المؤلف: سعد محيو

مراجعة: منى سكرية (**)

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2016

عدد الصفحات: 256 ص

أدار سعد محيو محركات مداركه المعرفية والثقافية والنفسية، مستخدماً أدواته التلسكوبية لرصد «الجهنمات» التي اخترعها الإنسان بنفسه ولنفسه، حابساً أنفاس من أراد ويريد تلمُّس عملية خروج آمنة من ترسبات هذه الجهنمات على صعد البيئة والعلاقات الدولية وحروب الطاقة والتقديس الأعمى للتكنولوجيا وعلامات تغيُّر المناخ والأنانيات ومخاطر العولمة… إلخ متسائلاً في كتابه الصادر حديثاً: هل لا تزال ثمة فرصة لمغادرة هذا الجحيم المُقيم قبل فوات الأوان؟

فصول الكتاب

تحت عنوان «العولمة والنظام الدولي: السلام حروب بوسائل أخرى»، يشير الكاتب إلى «فكرة اكتسحت العديد من مراكز الأبحاث والإعلام والبرامج الحكومية في الغرب، قوامها أن الجنس البشري دخل مرحلة ضخمة غير مسبوقة في تاريخه الحديث، مرحلة ستنقل فيها العولمة المستندة إلى الثورات المذهلة في تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والمواصلات والبيوتكنولوجيا، هذا الجنس إلى نظام عالمي جديد يحكم قرية عالمية واحدة تسودها قوانين التجارة الحرة، والتنافس السلمي، والاعتماد المتبادل، والتعاون لمكافحة آفات العصر الجديدة من الفقر والإرهاب والجريمة المُنظمة والأمراض والأوبئة إلى انتشار أسلحة الدمار الشامل» (ص 39)، لافتاً إلى أن هذه الفكرة «لم تقتصر على أنصار الرأسمالية والفكر الرأسمالي، بل شملت عدداً من اليساريين الذين اتفقوا مع اليمينيين على نقطة جوهرية كبرى واحدة هي أن الدولة – الأمة (التي استندت إليها الرأسمالية في نهضتها الأولى في أوروبا) «قد انقضى عهدها الذهبي وانتهت مهمتها التاريخية، وبات مطلوباً الآن تجاوزها إلى رحاب العولمة والقرية العالمية» (ص 40).

وددنا الإشارة إلى الفقرتين المذكورتين أعلاه، لما تمثلانه من جوهر الفكرة التي قامت عليها تلسكوبات محيو في رصد آفات العولمة ونتائجها الكارثية على البشرية… من هنا، ناقش الفكرة، وأورد الحجج عليها، وأبدى جزعه من استمرار آثارها، ما لم يتدارك الوعي البشري «أي منقلب ينقلبون».

وإذ يفيد القارئ بدراسة توماس بارنيت أحد المحللين الاستراتيجيين في وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) بعنوان «خريطة البنتاغون الجديدة: الحرب والسلام في القرن الحادي والعشرين» التي أوضح فيها أن «الولايات المتحدة تبحث الآن عن استراتيجية جديدة تحل مكان تلك التي كانت موجودة إبان الحرب الباردة»، فإنه ينقل عن بارنيت قوله إنه من خلال مسحه لـ 140 عملية عسكرية أمريكية في فترة التسعينيات ذهبت القوات الأمريكية بالتحديد إلى الدول الواقعة خارج مركز العولمة التي يسميها بارنيت «الفجوة غير المندمجة» بهدف «توسيع الحرية»، مما دفع بمحيو إلى التعليق قائلاً: «… إن عقدين من الزمن، في إثر سقوط الحواجز الاشتراكية أمام السوق العالمية، أثبتا خطأ كل من النظريات الرأسمالية حول نهاية التاريخ، وبداية تاريخ إمبراطورية وفق اليسار، لأن ما حدث لم يكن في الواقع بروز نظام جديد مضبوط بسلطة جديدة، بل لانظام أو فوضى عالمية موصوفة».

وبهذا المغزال، يلوي المؤلف في صفحات الكتاب على تبيان فظائع مترتبات العولمة، وفضائح لاإنسانيتها، متوقفاً أمام ملامح تراجعها. «وهذا يعني أن وعد العولمة بإزالة الفجوة بين العالمين المتقدم والنامي، ليست سوى أضغاث أحلام»، ومنها النقاش الدائر في أمريكا حول تقليص التزاماتها في العالم، أو الإبقاء على استراتيجيتها القائمة على الحفاظ على النظام الدولي بقوة السلاح الأمريكي».

وتحت عنوان «أمنا الأرض تحتضر» يثير الفصل الثاني مسألة البيئة والكوارث الناجمة عن «تسييس الطبيعة» ومنها ما أقدم عليه الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003 عبر حاكمه بريمر عندما منع الفلاحين العراقيين وبقرار رسمي من إعادة استخدام البذور الطبيعية التي استخدمها آباؤهم وأجدادهم طيلة آلاف السنين على أن يشتروا بدلاً منها «بذوراً معدلة جينياً من شركات أمريكية عملاقة مثل مونسانتو» (ص 66). في هذا السياق، يورد جملة من الحقائق حول ازدياد تركيز غازات ثاني أوكسيد الكربون والميثان والأوزون والحمض النيتروجيني بسبب حرق الوقود الأحفوري والمواد العضوية، وازدياد معدل حرارة الأرض، وارتفاع منسوب مياه البحار، وتناقص الجليد القطبي وغيرها، متوقفاً أيضاً عند قمة كوبنهاغن عام 2009 والمؤامرة العلنية والخدعة الخفية و«كلتاهما أمريكيتان» ولأن – بحسب قوله – الرأسمالية العالمية رفضت إخضاع النمو الاقتصادي إلى توازنات البيئة، «الأمر الذي كشف عما خلفته الرأسمالية من عالم بلا روح ولا أخلاق ولا قيم يسبح في بحر من ظلمات الحروب والأحقاد والأمراض النفسية والعضوية»، و«تنصيب للتكنولوجيا كآلهة جديدة» بما هي التزام مطلق بالفلسفة المادية الميكانيكية «التي تعتبر الطبيعة الحية آلة أخرى».

هذا ما يكمله في الفصل الثالث بعنوان «حروب النفط الصخري والتقليدي تتواصل ضد البيئة والحضارة»، واصفاً «ثورة النفط والغاز الصخريين بأنها انقلاب خطير وسيؤدي إلى المزيد من المخاطر على التوازنات الإيكولوجية والجيولوجية لكوكب الأرض، وأيضاً في دفع حروب الطاقة في العالم إلى مستويات جديدة، ومنها الاحتلال الأمريكي للعراق بحجة البحث عن أسلحة دمار شامل ولم تجدها، واحتلالها أفغانستان بحجة تحرير المرأة والهدف تسهيل مرور أنابيب نفط بحر قزوين عبر أفغانستان (لائحة الوثائق تطول في هذا المجال، ومنها مثالاً الصراع الأمريكي – البريطاني وانقلاب حسني الزعيم عام 49 في سورية، وتمريره لخطوط التابلاين – من كتاب لفواز طرابلسي) .

أما في الفصل الرابع، فيطل على «الثورة التكنولوجية الثالثة: الحلم ينقلب إلى كابوس»، مبرزاً محطات هذا التحول إلى كابوس ومنها «العمل على تغيير طبيعة الإنسان للسيطرة على وعيه»، و«لأن الأرض باتت عاجزة عن تحمل المزيد من العربدة التكنولوجية غير الحكيمة، والخيار صار بين حياة أو موت الجنس البشري»، الأمر الذي يتطلب «وعياً جديداً صافياً كلياً متجاوزاً مفاهيم الهيمنة والسيطرة، هو وعي يعيد إلى العالم رونقه الإيجابي الرائع».

هذا «الوعي الجديد» هو ما يناقشه في الفصل الخامس، بسبب عوامل ثلاثة تستدعي بروز هذا الوعي وهي: الأزمة البيئية الطاحنة، والتطورات المذهلة التي طرأت على النظريات العلمية الحديثة، ووصول معركة الوعي الجديد المفترض للوعي البشري إلى مفترق. وهذا ما يناقشه في الفصل السادس بعنوان: «الإيكو – اشتراكية، علم النفس النقدي، وحركة التطور الواعي: خطوات جريئة نحو الإنسان الكامل»، ليشير إلى أن أنصار تيار الوعي الجديد ينطلقون من أسس مكينة ومقنعة وتستند إلى إرث فلسفي وفكري، ما جعله مستمسكاً بأفكار لكبار مفكرين سبقوا، آمـلاً بترجمة هذه الأفكار كبرامج وهدي يراها أنها لا تزال صالحة لإنقاذ البشرية للخروج من جهنمها… وهذا ما يعالجه في الفصل السابع بعنوان: «سبينوزا، كانط، وثوار الحداثة الأولى: أنبياء قدماء لوعي جديد»، مركزاً على مواصفات الإنسان الكامل الذي يجب أن يكون من خلال الأفكار التي قدمها هؤلاء، متسائلاً عن موعد ولادة هذا «الإنسان المُضاعف» و«الفرد الجماعي» في الفصل الثامن، وفيه يقترح بناء وعي جديد لدى الفرد كمدخل لعلاقته مع الجماعة في إطار برنامج شامل مادي وروحاني، وجودي وواقعي، عقلاني وعاطفي، وأيضاً في وضع برنامج عمل لقوى التغيير لإطلاق حركة عالمية تقيم توازناً مع القوى العاتية للعولمة، يكون محوره عامل الخوف على مصير الأرض، مشدداً على «جهنمات هذا القرن»، داعياً إلى الانتفاض عليها من خلال «انتفاضة عقلانية على الوعي المكيافيللي الراهن القائم على التنافس القاتل، وانتفاضة على الذات الأنانية، وعلى الدمار البيئي، ولوضع العلم والتكنولوجيا في خدمة البيئة والحياة والتطور الروحي»، مميزاً بين الدين والروحانية «فالأول ورغم بدايته التاريخية الأولى المتسامية فوق الانقسامات والصراعات سرعان ما تحوّل أو حُّول إلى عامل قسمة وفتن مرعبة بين البشر، وإلى حصن من المعتقدات المغلقة التي توضع في نهاية المطاف، إما في خدمة السلطات الحاكمة أو الأيديولوجيات أو الهويات القاتلة، بما تتضمنه هذه من جهنمات تعج بالأحقاد والكراهية والخوف والجرائم، في حين أن الثانية، الروحانية، «تعيد اكتشاف الوحدة في كل المخلوقات والموجودات، وتبني فوق هذا الاكتشاف حياة بديلة يغشاها الحب والتضامن وعشق الحياة والمعرفة» (ص 208)، مسلطاً الضوء على ما أسماه تمرد المتصوفة في هذا السياق، مختتماً هذا الفصل بسؤال فرضي: فلنفترض أن إنساننا الجديد المُكتسب هذا الوعي الصافي حقق الخطوات الثلاث، أي بإدراكه حقيقة جهنمنا على الأرض، وإنهاء الانفصال، وإعادة الأديان إلى جذورها الروحانية، فهل سيكون كافياً لبناء صرح حضارة بشرية جديدة وأرض جديدة؟

خلاصة

لا شك في أن سعد محيو لم يتعدَّ عتبة المبالغة في وعوده ووعيده لسكان الأرض بجهنمهم التي ينحتونها بأيديهم، وما خبر غمر المياه لخمس جزر من جزر سليمان في المحيط الهادئ مؤخراً، ووقوع ست جزر أخرى تحت طائلة الغرق سوى تأكيد لمخاوف الكاتب، ولأدلته العلمية – القائمة فعـلاً… والآتي أعظم!

ولكن لا شك أيضاً في أن محيو قد يكون قارب الحلول أو التمنيات، وهو في حال نشوة روحية التمس فيها ما يراه خيراً للبشرية بصياغة وعي جديد. وهو بذلك يكون قد فعل كما سبقه من فلاسفة وخبراء وأخلاقيين وأنبياء في تأرقهم لرسم عالم البشرية على هيئة وسلوك الملائكة لا الشياطين ولكن لم يفلحوا.

ثمة ما نشير إليه ويتعلق بغياب أو تغييب الكاتب دور أعلام في الثقافة العربية حول البيئة، مع أن المرحوم مصطفى كامل طلبة – على سبيل المثال – اسم على علم «الديبلوماسية الخضراء»، و«الأب الروحي للبيئة»، الذي صاغ برنامج القرن الحادي والعشرين للبيئة في قمة الأرض في الريو عام 1992.

وقد اعتمد تنويع مصادره بالحجج والأفكار، ما يساعد القارئ على الفرز والاستنتاج. لكننا نلاحظ تغييباً آخر لأسماء مفكرين وفلاسفة من التراث والواقع العربي والإسلامي في عملية بناء الوعي الإنساني: فهل لذلك علاقة بأرجحية التقدم العلمي في الغرب، وانعدام مراكز الأبحاث في منطقتنا؟ وتالياً التراكم؟

كما اعتمد المفهوم العلمي لتفسير الأحداث الإيكولوجية الأوسع، متوقعاً النتائج، لكنه استبعد دور عالم الماورائيات لدى أهل الأديان السماوية، وهو عالم قائم وموجود وله رؤاه للحياة والموت فـ «كل ما عليها فانٍ».

على الرغم من فجور سياسات النيوليبرالية ورائدتها الولايات المتحدة الأمريكية في تدمير البشرية، إلا أنها – وليس دفاعاً عنها إطلاقاً – محطة في تاريخ البشرية الذي ما برح يتقلب بين حروبه الدائمة وسلامه الموقت منذ فجره، حيث تتسابق فيه صلوات السلام ومجازر الإبادة.

لقد أضاف الكاتب موضوعاً ملحّاً للنقاش والتداول إلى المكتبة العربية، على أمل ألا يبقى على رفوفها… هو موضوع عصري لراهنيته المقلقة، ولتبعات نتائجه الخطرة مستقبـلاً، كما أشار في أكثر من سطر وصفحات تحذيرية.