مقدمة:

يندرج هذا المجهود ضمن محاولة إثارة أحد أهم وأعقد الأسئلة على الإطلاق وهو سؤال منشأ الديمقراطية؛ فهل هي قيمة عالمية ترتكز على التراث الغربي الذي يدافع عنها على أنها تقليد يوناني، أم أنها قيمة إنسانية أنتجتها التقاليد البشرية على مدار التاريخ الإنساني؟ هل الديمقراطية مثلها مثل قيم العدالة وقيم المساواة أصبحت غير قابلة للتناظر حولها، أم هي ممارسة غربية إثنومركزية متعالية تتجاوز الخصوصيات الثقافية والتاريخية والاجتماعية للمجتمعات؟

عموماً هناك إجابتان أساسيتان لهذه الأسئلة قدمتها المدارس المنهجية والفلسفية الكبرى؛ ففي الشق المنهجي الإجابة قدمتها النقاشات بين التوجهات الوضعية والمابعد وضعية في المناهج، وفلسفياً أثير النقاش بين التوجه العالمي والتوجه التاريخي للقيم الإنسانية.

الخطاب الأسسي يدافع أن الديمقراطية قابلة للتطبيق خارج منشئها الغربي وبدون أي اعتبار لمعطيات الزمن والمكان، لأنها محكومة بقوانين وأسس ثابتة أنتجها السياق التاريخي الغربي في عصر الأنوار.

أما الخطاب اللاأسسي (Anti Foundationalisme) فينتقد العقلانية والستاتيكية والنرجسية في الفكر الغربي، ويحاول الإلحاد فكرياً ومعرفياً بالعقلانية الغربية التي أماتت الله وألهت الإنسان.

الطرح الأسسي هو الذي فرض ضرورة انتشار الديمقراطية في البيئات غير الغربية من دون أي احترام للسياقات التاريخية والثقافية، أما الخطاب اللاأسسي ما بعد الحداثي فيعتقد أن هذا التوجه فيه الكثير من الاستبداد والتعالي والبديل هو احترام السياقات القيمية للمجتمعات غير الغربية.

هذا الإيمان بعالمية الديمقراطية جعل منظمة اليونسكو في تحقيقاتها عام 1949 تقول بأن الديمقراطية أصبحت بدون أعداء، بحيث إنه لأول مرة في التاريخ العالمي لا يوجد مذهب يقدم نفسه كمناهض للديمقراطية، والديمقراطية أصبحت تحظى بالاعتراف على أنها الشكل الأكثر قبولاً كتنظيم سياسي واجتماعي.

إذاً الطرح الأسسي العالمي يقول بأن الديمقراطية فكرة عالمية ينشدها الجميع في مواجهة الطرح النسبي اللاأسسي الذي يدافع عن مقولة أن الديمقراطية منتوج سوسيوثقافي وتاريخي جعلته بعض الظروف حقيقة واقعية؛ فالطرح الأول يقدم الإجماع حول إطلاقية قيمة الديمقراطية، أما الطرح الثاني فيقدم الديمقراطية كمنتوج سوسيوثقافي وتاريخي معيَّن.

السؤال المركزي في هذا النقاش هو: هل الجميع يجب أن يصبح ديمقراطياً وبنفس الشكل؟ وهل الديمقراطية «قاعدة ومبدأ» وغيابها يعني الاستثناء وغير الطبيعي؟

أخذت الإجابة شكلين: الشكل الأول، وجهة النظر العالمية (Vision Universaliste): الديمقراطية قدر الجميع وهي فكرة مفتوحة على العالمية لأنها أضفت مدلولاً عالمياً على العدالة، القانون، السياسة وتتبناها الأطروحات المذهبية التقليدية والحديثة للقانون الطبيعي، الحق الطبيعي، وحقوق الإنسان، وتأسست على الطبيعة عند القدامى، والله عند الفلاسفة المسيحيين والعقل عند الحداثة.

الشكل الثاني، وجهة النظر النسبية (Vision Relativiste): تنطلق من كون الحداثة تأسست على وجهة نظر مغلقة عن التاريخ، وحسبهم فإن كل فكرة أو قيمة أو نظام تبقى معرفة وتفهم انطلاقاً من التاريخ، ومن التاريخ وحده، وأي تصور مطلق عن الديمقراطية يعتبر قناعة ميتافيزيقية حسب ليو شتراوس‏[1]..

أولاً: الطرح الأسسي العالمي لقيمة الديمقراطية

سئل أمارتيا سن من طرف إحدى المجلات اليابانية المشهورة عن أهم حدث في القرن العشرين، فقال بأنه يجب التفكير لأن هذا القرن عرف «نهاية الإمبراطوريات الفرنسية والبريطانية، وعرف حربين عالميتين، كما عرف صعود وسقوط الفاشية والنازية، هذا القرن شاهد أيضاً على صعود الاشتراكية وتفككها، وعرف تحولات عميقة في الصين وفي أنظمة التوازن الاقتصادي العالمية… ويبدو أن الحدث الأكثر أهمية هو صعود الديمقراطية وانتصارها وتوجهها لأن تصبح الشكل الوحيد المقبول للحكم»‏[2].

وأصبحت الديمقراطية كذلك لأنها حققت الحرية السياسية التي تعتبر جزءاً من الحرية الإنسانية، وتضمن ممارسة الحقوق المدنية والسياسية، وهي ضرورات تضمن الحريات الفردية والجماعية. والمشاركة السياسية ضرورة إنسانية يقتضيها التجمع الاجتماعي، كما أن الديمقراطية قيمة أداتية (Valeur Instrumentale) وعملية تضمن الحديث والاستماع، وحرية المطالبة، وقبول اختلاف المطالب، كما أنها قيمة تعطي للمواطنين فرصة التعلم من الآخرين، وتساعد المجتمعات على أن تعطي شكلاً معيناً لقيمها ولأولوياتها وهي أيضاً قيمة بنائية (Valeur Constructive)‏[3].

إن القول بأن فكرة معينة هي فكرة عالمية يعني حدوث القبول والإجماع والاعتراف في كل مكان من العالم مثلما أعلن الماهاتما غاندي «اللاعنف» كقيمة عالمية، وأعلن روبيندرانات طاغور (Robrindranath Tagore) «حرية الفكر» كقيمة عالمية، وتحول الجميع إلى بداية القبول بالديمقراطية كقيمة عالمية وبالتالي تفكيك الأفكار المسبقة عنها‏[4].

هذا لا ينسجم مع الاختلافات الثقافية التي قد تعيق طرح العالمية بحيث إن بعض المجالات الثقافية تتمسك بترتيب خاص لسلَّم قيمها، فمثـلاً الآسيويون يرتبون قيمة الانضباط قبل الحرية السياسية، وقيم التسامح والمجتمع قبل الفرد والنزعة الفردانية‏[5].

يرتكز الطرح الأسسي العالمي على التراث الغربي لذلك قال موساس فينلاي (Moses Finlay): «إنهم الإغريق الذين أوجدوا الديمقراطية، وليس الديمقراطية فحسب وإنما السياسة أيضاً»‏[6].

وهذا بالرغم من أن اليونان لم يعرفوا عن الديمقراطية سوى الممارسة في عهد «بريكليس»، فلم يكونوا منظرين لها بل اخترعوا الكلمة ومارسوها فقط حسب مقولة توسيدايد (Thucydide) في كتابه تاريخ الحرب البلوبونزية.

فالديمقراطية هي ممارسة يونانية ولكن سيادة الشعب كانت حصيلة النضال التاريخي الذي رافق تطور التجمعات السياسية من الدولة المدينة، ثم الإمبراطورية، ثم الدولة الدينية، ثم الأنظمة الإقطاعية الملكية إلى غاية ظهور الدولة القومية التي تأسست على مفاهيم سيادة الشعب. ورافق هذا التطور التاريخي تطور في الكتابات السياسية ابتداءً من أعمال توما الإكويني التي بدأت تؤسس للمضمون العلماني للسلطة ثم أعمال جون لوك وجان جاك روسو وسبينوزا.

يكتب هانس كلزن (Hans Kelsen) أن الديمقراطية هيمنت على عقول القرنين التاسع عشر والعشرين إلى حدٍ كبير، ويستند تعميم الديمقراطية كنموذج إلى طرح أنها الشكل الشرعي الوحيد لجميع المجتمعات الإنسانية، وهو حلم إيمانويل كانط حول «الجمهورية العالمية»، ونفس رأي كريستيان برودهاغ (Christian Brodhag) الذي قال إن: «الديمقراطية هي الشكل الوحيد الذي يلقى قبولاً من طرف الجميع، وهي الشكل الوحيد للتنظيم السياسي الصالح لجميع الشعوب»‏[7]. وهو نفس الكلام الذي فضله فرنسيس فوكوياما لبداية كتابه: نهاية التاريخ وخاتم البشر؛ الذي قال فيه بأن الشكل الليبرالي للديمقراطية يبقى الإلهام السياسي المتجانس الوحيد الذي تجمع عليه كل المناطق والثقافات الموجودة في العالم، فالديمقراطية هي قدر الجميع لأنها تضمنت فكرة الحرية والمساواة‏[8].

ويدافع ألكسيس دو توكفيل (Alexis de Tocqueville) عن أهمية السياقات التاريخية والتجارب الإنسانية التي أنتجت الديمقراطية، وعموماً تظهر عنده على أنها نتاج الميراث الثقافي الغربي، وحالياً لا أحد يمكنه أن يطبق معنى للديمقراطية يتجاوز المدلول الذي تطور في الغرب، هذا النموذج الديمقراطي بشكليه المؤسسي (الاقتراع العام، الفصل بين السلطات، التعددية الحزبية، البرلمانات، نظام الحقوق والحريات الشخصية)، وبشكله القيمي (العلمانية، العقلانية، الفردانية، الحرية) أصبح معروفاً بالمرجعية الغربية، لذلك فالدول التي تنتقل إلى الديمقراطية تنتظر التزكية من الغرب حتى تنال شرف «الوصف الديمقراطي»، وهذا التوجه فيه الكثير من العنف الأيديولوجي والثقافي والتاريخي لأنه مؤسس على الهيمنة.

يظهر الطرح العالمي في شكل تجاوز هوياتي وتاريخي وسوسيوثقافي، وهو طرح يؤسس لنموذج عابر للمجالات السياسية(Tans-espace Politique)  – حتى وإن كانت غير قادرة على تحمله وتقبله واستيعابه‏[9]. ويقع خلف هذا التوجه فلسفات عقل التنوير ومخرجات الثورات الكبرى التي دافعت على أن قيم الحرية والعدالة تمثل الجوهر الذي تشترك فيه الإنسانية لذلك فهي صحيحة أينما وجدت، وكل نظام يحكم عليه وعلى شرعيته من خلال العودة إلى هذه الحقيقة المطلقة، كما أن الديمقراطية أصبحت ضرورة، ونشرها مهمة نبيلة وثورية حتى وإن اقتضى الأمر «أساليب غير ديمقراطية»‏[10].

إن الحركات الثورية في أوروبا وأمريكا وصفت الديمقراطية على أنها «قدر الجميع الذي لا يمكن تجاوزه، إنها الوعي والضمير السياسي الجديد للإنسانية، كما تمثل المعيار الوحيد للنظام السياسي الجيد والعادل، فالتاريخ في حالة الديمقراطية يتكثف في لحظة مطلقة؛ لحظة يهيمن ويسود فيها شكل نهائي وعقلاني للمجتمع والدولة، ولذلك فانتشار الديمقراطية حالياً ليس فقط امتداداً لجاذبية قيمية، وإنما هو انتشار مسنود بالقوة «قانون الأقوى»، إنها جاذبية مفروضة بالقوة لضمان الانتشار والاحترام»‏[11].

هذا التبرير يجد له عدة أعمال مدافعة أهمها على الإطلاق أعمال:

– جون بيشلر (Jean Baechler): تبرير طبيعي للديمقراطية.

– فرانسيس فوكوياما: تبرير نيوهيقلي للديمقراطية.

1 – التبرير الطبيعي لجون بيشلر

يقدم بيشلر الديمقراطية كشكل طبيعي للحكم لجميع المجتمعات الإنسانية، فالمجتمعات السياسية تحكم ديمقراطياً كحالة طبيعية، وهو نفسه طرح سبينوزا الذي قال بأن الديمقراطية هي الأكثر طبيعية لأنها الأكثر قدرة على احترام الحرية الطبيعية للأفراد، وحسب بيشلر هناك ثلاث مراحل للديمقراطية‏[12]:

  • العيش في ديمقراطيات هو طريقة زيادة الحفاظ على الذات.
  • وتاريخياً ومنذ لحظات البداية يجد الناس أنفسهم في بيئات ديمقراطية.

ويحاجج بيشلر بقوة بأن الديمقراطية شرط طبيعي للإنسانية، والمماليك والإمبراطوريات تمثل استثناءات يجب تفسيرها لأنها لم تعمر طويـلاً والعقد الطبيعي الأصيل كان دوماً ديمقراطياً، كما أن المجتمعات البدائية لم تعرف إلا أشكالاً من السلطات الديمقراطية‏[13].

فجوهر الإنسان ككائن حر، سيد، أناني، عقلاني، لا يمكن أن تحفظه إلا الديمقراطية، وإذا فقد الإنسان جوهره فقد حريته، فالإنسان ديمقراطي بالطبيعة وبهذا فصفة العالمية في الديمقراطية مرتبطة بالصفة الطبيعية‏[14]. وبهذا فخيار الديمقراطية هو خيار الطبيعة الذي وجد الناس أنفسهم فيه منذ الأزل، واستثناءات العيش تحت أنظمة تسلطية هو نتيجة ظروف تاريخية لانحرافات السلطة عن مقاصدها.

وطرحُ بيشلر ليس شاذاً بحيث نجد آراء أخرى تسانده بقوة في التبرير الطبيعي للديمقراطية وبخاصة طرح دومينيك فلوشيد (Dominique Folscheid) الذي يبدأ من التساؤل التالي: هل الديمقراطية تمثل نموذج الوساطة السوسيوسياسية التي تستطيع تحقيق إنسانية الإنسان؟، ويجيب أن: «الديمقراطية هي النظام الوحيد العالمي والضروري لأنها الوحيدة التي تجيب على مقتضيات جوهر العالمية وضرورات الإنسان، ومهما كانت ثقافة ودين وتاريخ وحضارة أي شخص فإنه يرفض أن يحكم كحيوان، ولذلك فإنه دائماً يطلب أن يحكم كشخص حر»‏[15]. وهذا ما يعبر عنه والتر ستايس (Walter Stace) بأكثر حزماً ووضوحاً: «الحرية، المساواة، والفردانية هي كلها قيم تعبر وتنسجم مع عقلانية الإنسان، لذلك يجب أن نحكم بسلطة العقل وليس بسلطة القوة لسبب بسيط وهو أننا بشر ولسنا بهائم، فالحياة الأصلية للإنسان هي التي تحكم بالجزء الأكثر قداسة وعلواً فيه إنه عقله، وفكرة القطيع تفرض عليه حكم القوة، ولأنه كائن عقلاني فإن الحكومة الوحيدة التي تنسجم مع طبيعته هي الحكومة التي يحكمها ويتقبلها العقل»، ويختصر ستايس كل ذلك في قوله: «أن تكون إنساناً يعني أن تكون عقلانياً، وأن تكون عقلانياً يعني أن تكون ديمقراطياً» ‏[16](To be human is to be Rational, and to be rational is to be democratic).

2 – تبرير فرانسيس فوكوياما

يقدم فرانسيس فوكوياما تبريراً «نيوهيغلياً» يستند فيه إلى فلسفة التاريخ الخطية التي أسست للدولة العقلانية المؤسسة على الحرية، وهي النهاية لكل المسارات التاريخية، هذا التوجه يقول بأنه لا يمكن أن يحدث تغير تاريخي نحو تطور أكبر، وهذا ما يثبته توجه النموذج الديمقراطي إلى التوسع جغرافياً وزمانياً نحو مزيد من الشرعية والتقبل، والديمقراطية أصبحت في جميع الإدراكات تمثل الحل الأمثل لجميع مشاكل الإنسانية‏[17].

وحسب فوكوياما فإن الديمقراطية الليبرالية هي الحقيقة الأخيرة للسياسة التي أثبتت تاريخياً للجميع، ولذلك أصبحت الخيار والتوجه الأصيل لأي عملية انتقال أو إصلاح سياسي.

إنه طرح إثني، مركزي، نرجسي فيه الكثير من عدم التبصر ونقص في العلمية، كما أنه يعبر عن درجات ومستويات عالية من العنف القيمي والأيديولوجي الذي يسوَّق في شكل خطاب علمي ولكن في الأساس هو خطاب «القوة» التي انتصرت في نهاية القرن العشرين، فالمنتصر له الحق في أن يفرض شروط لعبته، وأن يشرعن منظومته القيمية بدون أبسط درجات الإمعان والاحترام للخصوصيات الثقافية والاجتماعية للبقية.

وفي ختام هذا الكلام يمكننا أن نشير إلى ملاحظة دقيقة لمحمد أركون الذي تتبع المشروع الفكري ما بعد الحداثي وقال بأن أكثر الفلاسفة جرأة وتقدماً ونقداً للمركزية العقلانية الأوروبية والغربية كفوكو، وجاك ديريدا، ويورغن هابرماس لم يستطيعوا تجاوز حدود التراث الأوروبي، وحتى مؤلفات «هابرماس» حول الخطاب الفلسفي للحداثة لم تتعرض أبداً للدين ولا نجد فيها أي كلمة عن الإسلام الذي يعتقد به أكثر من مليار ونصف المليار نسمة‏[18].

ما يعانيه كبار الفلاسفة الأوروبيين هو تجاهلهم وإهمالهم للثقافات غير الغربية وللبعد الديني، والملاحظ أن جميع مفكري الحداثة وما بعد الحداثة في أوروبا كانوا ضحايا ما يسمى في أوروبا بعلمنة الفكر (La Sécularisation de la Pensée)، وضحايا للعقلانية المنفصلة عن أي بعد ديني، وهذا ما أسس للدوغمائية (الانغلاق) والمركزية الإثنية والفكرية في الغرب‏[19].

ثانياً: الطرح اللا أسسي النسبي لقيمة الديمقراطية

من خلال ما سبق حول الطرح الأسسي تظهر درجات العنف الأيديولوجي والثقافي في التوجه العالمي الذي يحاول فرض وتعميم الديمقراطية، لأنه طرح يتجاهل فكرة أن الديمقراطية هي قيمة لشعب ما، وزمن ما، ولمجتمع تاريخي معين.

لا يمكن للديمقراطية أن تكون وضعاً لاتاريخياً ولانضالياً لأنها مشروع لرجال حقيقيين تقودها قناعات حقيقية أثر فيهم التاريخ والسياق السوسيوثقافي الذي ينتمون إليه.

هذا الطرح يعتقد بأن البداية من اليونان في التأريخ للديمقراطية فيه الكثير من التجاهل العنصري للتاريخ الإنساني، وفيه نفي لتعاطي اليونان مع الحضارات السابقة كالحضارة المصرية، الإيرانية والهندية‏[20].

وقد ذكر أمارتيا سين حواراً بين ألكسندر الأكبر وجماعة من الفلاسفة الهنديين حتى يثبت وجود المعارضة للسلطة في التقاليد الهندية.

هذا الحوار بدأ بسؤال ألكسندر الأكبر للفلاسفة قائلاً لهم: لم تقللون من مهابة الأكبر؟ فأجابوه: «أيها الملك ألكسندر، لا يمكن لشخص أن يملك من الأرض أكثر من الأرض الموجود فوقها، فأنت إنسان مثلنا جميعاً باستثناء أنك مميز وتعيش كذراع للجميع ولنفسك، إنك قريباً ستموت وبعدها لا يمكنك أن تملك إلا قطعة أرض تدفن فيها وليس على ظهرها»‏[21].

وقد أصبحت الهند فيما بعد أكبر ديمقراطية في العالم غير مؤسسة على المضمون الغربي للحرية والتعددية، لقد تأسست على التسامح بدلاً من التعددية وعدم التجانس، وخطابات «جواهر لال نهرو» ركزت على النقاشات العامة، وعلى كيفية استغلال مبادئ الهند القديمة في الهند الحديثة. وقد توصل رئيس اللجنة المكلفة بالدستور الهندي بيم راو أمبيدكار (B R Ambedkar) من خلال دراسة تاريخ الحكومات المحلية إلى أن تاريخ الهند مليء بقبول الآراء المختلفة ورفض عدم المساواة.

حسب أمارتيا سين فإن قيمة التسامح موجودة بقوة في الحضارة الشرقية أكثر من الغرب لأن تجارب هتلر مع اليهود، فرنسا، وبريطانيا، والبرتغال في المستعمرات لا ترقى لمواقف صلاح الدين مع ريتشارد قلب الأسد في عصر الفتوحات، وقد رفض الفيلسوف اليهودي «ميمونيد» (Maimonide) البقاء في أوروبا لأنها أقل تسامحاً وفضل الذهاب إلى المنطقة العربية، وحديثاً أبدت التجارب العربية والإسلامية قابلية كبرى لاحتواء وتعايش اليهود والمسيحيين، وهذا ما أشارت إليه ماريا روزا مينوكال‏[22] في كتابها: أندونيسيا العرب وثقافة التسامح؛ وقالت بأن اليهود تحولوا مع قوة المسلمين من أقلية مضطهدة إلى أقلية محمية‏[23].

وقد جادل «ريمون فردييه» (Raymond Verdier) بقوة بأن المجتمعات الأفريقية ما قبل الاستعمار عرفت نماذج لمجتمعات مناهضة للدول ورفضت السلطات الفردية وأسست تقاليد مناهضة للسلطة، وكل هذا تم تناسيه بسبب هيمنة نموذج الدولة الوطنية الغربية‏[24].

وبسبب هذه التقاليد التاريخية للممارسات الديمقراطية ظهر العديد من القناعات التي تدافع عن ضرورة تقبل الديمقراطية لفكرة التعددية الثقافية، وكذا إسهام كل الثقافات والحضارات الإنسانية في تطوير نموذج الحكم الديمقراطي.

وأهم من دافع عن هذا الطرح نجد أعمال دافيد هلد (David Held) خاصة كتابه نماذج الديمقراطية (Models of Democracy) والذي يرفض فيه التصنيفات التي تقصي بعنف إسهامات النماذج غير الغربية في الديمقراطية. ويطرح هلد سبعة نماذج للديمقراطية ليثبت بأن الديمقراطية لا تأتي من عقل واحد، أو من حقيقة تاريخية واحدة، أو نظام حكم سياسي واحد، ويجادل بكونها ربما تكون المنتوج الظاهر للحضارة الغربية التي تعود إلى أثينا والنهضة والإصلاح الأوروبي وعصر العقل، ولكنه يذكر الجميع بمقولة أن الحضارة الغربية هي جزء من الحضارة الإنسانية، وبهذا فالمزاعم الاحتكارية الغربية تمثل مزاعم إقصائية ومتعصبة إثنياً‏[25].

إذاً هل الحرية والديمقراطية قيم غربية، وهل يمكن استبعاد البقية من أي إسهام في تطوير مضامينها.

تقدم باتريسيا سبرنغبورغ‏[26] عمـلاً تحاول فيه تبديد المقولة التي تدافع عن أن الليبرالية تيار يتدفق في اتجاه واحد من الغرب إلى الشرق، وتحاول إظهار الشرق – خاصة الحضارة المصرية وحضارة ما بين النهرين – على أنه قدم العديد من النماذج الأولية للمؤسسات الليبرالية، وتذكرنا بدور العرب في نقل التراث اليوناني ومحافظتهم عليه‏[27].

ولذلك يجب أن نستوعب درجات الهيمنة الموجودة في العالم؛ فسابقاً كانت الهيمنة بالقوة العسكرية واحتلال الجغرافيا والأقاليم، لكن حالياً الهيمنة وجدت طريقها لاحتلال العقل، فالجميع يتوجه إلى النمطية التي يفرضها تصور متعالٍ مركزي إثني يتأسس على قناعة أن الغرب حائز مفاتيح الحضارة، والبقية هم برابرة تائهون بين الاستبداد ونماذج المعرفة اللاهوتية والميتافيزيقية.

وحسب حسن حنفي فإن المهمة الأولى أو الجيل الأول من الاستعمار كان يستهدف الجغرافيا، أما الجيل الثاني منه فيستهدف ثقافات الشعوب وهو ما يصنفه ضمن محاولات «التغريب»، فدولة ما بعد الاستعمار حاولت فرض «المشروع الأحادي للأمة المتخيلة»، وهو مشروع غير قادر على الانسجام مع التراث الاستعماري الذي زعزع نموذج الدولة الوطنية، كما أن الصراع بين الأنا والآخر الذي كرسته فترة الاستعمار قد استمر فيما بعد فشكل نظرة دونية من الغرب اتجاه البقية‏[28].

وحسب حسن حنفي دائماً فإن الثقافة الغربية مركزية وعنصرية لذلك حاولت هذه المركزية فرض التراث الغربي كحضارة للإنسانية، وفرض مقولة أن تاريخ العالم هو تاريخ الغرب، وتاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلسفة الغربية‏[29].

عموماً هناك ثلاثة مواضيع تخلق الحساسية مع النموذج الغربي: أولاً، الأسس الأخلاقية للحياة الإنسانية؛ ثانياً، التوجه الاستعماري والفوقي للحضارة الغربية؛ ثالثاً، الطابع المادي وسيادة مبدأ اللذة.

إن القول بوجود حضارة عالمية هو قول غربي متناقض مع خصوصيات الشعوب في أفريقيا وآسيا، وهو في جوهره طرح نسبي فيه الكثير من التناقض، وهذا ما يكشفه «كابوري بونيفاس» في قوله: «التفكير الذي يقول بالعالمية هو في الأساس تفكير غير عالمي»‏[30].

 

وفي جوهر هذا التفكير رغبة في اكتساح بقية النماذج التي تعبر عن الاختلاف والتعدد الطبيعي في المجتمعات الإنسانية.

1 – التوجهات الفكرية التي تحاول معارضة المركزية الغربية

هناك أربع مدارس فكرية تحاول زعزعة المحورية والمركزية ومبدأ العقل بمعناه المطلق (logos) عند اليونان:

  • الحركة النسوية في مواجهة الطابع الأبوي والذكوري للسياسة.
  • ما بعد الحداثة في مواجهة إنسانية عصر التنوير والثبات العقلاني.
  • حركات التضامن العالمي في مواجهة خطاب العولمة ومركزية الدولة.
  • تعددية الثقافات (الكوزموبوليتانية) في مواجهة الأحادية الثقافية والتفوق الإثني.

هذه التيارات الفكرية تواجه مجتمعة المبدأ العقلي المسيطر للذكورة والعقلانية والعنصرية والقطرية وتدخل في معركة إزالة الأسسية عن القوالب الجاهزة (Defoundationalising)‏[31].

ترفض كل هذه الطروحات وجود أسس للديمقراطية ولا ترفض الديمقراطية في حد ذاتها، فالممارسات السياسية غير متجذرة في حقيقة موضوعية، بل تطورت ويمكن أن تواصل التطور بفعل مصادفات الثقافة والتاريخ حسب مقولة ريتشارد رورتي (Richard Rorty)، لذلك فالديمقراطية – حسبهم – لا تحتاج إلى دعم فلسفي وإنما إلى وضوح فلسفي، كما أن اللاأسسية تتجاوز خطابات الصدام الحضاري لأنها تستوعب الاختلاف والتنوع وتعطي فرصة للوجود لكل التيارات، بما في ذلك التيارات الإسلامية‏[32].

الأسسية من منظور إسلامي أو عربي تمثل شكلاً من أشكال رسائل التمدين، لأن هذا التعميم يتم دون مراعاة للخصوصية التي تفترض بأن الممارسة السياسية تنشأ كنتاج للتجربة الإنسانية (تاريخياً، ثقافياً، ولغوياً)، ومبادئ العلمانية والفردانية هي نتاج مخاض تاريخي للحروب الدينية والفكرية في الغرب فكيف يمكن أن يعمم على الجميع؟، ولهذا فإن التصور الشرقي والعربي والإسلامي عموماً يتوجه إلى الطابع الإجرائي للديمقراطية أكثر من التركيز على شروطها الأسسية والقيمية.

2 – الطروحات والحجج المابعد حداثية المناهضة للأسسية

تعتبر ما بعد الحداثة وجهة نظر نقدية عالمية مرتبطة بأعمال نيتشه وهيدغر وفوكو وديريدا وليوتارد وغيرهم من المفكرين الذين استهدفوا مركزية وفوقية العقل الأوروبي وعموماً‏[33]:

أ – تقدم ما بعد الحداثة تفسيراً متنوعاً، خلاقاً، ونقدياً للحداثة، وترى أن العقلانية لا تقدم تفسيراً عميقاً وتاريخياً لما هو إنساني.

ب – هي حركة فكرية ترفض الإقصاء، والشمولية، والانحياز.

ج – هي توجه تعددي يفكك أنظمة العلم والمعرفة التي تكرست مع الحداثة.

د – تقدم ما بعد الحداثة وجهة نظر بشأن إشكالية الديمقراطية أكثر مما تقدم نظرية سياسية خاصة بها.

تشكك ما بعد الحداثة في المقولات الأسسية التي أنتجتها الحداثة، في فكرة حيازة الحقيقة المطلقة، وتشكك في مقولات المعرفة الصرفة والعلم الصرف، وتتكلم على أن ما تأسس كبنى معرفية وسياسية وقيمية يمثل امتداداً لهيمنة العقل الذي أنتجته مرحلة الأنوار والإصلاح في أوروبا.

ما يهمنا في فكر ما بعد الحداثة هو تفكيك الخطاب الغربي ونزع القدسية عنه، وبالتالي إتاحة الفرصة أمام الفضاءات الأخرى لإنتاج المعرفة والأنظمة والقيم؛ إنها الطريقة والمنفذ للخصوصيات وللطروحات غير الغربية.

وفي ما يخص الديمقراطية فإنها تصبح مطالبة – حسب المابعد حداثيين – بمزيد من الديمقراطية في ذاتها أي تقبلها للاختلاف ولبقية التصورات الآتية من مختلف السياقات المعرفية والقيمية والتاريخية.

ترفض اللاأسسية في خطاب ما بعد الحداثة أساس المعرفة الثابت، وبالتالي فإنها تمثل توجهاً غير مركزي، غير عنصري، غير إثني، وغير استبعادي، إنها تروِّج المعرفة النسبية والمرجعيات غير الثابتة؛ فالمعرفة تتأثر بالمكان والزمان والثقافة واللغة، لذلك تجعل من المعرفة عضوية ووليدة السياقات التي تنتج فيها، وهذا ما يذهب إليه «بلايك» (N Blake) الذي يرى بأن المعرفة ظرفية وسياقية بالنسبة للمجتمع والتاريخ الذي تنشأ فيه‏[34]. لذلك حسب «جاك دريدا» فإن الأسسية أنتجتها الحداثة، واللاأسسية أنتجتها الما بعد الحداثة كتوجه تعددي في مواجهة الخطاب الأحادي للحداثة، واللاأسسية عموماً كانت موضوعاً لأعمال «كوين»، «رورتي»، «وغدامر»، «ديوي»، و«إيدجنستن»، و«هايدغر»‏[35].

كل هذه الكتابات تتمسك بالنسبية، فالفكر البشري في جميع تجلياته الفلسفية، العلمية، الدينية والتصورات الأخلاقية كلها ظرفية ولا تملك إلا مصداقية مؤقتة، كما أن المستقبل موجه عن طريق التاريخ وفق مقولة هايدغر‏[36].

مشكلة المشروع الفلسفي الغربي من «جان بول سارتر» صاحب مقولة موت الله، إلى نيتشه وهايدغر هي تسليمه بأن الإنسان تم التخلي عنه ليواجه بمفرده الفراغ الكبير الناتج من تصحر الغرب من الألوهية ومن الوجود الديني‏[37]. لذلك تأسس المشروع المعرفي الغربي على الطابع الوضعي العلماني للمعرفة، كما تركز حول الثقة في العقل والطابع الوضعي للعالم، ولكن هذا الكلام أصبح نسبياً جداً مع المشروع المابعد حداثي الذي بدأه نيتشه يوماً بقوله: «لا توجد ظواهر أخلاقية بقدر ما توجد تفسيرات أخلاقية للظواهر»‏[38].

وهـو توجـه ميشيل فوكو نفسه الذي حاول استجواب مشروع عصر التنوير ورفض عجرفته وتعاليه، كما انتقد الأيديولوجيات الكبرى الليبرالية والماركسية، ويقول بتردي مشروع عصر التنوير الذي يتبنى التحرر عبر السيطرة، وهذا ما أنتج فكرة الأنا والآخر الذي لا يشعر بالطابع الإنساني للمشروع الغربي لذلك يلجأ إلى الممانعة والرفض‏[39].

ما يهم هو أن محاولة تفكيك الغرب أو الديمقراطية ينتج الآخرية والدونية، ويثير الحساسيات المتعلقة بالمركزية والفوقية الغربية، وهنا يمكن الإشارة إلى فكرة «فهمي هويدي» وحتى «الغنوشي» التي تقول بأن المنطقة العربية – مثـلاً – تمانع كمجال معرفي وثقافي متميز، وقد طرح فهمي هويدي سؤالاً فيه الكثير من الدلالة: هل العولمة تعني فرض ذوق الغرب ونمط حياته على العالم‏[40]؟

الإجابة عن هذا السؤال بالإيجاب يعني الاعتراف بالخصوصيات الثقافية وهو جوهر الطرح المابعد حداثي واللاأسسي بشكل عام لأنه يستهدف المركزية الغربية التي تعبر عن مرض طفولي يحاول أن يصبح الغرب فيه مركزاً للكون فكرياً وقيمياً.

باختصار يتبنى التوجه المابعد حداثي مشروعاً جديداً هو إرجاع المفاهيم إلى بيئتها التاريخية والخروج من الكهوف الفلسفية الغربية، لأنه كهف تاريخي وثقافي لأهله.

إننا بصدد توجه يقول بالتنوع اللامتناهي لطرق الحياة وأنظمة القيم، وتصورات ما هو جيد وما هو خيّر، وفي الأصل لا توجد ثقافة مطلقة ولا قيمة مطلقة، كما لا يمكن الحكم على ثقافة معينة انطلاقاً من قيم أخرى تحددت معانيها داخل نموذج ثقافي آخر، والمعرفة ليست مطلوبة لذاتها وإنما كانت دوما وسيلة حسب مقولة نيتشه، كما أنه لا يوجد ما هو خارج التاريخ ولكن يوجد التاريخ وفقط، والفلسفة هي ابنة وقتها كما قال بذلك «هيغل»‏[41].

هذا النقاش حول نسبية وثقافوية وتاريخية القيم والمفاهيم تلخصه الأسئلة التالية:

  • كيف يمكن للإنسان الذي يتموقع تاريخياً وأنطولوجياً أن يتبنى حقائق أزلية ويخضع لقيم مطلقة؟ وكيف يمكنه أن يتبنى قيماً تقع خارج تاريخه؟

وهذه الأسئلة تؤطرها مقولة أن: «فكرة العالمية في حد ذاتها أنتجها سياق تاريخي وثقافي معين»‏[42].

لذلك فالديمقراطية يجب أن تتخلص من انتمائها للمجال المعرفي الغربي، وتتوجه إلى استيعاب الاختلاف وتقبل النماذج الديمقراطية التي لا تتأسس على أسسها التي تطورت في الغرب، إنه ليس ضرورياً أن ترتبط الديمقراطية بالشكل الليبرالي، أو أن تتبنى الطابع العلماني أو النموذج الرأسمالي الاقتصادي، إنها نظام للتفاوض ولمنع احتكار السلطة وتثبيت الشرعية.

ثالثاً: الديمقراطية واستيعاب السياقات التاريخية والثقافية

يدعونا «إيسايه برلين» (Isaiah Berlin) في كتاباته إلى ضرورة التفريق بين نوعين من العقل الإنساني، أو نوعين من الرؤية عن القضايا الإنسانية‏[43].

  • رؤية تنظم حياتها وأفكارها حول وجهة نظر مركزية وأحادية للعالم.
  • ورؤية متعددة للعالم (Vision Pluraliste) تتبنى اختلافاته وتناقضات المجتمع الإنساني، وهي رؤية وفية لتحبيذ المفارقات.

وعموماً هناك عدة إشكاليات متعلقة بالنقاش بين عالمية الديمقراطية وتاريخيتها، بين أسسية الديمقراطية ولا أسسيتها وأهمها:

  • كيف يمكن أن نبقى أوفياء للحقيقة وللعقل بدون أن نتوجه إلى المغالاة في المركزية الإثنية (L’Ethnocentrisme)؟
  • كيف يمكن الوفاء للعالمية بدون الإقبال على تشويه الاختلافات؟

هذه الأسئلة طرحها أندريه كونت – سبوتفيل (André Comte-Sponville) في كتابه القيمة والحقيقة، ويعتقد بأن أي إجابة يجب أن تخرج من حيزها الدوغمائي المغلق، بمعنى تجاوزها للعقل المغلق الذي يعتقد بأنه يحوز الحقيقة بدون أن يهتم بالإجابات الممكنة لدى الآخرين.

التعاطي الحالي مع الديمقراطية يتجاهل التاريخ والقيم والثقافات، والاختلافات الإنسانية الموجودة، إنه طرح نمطي حتمي يتأسس على أن الديمقراطية هي «الحقيقة الأخيرة للسياسة»، وهي أعلى ما أنتجه العقل البشري في تنظيم العلاقات فيما بين السلطة والمجتمع. وهو قول فيه الكثير من التعصب، وقد عبر بهيخو بورخ (Bhikhu Porekh) عن ذلك بالقول: «كل ثقافة تحوي في نظرتها للعالم، للإنسان، للمجتمع، تصوراً متميزاً وخاصاً للفرد، وتحدد طبيعة العلاقة التي تربطه بالجماعة الاجتماعية، ولذلك ليس هناك شيء أكثر إشكالية من محاولة فرض تصور معين للفرد ولعلاقته مع مجتمعه تحت وصف المبادئ العالمية»‏[44].

وحسب هذا الرأي فإنه يجب أن نفرق حالياً بين الديمقراطية الغربية وبين الديمقراطية الحديثة، ويلخص بهيخو بورخ ذلك في مقولة أخرى قال فيها إن: «مفاهيم مثل الفردانية، الحقوق، الملكية، ومضامين بعض المؤسسات مثل الانتخابات، التعددية الحزبية، فصل السلطات لا يمكن جعلها بالضرورة عالمية، فالانتخابات بالشكل الغربي تعتبر مكلفة جداً في بعض الدول الفقيرة وقد تكون طريقاً إلى الفوضى، ومسلكاً خطيراً جداً في بعض الدول المتعددة إثنياً ودينياً وقيمياً وخاصة في المجتمعات التي توظف اختلافاتها القيمية والأيديولوجية. الانتخابات هنا تصبح طريقاً إلى التقسيم والتوظيف الخطير للخطابات الهوياتية، هذه المجتمعات يمكنها أن تحكم بطرق أخرى تركز على التوافق والإجماع وعلى أدوات أقل تحزباً واستقطاباً في اختيار حكامها وإدارة شؤونها»‏[45]. وفي هذا دعوى لتكييف الأدوات والآليات الديمقراطية مع السياقات التاريخية والثقافية والاجتماعية، وهو الطرح الذي يتبناه أكثر الباحثين تحكماً في الإشكاليات الحديثة المتعلقة بالديمقراطية وخاصة أعمال يورغن هابرماس (Jürgen Habermas) الذي تكلم عن المضمون الجديد للأمة وللديمقراطية بلغة مغايرة حينما قال: «كل حقبة زمنية تؤسس للمفاهيم العملية والأخلاقية الأساسية لأنوارها الخاصة»‏[46]. ومعنى هذا أن كل شعب يمكن أن يجعل من الديمقراطية أداة تهتدي بتاريخه وإرثه الثقافي، وخاصة في حالات المجتمعات المتعددة ثقافياً والتي لا تملك تصوراً موحداً حول الجماعة السياسية، أين تصبح الديمقراطية مرادفاً للفوضى وللاحتراب الأهلي‏[47].

ولتجاوز هذه المحاذير والإشكاليات فإن التوجه الحالي يتبنى فكرة أن انتشار الديمقراطية يجب أن يكون في شكله العملي الممارساتي أكثر من شكله القيمي، وفيما بعد يتم ترسيخها وفق أنطولوجيات المجتمعات والسياقات التاريخية المختلفة.

حالياً هناك لحظات تاريخية تدعو إلى ضرورة إعادة النظر في الفكر الأسسي، كما أن الديمقراطية وبقية التوجهات الفكرية والدينية دخلا في حالة تنافس وجدل قوي، هذا الجدل فرض العديد من التنازلات النظرية والمؤسساتية لأن هناك تداخـلاً فعلياً في الهويات حتى عند المواطن الواحد، فأصبحنا أمام مواطن أمريكي مسلم، ومواطن ألماني عربي وبالتالي ضرورة الخروج من الطابع الأسسي للتكيف مع «المواطنة المركبة»‏[48].

وتحت هذه الأوضاع يجب أن يتخلص مفهوم الديمقراطية من التوجهات الأسسية كما قال «ليفورت» ويتجه إلى الابتعاد عن الحتمية، والمركزية، والديمقراطية. يجب أن تتجنب الطابع الجامد والإقصائي الذي لا يستوعب التنوع والاختلاف لتصبح تمثل قاعدة للتعدد كما وصفها «كونولي»‏[49].

النموذج الغربي هو قيمة مفروضة تسندها عوامل موضعية للقوة، وإذا افترضنا بأن النموذج المهيمن هو النموذج الصيني أو الماليزي فإنه يمكن أن تصبح قيمه هي القيم التي يراد للعالم أن يتبناها، وقد حدث ذلك في التاريخ ولذلك فإنه لا يوجد نموذج (Paradigme) ثقافي مشترك للإنسانية، وإنما توجد تقاليد وطنية مختلفة حسب مقولة جوزف دي مايستر (Joseph de Maistre).

ومع ذلك فإنه يمكننا القول بأن مسارات الحداثة كانت دائماً عالمية، ولكنها في نفس الوقت تتحقق في ظل السياقات الخاصة بكل مجتمع حسب طرح سوديتا كافيراج‏[50].

وهو رأي فرد داليمار (Fred Dallmayr) نفسه الذي تمسك بقوة بهذه المزاوجة بين الأبعاد العالمية والأبعاد الخاصة في دفاعه عن السياسة المقارنة، ولذلك تدعونا «كافيراج» إلى التعلم من النظرة الاجتماعية الغربية بدون أن نرسم بها المستقبل، أي أننا لا يمكننا أن نأتي بها قبل أن يبدأ التاريخ والسوسيولوجيا‏[51].

وحتى لورنس وايتهد توصل إلى القناعة نفسها بحيث يقول بأنه كلما توجهنا إلى تطبيق النموذج الغربي للديمقراطية فإنه يجب أن نتخلص من الكثير من الأعباء التي اكتسبها المفهوم من خلال التضخيم التاريخي والقيمي، ولذلك فالديمقراطية كمفهوم يجب أن تتقبل التعددية‏[52].

خاتمة

حاولت هذه الدراسة تحريك النقاش النظري بين من يقول بأن الديمقراطية هي منتوج عالمي وإنساني ومن يقول بأنها مجرد امتداد لتجلي هيمنة الغرب الحديث في جميع المجالات، وهذا النقاش مسنود بإرث عريق من الأدبيات النظرية والتجارب التاريخية. ولقد حاولنا تقديم حجج وبراهين كل طرح سواء المدافعة عن أن الديمقراطية هي قيمة عالمية وإنسانية، أو التي تدافع عن أنها مجرد قيمة غربية.

ومن خلال كل القراءات السابقة لأدبيات الديمقراطية وكذا استبصار مختلف التجارب التاريخية تشكلت لدينا قناعة حول المفهوم الذي يجب أن ينتشر، فالديمقراطية يجب أن تتخلص من طابعها الأسسي، وإذا أرادت أن تصبح قيمة عالمية يجب أن تكون بدون أسس وتتوجه إلى تبني الخصوصيات وتقبل بالتناظر حولها، ولا تفرض الأشكال القيمية والأيديولوجية على كل السياقات السوسيوسياسية بدون الأخذ بعين الاعتبار لمحاذير الخصوصية، لأن الثقافات غير الغربية ثقافات ترتكز على قيم أخرى بديلة للحرية مثل قيم تقديس العمل في آسيا، وقيم التسامح في الهند والعالم الإسلامي، والقيم الجماعية في المجتمعات المتدينة.

لذلك فمفهوم الديمقراطية الذي يتناسب مع الحالات غير الغربية هو المفهوم اللاأساسي الذي لا يشترط أي أسس للديمقراطية كما لا يعلقها بأي ظرف تاريخي أو اجتماعي أو ثقافي، وهو توجه يستوعب البدائل الممكنة القادمة من مختلف السياقات السوسيو ثقافية.

والتجارب المقبلة على الانتقال غير معنية بالإرث القيمي والتاريخي؛ لذلك يفضل التوجه اللاأسسي المراهنة على التوجه الإجرائي في تعريف الديمقراطية الذي يستورد الآليات والأدوات بدون أن يستورد معها أنظمة القيم التي لا تتناسب مع السياقات الثقافية والتاريخية والاجتماعية للمجتمعات العربية.

إن استمرار ربط الديمقراطية بالقيم التي أنتجتها الحداثة والصيرورة التاريخية للحضارة الغربية هو الذي يعيق انتشارها خارج بيئتها الغربية، خاصة في المجتمعات التي لا تقبل بأشكال العلمانية الراديكالية والمجتمعات التي تجعل من الجماعة قيمة إنسانية أكثر من الفردانية، فقيم مثل العلمانية والعقلانية والفردانية ليست بالضرورة هي القيم التي تناسب الجميع لأنها في الأساس نتاج مطارحات وصراعات تاريخية وليست قدر الجميع ومصيرهم.

لذلك يجب على الديمقراطية أن تعامل كآلية لتدوير السلطة والحكم وليس كآلية لتغيير المجتمعات بشكل قيمي وأيديولوجي.

 

قد يهمكم أيضاً  حرية التعبير بين القانونين الدولي والداخلي : المبادئ والقيم والحدود

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الديمقراطية #التعددية_الثقافية #القيم #العلمانية #العقلانية #العالمية

#دراسات