مدخل نظري:

شُغلت المجتمعات البشرية منذ القدم، وباستمرار، بالعلاقة بين السكان والطعام، أي إلى أي مدى يكفي الطعام الإنسانَ بأعداده المتزايدة؟ ومتى تكون زيادة السكان مطلوبة؟ ومتى ينبغي أن يكفَّ الإنسان عن التزايد‏[1]؟ ونتيجة لخصوبة أراضي وادي النيل، وتخلخل سكان مصر قديماً، فقد نصح المصريون القدماء أجيالهم بالإكثار من النسل، وقالوا في ذلك مثلهم الشهير «الكثرة عزة»‏[2]، بينما تأثر الصينيون كثيراً بآراء فيلسوفهم العظيم كونفوشيوس التي هدفت إلى الوصول بالمجتمع إلى مستويات أرقى، وذلك من طريق تنظيم شؤون الأسرة، وإن كان من رأيه أن لكل مجتمع عدداً من السكان يتناسب مع موارده (نظرية الحد الأمثل للسكان حالياً)‏[3].

وكذا الحال عند اليونانيين القدماء، فقد كانوا ينشدون دائماً التناسب والانسجام والتوازن بين عدد السكان والموارد في ظل بيئتهم الفقيرة. كما كانت للفيزوقراطيين آراؤهم السكانية، فقد ربط أحد علمائهم كيناي بين السكان والاقتصاد، قائلاً بوجود علاقة طردية بين حالتَي تخلخل السكان وقلة الإنتاج، وقال تحديداً في شأن هذه العلاقة: «إن الدولة التي يقل عدد سكانها بمقدار الثلث، ينقص إنتاجها بمقدار الثلثين، وإنه كلما زادت كثافة السكان في دولة أرضها خصبة ومتسعة، كلما زادت ثروتها». ومن آرائه الهامة في شأن هذه العلاقة أن الدولة يجب أن تعمل على زيادة الدخول قبل زيادة السكان‏[4]. لذلك نستطيع القول إن كيناي قد قرر، ومنذ نصف قرن قبل مالتوس أنه: «ليس للتناسل حدود غير القوت» وهو ما يعرف حديثاً بالمدخل التنموي في الدراسات السكانية، وبالأخص تلك المتعلقة بدراسات الخصوبة.

وإذا كانت هذه هي المنطلقات النظرية، المتفائلة منها والمتشائمة، بشأن ارتفاع معدلات الخصوبة وزيادة حجم السكان، فإن الدراسة الحالية، المتعلقة بالوقوف على واقع الخصوبة في السودان، وما جاء بشأنها من ارتفاع في معدلاتها، وما أفرزه ذلك من تحديات، وما يبحث عنه من معالجات، تجد نفسها منحازة لاستخدام المدخل التنموي في تناول المشكلة وتقديم الحلول، وهو المدخل الذي يقوم على التوازن بين السكان واستغلال ما هو متاح لديهم من موارد الطبيعة، وتسخيرها لتوفير الغذاء لهؤلاء السكان، كثر عددهم أو قل.

أولاً: الخصوبة في الواقع العالمي:
مستوياتها اتجاهاتها ومحدداتها

إن ظاهرة النمو السكاني المتزايد، الحادث اليوم في العالم، تشكل بالفعل تحدياً للبشرية. فقد وصل سكان العالم في العام 2014، جراء هذه الزيادات السكانية المتسارعة، إلى 7.2 مليار نسمة، ومن المتوقع أن يزداد هذا العدد إلى أكثر من ملياري نسمة بحلول عام 2050‏[5].

لذلك، وفي اتجاه مقاوم لهذا التحدي فقد شهد العالم، ومنذ بداية السبعينيات، تناقصاً في مستويات الخصوبة. حدث ذلك في كل من الدول المتقدمة والنامية على السواء، ولكن بمستويات مختلفة. جاء أدناه في أفريقيا حيث تُعَد أفريقيا الصحراوية، التي يقع السودان ضمن حدودها، المنطقة الوحيدة التي لم تشارك العالم، حتى الآن، مرحلته الانتقالية في الاتجاه نحو انخفاض الخصوبة. ذلك أن معدلات الخصوبة في معظمها تزيد على 6 أطفال للمرأة‏[6]. بل إن بعضاً منها ما زال يقبع في المرحلة الأولى من مراحل الانتقال الديمغرافي، وهي مرحلة الخصوبة المرتفعة، ذلك أن مثل هذه المجتمعات التقليدية تحتاج إلى مثل هذه الخصوبة المرتفعة لمواجهة ارتفاع معدلات الوفيات بها بغرض التعويض، وذلك حتى تتمكن من تحقيق بقائها. وقد طورت من أجل ذلك عادات مستندة إلى أعراف وتقاليد تشجع على الإنجاب المتكرر. ورغم انخفاض الوفيات لاحقاً نتيجة للتقدم الصحي، إلا أن ذلك لم يترافق مع تغيرات ثقافية واجتماعية ملائمة، وهو ما كرّس ارتفاع الخصوبة بها‏[7].

وإذا أردنا أن نفرد حديثاً عن أسباب الانخفاض الكبير للخصوبة في الدول المتقدمة، نستطيع أن نُرجع ذلك إلى انتشار التصنيع وما تبعه من حياة حضرية، وما نتج من ذلك من تغيير في تركيب الأسرة وفي وظائفها، حيث فقدت الأسرة الكثير من وظائفها الاقتصادية (وحدة أساسية منتجة ومستهلكة) والاجتماعية (وحدة أساسية في عمليات التنشئة الاجتماعية)، التي أصبحت مؤسسات المجتمع تؤدي كثيراً منها. ثم ما نتج أيضاً من التصنيع من توسع في التعليم ومن تحسن في مستويات المعيشة، ومن تقدم صحي، أدى، بالضرورة، إلى انخفاض في معدلات الوفيات، وبخاصة وفيات الرضع. وقد نتج من كل ذلك، في نهاية الأمر، انخفاض كبير في مستويات الخصوبة في الدول المتقدمة‏[8].

أما في الدول النامية فهناك عدة عوامل، مباشرة وغير مباشرة، أدت إلى تغير مستويات الخصوبة فيها. يأتي في مقدمتها ارتفاع سن الزواج الأول، الذي يجيء أثره من خلال خفض فترة الحمل. فقد أظهرت المسوح السكانية أثر هذا العامل في خفض الخصوبة في الكثير من الدول النامية، حيث يعتبر الزواج المبكر بالنسبة إلى الأنثى من الأسباب الرئيسية التي تقود إلى كثرة الولادات. ذلك أن سنوات الحمل، وبالتالي احتمالاته، تكون كبيرة في حالة الزواج المبكر. والأسباب المؤدية إلى الزواج المبكر في الدول النامية كثيرة عند كلا الجنسين‏[9].

يوجد، أيضاً، عدد من العوامل الاجتماعية التي تؤثر هي الأخرى بطريقة غير مباشرة في الخصوبة، وذلك من خلال تأثيرها في المحددات المباشرة لها. يقع أهمها في تحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعية في الدول النامية. إلا أنه قد دارت مناقشات كثيرة بين علماء السكان، منذ سبعينيات القرن المنصرم، حول دور كل من مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وبرامج تنظيم الأسرة من الجهة الأخرى، في التأثير في مستويات الخصوبة. وقد دار النقاش حول مدخلين، حيث أكد الاقتصاديون والاجتماعيون دور التنمية بوصفها أحد موانع التكاثر السكاني. بل ذهبوا إلى أنها تعتبر، في هذا المسعى، أكثر فاعلية من برامج تنظيم النسل. وبناءً على هذا المدخل فإن التنمية تحدث تغييراً في ما يتعلق بالطلب على الأطفال، حيث يكون الطلب سالباً كلما تقدم المجتمع اقتصادياً. ويأتي في الجانب الآخر مؤيدو برامج تنظيم الأسرة، الذين يرون أن الحاجة ما زالت ماسة لدعم برامج تنظيم الأسرة، وذلك من طريق نشر الوعي بها، وتوفيرها للمواطنين. ثم جاء فريق ثالث ليقول بضرورة اتخاذ طريق وسط يجمع بين المدخلين. وقد نظر هؤلاء إلى خفض الخصوبة كعملية معقدة، تستوجب استخدام المدخلين كليهما، حيث لا بد من التنمية للتقليل من الحاجة إلى الأطفال، كما لا بد أيضاً من نشر الوعي باستخدام موانع الحمل كعامل له أهميته في خفض الخصوبة. ففي سنغافورة مثـلاً، حدث انخفاض في معدلات الخصوبة نتيجة للتكامل بين التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جانب، والاستخدام الفاعل لبرامج تنظيم الأسرة من الجانب الآخر. كما اتبعت جنوب أفريقيا، أيضاً، برنامجاً مماثـلاً لخفض الخصوبة‏[10].

يعتبر التعليم، أيضاً، محدداً غير مباشر من محددات الخصوبة، ويأتي أثر التعليم من خلال ارتفاع سن الزواج لأول مرة، ثم أيضاً من خلال استعمال موانع الحمل واتباع برامج تنظيم الأسرة بصورة عامة، وكلاهما من أسباب خفض الخصوبة. إلا أن بعض الدارسين يرون أن ارتفاع تكلفة تربية الأطفال، وتكلفة تعلمهم على وجه الخصوص، هي العامل الهام في خفض الخصوبة، إذ إن ذلك يقلل الرغبة في إنجاب أطفال أكثر. ويأتي أثر التعليم أيضاً من خلال اشتراك المرأة المتعلّمة في القوى العاملة. وقد أدى كلاهما إلى تأخير سن الزواج الأول، ثم إلى تقليل الإنجاب بسبب ظروف العمل‏[11].

يأتي أيضاً عامل التغذية عند النساء كعامل مؤثر في الخصوبة فقد أدت المجاعات، وضعف التغذية بصورة عامة، إلى خفض معدل الولادات وارتفاع حالات الإجهاض الطبيعي الناتج من سوء تغذية الأمهات‏[12]. ويعتبر ارتفاع معدل وفيات الأطفال من الأسباب الاجتماعية الدافعة لارتفاع معدل المواليد الجدد، وذلك بغرض التعويض من فاقد الوفاة. فالآباء والأمهات، في أغلب المجتمعات النامية، يخشون وفاة أطفالهم الحاليين، لذلك هم يحاولون إنجاب أكبر عدد ممكن من الأطفال لجعل التعويض ممكناً. ويأتي تفضيل الذكور كعامل اجتماعي آخر له تأثيره في زيادة الإنجاب، وبالأخص في المجتمعات الريفية في الدول النامية، حيث تظل المرأة تنجب حتى ترزق بطفل ذكر، بل تظل تكرر المحاولات لأكثر من طفل. يحدث ذلك بغض النظر عن عدد البنات اللاتي أنجبتهن. ويبرر هذا المسعى الاعتقاد بأن الأبناء يشكلون الضمان الاجتماعي لوالديهم عندما يتقدم بهم السن ويصبحون غير قادرين على الكسب. وتأتي أهمية ذلك من واقع عدم وجود ضمان اجتماعي للعجزة والمسنين في الكثير من الدول النامية‏[13].

ثانياً: الخصوبة في السودان: مستوياتها واتجاهاتها ومحدداتها

أوضحت الإحصاءات السكانية الرسمية، أن الخصوبة في السودان تتجه نحو الانخفاض، وذلك بالرغم من مستوياتها العالية. فقد كان معدل المواليد الخام 51.7 بالألف في عام 1956، انخفض في عام 1973 إلى 47.5 بالألف، ثم إلى 42.6 بالألف في عام 1983، ثم تواصل هذا الانخفاض ليصل في عام 1993 إلى 42 بالألف. وقد انعكس هذا الانخفاض على بقية المعدلات، فانخفض معدل الخصوبة الكلية للمرأة من 6.76 مولوداً في عام 1973 إلى 5.5 مولوداً في 2008‏[14]، ومن الملاحظ أن هذا الانخفاض بسيط لم يترك أثراً واضحاً في خفض معدلات الخصوبة العالية في السودان. ومن إشارات ذلك أن المعدل السنوي للنمو ما زال في تصاعد مستمر. فقد ارتفع من 2.13 بالمئة في عام 1973 إلى 2.57 بالمئة في عام 1983، ثم إلى 2.8 بالمئة في عام 1993. ثم انخفض قليـلاً في عام 2008 ليصل إلى 2.53 بالمئة‏[15]. هذه المقارنات يظهرها الجدول الرقم (1). ويُرجع الدارسون ذلك إلى انخفاض معدلات الوفيات، نتيجة للتحسن في الخدمات الصحية، وارتفاع الوعي الصحي، مع ثبات معدلات المواليد على حالها، أو ربما انخفاضها بصورة قليلة. ما أهّل السودان للدخول في المرحلة الثانية من مراحل الانتقال الديمغرافي (مرحلة التزايد السكاني المبكر).

الجدول الرقم (1)

سكان السودان بناءً على تعدادات 1955/1956 – 1993 ومعدل النمو السنوي لكل تعداد

تاريخ التعدادالعددالفترة الزمنيةمعدل النمو
17 كانون الثاني/يناير 195610.263
4 نيسان/أبريل 197314.81917.2142.13
14 شباط/فبراير 198320.59410.8682.57
14 نيسان/أبريل 199325.58810.1672.8
200839.15 سنوات2.53

المصدر: Fourth Population Census of Sudan: Analytical Report (Khartoum: Department of Statistics, 1996), p. 44. Modified by the results of the last census 2008.

 

وقد اتضح أن هناك مجموعة من العوامل التي ساهمت في الانخفاض النسبي لمستويات الخصوبة في السودان، يأتي في مقدمها بعض التغيرات التي حدثت في نمط الزواج، حيث ارتفع متوسط عمر الإناث عند الزواج لأول مرة من 18.2 عام في 1973 إلى 20 عاماً في 1983، ثم إلى 21.6 عام في 1993. ويظهر الجدول الرقم (2) هذه المقارنات بناءً على مكان الإقامة.

الجدول الرقم (2)

متوسط العمر في السودان عند الزواج لأول مرة

سنة التعداد

(السودان الشمالي)

جملة السكانحضرريف
ذكورإناثذكورإناثذكورإناث
197325.218.226.419.124.717.9
198326.620.028.621.325.819.6
199328.621.630.723.227.020.8

المصدر: المصدر نفسه، ص 76.

 

وتوضح الأرقام ارتفاع السن عند الزواج لأول مرة، ونلحظ أنه ارتفاع متساوٍ عند كل من الإناث والذكور. وقد أرجع الدارسون أسبابه، بصورة أساسية، إلى زيادة فرص التعليم، ذلك أن التعليم يشكل دافعاً كبيراً لتأخير سن الزواج، وبالأخص عند الإناث. ويوضح الجدول الرقم (3) هذه الحقائق.

الجدول الرقم (3)

أثر التعليم في تأخير سن الزواج عند الإناث

مستوى التعليمأميابتدائيابتدائي إكمالثانوي عامثانوي عالٍالجملة
السن عند الزواج الأول16.217.720.122.926.417.8

المصدر: مأخوذ بتصرّف عن: تقرير السودان عن السكان والتنمية (الخرطوم: الجهاز المركزي للإحصاء، 1994)، ص 10.

 

يتضح من هذا الجدول أن متوسط العمر عند الزواج قد ارتفع بصورة ملحوظة مع ارتفاع مستوى تعليم الإناث. فقد أدى التعليم إلى ارتفاع متوسط العمر عند الزواج للإناث المتعلمات إلى 26.4 عام مقارنة مع 16.2 عام فقط عند غير المتعلمات. لذلك فإن توفير فرص تعليم المرأة، وبالأخص فرص التعليم العالي، سوف يعمل – دون شك – على خفض معدلات الخصوبة العالية الحادثة الآن في السودان. إضافة إلى ذلك، فإن التعليم يؤثر من ناحية أخرى في وظيفة المرأة في الأسرة والمجتمع، حيث أصبحت المرأة المتعلمة تعمل في مختلف المجالات، وهو ما حدا بها على تخصيص وقت أكثر لدورها الجديد على حساب الإنجاب.

ومن التغيرات الواضحة في نمط الزواج الانخفاض الكبير في نسبة الإناث المتزوجات في الفئة العمرية 20 – 29؛ فقد انخفضت نسبة الإناث المتزوجات من 64 بالمئة إلى 46 بالمئة للفئة العمرية 20 – 24 ومن 89 بالمئة إلى 72 بالمئة للفئة العمرية 25 – 29 خلال الفترة 1979 – 1990‏[16]. إلا أنه رغم ذلك ما زال الزواج وما ينتجه من إنجاب، ومن تكوين أسري، من العمليات الاجتماعية الهامة في السودان. فقد أظهرت نتائج التعداد الأخير (2008) أن أكثر من نصف الإناث يتزوجن قبل بلوغ سن التاسعة عشرة، وأن 91 بالمئة من الإناث و84 بالمئة من الذكور يتزوجون قبل بلوغ سن الأربعين عاماً‏[17]. كما أظهرت نتائج التعداد الأخير (2008) أيضاً أن هناك ارتفاعاً في حجم الأسر من 3 ملايين في عام 1973 إلى 3.2 مليون في عام 1983 وإلى 3.6 مليون في عام 1993، ثم إلى 5.4 مليون أسرة في 2008. كما أن هناك ارتفاعاً في متوسط حجم الأسرة من 5.1 فرد في عام 1993 إلى 5.6 فرد في عام 2008، بل إن تفضيلات الأسر لحجمها تشير إلى أن الحجم المتوسط 5 – 8 أفراد قد جاء في المقدمة بصورة مضطردة، حيث ارتفعت نسبتهم من 47.5 بالمئة في عام 1983 إلى 50 بالمئة في عام 2008‏[18].

كذلك أبرزت بيانات الخصوبة في السودان، الفوارق الواضحة بين الريف والحضر. وتوضح هذه البيانات أن معدل الخصوبة الكلي للريف قد بلغ 6.4 طفل في مقابل 5.1 طفل للحضر. ويأتي ذلك لأن الإناث في المدن لهن حظ أوفر من التعليم والعمل والحصول على خدمات تنظيم الأسرة والإقبال عليها. ثم أيضاً لزيادة الطلب على الأبناء في المجتمعات الريفية، بالأخص الرعوية منها، حيث تحتاج الأسرة الرعوية إلى ما لا يقل عن ثلاثة أبناء حتى تستطيع أن تمارس حياتها الرعوية من دون الحاجة إلى استخدام عمالة مؤجرة. أو ربما حتى في وجودها، وذلك بسبب امتلاك الأسر الرعوية أنواعاً متعددة من الحيوانات (إبل، أبقار، ضأن، ماعز) مع اختلاف خياراتها الرعوية، هذا إضافة إلى أعمال الزراعة المطرية للحصول على حاجات الأسرة من الحبوب (الذرة الرفيعة أو الدخن)، وهي تحتاج إلى عدد مماثـل من البنات لمقابلة الكثير من الأعمال المنزلية بما في ذلك جمع حطب الوقود، وجلب الماء، والحليب، ثم رعي الحيوانات الصغيرة بالقرب من القرية أو الفريق. فالأولاد والبنات ينظر إليهم في مثل هذه المجتمعات التقليدية على أنهم سلع اقتصادية استثمارية نظراً إلى توقع عائد مستقبلي منهم من خلال عملهم في الزراعة أو الرعي، ومن ثم زيادة دخل الأسرة وتحقيق أمنها الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع غير محمي بشكل كافٍ ومنظم‏[19].

ثالثاً: تحديات الخصوبة في الواقع السوداني

 

1 – تحدي الأطفال دون سن الـ 15 عاماً

أظهر التعداد الخامس والأخير للسكان (2008) أن السودان يتمتع بهيكل عمري يافع، حيث تقدر نسبة الأطفال الأقل من 15 عاماً بنحو 43 بالمئة من جملة السكان، وهم دون شك يحتاجون إلى الكثير من الخدمات الصحية والتعليمية وغيرها. ويقع هنا التحدي الأول، حيث وجد أنه رغم الجهود المبذولة في المجالات الصحية، الوقائية منها والعلاجية، إلا أن وفيات الأطفال دون الخامسة ما زالت عالية، حيث تقدر بنحو 83 بالألف، تتفاوت ارتفاعاً وانخفاضاً حسب الولايات وما هو متوافر بها من خدمات صحية، حيث سجلت ولاية النيل الأزرق أعلى معدل وفيات (131 بالألف)، بينما سجلت ولاية الجزيرة أدناه (53 بالألف)‏[20]. وأن سوء التغذية الحاد الذي يصيب 12.6 بالمئة من الأطفال على المستوى القومي، يتفاوت هو الآخر، بين الولايات، حيث سجلت ولاية الخرطوم أدنى معدل (6.1 بالمئة) بينما سجلت ولاية البحر الأحمر أعلاه (32.7 بالمئة)‏[21]، حيث نجد أن 3 أطفال من كل 10 بهذه الولاية المنكوبة يعانون سوء التغذية، واستناداً إلى نتائج المسح السوداني لصحة الأسرة (2006) فإن هناك 32.8 بالمئة من الأطفال ناقصي الوزن، ما يعكس تفاقم سوء التغذية المزمن‏[22]. بينما تغطي خدمات التحصين الكلي نحو 49 بالمئة فقط من الأطفال في سن التحصين‏[23].

أما من حيث مؤشرات التعليم فقد سجل معدل الالتحاق بمرحلة الأساس (6 – 13عاماً) على المستوى القومي 67 بالمئة، بينما سجل معدل القرائية القومي 62 بالمئة، وهو يختلف أيضاً باختلاف الولايات، حيث جاءت أعلى المعدلات بولاية الخرطوم (85 بالمئة و81 بالمئة) على التوالي، وأدناها بولاية كسلا (48 و45) على التوالي‏[24].

الأمر يشير، إذاً، وفي كلا المجالين الصحي والتعليمي إلى ضعف الخدمات للأطفال. ويكمن تحدي الخصوبة هنا في فشل السودان وعدم قدرته على تعظيم الفائدة من خاصية الهيكل العمري اليافع التي يحظى بها، والوفاء باحتياجات أطفاله الصحية والتعليمية وغيرها، بما يؤهلهم ليكونوا سواعد قادرة صحياً ومهنياً على العمل والإنتاج. وبالرغم من أن السودان قد شهد خلال السنوات الأخيرة جهوداً مستمرة لمعالجة قضايا الأطفال بتأسيسه عدداً من المؤسسات في هذا المجال، مثل المجلس القومي للطفولة ومجالس رعاية الطفولة الولائية وشرطة حماية الأسرة والطفل، إلا أن الطفولة في السودان ما زالت تعاني مشكلات عديدة كالنقص الحاد في مؤسسات التعليم قبل المدرسي، وعدم تحقيق أهداف تعميم التعليم الأساسي، وتدني الوضع الصحي للأطفال وارتفاع معدلات الوفيات ونقص الوزن والقزم (نحو ثلث الأطفال)، إضافة إلى مشكلات أخرى كالعنف والتسرب المدرسي وتأثر الأطفال بالحروب والنزاعات، وما يترتب على ذلك من نزوح وعدم استقرار. كما أن معظم المؤسسات والهياكل العاملة في مجال الأطفال غير قادرة على تلبية متطلبات التخطيط لضمان استمرارية الخدمة المقدمة للأطفال في إطار من التنسيق والتكامل مع مختلف القطاعات على المستوى القومي والولائي، بسبب قلة الموارد المالية وضعف كفاءة الكوادر البشرية. وبالنظر إلى المستقبل، سيزيد عدد الأطفال (الأقل من 15 عاماً) من 14.2 مليون إلى 22.2 مليون خلال العقدين القادمين، وسيرتفع بالتالي عدد الأطفال في سن المدرسة من 7 ملايين إلى 11.5 مليون. كما سيرتفع عدد الأطفال في سن المدرسة الثانوية من 2.4 مليون إلى 4 ملايين. وهذا يبرز حجم الضغوط على التعليم العام لتحقيق أهداف القبول الكامل، فضـلاً عن تحدي أن يكون التعليم جيد النوعية‏[25].

ويدخل هنا أيضاً تحدي ما يسمى «أطفال الشوارع»، وهو تعبير فضفاض استخدم بوجه عام لوصف صغار السن من الجنسين، الذين يعيشون في شوارع المدن السودانية وأزقتها، وبخاصة المدن الكبرى. وقد أظهرت الدراسات أن تقديرات هؤلاء الأطفال قد بلغت 34 ألف طفل متشرد، وهو الرقم المتداول الآن في أدبيات الظاهرة. وقد أجمعت الدراسات على تعدد أسباب الظاهرة وتشابكها، فبينما جاء تركيز بعض الدراسات على الأسباب الكلية المرتبطة بالسياسات العامة، والتنمية غير المتكافئة وتهميش الريف، والنزاعات والحروب، اهتمت دراسات أخرى بالأسباب الجزئية، مثل الفقر الأسري وإفرازاته من تدنٍ في مستويات المعيشة، وتفكك أسري وتسرُّب دراسي وغيره. ولا شك في أن كـلاً من الأسباب الكلية والجزئية قد تضافرت، دون ترتيب لأهمية أي منها، لكي تتحول الظاهرة إلى مشكلة اجتماعية خطيرة في غياب سياسة واضحة للمعالجة.

2 – تحدي ارتفاع معدل الإعالة

يشير معدل الإعالة إلى حجم العبء الذي يلقيه بقية السكان في فئات عمرية معيّنة، وتحديداً الفئات غير المنتجة (صفر – 14 + 60 فأكثر)، على بقية الفئات في المجتمع، أي الفئات المنتجة (15 – 59) والمشتغلين منهم بالفعل. وقد بلغت هذه النسبة في السودان 91 بالمئة حسب بيانات التعداد الأخير (2008) أي أن كل 100 شخص منتج يقابله نحو 91 شخصاً غير منتج‏[26]. وهي نسبة عالية تشتمل على الكثير من الأفراد غير العاملين، ما يعني أن الأفراد العاملين سيدّخرون أقل، وذلك لحاجتهم إلى الإنفاق على غير العاملين، فيضعف بالتالي ادّخارهم، وكذا حال الحكومة، حيث تضعف قدرتها على فرض الضرائب، ما يقلل عملية التراكم الرأسمالي اللازمة للتنمية، ذلك أن الزيادة السكانية قد تصل في بعض الأحيان إلى 3 بالمئة، وهي لذلك تمتص الزيادة السنوية في معدلات التنمية، التي تزيد في العادة قليـلاً عن نسبة الزيادة في السكان. وهي العلاقة التي يطلق عليها علماء الاقتصاد الرأسمالي نظرية «المصيدة السكانية» أو الشرك السكاني (Population Trap)، زاعمين أنها تشكل قيداً على جهود التنمية في الدول النامية، بل هي التي تقف وراء تخلفها‏[27]. إلا أن آخرين يرون أن ضعف الادخار في الدول النامية لا يمكن إرجاعه بصورة متفردة أو رئيسية إلى أسباب ديمغرافية، فقد يكون تبديد الفوائد الاقتصادية، أو عدم استخدامها بصورة مرشدة أو بفاعلية من أجل التنمية هو المسؤول عن ضعف حجم الاستثمارات في تلك الدول. ونلحظ ذلك بوضوح في الاستهلاك البذخي أو الكمالي لمثل هذه الوفورات في السودان، كما نلحظ ذلك أيضاً في الوفورات الضائعة بسبب ما يعرف بـ «القطاع الثالث» في السودان وغيره من الدول النامية، وهو قطاع السماسرة والمضاربين وغيرهم من الفئات التي تعمل في قطاعات غير منتجة إنتاجاً حقيقياً ولكنها تحصل على فوائد ضخمة بلا عمل حقيقي، فتحقق بذلك نمواً طفيلياً على حساب النمو الحقيقي. كما نلحظ ذلك في سوء تنظيم الجهاز الإنتاجي، ما يتسبب في إهدار الكثير من الموارد الاقتصادية. مثال ذلك تضخم الجهاز الحكومي وكثرة الصرف فيه، وكل هذه، وكثير غيرها، تعتبر فوائض ضائعة من الممكن استخدامها لأغراض التنمية بما يمكّن من تجاوز سلبيات التركيب العمري غير المتوازن في السودان وغيره من دول العالم الثالث‏[28].

3 – تحدي الشباب (15 – 24)

تشكل شريحة الشباب (15 – 24) التحدي الأبرز، والسمة الغالبة في ملامح التركيبة السكانية للسودان، إذ يقدر عددهم بنحو 6.7 مليون (خُمس إجمالي السكان) ويقدر أنهم سيصلون إلى 11.7 مليون خلال العقدين القادمين. وهي شريحة أفضل تعليماً وأوفر صحة وأكثر تطلعاً مما يتطلب توفر فرص عمل كافية لهم. إلا أنهم، وعلى عكس ذلك تماماً، يعانون ارتفاع معدلات البطالة بينهم، حيث تزيد نسبتها على 25 بالمئة وسط الشباب بصورة عامة، وعلى 48 بالمئة وسط خريجي الجامعات. كما أن بعضهم يواجه مشكلات في الصحة والتسرب من التعليم والتهميش وضعف المشاركة المجتمعية، الأمر الذي يحول دون إدراكهم قدراتهم وإطلاق طاقاتهم الكامنة، ما يستوجب على الدولة أن تعطي اهتماماً أكبر لهذه الشريحة الهامة، وأن تفرد لهم سياسة قومية تعمل على تنمية قدراتهم وتوظيف طاقاتهم وإبداعاتهم ليتم استثمار الفرص الديمغرافية التي يتيحونها الآن، بشكل أفضل‏[29].

4 – تحديات البطالة

بناءً على مسح قوى العمل (2011) فإن السكان في سن العمل (15 – 59) يبلغ عددهم حوالى 17.78 مليون، يقدر النشطون اقتصادياً منهم بحوالى 9 ملايين منهم 7.3 مليون مشتغلون فعلياً و1.7 مليون متبطلون، بمعدل بطالة صريحة بلغ 18.5 بالمئة‏[30]. وهو لم ينخفض إلى أقل من 15.2 بالمئة منذ العام 2000‏[31] ويوضح الجدول الرقم (4) تقديرات القوى البشرية العاملة والمتبطلة بالسودان ومعدلات البطالة خلال الأعوام 2000 – 2011.

الجدول الرقم (4)

تقديرات القوى البشرية العاملة والمتبطلة بالسودان ومعدلات البطالة خلال الأعوام 2000 – 2011

العامالبيان
القوى العاملةالمستغلونالمتعطلونمعدل البطالة
20009.28.71.415.2
20019.78.21.515.5
2002108.51.715.9
200311.38.61.811.3
200410.791.716.3
200511.19.21.816.2
200611.49.51.917.1
200711.18.92.219.4
20081310.32.720.7

المصدر: «العرض الاقتصادي 2007،» وزارة المالية، الجهاز المركزي للإحصاء (2007).

 

وتوجد أسباب متعددة للبطالة في السودان يقع أهمها في الآتي:

أ – الزيادة الكبيرة غير الطبيعية لسكان المدن بسبب الهجرة الريفية/الحضرية، حيث هاجرت أعداد كبيرة من العمالة الريفية غير المدربة للعمل بالمدن، وبخاصة مدن الخرطوم الكبرى حيث تتمركز الصناعات، فأصبحت المدن تزدحم بأشخاص لا خبرة لهم في الأعمال التي يطلبها سوق العمل، وهي هجرات شبابية في معظمها‏[32].

ب – تراجع دور الدولة في إيجاد فرص عمل بالحكومة والمرافق العامة وانسحابها التدريجي من ميدان الإنتاج، والاستغناء عن خدمات الكثير من العاملين بوجود برامج الخصخصة، التي أصابت كل قطاعات الاقتصاد. ثم أيضاً ما يسمى برامج الإصلاح الاقتصادي التي تستجيب لمتطلبات صندوق النقد الدولي في هذا الخصوص، وقد بلغ عدد المفصولين جراء ذلك ما يزيد على 500.000 عامل وموظف حكومي، يحدث ذلك مع تلازم فشل الخصخصة في تحقيق زيادة الأنشطة الاقتصادية، مع الاستمرار في إجراءات الفصل والتقليص المستمر لدور الحكومة في خلق فرص عمل جديدة، وتحميل المسؤولية للقطاع الخاص الذي عجز عن فهم دوره ومسؤوليته في سياق الاقتصاد ذي المسؤولية الاجتماعية‏[33].

5 – تحدي الفقر

للفقر أبعاد كثيرة يقع أهمها في تدني مستوى المعيشة، الذي يشتمل قياسه، إضافة إلى مستويات الإنفاق الاستهلاكي والحرمان الغذائي، توافر السكن والكهرباء (الإضاءة) والماء الصالحة للشرب، والصرف الصحي ووقود الطهي… إلخ. نلقي الضوء هنا على هذه الأبعاد، حيث تشير بيانات المسح القومي لنفقات الأسرة (2009) إلى أن إنفاق الفرد في الشهر يقدر بحوالى 148 جنيهاً، ينفق منها 61 بالمئة (حوالى 89 جنيهاً) على الغذاء و39 بالمئة على الخدمات غير الغذائية (59 جنيهاً)، بينما جاء تقرير خط الفقر المطلق (وهو الخط الذي يقسم الأسر بين فقراء وغير فقراء) بحوالى 112 جنيهاً في الشهر للفرد، وحسب هذا الخط فإن حوالى 46.5 بالمئة من سكان السودان يقعون تحت خط الفقر في العام 2009. يوضح الجدول الرقم (5) التباين بين الولايات، ويلاحظ أن أدنى معدل قد سجلته ولاية الخرطوم (26 بالمئة) تليها الشمالية (29 بالمئة) ونهر النيل (32 بالمئة)، بينما يبلغ معدل انتشار الظاهرة ذروته في ولاية شمال دارفور (70 بالمئة) تليها ولايتا جنوب كردفان (60 بالمئة) وجنوب دارفور (59 بالمئة)‏[34]، وهي الولايات نفسها التي تشهد حالياً تمرداً مسلحاً ضد الحكومة المركزية بسبب الإهمال التنموي.

الجدول الرقم (5)

الفقر حسب الولاية
ونمط المعيشة في السودان 2009

(بالنسبة المئوية)

الولايةحضرريفإجمالي
الشمالية262829
نهر النيل252522
البحر الأحمر298058
كسلا64826
القضارف265950
الخرطوم224129
الجزيرة274028
النيل الأبيض426156
سنار294844
النيل الأزرق246758
شمال كردفان206771
جنوب كردفان296760
شمال دارفور487871
جنوب دارفور16857
السودان265746

المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء، «المسح الأساسي لبيانات الأسر،» في: حالة سكان السودان 2013 (الخرطوم: المجلس القومي للسكان، الأمانة العامة، 2013).

 

أما الفقر، من حيث مستوى المعيشة الطيبة أو الحرمان منها بالمؤشرات سالفة الذكر، فيمكن الوقوف عليه من خلال الجدول الرقم (6):

الجدول الرقم (6)

التوزيع النسبي للأسر حسب مستوى المعيشة

الولايةمعدل الالتقاطنسبة الأسر التي تستخدم مياه شرب محسنةنسبة الأسر التي لا توجد لديها إضاءةنسبة الأسر التي تستخدم الحطب كوقود للطهينسبة الأسر التي لا يوجد لديها مرحاض
الشمالية7871185
نهر النيل247562516
البحر الأحمر2433251945
كسلا3548236254
القضارف334845954
الخرطوم2273854
الجزيرة297361944
النيل الأبيض317023646
سنار307024138
النيل الأزرق2742177338
شمال كردفان2949247954
جنوب كردفان276088446
شمال دارفور1765179233
غرب دارفور1748149443
جنوب دارفور2255477921
السودان2459145437

المصدر: الجهاز المركزي للإحصاء، «المسح الأساسي لبيانات الأسر 2009،» في: حالة سكان السودان 2013.

 

يعتبر ضعف البرامج الإنمائية خلال العقود القليلة الماضية من أهم أسباب الفقر في السودان، الأمر الذي أدى إلى ضعف التراكم الرأسمالي، ومن ثم الاعتماد على الاستدانة من النظام المصرفي في تمويل عجز الموازنات، ما أدى إلى تصاعد معدلات التضخم وما ترتب عليها من تراجع في الاستثمارات، ومن ارتفاع في أسعار السلع. ثم جاء عامل النزوح نحو المدن بسبب الجفاف والتصحر والحروب والنزاعات ليفاقم حدة الفقر من خلال اتساع معدلات البطالة، الصريحة منها والمقنعة، والتزاحم حول الأنشطة الهامشية ذات الدخول المتدنية. إلا أن السبب الأهم هو تطبيق حكومة السودان برامج الإصلاح الاقتصادي والتكيف الهيكلي التي اقترحها البنك الدولي، والتي ترتبت عليها نتائج كارثية على الشرائح الفقيرة، إذ إنها عملت على رفع الدعم الاجتماعي، ما ترتب عليه ارتفاع تكلفة المعيشة، التي فاقم حدتها تسريح الكثير من العاملين، مع انخفاض فرص التوظيف الجديدة فارتفعت معدلات البطالة بآثار راجعة أو باقية، فالعلاقة بين البطالة والفقر هي، على الدوام، علاقة بين تابع ومتبوع‏[35].

6 – تصورات الحلول

على الرغم مما قُدم في السودان من برامج من أجل احتواء معدلات الخصوبة العالية، إلا أن الأمر ما زال يراوح مكانه. فبينما انخفض بعضها قليـلاً، نلحظ أن معظمها قد حافظ على مستواه العالي، بل إن بعضها قد ارتفع. فقد حافظ معدل النمو السكاني السنوي على مستواه المرتفع في جميع التعدادات الخمس التي تمت، الذي يقع في المدى 2.5 بالمئة – 2.8 بالمئة. كما حافظ معدل الخصوبة الكلية، هو الآخر، على وضعه القديم في المدى 5.5 – 6.5 مولود للمرأة الواحدة، بينما أظهرت نتائج التعداد الأخير (2008) ارتفاعاً مقدراً ومطّرداً في حجم الأسر من تعداد إلى آخر. حيث ارتفع من 3 ملايين أسرة في عام 1973 (التعداد الثاني) إلى 5.4 مليون أسرة في عام 2008 (التعداد الأخير)، وهو ما يشير إلى أن الزواج في السودان شائع وعام. بل إن تفضيلات الأسر لحجمها تشير إلى أن الحجم المتوسط (5 – 8 أفراد) هو الحجم المفضل، وبصورة مطّردة أيضاً في جميع التعدادات، حيث ارتفع من 47 بالمئة في عام 1993 إلى 50 بالمئة في عام 2008.

يحدث كل ذلك رغم تبنّي السودان، لخفض معدلات خصوبة سكانه، استراتيجية المنظمة الدولية الرامية إلى محاربة زيادة السكان في الدول النامية، اعتقاداً منها أنها هي السبب في تخلفها الاقتصادي والاجتماعي. وهي استراتيجية تقوم على التقليل من الإنجاب بشتى الطرق والوسائل، وذلك من خلال برامج ما يعرف بـ «تنظيم الأسرة». وقد بذلت المنظمة جهوداً وأموالاً كثيرة من أجل تحقيق هذا الهدف بالرغم من محدودية نتائجه في السودان، لا لأن عدداً كبيراً من سكانه غير مستعدين لاستخدام تلك البرامج فحسب، بل أيضاً بسبب عدم ملاءمته للواقع السوداني اقتصادياً واجتماعياً ودينياً.

فمثل هذه البرامج الرامية إلى خفض معدلات الخصوبة في الدول النامية لا تجدي من دون استصحابها ببرامج تنموية تزيد فعاليتها. فقد جاء في متن الدراسة أن مناقشات كثيرة دارت بين علماء السكان حول دور مشروعات التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جهة، وبرامج تنظيم الأسرة من الجهة الأخرى، في التأثير في مستويات الخصوبة. وقد دار النقاش حول مدخلين، حيث أمن الاقتصاديون والاجتماعيون على دور التنمية بوصفها أحد موانع التكاثر السكاني، بل اعتبروها أكثر فاعلية من برامج تنظيم النسل.

لذلك فإن الدراسة ترى أن الحل الأكثر جدوى لخفض معدلات الخصوبة في السودان، إنما يكمن في ولوج باب التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة. وقد يكون هذا الحل معقداً وأعلى تكلفة من برامج تنظيم الأسرة، ولكنه هو الحل الوحيد الذي يمكن أن يلقى القبول والنجاح في المجتمع السوداني؛ ذلك أن المسألة السكانية عميقة الجذور في التراث السوداني، وفي نظمه الاقتصادية والاجتماعية والدينية، ومن ثم لا يمكن معالجتها اعتماداً على كيانات مصطنعة مثل تنظيم الأسرة وما تقدمه من برامج هي أقرب ما تكون لتفكيك الأسرة منها إلى تنظيمها.

ولعل فاعلية برامج التنمية في خفض معدلات الخصوبة قد تأكدت من خلال نظرية الانتقال الديمغرافي (The demographic transitional theory) لفرانك تونشتاين التي أثبت من خلالها أن الدول الأوروبية قد شهدت، مع مراحل تطورها المادي، انخفاضاً في معدلات نموها السكاني، مع كل مرحلة يتم فيها تقدم مادي. كما أشارت العديد من الدراسات إلى أن انخفاض معدلات المواليد أكثر ما يكون وضوحاً في تلك المجتمعات التي حققت معدلات نمو اقتصادي عالية. ما يؤكد وجود علاقة وثيقة بين التنمية وانخفاض معدلات الخصوبة، الشيء الذي أقنع الكثيرين بأن التنمية هي أفضل وسيلة لمعالجة مشكلات ارتفاع معدلات الخصوبة في الدول النامية، كما أقنعتهم أيضاً بأن قلة السكان لن تحدث التنمية إذا لم تفعل ذلك كثرتهم، وبخاصة في الدول وفيرة الموارد مثل السودان.

خلاصة

يشكل ارتفاع معدلات الخصوبة، وما يصاحبها من معدلات إعالة مرتفعة، والانتشار الواسع للبطالة والفقر، وتدنٍ لمستويات التنمية البشرية، تحديات كبيرة للسودان، الأمر الذي يستوجب المعالجات الفاعلة. وإن أحد الأطر المناسبة هو ألّا يقتصر أمر هذه المعالجات على تقنيات ضبط النمو السكاني المتبعة حالياً في السودان، بل لا بد من الاتجاه نحو استخدام استراتيجيات تنموية، بالتركيز على الصلة التي ثبتت جدواها، في العديد من الدول النامية، بين التنمية والخصوبة. لذلك فإن الدراسة الحالية تؤصل للمدخل التنموي لأن يكون مستند السياسة السكانية في السودان، بعد أن أثبتت سياسات ضبط النمو السكاني المتّبعة حالياً عدم فاعليتها في المعالجة، حيث ما فتئت الخصوبة في السودان تحافظ على معدلاتها العالية، وستظل كذلك ما دام الأبناء يشكلون الضمان الاقتصادي والاجتماعي المستقبلي لأسرهم في غياب ضمانات الدولة.

 

وعن السودان ايضاً اليكم هذه الدراسة  أثر القبلية في الاستقرار السياسي في السودان (حالــة دارفـور)

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 447 في أيار/مايو 2016.

(**) عمر يوسف الطيب: أستاذ مشارك، قسم الاجتماع، جامعة النيلين – السودان.

البريد الإلكتروني: oyousif1945@gmail.com

[1] عبد الله الصعيدي، زيادة السكان.. عقبة أم دافع للتنمية: دراسة للمشكلة في مصر (القاهرة: دار النهضة العربية، 1988)، ص 5.

[2] زيدان عبد الباقي، أسس علم السكان (القاهرة: مكتبة وهبة، 1978)، ص 31 – 32.

[3] المصدر نفسه، ص 32 – 33.

[4] المصدر نفسه، ص 39 – 41.

[5] «رصد السكان في العالم 2014: تقرير موجز،» الأمم المتحدة، إدارة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية (نيويورك) (2014)، <http://www.un.org/en/development/desa/population/publications/pdf/trends/Con​cise​%​20Report%20on%20the%20World%20Population%20Situation%202014/ar.pdf>، وجعفر حسن الشايقي، زيف الاعتقاد في مضار تكاثر العباد: دراسة في التأصيل الإسلامي حول علاقة السكان ودورهم بالنسبة لمشكلات الموارد والبيئة الطبيعي (الخرطوم: شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، 2000)، ص 9.

[6] Asia Mohammed Sharif, «Factors Affecting Fertility among Sudanese Women in an Urban Community: A Case Study of El-Dueim Town,» University of Khartoum (1999), p. 16.

[7] عدنان وديع، «قضايا السكان في الوطن العربي: قراءة في الواقع والتحدي،» مجلة التنمية والسياسات الاقتصادية (المعهد العربي للتخطيط – الكويت)، السنة 2، العدد 1 (كانون الأول/ديسمبر 1999)، ص 13 – 14.

[8]   Sharif, Ibid., p. 21.

[9] محمد عوض جلال الدين، العلاقات التبادلية بين السكان والتنمية، المجلس القومي للبحوث؛ دورية رقم 32، 2 ج (الخرطوم: منشورات مجلس الأبحاث الاقتصادية والاجتماعية، 1976)، ج 2: العوامل والمتغيرات المؤثرة في الإنجاب وتنظيم الأسرة بالسودان، ص 8.

[10] Abdel Ghaffar Mohamed Ahmed, The Extended Family and Development in Sudan, Bulletin Economic and Social Research Council; no. 53 (Khartoum: Economic and Social Research Council, 1977), pp. 11‑12.

[11] Sharif, «Factors Affecting Fertility among Sudanese Women in an Urban Community: A Case Study of El-Dueim Town,» pp. 25‑26.

[12] Mona Abdel Fattah Khalifa, Fertility Differential in Khartoum, Bulletin Economic and Social Research Council; no. 81 (Khartoum: Economic and Social Research Council, 1979), pp. 12‑27.

[13] لمزيد من التفاصيل، انظر: جلال الدين، العلاقات التبادلية بين السكان والتنمية، ج 2، ص 1 – 12.

[14] تحليل أوضاع سكان السودان: الراهن، المآلات، والآفاق (الخرطوم: المجلس القومي للسكان، الأمانة العامة، 2011).

[15] خصائص وديناميكية السكان في السودان (الخرطوم: المجلس القومي للسكان، الأمانة العامة، 2010)، ص 16.

[16] تقرير السودان عن السكان والتنمية (الخرطوم: الجهاز المركزي للإحصاء، 1994)، ص 5.

[17] تحليل أوضاع سكان السودان: الراهن، المآلات، والآفاق، ص 13.

[18] المصدر نفسه، ص 15.

[19] للمزيد عن نطرية الطلب على الأولاد، انظر: وديع، «قضايا السكان في الوطن العربي: قراءة في الواقع والتحدي،» ص 45 – 47.

[20] حالة سكان السودان 2013 (الخرطوم: المجلس القومي للسكان، الأمانة العامة، 2013)، ص 12.

[21] المصدر نفسه، ص 13.

[22] خصائص وديناميكية السكان في السودان، ص 91.

[23] المصدر نفسه، ص 4.

[24] حالة سكان السودان 2013، ص 23 – 24.

[25] تحليل أوضاع سكان السودان: الراهن، المآلات، والآفاق، ص 21 – 22.

[26] خصائص وديناميكية السكان في السودان، ص 27 – 28.

[27] عمر يوسف الطيب، علم اجتماع السكان وتطبيقاته: مع الوصف والتحليل والمقارنة لسكان السودان (الخرطوم: دار جامعة إفريقيا العالمية للطباعة والنشر، 2004)، ص 175 – 176.

[28] للمزيد انظر: جلال الدين، العلاقات التبادلية بين السكان والتنمية، ج 1: النظريات والمذاهب وواقع العالم الثالث، ص 2 – 25.

[29] تحليل أوضاع سكان السودان: الراهن، المآلات، والآفاق، ص 22.

[30] «دراسة حول وسائل رتق النسيج الاجتماعي،» مجلس الوزراء، الأمانة العامة لتنمية المستشارين (الخرطوم) ([د. ت.])، ص 77.

[31] حالة سكان السودان 2013، ص 16.

[32] «دراسة حول وسائل رتق النسيج الاجتماعي،» ص 74 – 75.

[33] المصدر نفسه، ص 77.

[34] حالة سكان السودان 2013، ص 18 – 19.

[35] «دراسة حول وسائل رتق النسيج الاجتماعي،» ص 59 – 71، و«خصائص ديناميكية السكان في السودان،» المجلس القومي للسكان، الأمانة العامة ([د. ت.])، ص 89 – 90.


عمر يوسف الطيب

أستاذ مشارك، قسم الاجتماع، جامعة النيلين- السودان.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز