سورية لتمس ذات الموضوع قائلة: «واحد قال لزوجته مساكين السوريات (النساء في سورية) تشردن في الحرب! الواحد (الليبي) كان يأخد زوز منهم يربح فيهم أجر (لو يتزوج الليبي اثنتين من سورية يحصل له الأجر) قالت له زوجته: كان قلبك طيب لهاذي الدرجة (لو كنت حقاً طيب القلب) الزواج بالصوماليات أكبر أجراً!، مجاعة وعشرين سنة حرب!!! (واضحة إسقاطات اللون ومفهوم الجمال هنا). ولم يفت هذا القطاع من الليبيين أن يسجل رأياً حول مقتل القذافي وابنيه خميس والمعتصم مثلما اتخذ ذلك مناسبة للتعبير عن موقف وإن بدا عليه الوهن، فإنه يسجل وقائع لا يريد نسيانها حتى في مناسبة العيد بدون القذافي. الأهم هنا هو الحرص على استدعاء الدين من خلال الإشارة للشهادة والجنة التي تنتظر القذافي وأبناءه. من هذه القول: «يا عيد عيد الناس مانك عيدنا (الناس تحتفل بالعيد وهو ليس عيد لنا) الناس عيدت ونحنا استشهد سيدنا (القذافي). استشهد وراح خسارة هو وخميس ومعتصم في غارة (ماتوا بفعل غارة لقوات الناتو)، بجاه ربنا الشعب يأخذ بثاره!! هم تريس (رجال) وماتوا غدارة (غدرا)، وارفع رأسك يا مؤيد ومعمر في الجنة امعيد (يحتفل بالعيد).

ثالثاً: التعابير السياسية الساخرة وسياقات الصراع والعنف

يدخل الليبيون أعتاب مرحلة جديدة يشمل فيها التغيير كل شيء، حيث من الطريف أنهم يستعملون القذافي لأغراض مختلفة في آن واحد! إلى أي مدى سيظل القذافي حاضراً في خيالهم ومخيالهم وثقافتهم الشعبية أمر سيتحدد بلا شك بقدرة القادة الجدد على إعلان موت القذافي السياسي والمؤسسي والشعبوي إلى الأبد، وذلك مرهون بقدرتهم على مواجهة تحديات المرحلة الانتقالية بنجاح يستوعب كل الليبيين ويبدأ في بناء وطن للجميع. إن تجربة السنوات السبع التالية لإسقاط النظام لم تعزز أو تفتح آفاق التحول الديمقراطي السلمي وإنجاز العقد الاجتماعي الجديد، بل جلبت للواقع معاول هدم كثيرة وساهمت في إماطة اللثام، أو إحياء ما كان قد تراجع من تصورات، عن الذات والآخر في الداخل والخارج ولم تؤدِّ في النهاية إلا إلى الاصطدام بواقع مخالف للآمال والطموحات والتوقعات. إن أي فشل في تحقيق هذه الأهداف ومعالجة التحديات الواقعية المرتبطة بها من شأنه أن يفسح في المجال لمضامين أخرى حرصت إحدى الرسائل النصية الهاتفية على تسجيلها. هذه الرسالة تقدم تعريفاً للفرد الليبي بطريقة تستدعي السياسة بكل معانيها وأبعادها في الماضي والحاضر والمستقبل، مثلما تعكس ميـلاً إلى عدم المبالاة السياسية يهدد الطموح بإقامة ديمقراطية تقوم على المشاركة الفاعلة للمواطنين:

«تعريف الليبي قبل الثورة: هو كائن حي مكروه دولياً، مظلوم محلياً، مفلس مادياً، مشتت ذهنياً، فاشل عاطفياً، فارغ علمياً، متكهرب (متوتر) يومياً، يسمع بقروض وزيادة رواتب شفوياً، مريض نفسياً، مش فاضي (مشغول) كلياً، مكسد (حالة كساد) يومياً، ما عنداش (ليس لديه) رصيد نهائياً (رصيد هاتف)».

الأكيد أن الليبيين يطمحون إلى وضع أفضل على جميع المستويات. إن الأوضاع الحالية لليبيا ليست متوافقة لا مع طموحات وآمال أولئك الذين انتفضوا ضد نظام القذافي، ولا أولئك الذين يعتبرون ما تم مجردّ عمل خارجي قاده الناتو بمشاركة أطراف عربية لتدمير دولة قبل أن يكون مجرد استهداف لنظام دكتاتوري، أو أولئك الذين يعتقدون بشعبية الانتفاضة لكنهم يرونها تم استغلالها وتوجيهها دولياً وإقليمياً لخدمة مشروع لا علاقة له بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لذلك نجد اليوم صفحات التواصل الاجتماعي الليبية تعكس هذا الانقسام، وتنذر بصراع متواصل وتشظٍّ يهدد التماسك المجتمعي الليبي، ويهدد أسس الدولة الليبية ذاتها. تعكس التعابير السياسية الساخرة اليوم هذا التشظي والانقسام المتصاعد، ويظهر ذلك واضحاً في تعبيراتها المختلفة. هذه التعبيرات تتميز عن سابقتها زمن القذافي بتحررها، ولو مؤقتاً، من الخوف والرعب الذي كانت تثيره مجرد محاولة التفكير في الاستهزاء بالنظام وانتقاده ولو على سبيل النكتة البريئة. لكن هذه النكتة التي أضحت أكثر انطلاقاً لا تزال تحمل عبء الخوف من المستقبل وأحياناً التحسر على الماضي.

ومع أن التعابير المرتبطة بالقذافي بشكل مباشر، أو التي تتحسر على إسقاط نظامه؛ بما يمثله لقطاعات عريضة من الليبيين من يسر العيش والأمن ومجانية الخدمات وتمسُّك بالسيادة الوطنية، قد تراجعت بعد مرور سبع سنين على وفاته، فإنها لم تختفِ تماماً. فقد شهد عيد الأضحى لهذا العام بروز تعابير ورسائل نصية جديدة ساخرة؛ زاد من حضورها الوضع الأمني والسياسي المتدهور والمنذر بما هو أسوأ على كل المستويات، علاوة على أزمات السيولة والغلاء الفاحش للأسعار وعدم تمكن العائلات من تأمين سعر الأضحية. من بين تلك التعابير الساخرة القول بأن على المواطن الليبي الذي يدخل إلى سوق بيع الماشية ويخرج منه بدون أن يتمكن من شراء الخروف أو الشاة الأضحية، أن يقول دعاء الخروج من السوق: «الله يرحمك يا معمر القذافي»!

المواطن الذي يرى القهر بأم عينه في رابعة النهار والميليشيات تزدريه وتحتقره وتكيل له أبشع أنواع العنف المادي واللفظي وهو يقف في الطابور الطويل أمام البنك ليتمكن من الحصول على دنانير قليلة من حسابه الشخصي، وما إن يبدأ بعدِّها إلى أن يصل إلى الرقم 16 فيتجاوز الرقم 17 مستعيضاً عنه بتعبير «نهار أحرف» ثم يواصل عد نقوده فيصبح هذا التعبير كناية عن رغبة في عدم تذكر يوم 17 فبراير الذي انطلقت فيه الاحتجاجات ضد نظام القذافي في 2011 باعتباره يوم شؤم وسوء طالع. بينما يشير تعبير آخر إلى معنى مماثل فيقول «فبراير كيف السروال العربي لما تعوم به جو مليح وخفة، وبعدما تطلع يفضحك ويعرّيك.. بالضبط خشينا نعوموا (سبحنا في البحر) في الحرية قعدنا بلا ضي ولا امية (أصبحنا بدون كهرباء ومياه شرب)، أي أن فبراير (الانتفاضة) مثلها مثل السروال العربي (البنطلون الشعبي الليبي المصنوع من قماش خفيف إذا ابتلّ يكشف ما تحته من الجسد)، إذا سبحت وأنت ترتديه فهو خفيف ولا يعيق الحركة، لكن بمجرد الخروج من البحر فإنه يكشف عورتك أو يعريك أمام الخلق، وذلك تعبيراً عما يعتقده قطاعات عريضة من الناس أن الانتفاضة لم تحقق ما حلموا به بل جعلتهم عرايا، كناية عن غياب الحرية والافتقاد لما كان مضموناً أيام القذافي من ضرورات الحياة كالكهرباء ومياه الشرب، أو السلع المدعومة والوقود والعلاج المجاني وهي خدمات أو حاجات أضحت بعيدة المنال.

أما التردي الذي لحق بالوضع الاقتصادي وأثر سلبياً بشكل هائل على معيشة الأغلبية فقد كان هو الآخر موضوعاً لآخر موجة من التعابير الساخرة خلال العامين الماضيين. هكذا يتم التعبير عن أزمة عدم توافر رغيف الخبز والغلاء الفاحش الذي أصابه بكاريكاتير يصوِّر جدْياً (صغير الماعز) وهو يقف بباب أحد المنازل حيث طفل صغير فيخاطبه الجدْي قائـلاً: «اسأل أمك عندكم خبز؟ قتلنا الشر» (لقد فتك بنا الجوع)، وذلك في إشارة إلى أزمة رغيف الخبر وارتفاع أسعاره ونقص وزنه عن المحدد قانوناً بعدما كان الليبيون يطعمون المواشي الخبز لوفرته ورخص سعره. بينما يصور رسم كاريكاتور آخر شخصاً وهو غارق تماماً في مياه آسنة لكنه مع ذلك يرفع كلتا إبهامَي يديه راسماً علامة تبين أن كل الأمور على ما يرام، وذلك كناية عن أن الليبي البسيط يبقى صامتاً ولا يجاهر بالرفض أو الاحتجاج رغم أنه غارق في وحل الأزمة الاقتصادية الخانقة والغياب شبه الكامل للأمن، بل ويظهر أنه راضٍ عن الأوضاع المزرية رغم مرور سبع سنين على إسقاط النظام.

نجد اليوم الليبيين، وهم يعيشون الارتدادات السلبية المدمرة لما حصل في 2011، يعبِّرون بسخرية وهزل سياسي عمّا يواجهونه من خوف وانعدام للأمن وهيمنة لقوى التطرف وسطوة للميليشيات، ناهيك بالفساد المستشري بمستويات غير مسبوقة وانسداد الأفق السياسي وتهديد الكيان برمَّته. تلك التعابير كما تتجلى في الرسائل النصية الهاتفية مثـلاً، وإن عبّرت عن حالة المواطن المسحوق الذي أصابه الإحباط، وربما اليأس من أي أفق للتغيير الإيجابي وبناء دولة المواطنة والحقوق والتنمية، فإنها تتأثر بأجواء الرعب والخوف وتراجع مستوى حرية التعبير التي تلت إسقاط النظام ولفترة محدودة؛ حلّت محلها هيمنة لقوى سياسية أرادت فرض رؤيتها على الجميع بدعاوى الثورة أو الديمقراطية أو الإسلام، فصادرت حرية التعبير وكمّمت أفواه المثقفين والصحافيين والنشطاء، وأصبح من اليسير قتل، أو تغييب أو خطف هؤلاء، بل والمواطن العادي، لمجرد تعبيره عن رفض أو ازدراء الواقع المؤلم، أو رفضه واستيائه من هيمنة تلك القوى التي لا تعدم وسيلة لاتهامه باستعمال حجج تتصل بالانقسام السياسي أو الأيديولوجي.

هكذا تعود ليبيا للمربع الأول، ويمكن لنا أن نتمثل مجدداً ما قاله فاتسلاف هافل عن نظام «ما بعد الشمولية» والصراع بين آمال الناس وطموحاتهم ومصالح ورؤى القوى المهيمنة والمتصارعة التي لا تأبه لمعاناة الناس وحرمانهم وتراجع قدرة المواطن الليبي عن تأمين حاجته الأساسية. ومثلما تقرر مبروكة الورفلي فإن التعابير السياسية الساخرة في ليبيا في عهد القذافي عكست القيود على الحريات والتعبير وغياب وسـائـل التعبير الحر فكانت «وسيلة للمقاومة كونها تتصدى للخوف والاضـطـهـاد والقمع وتسعى لخلق توازن نفسي لدى الفرد والجماعة. فهي بإيجاز، مقاومة الخوف والظلم بالضحك والسخرية المتحفظ من الضحك». ورغم التغيير الكبير الذي حصل في 2011 وما صاحبه من تحولات في المزاج الليبي وفي سمات الثقافة السياسية السائدة، فإنها ليست سوى أحد أسلحة الضعفاء.

الوضع اليوم يذكرنا بما كان عليه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عندما تعرّضت ليبيا لشحّ الموارد وللعقوبات الغربية عليها بحجة الانخراط في الإرهاب ودعمه. التعابير الساخرة التي ظهرت حينها بدت جديدة على الثقافة الشعبية الليبية التي بدأت أولاً في تلييب النكت السياسية المصرية وتبيئتها لتنطلق بعدها اليوم إلى النكتة الليبية الصرفة. «فالسخرية لم ِ تأتِ بشكل النكتة المباشرة فقط بل أخذت أيضاً طابعاً تراثياً يعمل على استغلال شهرة قصيدة أو نشيد ذائع الصيت أو أغنية ومن ثم تحريف كلماتها لتحمل جوهر الرسالة المراد إيصالها»‏[6]. حينها كانت السخرية صارخة وربما عدوانية تجاه النظام وسياسات التقشف والتضييق على العباد في حياتهم وتراجع مستوياتهم الحياتية وما واجهوه من شح ومكابدة للحصول على الضروريات، بينما تراجع مستوى خدمات التعليم والصحة وغيرهما من القطاعات الحيوية بصورة مخيفة، مع انتشار للفساد غير المسبوق في مستوياته وانتشاره وانهيار للبنى التحتية، وهي الظواهر نفسها التي يعيشها المواطن الليبي اليوم بعد سبع سنين من إسقاط نظام القذافي الذي لا يمكن المجادلة الآن في أنه كان إسقاطاً للدولة أيضاً. وبينما يتبادل الليبيون الطرفة أو النكتة بـسخرية مريرة فإنها تُعبّر عن يأس الليبيين من إصلاح الطبقة السياسية الحاكمة اليوم، فقد صاروا أكثر لجوءاً إلى التعابير السياسية الساخرة للتعويض عن الإحساس بـنتائج وآثار إخفاقات أداء قادة وساسة ما بعد القذافي، وخصوصاً في الجانب الاقتصادي‏[7].

وكما تستخلص مبروكة الورفلي، فإن التعابير السياسية الساخرة منذ ٢٠١١ لم تعد مقتصرة على انتقاد الساسة أو السلطة، بل إن نطاقها اتسع ليشمل «السخرية من الـذات، وعبر عن إحباط الشعب من نتائج ثـورة فبراير»[8]. كما تعبِّر عن خيبة الأمل من أولئك الساسة الذين كانوا معارضين للقذافي طوال عقود من الزمن وينتقدون مظالمه؛ إلا أنهم وبمجرّد أن ذاقو حلاوة السلطة ومغرياتها رفضوا التنازل عنها أو أصبحوا أكثر فساداً ويرتكبون أعتى المظالم والجرائم وانتهاكات حقوق الإنسان، التي اعتبرتها منظمات حقوقية ترتقي لجرائم الحرب. هكذا تدخل التعابير السياسية الساخرة في ليبيا مرحلة جديدة وتقوم بوظائف لا تختلف عمّا كانت تؤديه في الماضي، إنها مجرد سلاح الضعفاء الذين لا قوة لهم. الطرفة والتعابير السياسية الساخرة في ليبيا مرشحة ومؤهلة للتطور لتتخذ مضامين أكثر إحاطة بالوضع المتدهور، وسط الآمال المتكسرة على صخرة التنافس على السلطة والموارد والتدخل الأجنبي، ولكن دون أن تتحرر من الخوف والحذر الذي لازمها منذ عقود مضت. لن يتغير الوضع إلا إذا تمكن الساسة وأمراء الحرب والميليشيات من تصحيح الأخطاء والتنازل عن مواقعهم لصالح مشروع وطني جديد يعيد الاعتبار للناس وقضاياهم بديـلاً من الصراع «والمساهمة في المصالحة الوطنية لبناء ليبيا الغد وإعادة البسمة لشفاه الليبيين»‏[9].

 

قد يهمكم أيضاً من المغرب العربي  الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي: كيف وإلى أين؟

حول ليبيا أيضاً بعد القذافي  دور الهجرة القسرية في تشظي النسيج الاجتماعي: حالة المجتمع الليبي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #القذافي #ليبيا_بعد_الثورة #النكتة_السياسية #النكتة_الشعبية_في_ليبيا #دراسات