مقدمة

تطور مفهوم المستقبل، كما تطورت النظرة إليه، مع تطور الفكر البشري، من نظرة ترى المستقبل «قدراً محتوماً» رسمته وخطّطت له قوى خارقة لا يمكن تجاوز تخطيطها بأي حال من الأحوال، ولا يملك الإنسان حيالها خيارات تُذكر، إلى نظرة تنطلق من مبدأ الصيرورة وقدرة الحياة على التجدّد، وترى في المستقبل بعداً زمنياً يمكن التحكّم في صورته. فنحن ـ كما قال بريغوجين (Prigogine) ـ «لا نستطيع التكهن بالمستقبل، لكننا نستطيع صناعته»[1].

وقد أتاحت الحالة الراهنة ـ طبقاً لماكهايل (McHale) ـ للمعرفة الإنسانية والعلمية والتكنولوجية للإنسان قدرة هائلة «لاختيار مستقبله الجماعي والفردي»[2] على حدّ سواء، فليس ثمة مستقبل «إلا كما نريده نحن»[3]، وكل كائن حيّ ـ كما يقول جان بول سارتر ـ «يخلق مستقبله وعليه أن يتحمّل المسؤولية كاملة عن هذا الخلق»[4].

وقد رصد كورنيش ـ في مطلع السبعينيات من القرن العشرين ـ تغيّريْن مهميْن في نظرة الناس إلى المستقبل: أولهما أن الناس أصبحوا على قناعة بإمكانية دراسة المستقبل. وثانيهما هو الاعتراف بأن المستقبل عالم قابل للتشكيل، وليس شيئاً معدّاً سلفاً. والبشر لا يسيرون مغمّضي الأعين نحو عالم جبري تنعدم فيه حرية الاختيار، بل إنهم شركاء فاعلون في تكوين عالم المستقبل[5]. لذا فدراسة المستقبل ليست ترفاً لأناس يهتمون بالتأمل في مصيرهم، بل مغامرة لها تكاليفها التي ترتفع إلى شرف المقصد، وجهد مركّب يحتدم الجدل حول «ماهيته»، ولا يختلف حول «أهميته»، وضرورة توطينه في الوطن العربي.

أولاً: ماهية الدراسات المستقبلية

تأخر ظهور المنهجيات العلمية للدراسات المستقبلية ـ رغم ثراء التراث الفكري والفلسفي المهتم بالمستقبل ـ حتى ستينيات القرن العشرين. وفي تتبّعهم لبداياتها المنهجية، رصد مؤرخو المستقبليات أعمالاً لمفكّرين وأدباء وعلماء أرهصت مبكراً للمنهجية العلمية للدراسات المستقبلية. بعضهم ردّ هذه البدايات المنهجية إلى القرن التاسع عشر، كما في النبوءة الذائعة الصيت التي ارتبطت بـ مقال في السكان للقس الإنكليزي الشهير توماس مالتوس الذي عرض فيه رؤية مستقبلية تشاؤمية للنمو السكاني. وردّها البعض الآخر إلى المفكر الفرنسي كوندرسيه في كتابه مخطط لصورة تاريخية لتقدم العقل البشري، نشر في عام 1793، واستخدم فيه أسلوبيْن منهجييْن في التنبؤ ما زالا يستخدمان ـ على نطاق واسع ـ من قبل المستقبليين المعاصرين، وهما التنبؤ الاستقرائي (Extrapolation)، والتنبؤ الشرطي (Conditional Forcasting)، وقد ضمّ الكتاب تنبؤات مذهلة تحققت في ما بعد، كاستقلال المستعمرات في العالم الجديد عن أوروبا، وزوال ظاهرة الرقّ، وانتشار الحدّ من النسل، وزيادة إنتاجية الهكتار. ومنهم من ردّها إلى جهود لينين في التخطيط المركزي للاتحاد السوفياتي السابق (1928 ـ 1931)، إلى أن تمكّن الإنسان لأول مرة في السبعينيات ـ بفضل تطور المعرفة العلمية وتقدم التكنولوجيا ـ من وضع المستقبل في إطار علمي دقيق. لكن الجدل ظلّ محتدماً لا يستقرّ ولا يهدأ حول ماهية الدراسات المستقبلية وتكييف طبيعتها، حيث توزّعت الآراء على مروحة عريضة من التباينات بين قائل يراها «علماً»، وآخر يصنّفها «فناً»، وثالث يعتبرها في منطقة وسطى بين العلم والفن، أو «دراسة بينية» تتقاطع فيها التخصّصات وتتعدّد المعارف.

1 ـ على صعيد العلم، ثمة إجماع بين مؤرخي المستقبليات على أن هربرت جورج ويلز ـ أشهر كتّاب روايات الخيال العلمي ـ هو أول من صكّ مصطلح «علم المستقبل»، وقدم إضافات عميقة في تأصيل الاهتمام العلمي بالدراسات المستقبلية، ودعا صراحة في محاضرة ألقاها في 26 كانون الثاني/يناير 1902 أمام المعهد الملكي البريطاني إلى «علم المستقبل»، وقام في ما بعد بتأصيل دعوته، في مؤلفاته: تكوين الإنسان (1902)، واليوتوبيا الجديدة (1905)، وشكل الأشياء المستقبلية (1933)، وجميعها تدور حول حياة وهموم الأجيال المقبلة[6]. ودعا كولن غليفلان (Colnn Gliflann) في صياغة أكثر إحكاماً إلى وجود علم للمستقبل أطلق عليه «ملنتولوجي» (Mellontology) ـ وهي كلمة مشتقّة من كلمة «المستقبل» اليونانية ـ في أطروحة مقدمة إلى جامعة كولومبيا عام 1920‏[7].

وثمة اتفاق على أن أوسيب فلختهايم (Ossip Flechtheim) هو صاحب مصطلح «علم المستقبل» (Futurology)، وقد ظهر المصطلح في عام 1943 مؤذّناً بميلاد علم جديد يبحث عن منطق المستقبل بالطريقة نفسها التي يبحث فيها علم التأريخ عن منطق الماضي[8].

وقد أعاد فلختهايم في كتابه التاريخ وعلم المستقبل الذي نشر في عام 1965 استخدام هذا المصطلح، ودعا إلى تعليم هذا العلم في المدارس. ويميل فلختهايم إلى اعتبار «علم المستقبل» فرعاً من علم الاجتماع، وأقرب إلى علم الاجتماع التاريخي، رغم ما بينهما من اختلافات أساسية، فبينما يهتم الأخير بأحداث الماضي، يستشرف «علم المستقبل» أحداث الزمن القادم باحثاً في احتمالات وقوعها.

2 ـ يؤكد برتراند دي جوفنال (Bertrand de Jouvenal) فى كتابه فن التكهّن (1967) (The Art of Conjecture) أن الدراسة العلمية للمستقبل «فن» من الفنون، ولا يمكن أن تكون علماً، بل ويصادر دي جوفنال على ظهور علم للمستقبل. فالمستقبل ـ كما يقول ـ ليس عالم اليقين، بل عالم الاحتمالات، والمستقبل ليس محدداً يقيناً، فكيف يكون موضوع علم من العلوم[9].

وفي معرض نقده لمقولة فلختهايهم عن «علم المستقبل» (عام 1973) يرى فريد بولاك (Fred Polak) في كتابه تصورات المستقبل أن المستقبل مجهول، فكيف نرسي علماً على المجهول[10]. وتسمية «علم المستقبل» تسمية مبالغ فيها، توشك أن توحي بأن المستقبلية تدرك بوضوح غايتها، وقادرة على بلوغ نتائج مضمونة حقاً، وهو أمر مخالف للحقيقة. ولأنها أقرب إلى «الفن» عندما تحاول وصف المستقبلات الممكنة، فإن الخيال ضروري في الدراسات المستقبلية لاستنباط المتغيّرات الكيفية التي لا تقبل القياس. فالعلمية والعقلانية لا تنفيان وجوب الاستعانة بكل ضروب الخيال. فالدراسات المستقبلية عند روبرت جنك (Robert Jungk) تحتاج إلى أفكار مجنونة، وإلى حرية الكرنفال، وإلى غير المسموح، وغير المرئي، وغير المعقول، وإلى التفكير في ما لا يجرؤ الآخرون على التفكير فيه[11].

3 ـ ويصنّف اتجاه ثالث الدراسة العلمية للمستقبل ضمن «الدراسات البينية» باعتبارها فرعاً جديداً ناتجاً من حدوث تفاعل بين تخصّص أو أكثر مترابطيْن أو غير مترابطيْن، وتتم عملية التفاعل من خلال برامج التعليم والبحث بهدف تكوين هذا التخصّص. ويؤكد المفكّر المغربي مهدي المنجرة «أن الدراسة العلمية للمستقبل تسلك دوماً سبيلاً مفتوحاً يعتمد التفكير فيه على دراسة خيارات وبدائل، كما أنها شاملة ومنهجها متعدد التخصّصات» (Multidisciplinary). وهي في رأي آخرين نتاج للتفاعل بين العلوم الطبيعية والعلوم الاجتماعية، وهي ليست علماً، وإنما تبني رؤاها على العلوم المختلفة. إنها مجال معرفي بيني (Interdiscipline) متداخل وعابر للتخصّصات وتقنياته من كل المعارف والمناهج العلمية، ومفتوح على الإبداعات البشرية التي لا تتوقف في الفنون والآداب والعلوم. ورغم نموه المطرد، وتأثيره الكبير، فهو سيظل مفتوحاً للإبداع والابتكار.

وفي استطلاع للرأي تبنّته الجمعية الأمريكية لمستقبل العالم حول الاسم الذي ينبغي إطلاقه على هذا النوع من الدراسات، ونشرت نتائجه في مجلتها الشهرية (Futurist) (شباط/فبراير 1977)، اتجهت الغالبية العظمى من الآراء (72 بالمئة) نحو تفضيل مصطلح الدراسات المستقبلية ومرادفاته، بينما صوّت لمصطلح «علم المستقبل» (Futurology) 14 بالمئة فقط. وقد كان تقريراً صادراً عن الحكومة السويدية في عام 1974، قاطعاً في رفضه لمصطلح «علم المستقبل»، وانحاز عوضاً عنه إلى مصطلح «الدراسات المستقبلية».

وتعتبر الجمعية الدولية للدراسات المستقبلية أن الدراسة العلمية للمستقبل هي مجال معرفي أوسع من العلم يستند إلى أربعة عناصر رئيسية هي[12]:

أ ـ أنها الدراسات التي تركّز على استخدام الطرق العلمية في دراسة الظواهر الخفية.

ب ـ أنها أوسع من حدود العلم، فهي تتضمن المساهمات الفلسفية والفنية جنباً إلى جنب مع الجهود العلمية.

ج ـ أنها تتعامل مع مروحة واسعة من البدائل والخيارات الممكنة، وليس مع إسقاط مفردة محددة على المستقبل.

د ـ أنها تلك الدراسات التي تتناول المستقبل في آجال زمنية تتراوح بين 5 سنوات و50 سنة.

وفي كتابه تفكير جديد لألفية جديدة (1996) يعترف سلوتر (R. Slaughter) بأن إطلاق صفة متعدد التخصّصات على الدراسات المستقبلية وصف دقيق ومجال جديد من الدراسات الاجتماعية هدفه الدراسة المنظّمة للمستقبل[13]. ويحدد هارولد شان (Harold Shan) الغرض من هذا التخصّص العلمي الجديد في مساعدة متخذي القرارات وصانعي السياسات على الاختيار الرشيد من بين المناهج البديلة المتاحة للفعل في زمن معيّن، وبالتالي فإن الدراسات المستقبلية لا تتضمّن فقط دراسة معلومات الماضي والحاضر والاهتمام بها، ولكنها تستشرف المستقبلات البديلة الممكنة والمحتملة، واختيار ما هو مرغوب منها.

وعلى الرغم من غياب الإجماع على ماهية الدراسات المستقبلية، علم هي أم فن أم دراسة بينية، فإنها تأخذ من كل ذلك بنصيب. لذلك تظل مجالاً إنسانياً تتكامل فيه المعارف وتتعدّد، هدفها تحليل وتقييم التطورات المستقبلية في حياة البشر بطريقة عقلانية وموضوعية تفسح مجالاً للخلق والإبداع الإنساني. وهي لا تصدر نبؤات، ولكنها اجتهاد علمي منظّم يوظف المنطق والعقل والحدس والخيال في اكتشاف العلاقات المستقبلية بين الأشياء والنظم والأنساق الكلية والفرعية، مع الاستعداد لها ومحاولة التأثير فيها، فالمستقبل ليس «مكتوباً»، وليس معطى نهائياً، ولكنه قيد التشكيل، وينبغي علينا تشكيله. والدراسات المستقبلية لا تقدم مطلقاً صورة يقينية ومتكاملة للمستقبل، كما أنها لا تقدم مستقبلاً واحداً، فالمستقبل متعدّد وغير محدد، وهو مفتوح على تنوّع كبير في المستقبلات الممكنة.

ثانياً: أهمية الدراسات المستقبلية

حاول إنشتاين تبرير اهتمامه بالمستقبل بكلمات قليلة، لكنها موحية، عندما سئل: لماذا اهتمامك بالمستقبل؟ فأجاب ـ ببساطة ـ لأنني ذاهب إلى هناك! قد لا تكون الإجابة كافية أو مقنعة، فكلنا ذاهبون إلى المستقبل، وكلنا سنقضي ـ كما قال كيترنغ ـ بقية حياتنا فيه! لكن طبقاً لأية شروط، وعلى أية كيفية؟ وماذا سنفعل هناك؟ وهل لنا ـ طبقاً لمصالحنا ـ خيار في نوع المستقبل الذي نريده؟ وهل للدراسات المستقبلية أهمية في اختيار المستقبل، وسبر أغواره، وفضّ غوامضه، وإزاحة الستار عن القوى الخفية الفاعلة فيه للتأثير فيها؟

لقد كان للإنسان دائماً مصلحة في قراءة طالعه، ومنذ أن اكتشف الزمن بقي المستقبل ـ ذلك المجهول الذي يقع في المساحة المعتمة من الزمن ـ أشد الأشياء رهبة وغموضاً في فكر الإنسان، وقد حاول فهمه واستطلاعه مدفوعاً ـ في الغالب ـ بأغراض نفعية. فقد كان لذلك الاهتمام بالمستقبل جدوى اقتصادية وسياسية هائلة لمن كان قادراً على اكتشاف العلاقات الخفية بين مواقع النجوم والكواكب وحركتها في السماء ومواسم الأمطار والفيضانات في أودية الأنهار. وصار المنجّمون والعرّافون والكهّان من أهل الحظوة المقرّبين إلى بلاط الملوك والأمراء، ومن أصحاب الجاه والثروة والنفوذ السياسي.

وقد أكد ألفين توفلر (Alvin Toffler) في «خرائط المستقبل» أن الدراسات المستقبلية كانت وراءها بواعث براغماتية[14]، فقد انطلقت في الولايات المتحدة الأمريكية عند نهاية الحرب العالمية الثانية لخدمة أغراض عسكرية قبل أن تقدم خدماتها المدنية إلى قطاعات واسعة تجارية وتعليمية وتكنولوجية. فقد بدأ توطينها تجريبياً في سلاح الجو الأمريكي في عام 1944، وحققت وقتها إنجازيْن مهميْن: أولهما إعداد تنبؤ عن القدرات التكنولوجية ذات العلاقة بالعسكرية الأمريكية، واستهلت عهداً من التنبؤات التكنولوجية أدت في النهاية إلى قيام هيئة التنبؤ التكنولوجي بعيد المدى للجيش الأمريكي في عام 1947. وثانيهما تكليف شركة دوغلاس للطائرات بإنشاء مشروع راند للطائرات (Rand) الذي استقل في عام 1948 عن شركة دوغلاس[15]، وسرعان ما تحوّل من مجرد مؤسسة لدراسة نظم الأسلحة البديلة إلى نوع من المؤسسات الفكرية أطلق عليه Think Tanks، التي ابتدعت وسائل مبتكرة للسيطرة على أحداث المستقبل واستشرافه، وقدمت عدداً كبيراً من كبار المستقبليين، وأسهمت في تطوير تقنيات الدراسات المستقبلية، وخاصة تقنية دلفي، وتقنية السيناريو.

وقد شهد الغرب ـ وليس الولايات المتحدة وحدها ـ عقب الحرب العالمية الثانية، حركة واسعة استهدفت الاهتمام بالدراسات المستقبلية، وتعميق مفهوم المستقبلية في العقول، حتى غدت دراسات المستقبل صناعة أكاديمية، ونشاطاً علمياً قائماً بذاته، ومنهجاً عملياً للإدارة والتخطيط.

وقد اتخذ هذا الاهتمام عدداً من المؤشرات، أهمها: تزايد أعداد العلماء والباحثين المشتغلين بالدراسات المستقبلية في الجامعات ومراكز البحوث المختلفة، وظهور العديد من المراكز والهيئات العلمية والمعاهد المتخصّصة في الدراسات المستقبلية، وانتشار الجمعيات والروابط والمنظّمات المعنية بالدراسات المستقبلية، مثل رابطة المستقبلات الدولية التي أسسها جوفنيل (Jouvenel)، وجمعية المستقبل العالمية (World Future Society) التي أسسها إدوارد كورنيش (Edward Cornish) في عام 1966، وهي واحدة من أكبر منظّمات المستقبل. وهناك لجنة عام 2000 التي يرئسها دانيال بيل (D. Bell)، وقد أعطت بدراستها الشهيرة (نحو عام 2000) قوة دفع للدراسات المستقبلية، وأضفت عليها احتراماً علمياً وأكاديمياً.

وجدير بالذكر أن المراكز الثلاثة الكبرى لصنع القرار الأمريكي، البيت الأبيض، والكونغرس، والبنتاغون، يقوم على خدمتها عدد كبير من مراكز الفكر (Think Tanks) المعروفة ذات التوجه المستقبلي والاستراتيجي، منها المجلس القومي للاستخبارات الأمريكية (NIC) الذي يصدر تقريراً كل أربع سنوات، كان آخرها توجهات عالمية بحلول عام 2025 (A Transformed World Global Trends, 2025)، وصدر في كانون الأول/ديسمبر 2008؛ ومنها مجلس العلاقات الخارجية، ومعهد بروكنغز في واشنطن، ومعهد أمريكان إنتربرايز (American Enterprise)، وبيت الحرية (Freedom House)، وهيريتاج (Heritage) وغيرها. وقد شهدت أوروبا الغربية واليابان والهند عدداً كبيراً من الوحدات والهيئات المهتمة بالاستطلاعات المستقبلية، بلغت في أوروبا وحدها 124 هيئة مستقبلية. وتقوم بتطبيق مناهج الدراسات المستقبلية نحو 67 بالمئة من الشركات المتعددة القوميات والمؤسسات العسكرية، كما أن 97 بالمئة من حجم الإنفاق على الدراسات المستقبلية يتمّ في الدول المتقدمة.

وقد بات الاهتمام بالدراسات المستقبلية من الضرورات التي لا غنى عنها للدول والمجتمعات والمؤسسات، ولم تعُد ترفاً تأخذ به تلك الدول أو تهجره، تستوي في ذلك الدول المتقدمة والدول النامية، فالقرن الحادي والعشرون يحمل من عواصف التغيير، ما يحمل البشرية على الاستعداد له، والأخذ بأسباب مواجهته، بجهد جماعي علمي يستشرف هذه التغيّرات ـ عبر أدوات الاستشراف المستقبلي ـ وما تنذر به من تحديات، وما تنبئ عنه من فرص، ويشحذ الاستعداد على مواجهة القوى المضادة والعوامل غير المرغوبة والتأثير فيها والتعامل مع المتغيّرات المتسارعة في كافة المجالات.

وتتبلور أهمية الدراسات المستقبلية في مجالات الحياة المختلفة في ما يلي:

1 ـ تحاول الدراسات المستقبلية أن ترسم خريطة كلية للمستقبل من خلال استقراء الاتجاهات الممتدة عبر الأجيال والاتجاهات المحتمل ظهورها في المستقبل والأحداث المفاجئة (Wildcards) والقوى والفواعل الدينامية المحركة للأحداث (Driving Forces).

2 ـ بلورة الخيارات الممكنة والمتاحة، وترشيد عمليات المفاضلة بينها، وذلك بإخضاع كل خيار منها للدراسة والفحص بقصد استطلاع ما يمكن أن يؤدي إليه من تداعيات، وما يمكن أن يسفر عنه من نتائج. ويترتب على ذلك المساعدة على توفير قاعدة معرفية يمكن من خلالها تحديد الاختيارات المناسبة.

3 ـ تساعد الدراسات المستقبلية على التخفيف من الأزمات عن طريق التنبؤ بها قبل وقوعها، والتهيؤ لمواجهتها، الأمر الذي يؤدي إلى السبق والمبادأة للتعامل مع المشكلات قبل أن تصير كوارث. وقد ثبت أن كثيراً من الأزمات القومية كان يمكن بقدر قليل من التفكير والجهود الاستباقية احتواؤها ومنع حدوثها، أو على الأقل التقليل إلى أدنى حدّ ممكن من آثارها السلبية.

4 ـ تعدّ الدراسات المستقبلية مدخلاً مهماً ولا غنى عنه في تطوير التخطيط الاستراتيجي القائم على الصور المستقبلية، حيث تؤمن سيناريوهات ابتكارية تزيد من كفاءة وفاعلية التخطيط الاستراتيجي، إن للأغراض العسكرية وإدارة الصراعات المسلحة ودراسة مسرح الحرب، أو للأغراض المدنية وإدارة المؤسسات والشركات الكبرى المتعددة القوميات.

وقد اتسمت الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين بازدهار التخطيط الاستراتيجي باستخدام السيناريوهات، خاصة في الشركات العالمية الكبرى للطاقة، مثل «شل» (Shell)، و«إي. دي. إف.» (E. D. F.)، و«إي. إل. إف.» (E. L. F.)، بسبب الصدمات النفطية السابقة واللاحقة. كما استخدم في إعادة تنظيم مجموعة إكسا الفرنسية للتأمين (Axa France)‏[16].

5 ـ الاستشراف المستقبلي سيصبح أكثر أهمية مما هو عليه اليوم، حيث يجب أن نفكّر في التأثيرات المعقّدة لتحديات مستقبلية ذات طابع جماعي، من أمثلتها:

  •  التهديد النووي بفناء الحضارة الإنسانية ووقوع السلاح النووي في أيدٍ غير عاقلة أو رشيدة.
  •  التغيّرات المناخية وما سيصاحبها من ظواهر الغرق والتصحر والجفاف وهجرات ديمغرافية وتحركات جغرافية… إلخ.
  •  تحديات الثورة البيولوجية ومخاطر التوظيف السياسي لخريطة الجينوم البشري من أجل التفوّق العنصري لسلالات وجماعات بشرية معيّنة.
  •  إعادة صياغة الخرائط السياسية والجيوبوليتيكية على أسس إثنية وعرقية وثقافية.
  •  انتقالات وهجرات بشرية واسعة باتجاه الشرق والشمال الشرقي.
  •  التغيّرات الدراماتيكية في الهرم السكاني في أوروبا الغربية وتداعياته السياسية والاقتصادية.
  •  تهديدات نقص الطاقة والمياه والغذاء.
  •  فتوحات الفضاء والكواكب وتقدم علوم الفضاء. قبل أن ينتصف القرن سيكون بمقدور الإنسان أن يقيم أول مستوطنة بشرية في الكواكب الأخرى.
  •  تحديات السلطة العالمية الواحدة (حكومة عالمية، تنظيم دولي… إلخ يتكون من السيادات المجمّعة لكل دولة منفردة تحللت مقوّمات بقائها أمام الحتميات التاريخية الطبيعية أو العمدية الناجمة عن الأخطاء البشرية.

6 ـ ترشيد عمليات صنع القرار من خلال توفير مرجعيات مستقبلية لصانع القرار، واقتراح مجموعة متنوعة من الطرق الممكنة لحلّ المشكلات، وزيادة درجة حرية الاختيار وصياغة الأهداف، وابتكار الوسائل لبلوغها، وتحسين قدرة صانع القرار على التأثير في المستقبل، وتوصيف درجة عدم اليقين المصاحبة لبعض القرارات المستقبلية، والتنبؤ بالآثار المستقبلية لهذه القرارات والسياسات.

7 ـ زيادة المشاركة الديمقراطية في صنع المستقبل وصياغة سيناريوهاته، والتخطيط له، فالدراسات المستقبلية مجال مفتوح لتخصّصات متنوعة، وميدان لاستخدام الأساليب التشاركية (Participatory Methods)، وعمل الفريق، بمعنى إنجاز الدراسة المستقبلية عن طريق فريق عمل متفاهم ومتعاون ومتكامل، حيث تعتمد الدراسة على معارف مستمدّة من علوم متعددة. والأساليب التشاركية هي أساليب تعتمد على التصور المستقبلي من خلال الاستفادة من آراء الخبراء والمهتمين. ومن أبرز هذه الأساليب التي توسع مجال المشاركة الديمقراطية في إعداد الدراسات المستقبلية: جلسات العصف الذهني (Brainstorming)، ولجنة الخبراء، ونموذج سيغما، واستبيان دلفي (Delphi Technique)، ومعداد رينيه (Renier)، وورشة الاستشراف، ودولاب المستقبلات (Futures Wheel)، وغيرها من تقنيات العمل الجماعي.

إن الأهمية المعقودة على الدراسات المستقبلية تتجاوز هذه المجالات مجتمعة عندما تصبح ثقافة مجتمعية، ونمط تفكير وأسلوب حياة، وعندما تتجه إلى تنمية رأي عام مهتم بالمستقبل، واستثارة الوعي والتفكير المستقبلييْن، وتوسيع قاعدة المهمومين ببناء فراديس المستقبل، لا الباكين على أطلال الفراديس المفقودة. وقد يكون كل ذلك وغيره مبرراً لتوطين مناهج الدراسات المستقبلية في البيئة الثقافية والعلمية العربية، والترويج لثقافتها في الوطن العربي.

ثالثاً: توطين مناهج الدراسات المستقبلية في الوطن العربي

لا نكاد نرصد اهتماماً يذكر بالدراسات المستقبلية في الوطن العربي قبل السبعينيات من القرن الماضي، وحتى المحاولات الأولى التي قادها الرعيل الأول من المفكّرين كانت محدودة ومتقطعة وفقيرة في أدواتها وتقنياتها.

وقد اكتسبت تلك الدراسات أهمية متزايدة في الثمانينيات والتسعينيات، نتيجة التغيّر في مفاهيم التنمية وهجرة المفاهيم التقليدية القديمة التي تعالج أوضاعاً استاتيكية، واستبدلت بها مفهوم التنمية المستدامة، وهو بطبيعته مفهوم مستقبلي يهتم بحقوق الأجيال القادمة، ويعنى بدمج الاعتبارات الاجتماعية والثقافية والسياسية جنباً إلى جنب مع الاعتبارات الاقتصادية. لذلك فالتنمية ـ بهذا المعنى ـ يمكن أن تستغرق مدى زمنياً أطول من المدى الطويل المتعارف عليه في التخطيط الاقتصادي، كما عرفته بعض التجارب القطرية العربية.

وتركّز الدراسات المستقبلية على تفاعل الجوانب المختلفة للأنساق الاجتماعية ـ السياسية ـ الاقتصادية في إطار فلسفة الأنساق الكلية، ذلك التفاعل الذي يكثر الحديث عنه في فلسفة التنمية، ولكنه يكاد يختفي عند التخطيط للتنمية بأساليب إعداد الخطط التقليدية، حيث يتم التركيز عادة على الجوانب الاقتصادية، كما أصبح من الصعب دراسة مستقبل التنمية في الوطن العربي من دون الأخذ في الاعتبار الأوضاع الإقليمية والعالمية، وبعض هذه الأوضاع تشكّل عنصراً ضاغطاً على المستقبل العربي، مثل الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وتنامي النزعات العرقية والطائفية والدينية والمخاطر المستقبلية الناجمة عنها، الذي قد يكرّر بشكل أو بآخر السيناريوهات السودانية والعراقية والصومالية.

وإذا كان للوطن العربي اهتمام أساسي بقضية التنمية، فإن بعض مشاكل التنمية العربية لا يمكن دراستها أصلاً إلا في الأجل الطويل، مثل قضية التكامل العربي ودوره المحوري في التنمية العربية، وقضية الاستعداد العربي لعصر ما بعد النفط، وعصر التغيّر المناخي وشحّ المياه.

ومن الأسباب المؤكدة لأهمية توطين الدراسات المستقبلية في الوطن العربي ظهور مشاريع مستقبلية مهمة لها انعكاساتها وآثارها في الأقطار العربية، مثل: «مشروع القرن الأمريكي الجديد» (عام 2002) الذي دعا إلى إعادة رسم الخريطة الإقليمية، وتغيير هويتها، وقيام نظام إقليمي بديل للنظام العربي؛ وخطة السنوات العشر لتغيير الشرق الأوسط من الداخل التي وضعها مايكل لادين من معهد أمريكان إنتربرايز (American Enterprise)، وتقارير مؤسسة هيريتاج (Heritage) عن إعادة هيكلة الشرق الأوسط، فضلاً عن المشاريع المستقبلية الإسرائيلية؛ إسرائيل 2020، وإسرائيل 2025، وغيرها.

ومن دون الاستشراف العلمي للمستقبل العربي، ستبقى محاولات معالجة القضايا العربية الكبرى معلّقة، وفي إطار التمنيات، وستظل إلى حدّ كبير عاجزة عن الفصل في الخيارات المطروحة في الساحة العربية، ومنها على سبيل المثال: الأوضاع الراهنة في دول ما يسمّى «الربيع العربي»، والناجمة عن سقوط أنظمة دكتاتورية فاسدة مستبدّة، ورثتها نظم لا تمتلك الخبرة أو الرؤية لإدارة مراحل الانتقال. هذه الأوضاع لم تخضع للدراسة العلمية لاحتمالاتها المستقبلية وآثارها المباشرة وغير المباشرة، وبالتالي رسم السياسات اللازمة لمواجهتها. وربما كانت دراسة «مصر 2030» هي الدراسة الوحيدة[17] التي غامرت بصياغة السيناريوهات السياسية لمصر بعد ثورة 25 يناير، وباستثناء ذلك لا نكاد نعثر على دراسة عربية أخرى اهتمت بالتداعيات المستقبلية للربيع العربي.

1 ـ الجهود العربية في مجال الدراسات المستقبلية

هناك سمتان تسمان الجهود العربية في مجال الدراسات المستقبلية؛ الأولى أن هذه الدراسات كانت عملاً مؤسسياً اضطلعت به مؤسسات معظمها ينتمي إلى المجتمع المدني، وليس الحكومات ـ إلا في ما ندر ـ وثانيهما أن تلك الجهود لم تتصف بالمتابعة والتراكم والاستمرار، وبالتالي بدت هذه المحاولات وكأنها جزر منعزلة ليس لها جسور تربط بينها. ويمكن أن نرصد في ما يلي أهم تلك الجهود التي يؤرخ لأولى محاولاتها بمنتصف السبعينيات من القرن الماضي.

  •  كانت الدراسة الرائدة في استشراف المستقبل العربي تلك التي صدرت في عام 1975 تحت عنوان: الوطن العربي عام 2000 عن مؤسسة المشاريع والإنماء العربية. وهي نتاج عمل جماعي لفريق من الخبراء والمثقفين العرب بقيادة أنطوان زحلان. وكان الهدف المعلن من الدراسة هو «استطلاع التطور المرتقب والمحتمل للوطن العربي حتى عام 2000»[18]. وقد بدأ المشروع من الفكرة القائلة بأنه «إذا لم يخطط العرب لمستقبلهم بأنفسهم تولى غيرهم التخطيط»، وهي فكرة تصحّ الآن أيضاً، وإن بدرجة أكبر!

تتكوّن الدراسة من دراسات قطاعية للسكان والتعليم والتحضر والموارد البشرية والزراعة والري والنفط والنقل والنمو الاقتصادي. وتضمّنت كل دراسة قطاعية وصفاً للأوضاع الحالية، وإسقاطات مبسطة لمستقبل القطاع، وتوصيات للعمل في المستقبل من قبيل الدعوة إلى تخفيض معدلات النمو السكاني، وتشجيع انتقال السكان بين الأقطار العربية، واستيطان الصحارى وبناء طرق تربط أجزاء الوطن العربي.

وقد خلصت الدراسة إلى نتيجة متفائلة للمستقبل العربي مؤداها أنه إذا استغلّت الأقطار العربية مواردها الاستغلال الأمثل، فستضيق فجوة الدخل بين الوطن العربي والدول المصنّعة إلى 1 ـ 2 أو إلى 1 ـ 3 مع مطلع القرن الحادي والعشرين[19].

ويؤخذ على الدراسة أن التصورات القطاعية عانت تبسيطاً مخلاً، وافتقرت إلى النظرة الشمولية. ولم تكن ثمة محاولة لربط التصورات القطاعية، ولو في صورة اختبارات أنساق بسيطة، ولم يكن للجوانب الكلية أساس متين من الدراسة العلمية.

  •  جهود مجموعة التخطيط الطويل المدى للأقطار العربية أو مجموعة القاهرة (عام 1977) بقيادة إبراهيم حلمي عبد الرحمن وآخرين في معهد التخطيط القومي في القاهرة بالتعاون مع الصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي في الكويت وغيره من المؤسسات العربية والدولية العاملة في مجال استشراف المستقبل[20].

وقد كان الهدف الأساسي لهذه المجموعة هو المساهمة في إنشاء وتدعيم حركة فعالة للتخطيط الطويل المدى في الوطن العربي. وقد اعتمدت المجموعة برنامج عمل تضمّن: تعيين أهداف التنمية القطرية والإقليمية في الوطن العربي، لكي تستخدم هذه الأهداف كمعايير لتقييم السيناريوهات المستقبلية للوطن العربي، وبناء تصورات مستقبلية بديلة للتنمية القطرية والقومية الطويلة الأجل، تتضمّن خيارات بديلة للتنمية وتقييم آثارها في أهداف التنمية.

وقد قامت المجموعة فعلاً بكثير من الدراسات التحضيرية لمثل هذا العمل الضخم، إلا أن هذا التصميم الطموح لاستشراف المستقبل العربي لم يجد سبيلاً إلى التنفيذ، فوئدت هذه المحاولة في مهدها.

  •  في عام 1978 صدرت ورقة عمل اللجنة الثلاثية المنبثقة عن لجنة خبراء استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك. وتشكّلت اللجنة من برهان الدجاني، وسيد جاب الله، وأنطوان زحلان[21]. وكان هدف الورقة هو محاولة ترشيد وتطوير دور القطاع العربي المشترك. وقد حدّدت الوثيقة عدداً من المحاور العملية التي تشمل توطين التكنولوجيا، والتنمية الصناعية، وتنمية وتطوير القطاع التجاري، وتسهيل انسياب وتدفق رؤوس الأموال بين الأقطار العربية.

ويؤخذ على هذه الورقة أنها لم تنطلق من رؤية شاملة ومترابطة لصورة المستقبل، ولم تعن ببعض الجوانب التي تتعلق بموقع ومستقبل الوطن العربي من النظام الاقتصادي العالمي الجديد. واقترحت الورقة أن يجري بناء المستقبل على أساس الوضع الراهن بعيوبه وتشوّهاته، ولم تقترح آليات الانتقال من الأوضاع الراهنة، بما تنوء به من مشكلات، وما ترزح تحته من تناقضات، إلى الآفاق الجديدة التي تحملها الرؤى المستقبلية المتعدّدة.

  •  وثيقة استراتيجية العمل الاقتصادي العربي المشترك، أولوياتها، برامجها وآلياتها (عام 1979) التي أشرف على إعدادها يوسف صايغ، ومحمود عبد الفضيل، وجورج قرم[22]، بدعم من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، ومجلس الوحدة الاقتصادية العربية، والصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي. ورغم أن الوثيقة لها توجه مستقبلي، إلا أنه لا يتجاوز الثمانينيات، ولا تشكّل الوثيقة نقلة نوعية باتجاه استشراف المستقبل العربي، ولا تترابط نظراتها القطاعية عضوياً، وإنما تتبنّى توجهاً براغماتياً ينطلق من واقع راهن يئن من وطأة التخلّف والتجزئة، ولا تتجاسر على القفز فوق هذا الواقع بطرح رؤية مستقبلية جديرة بالعمل من أجلها.
  •  وفي النصف الأول من الثمانينيات ظهر «مشروع المستقبلات العربية البديلة» أو «صور المستقبل العربي» الذي قام على تنفيذه منتدى العالم الثالث في القاهرة بالتعاون مع جامعة الأمم المتحدة، وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية[23].

يهدف مشروع المستقبلات العربية البديلة إلى إثارة الوعي بأهمية الدراسات المستقبلية في بلادنا، ويبرهن على أن ثمة أكثر من مستقبل واحد ممكن، وأن أياً من المستقبلات البديلة يتوقف على خياراتنا الراهنة، لأن القرارات الحالية تؤثر في تشكيل المستقبل. ومن ثم يدعو إلى ترشيدها على أساس من التصور السليم للمستقبل، ويؤكد أن التطور المستقبلي للوطن العربي لا تصنعه التطورات الاقتصادية فقط، بل يتم في إطار من تطور حضاري شامل، لذلك يحدد المشروع مجالات البحث التي يتطرق لها في العلاقة بين البنى الاجتماعية ـ السياسية والتنمية، وعملية صنع القرار، والديمقراطية والاتصال الجماهيري والمشاركة الشعبية، والاتجاهات الاجتماعية والسياسية والثقافية، وآليات التبعية، والوطن العربي والنظام العالمي المتغيّر، والآثار غير المدروسة للثروة النفطية، والموارد البشرية، وموارد واستخدامات العلم والتكنولوجيا، والفنون والآداب والإطار المؤسسي للتكامل العربي، والتوحيد العربي وقضايا الأقليات. ومعظم هذه المجالات تشكّل «عوامل حاكمة» (Driven Forces) أو مسارات حرجة للمستقبل العربي.

ويقدم المشروع مشهدين أو سيناريوهين للمستقبل العربي؛ أولهما تشاؤمي يأخذ اتجاهاً خطياً يفترض استمرار الأوضاع الراهنة التي تحدّ من القدرة على تبنّي مشروع نهضوي يحقق الطموحات العربية، وتزداد فيه احتمالات التدخل الخارجي لتشكيل المستقبل العربي، والسيناريو البديل تفاؤلي ينطلق من استغلال الفرص الكبيرة المتاحة التي يمكن أن تخلق مستقبلاً عربياً أفضل تزدهر في إطاره التنمية والديمقراطية والمشاركة الشعبية والهوية الثقافية القومية، وينسلخ فيه النظام العربي تدريجياً عن النظام العالمي وشبكاته الأخطبوطية.

ورغم أن المشروع يندرج في إطار الدراسات المستقبلية التي تحاول المساهمة في استشراف المستقبلات الممكنة والمحتملة للوطن العربي، إلا أنه لا يبني نماذج كمية للتطورات المحتملة في الوطن العربي، واعتمد المشروع على النمط الحدسي وتقنية الاستبيان، وهو ما عرض نتائج الاستشراف للتحيّزات الشخصية، كما كانت قاعدة البيانات المستخدمة في المشروع ضعيفة وضيّقة جداً. ويؤخذ على المشروع أخيراً أنه تجاهل وضع سقف زمني للمسارات المستقبلية المقترحة.

  •  وفي نهاية الثمانينيات (عام 1988) قدم مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت «مشروع استشراف مستقبل الوطن العربي»[24]، وخلص فيه إلى ثلاثة سيناريوهات بديلة للوطن العربي، هي: (1) سيناريو التجزئة العربية، وهو سيناريو مرجعي ينطلق من افتراض استمرار الأوضاع الراهنة، لذلك فهو يمثل السيناريو الاتجاهي؛ و(2) سيناريو التنسيق والتعاون، وهو ينطلق من الترشيد والاستخدام الأمثل للموارد العربية المتاحة، ويسمّى السيناريو الإصلاحي، وهو يمثل الحدّ الأدنى من التنازلات التي لا تتعارض مع المصالح المباشرة للفئات الحاكمة. ويمكن أن يأخذ التنسيق والتعاون شكل تجمّعات إقليمية أو شكل تنسيق عربي عام؛ و(3) سيناريو الوحدة العربية التي تأخذ شكل اتحاد فدرالي يتم فيه توحيد مركز صنع القرار السياسي، مع احترام التعددية الاجتماعية والثقافية القائمة في الوطن العربي. ويربط هذا السيناريو بين الوحدة الفدرالية والديمقراطية والمشاركة الشعبية، وبينها وبين الاستقلال الوطني، وبينها وبين احترام الأصالة الحضارية والثقافية للأمة. ويمثل هذا السيناريو المسار التحويلي أو التغيّر الجذري.

وللدراسة أفق زمني طويل نسبياً نقطة بدايته في عام 1985، وسقفه ينتهي عند العام 2015. والفائدة الحقيقية وراء مشروع استشراف الوطن العربي هي تأصيل الوعي بمعطيات المستقبل واحتمالاته، وتقديم معلومات حوله لواضعي البرامج والاستراتيجيات ومتخذي القرار الحاليين. ويتوقع أن يؤدي هذا المشروع إلى مزيد من الحوار بين الاتجاهات والقوى العربية المختلفة. وقد خلّف المشروع وراءه قاعدة بيانات ومعلومات ومناهج وأساليب للتنبؤ يمكن أن يستفاد بها في أغراض التحليل والتقييم وبناء سيناريوهات أخرى إضافية.

ورغم انفتاح المستقبل العربي على سيناريوهات عديدة ممكنة، بعضها كارثي، إلا أن المشروع اختار منذ البداية عدداً محدوداً من السيناريوهات، وبدا خياله مقيداً عن التحليق في آفاق محتملة، ولكنها غير مرغوبة، كقضم أجزاء من أطراف الوطن العربي في جنوب السودان، وشمال العراق الكردي، ولم يتوقع الأحداث الطارئة (Wildcards) التي يمكن أن تقطع صيرورة المستقبل أو ظهور البجعة السوداء بين أسراب البجع الأبيض، كأحداث الربيع العربي وتداعياتها.

  •  هناك دراسات قطرية مهمة، منها دراسة إسماعيل صبري في عام 1977 عن تطور مصر، وبحث فيها ثلاثة سيناريوهات بديلة هي: سيناريو نفي الثورة أو الانقلاب عليها، وسيناريو تجميد الثورة، وسيناريو استمرار الثورة. وهناك على المستوى القطري أيضاً مشاريع: «مصر 2020»، و«مصر 2030»، و«قطر 2030»، و«سورية 2020»، و«الأردن 2020»، وغيرها.

ويمثل مشروع «مصر 2020»، بحجمه واتساع أهدافه وضخامة الفريق العلمي المشارك، موقع الريادة في الدراسات المستقبلية القطرية. ويميز مشروع «مصر 2020» بين خمسة سيناريوهات بديلة، هي: (1) سيناريو مرجعي يعبّر عن استمرارية الاتجاهات العامة الراهنة؛ و(2) سيناريو الدولة الإسلامية؛ و(3) سيناريو الرأسمالية الجديدة؛ و(4) سيناريو الاشتراكية الجديدة؛ وأخيراً (5) السيناريو الشعبي أو سيناريو التآزر الاجتماعي.

وهذه السيناريوهات جميعها من النوع الشرطي. ويؤخذ على هذه السيناريوهات أن التمايز والاختلاف في ما بينها ليس كبيراً، وبعضها لا يخلو من تنافر أو تناقض يعيب اتساقها الداخلي، كما أن القوى السياسية صاحبة السيناريوهات الخمسة لا تمثل كل القوى السياسية المصرية تمثيلاً دقيقاً. ويفيد مشروع «مصر 2020» في ترشيد عملية صناعة القرارات، وتمكين الناس من التعامل العقلاني مع المستقبل، ومن المشاركة في صنعه، والمقارنة بين الخيارات والسياسات من منظور طويل الأجل، وإنتاج تحذيرات مبكرة من أحداث قد يفاجئنا بها المستقبل[25].

  •  هناك إلى جانب الدراسات المستقبلية الكلية التي نوّهنا عنها سابقاً دراسات أخرى قطاعية عن مستقبل المياه في الوطن العربي، ومستقبل الطاقة والتكامل اللوجستي في الوطن العربي، ومستقبل العلوم والتكنولوجيا في مصر… إلخ.

لقد أحدثت هذه المشاريع ـ رغم تواضعها ـ تراكماً معرفياً سوف يكون معيناً لا ينضب للباحثين والدارسين والمهتمين العرب، ووفرت قاعدة بيانات مهمة، وخبرة منهجية ونظرية، ووضعت لبنة جديدة في بناء التوجه المستقبلي في الثقافة العربية المعاصرة، لكنها لم تكن كافية لإزالة الصعوبات التي تعترض مجرى الثقافة العربية المستقبلية.

2 ـ ثقافة الدراسات المستقبلية: صعوبات وفرص

لا يقابل الأهمية المتزايدة للدراسات المستقبلية اهتمام موازٍ، وبالدرجة نفسها في الوطن العربي. فما زلنا نعاني غياباً شبه تام للرؤية المستقبلية في معظم مؤسساتنا، وفي كثير من مظاهر حياتنا، بل وفي بنية تفكيرنا أيضاً. وما العدد القليل من الدراسات المستقبلية التي ألمحنا إليها إلا تعبير عن البؤس المعرفي الذي تعانيه تلك الدراسات التي لا تخرج في معظمها عن النطاق الأكاديمي الضيّق، ولا تكوّن جزءاً من نسيج التفكير الاجتماعي العام، أو من الممارسة الفعلية، سواء على المستوى الحكومي أو على مستوى الأفراد، ولم تتغلغل بعد كثقافة ومنهج تفكير في الشركات والمؤسسات العامة والخاصة، ناهيك بافتقارها إلى النظرة الشمولية المتكاملة، مع ارتكازها إلى قاعدة علمية محدودة من البيانات والمعلومات.

وهناك بلا شك صعوبات منهجية تعترض انتشار ثقافة الدراسات المستقبلية في الوطن العربي يمكن تلخيصها في ما يلي:

أ ـ صعوبات ناجمة عن غياب الرؤية المستقبلية في بنية العقل العربي، وطغيان النظرة السلبية إلى المستقبل في ثقافتنا العربية، وسيطرة «التابوهات» الموروثة، وشيوع أنماط «التفكير داخل الصندوق»، والاطمئنان لا إلى الأفكار الجديدة، وإنما إلى الأفكار المهيمنة والأفكار «السابقة التجهيز»، وثقافة القطيع، وغيرها بما حذر منه وودي آلن (Woodi Allen) كل المشتغلين بالدراسات المستقبلية، الذين ينبغي أن ينصرف اهتمامهم إلى البحث عن «البجعة السوداء» (Black Swan) وسط أسراب البجع الأبيض.

ب ـ صعوبات ناجمة عن ضعف الأساس النظري الذي تستند إليه الدراسات المستقبلية في التراث العربي. فالفكر العربي ـ في صيغته التراثية الموروثة، وفي طبعاته المستجدّة على السواء ـ مفتون بإعادة إنتاج الماضي أكثر مما هو مهموم بقراءة المستقبل، أو مشغول بإنتاجه وصناعته، حتى شاعت الفكرة الساخرة المتهكمة بـ «أن العرب يتنبأون بالماضي ويتذكرون المستقبل». فالتفكير المستقبلي بمنهجه النقدي والعقلاني يواجه بالطبيعة بيئة ثقافية معادية، فهو نسق علمي قائم على المنطق والاتساق المعرفي، وهو نقيض التفكير السلفي الذي يحاول بناء المستقبل على شاكلة الماضي، وإحياءَ الفراديس المفقودة، لا بناءها. وقد ترك هذا التراث بصمته الوراثية على ضعف حضور فكرة المستقبل في الذهن العربي، ووهن القدرة على الإحساس بالتغيّرات وأثرها في التفكير في المستقبل، وعلى توقع أحداثه أو الاستعداد لمفاجآته، وإن كان ذلك لا ينفي تماماً غياب الرؤية المستقبلية العقلانية في التراث العربي. يعترف جيروم غلين (G. Glenn)، صاحب كتاب العقل المستقبلي (Future Mind) بدور للعلماء العرب في فلسفة الفكر المستقبلي، وأشار تحديداً إلى «الكندي»[26]، كما أشار آخرون إلى ابن رشد. واستخدم ابن خلدون مفهوم «التشوُّف المستقبلي»، وكان بحق الرائد الفعلي لـ «علم الاجتماع التاريخي»[27]، وما الدراسات المستقبلية إلا امتداد لهذا العلم.

ولا يتجاهل مؤرّخو الدراسات المستقبلية «مدينة الفارابي الفاضلة»، وهي اليوتوبيا الأم التي ألهمت كل أصحاب «اليوتوبيات» (Utopias) في التاريخ الوسيط، من القديس أوغستين، وتوماس مور، ودانتي أليغيري، وفرانسيس بيكون، إلى ميرسييه (Mercier) في مدينته الفاضلة بعنوان عام 2440.

وقد كان لجدلية الجبر والاختيار مكان مرموق في الفلسفة الإسلامية، وهي تقابل معاني الحتمية والحرية بالمعنى الغربي. والدراسات المستقبلية هي استطراد لهذا الجدل، لكنها جدل منحاز بغير تحفّظ لحرية الإنسان في الاختيار، ومنها ـ إن لم يكن على رأسها ـ حرية «اختيار مستقبله» حتى لا يتركه للصدف أو تصريف الأقدار، كما في الملاحم والأساطير الإغريقية.

ج ـ صعوبات ناجمة عن غياب التقاليد الديمقراطية للبحث العلمي العربي. فالدراسات المستقبلية تعوّل بالأساس على تقاليد ديمقراطية في البحث والعمل العلمي تكاد تكون مفقودة حتى الآن في الثقافة العلمية العربية، وهي تقاليد الفريق والعمل الجماعي والحوار والتبادل المعرفي والتسامح الفكري والسياسي، وقبول التعدد والاختلاف. وترتبط هذه التقاليد بوسائل وتقنيات للبحث ذات مضمون ديمقراطي تشاركي، حيث تعتمد على التكامل المعرفي والاعتماد المتبادل بين التخصّصات العلمية المتعددة في إطار اجتماعي، وتعوّل على تقنيات تسمح بتوسيع المشاركة في الدراسة، كورش العمل، وتقنية دلفي، ودولاب المستقبل، وبناء السيناريوهات، وتحليل الاتجاهات، وغيرها من أساليب وتقنيات البحث في المستقبل. وبفضل هذه التقاليد يمكن للباحثين في الدراسات المستقبلية الانفتاح على مدارس متنوعة، علمياً وفكرياً وسياسياً. وبفضلها أيضاً يمكن كسر الدوائر المغلقة التي طبعت المشاريع العلمية في حقب سابقة.

د ـ صعوبات ناجمة عن قصور المعلومات والقيود المفروضة على تدفقها وتداولها، وحرية الوصول إليها، وغياب أنظمة قانونية وتشريعية منظمة لتداول المعلومات وحمايتها في الوقت الذي تحتاج الدراسات المستقبلية وبناء السيناريوهات إلى إيجاد قاعدة معلومات لا تعاني الحظر والقيود تحت أي سبب من الأسباب، وتؤمّن للباحثين حقوقاً يقع على رأسها حق الوصول إلى المعلومات، وتحريم حجبها ومنع تدفقها.

هـ ـ غياب الأطر المؤسسية المتخصّصة بالدراسات المستقبلية، وما هو موجود منها، على ندرته، مشغول بهموم «الحاضر» وقضاياه الضاغطة، عن «المستقبل» وقضاياه المؤجلة. بعض هذه المؤسسات يعمل في إطار الجامعات والمعاهد العربية، والبعض الآخر ـ وهو نادر ـ يتبع الحكومات، والبعض الثالث هو مراكز تنتمي إلى منظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص. ويعزى غياب هذا النوع من المؤسسات البحثية إلى ضعف «الطلب» على «منتجاتها» من جانب الحكومات والشركات والمؤسسات والبرلمانات وغيرها من دوائر صنع القرار في الوطن العربي. هذا الطلب كان بمنزلة القوة المحرّكة لظهور ونمو مراكز الدراسات المستقبلية في الغرب.

والمراكز القليلة في هذا الحقل المعرفي تتسم بإدارة تقليدية، وتواجه عوائق كثيرة، ونقصاً في الخبراء والمتخصّصين، ناهيك بعقلية الوصاية الفكرية والبيروقراطية المهيمنة على واقعنا العلمي والثقافي، التي تدهس الإبداع والمبدعين، وتصيب البيئة العلمية للثقافة المستقبلية بالجدب والضمور، ونقص الخبراء والباحثين ممن يجيدون استخدام طرائق وتقنيات الدراسات المستقبلية، سواء كانوا خبراء مستقبليات على المستوى النظري أو الأكاديمي، أو خبراء المستقبليات التطبيقيين الذين يمارسون تطبيق طرائق المستقبليات في الشركات والمؤسسات الحكومية أو الخاصة التي تستفيد بهم. وهذه وظائف تشغلها أعداد كبيرة في الغرب المتقدم، ولا نجد لها مثيلاً في الأقطار العربية.

على أن المهم الإشارة هنا إلى أن تلك الصعوبات والتحديات التي تعترض انتشار وتوسع ثقافة الدراسات المستقبلية في الوطن العربي لم تصادر تماماً جهوداً قليلة في هذا القطر العربي أو ذاك يمكن البناء عليها، ولم تحجب مبادرات شجاعة قام بها أفراد أو جهات هنا أو هناك، شقت هذا «الجدول» الرقراق الصافي للدراسات المستقبلية توطئة ليكون تياراً علمياً وثقافياً مجتمعياً جارفاً. كما قدمت هذه الصعوبات دليلاً جديداً على أن الوعي بأهمية استشراف المستقبل لم يعُد يعني المختصّين بالدراسات المستقبلية فحسب، ولكنه أصبح يعني كل من يؤمن بتقدم المجتمع العربي وتنميته ووحدته، وضمان استقراره وأمنه في الحاضر والمستقبل، أي أصبح يعني المختصّين والمثقفين، والرجل العادي أيضاً. ولا ريب في أن هذا الاهتمام المتزايد بالدراسات المستقبلية وانتشار ثقافتها مرهون بتطور الوعي لدى عامة الناس، وبأجندة من الاهتمامات التي تقوّي فرص ازدهار تلك الثقافة وذيوعها وتغلغلها في المؤسسات والهيئات، وحتى تصبح ليس «نمط تفكير مجتمعي سائد فقط»، وإنما أسلوب حياة قائم أيضاً. ودعنا نفتح معاً أجندة تلك الاهتمامات:

أ ـ إن الاهتمام المتزايد بالدراسات المستقبلية لا يمكن أن يحدث من دون تطور في الوعي لدى عامة الناس، سواء كان ذلك الوعي المستقبلي الحديث في وسائل الإعلام الجماهيري، أو نتيجة لغرس هذا الوعي ـ على نحو منتظم ـعن طريق برامج التعليم في المدارس والجامعات. وقد تنبّهت الدول المتقدمة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، مبكراً إلى أهمية نشر ثقافة الدراسات المستقبلية بين طلاب المدارس والجامعات للمساعدة على مواجهة أحداث المستقبل، وتمكينهم من اكتساب القدرة على التفكير العلمي المنظّم لتغيير مساراته. ففي الولايات المتحدة ـ على سبيل المثال ـ بدأ التطوير مبكراً في التعليم. هذا التطوير لم يكتف برسم صورة علمية لما ستكون عليه المؤسسات التعليمية في المستقبل، وإنما أخذ يبثّ في المناهج والمقررات الدراسية كل ما من شأنه توسيع المفهوم التربوي للتفوق والتميّز، وتقديم حلول ابتكارية للمعضلات التي تواجه مجتمعهم، إلى جانب إعلاء قيمة التفكير في المستقبل، ورفع مستوى الوعي والثقافة المستقبلية بين الدارسين. وقد أحصيت المقررات الدراسية الجامعية التي تغطي هذا المجال المعرفي، فبلغت 475 مقرراً في الجامعات الأمريكية، كما أن الكثير من المدارس الابتدائية والثانوية الأمريكية بدأت منذ سنوات بتبنّي مناهج دراسية تقدم عرضاً مبسطاً للمفاهيم المرتبطة بثقافة الدراسات المستقبلية.

وفي وثيقة من أخطر الوثائق في التاريخ الأمريكي أطلق عليها في التسعينيات «الاستراتيجية الأمريكية في عام 2000» وردت في صدرها عبارة دالة وذات مغزى، قالها «الرئيس بوش الأب» «… كان القرن الحادي والعشرون دائماً رمزاً مختصراً للمستقبل البعيد الذي تتمثل فيه أمانينا وأحلامنا البعيدة. أما اليوم، فإن القرن الحادي والعشرين يعدو قادماً نحونا، وكل من يتساءل منا كيف سيكون هذا القرن؟ سيجد إجابة عن سؤاله في المدارس الأمريكية». ونحن، بالمثل، يجب أن نجد إجابة عن أسئلة المستقبل العربي في المدارس والجامعات العربية. ويجب أن يبادر اتحاد الجامعات العربية، واتحاد مجالس البحث العلمي العربية، ومجلس وزراء التعليم العرب، باقتراح توصية ملزمة لدمج ثقافة الدراسات المستقبلية في المناهج والمقررات الدراسية في الجامعات والمدارس العربية، وتبنّي كيانات مؤسسية تعليمية مستقلة (كليات أو معاهد أو جامعات) لتعليم الدراسات المستقبلية والاهتمام بمناهجها.

ب ـ إعادة تأهيل «القوة البحثية العربية» ـ وهي كبيرة ـ باتجاه أنماط البحث والتفكير المستقبلي، وإعداد أجيال جديدة من الباحثين اللازمين لتجديد دماء مراكز البحوث والدراسات العربية، وإعادة تكييف النشاط البحثي لهذه المراكز، من الطرائق والمناهج التقليدية المحافظة إلى مناهج الدراسات المستقبلية وتقنياتها الابتكارية.

وإذا كان الهدف هو نشر ثقافة الدراسات المستقبلية عن طريق العمل على تأهيل وتفعيل القوة البحثية العربية، وتوسيع القاعدة العلمية، فإن ذلك مشروع ضخم تناط مسؤوليته بمؤسسات كبرى متخصّصة في الدراسات المستقبلية، بحيث توفر لأعضائها وللجماعة العلمية المنتسبة إليها كل ضمانات الحرية الأكاديمية المحفزة للإبداع والابتكار، ويكون ضمن أولوياتها رعاية وتشجيع الموهوبين والواعدين والمتميّزين من الباحثين في الوطن العربي. ومثل تلك المؤسسات تحتاج إلى هياكل مرنة وفعّالة وقيادات إدارية ذات رؤية متحررة من قيود البيروقراطية، ومن عقلية الهيمنة والوصاية ومصادرة الإبداعات والأفكار الجديدة.

ج ـ عطفاً على ما سبق، يجب تأسيس هيكل مرن ذي قيادة خبيرة يضم تحت جناحيه ما قدمته الجماعة العلمية العربية من دراسات مستقبلية على ندرتها، بحيث يعمل كنواة لمشروع ذي صفة مؤسسية يضم قاعدة بيانات للدراسات المستقبلية، وخبرائها المعروفين، داخلياً وخارجياً، ومرجعياتهم المؤسسية. وأمامنا ـ في هذا الصدد ـ خيارات ممكنة، إما (1) أن ننشئ ما يمكن أن نطلق عليه «المجلس العربي للدراسات المستقبلية» في إطار جامعة الأمم المتحدة، أو (2) نطور من دور، ونوسع من صلاحيات الرابطة العربية للدراسات المستقبلية، ومقرها الخرطوم، لتضطلع بهذه الرسالة.

د ـ ترويج وتشجيع الطلب الاجتماعي على «مخرجات» مراكز الدراسات المستقبلية، وتسويق هذه المخرجات إعلامياً عبر الوسائط الفضائية والإلكترونية، وتدريب منتسبي الهيئات والمؤسسات الفضائية والخاصة ـ من خلال برامج لبناء القدرات ـ على استخدام تلك المخرجات والتعامل معها، وتقديم النصيحة بشأنها. وتقدم تجربة المركز الهولندي للدراسات المستقبلية التابع لمجلس الوزراء الهولندي دروساً مستفادة إلى المراكز العربية القائمة أو التي قد تنشأ مستقبلاً.

هـ ـ استحداث وحدات إدارية مستقلة للدراسات المستقبلية في الهيئات والمنظّمات الحكومية والخاصة والأهلية، تكون من ضمن مهامها ووظائفها اقتراح تطوير سياسات واستراتيجيات حديثة للتنمية، وتوفير مرجعيات مستقبلية لصانع القرار، والمساهمة في إصلاح المؤسسات وتحديث نظمها، والتنبؤ بالآثار المستقبلية للسياسات والتشريعات والقرارات الحالية، وصقل المهارات والخبرات العلمية وتأهيلها لإعداد الدراسات المستقبلية.

وبينما وجدت في أقطار عربية عديدة وحدات مستقلة لإدارة الأزمات والتنبؤ بها، لا نكاد نجد أثراً لوحدات مهمتها استشراف المستقبل والاستعداد له، باستثناء ما تقوم به من دور مشابه وحدات التخطيط الاستراتيجي الآخذة في الانتشار في المؤسسات المدنية والعسكرية في الأقطار العربية.

وفي كلمة أخيرة، فإن ثقافة الدراسات المستقبلية في الوطن العربي ستظل تراوح مكانها، إن لم نسع إلى إعادة تشكيل العقل العربي، وخلق تيار وطني وقومي يمتلك عقلاً منهجياً نقدياً متمرداً على كل أشكال التابوهات الموروثة والمصنوعة. وعبثاً نحاول وضع رؤية مستقبلية أو دراسات استشرافية قطرية أو قومية، ونحن أسرى لأنواع من اليقين السلفي عوضاً من إطلاق مشروع فكري عقلاني قادر، بتوسيع النقاش حوله، على أن يحرك المياه الآسنة، وأن يؤسس لقيام مدرسة عربية للدراسات المستقبلية ويروّج لتقنياتها. وهو مشروع بديل للسلفية المتطلعة إلى بناء مشروعها المتمثل بإعادة الماضي وإحياء دولته وفراديسه المفقودة في غير سياقها التاريخي ¨

كتب ذات صلة:

العرب ومواجهة إسرائيل: احتمالات المستقبل (جزآن)

العقد العربي القادم: المستقبلات البديلة