في مراحل الوهن، تؤسس بعض الحركات المجتمعية لتعافيها المستقبلي حين توظف أدوات النقد الذاتي لكي تعيد النظر في أحوالها وأدوارها وممارساتها، ولكي تنتج تقييماً موضوعياً لأسباب الوهن والسبل الحقيقية لتجاوزه.

الكثير من هذا تحتاجه اليوم الحركة الديمقراطية في مصر التي تواجه أزمة كبرى، وتبحث عن البقاء وعن شيء من الفاعلية، في واقعٍ تتكالب عليه وعلى مواقع القوة والنفوذ والتأثير به مصالحُ ومؤسساتٌ وأجهزةٌ ذاتُ نزوع سلطوي صريح يعصف بسيادة القانون وحقوق وحريات المواطن، ولا رؤية واضحة لها بشأن قضايا التقدم والتنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية.

والحركة الديمقراطية في مصر، ومنتسبوها – الذين إما يفرض عليهم الحكم/السلطة هويةَ ضحايا المظالم والانتهاكات عبر قوانين وإجراءات قمعية وعقوبات سالبة للحرية، أو هم يتوزعون على منظمات المجتمع المدني، وعلى تشكيلات نقابية وشبابية وطلابية مختلفة، أو هم يحضرون على هوامش المجال العام كأصحاب رأي وفكر حر يغرّدون بعيداً من أسراب طيور الظلام المؤيدة للسلطوية، وبعيداً من رافعي شعارات الديمقراطية بغير اتساق، وهذا ما يحتِّم رفض انتهاكات الحقوق والحريات منذ اللحظة الأولى، ومن دون معايير مزدوجة ورفض الخروج على مسارات التحول الديمقراطي، ومن دون مقولات «الضرورة» الرائجة (إجراء الضرورة في 3 تموز/يوليو 2013/مرشح الضرورة في الانتخابات الرئاسية/ضرورات الحرب على الإرهاب/وغيرها) – هذه الحركة أمامها بعض الخبرات العالمية الملهمة التي يمكن الإفادة منها والبناء عليها للشروع في نقد ذاتي جاد.

ففي أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين، وفي أعقاب حربين عالميتين مدمرتين، قامت أغلبية الحركات اليمينية والمحافظة في المجتمعات الأوروبية الغربية بنقد ذاتي شامل مدفوعة بحقيقة أن الأفكار الفاشية والعنصرية تبلورت على حوافها، وبكونها تحالفت مع الفاشيات الحاكمة، وامتنعت عن مقاومة الاستبداد والحروب وجرائم الإبادة، والجرائم ضد الإنسانية والانتهاكات المروعة، وأعادت تعريف مرتكزاتها كحركات ديمقراطية وحزبية تشارك في العمل العام والسياسي بسلمية وعلنية، وباحترام ٍلمبادئ سيادة القانون وتداول السلطة عبر آليات وإجراءات انتخابية ومواطنة الحقوق المتساوية، وكحركات اجتماعية تدافع عن المزج بين اقتصاد السوق وبين مسؤولية الدولة لضبط اختلالاته، ومناهضة التمييز وضمان الحياة الكريمة للمواطن، وتسعى إلى الجمع بين احترام حريات الأفراد والتزام مقتضيات المعرفة والعلم والعقل وبين تشجيع المجتمع على تقدير منظومات القيم الدينية من دون إجبار وفي إطار دساتير وقوانين تحمي التعددية والتسامح.

وفي سياقات مغايرة، أنتجت أيضاً في النصف الثاني من القرن العشرين بعضُ الحركات اليسارية والشيوعية في المجتمعات الأوروبية الغربية مراجعةً لأحوالها وأدوارها المجتمعية ومواقفها السياسية على نحو أخرجها من خانات رفض الآليات والإجراءات الانتخابية، ومهد لمشاركة أحزابها من مواقع المعارضات البرلمانية في الديمقراطيات الليبرالية التي كانت مؤسساتها التشريعية والتنفيذية والقضائية تتشكل (أو يعاد تشكيلها) وتستقر في ظل حالة من القبول العام، وساعدها على إلزام الحركات اليمينية والمحافظة وأحزابها «الديمقراطية المسيحية» ببعض سياسات العدالة الاجتماعية وبضمانات حقوق وحريات المواطن.

وفي ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وإزاء تبني حكومات اليمين في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية لتوجهات اقتصادية واجتماعية نيوليبرالية، عمدت إلى إنهاء أو تقليص سياسات العدالة الاجتماعية في قطاعات حيوية كالخدمات التعليمية والرعاية الصحية وضمانات الحياة الكريمة للعاطلين عن العمل والفقراء والضعفاء سناً أو مرضاً أو عجزاً، وإلى تهميش دور الدولة والمؤسسات ذات الملكية العامة في ضبط اختلالات السوق وإزاء توالي فوز اليمين بالانتخابات البرلمانية في بريطانيا وألمانيا وغيرهما، وبالانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية وبلدان أخرى، شرعت حركات اليسار مجدداً من مواقع المعارضة (بعض اليسار الأوروبي قاد الحكومات في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، وفي هذين العقدين أيضاً نجح الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة في إيصال مرشحيه الرئاسيين أكثر من مرة إلى البيت الأبيض وفي الحصول على مقاعد الأغلبية في الكونغرس. وفي إعادة النظر في جمودها الفكري الذي ألزمها بالدفاع عن سياسات للعدالة الاجتماعية ضاعت الأغلبيات الانتخابية المؤيدة لها واتجهت قطاعات سكانية مختلفة لمعارضتها وطلب تغييرها بسبب الأعباء الواقعة على الموازنات العامة وفي ظل تراجع مؤشرات الأداء الاقتصادي والاجتماعي. وكان أنْ خرج اليسار الأوروبي عبر أحزابه العمالية والاشتراكية الديمقراطية برؤى جديدة للمزج بين اقتصاد السوق وبعض سياسات العدالة الاجتماعية، ومع الدفع باتجاه تحسين الأداء الاقتصادي والاجتماعي؛ رؤى عُرفت في بريطانيا بالطريق الثالث وفي ألمانيا بالاشتراكية الديمقراطية الجديدة وفي الولايات المتحدة بالليبرالية الاجتماعية، وكان أن تمكنت هذه الرؤى من إعادة الأغلبيات الانتخابية إلى اليسار ودفعت لبعض الوقت بقيادات أحزابه إلى مراكز الحكم مع توني بلير في بريطانيا (1997 – 2007) ومع غيرهارد شرودر في ألمانيا (1998 – 2005) ومع بيل كلينتون في الولايات المتحدة (1993 – 2001) – وهذا بغض النظر عن تقييم أداء القيادات المشار إليها بعد وصولها انتخابياً إلى الحكم.

وطوال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من ألفية الإنسانية الجديدة، وظفت الحركات العمالية واليسارية والحركات الديمقراطية ومجموعات الدفاع عن الحقوق والحريات في العديد من بلدان أمريكا اللاتينية أدواتِ النقد الذاتي لإدراك أوجه الوهن والعجز والقصور التي تورطوا بها أو فرضت عليهم، ومكنت نخباً فاشية ذات مكونات عسكرية ومدنية إما من الإطاحة بالحكومات اليسارية أو من القمع الدموي للمعارضات الشعبية أو من ارتكاب جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وانتهاكات واسعة النطاق ضد الشعوب من دون مساءلة أو محاسبة، وفي ظل شيء من التأييد الدولي – خاصة من قبل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المتعاقبين. وفي سياق النقد الذاتي أيضاً، انفتحت بعض الحركات العمالية واليسارية في أمريكا اللاتينية بهدف الاقتراب من المواطن ومن الرأي العام المحلي والعالمي على المشاركة في الآليات والإجراءات الانتخابية في بلدانها وإن اتصفت بالشكلية وبغياب النزاهة والشفافية، واتجه بعضها الآخر إلى تركيز جهوده في أنشطة المجتمع المدني وفي العمل التنموي والجماهيري المنظم وطويل النفس، وتبنت طائفة ثالثة من الحركات مهام إدارة حملات توعية محلية وعالمية بشأن جرائم وانتهاكات الحكام وحتمية توثيقها والكشف عنها ومصارحة الناس بها والمحاسبة عنها، وقامت طائفة رابعة باستثمار طاقاتها في الإنتاج الفكري والمعرفي والسياسي الذي ابتعدت به عن الصياغات الحادة للأفكار الشيوعية، واعترفت بحق الحركات والقوى السلمية في الوجود، ومن ثم في الانفتاح التدريجي على المؤسسات الدينية التي دعمت تقليدياً اليمين بما في ذلك حكوماته الفاشية، ثم بحثت بعض قطاعاتها التقدمية (تعرف بمسمى لاهوت التحرير) عن تجاوز لمأزق التوقف عن دعم الفاشيات من دون تورطٍ في مساعدة حركات شيوعية تطالب بالقضاء على الدين وفي الاقتراب من مؤسسات التعليم الجامعي ووسائل الإعلام والثقافة التي كان الكثير من العناصر الليبرالية المؤثرة فيها راغبة في التعبير الحر عن الرأي والفكر ونقد الفاشية والاستبداد في سياقات أوسع من الانتماء إلى اليسار، وتبحث عن أطر جماعية قد توفر شيئاً من «الأمان النسبي» للقيام بذلك. وحصاد التوظيف الجاد لأدوات النقد الذاتي من قبل الحركات العمالية واليسارية والحركات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية، هو مسارات تحول ديمقراطي مبهرة تستوطن المجتمعات والدولة والحياة السياسية في ظل قبول شعبي، وتوافق بين اليسار واليمين على تطبيق منظومات متكاملة للعدالة الاجتماعية وللعدالة الانتقالية لتحقيق المكاشفة والمحاسبة، ثم ممارسة التسامح بشأن جرائم وانتهاكات الماضي، ولضمانات حقوق وحريات المواطن من دون تمييز بين السكان الأصليين وذوي الأصول الأوروبية أو بين ميسوري الحال ومحدودي الدخل.

تستطيع الحركة الديمقراطية في مصر الإفادة من خبرات النقد الذاتي هذه والبناء عليها، وعلى خبرات أخرى للتعافي المستقبلي وللانتصار للوطن العادل والمتقدم والمتسامح الذي نريده ولا نتنازل عن التطلع إليه. والمنتسبون إلى الحركة الديمقراطية يدركون اليوم جيداً وضعية الوهن الراهن المحيطة بهم، وتتراكم لديهم من الخبرات المجتمعية ما يؤهل لجر الخطوط الفاصلة بينهم وبين قوى الإرهاب والعنف والتطرف التي تدعي زوراً وبهتاناً مواجهتها للسلطوية، وهي بحملها للسلاح وقتلها للناس وبطائفيتها المقيتة وتهديدها لسلم المجتمع الأهلي ولمؤسسات الدولة الوطنية تتناقض بالكامل مع مرتكزات وأهداف الديمقراطيين، وتبرر عملاً للمزيد من القمع السلطوي، ولذلك ينبغي مواجهتها الشاملة، وتتجمع لديهم من عناصر الرؤية الواضحة ما يساعد أيضاً على جر الخطوط الفاصلة بينهم وبين رافعي شعارات الديمقراطية والحقوق والحريات ممن يوظفونها لتمرير السلطوية أو لتبرير تأييد ممارسات الحكم/السلطة كإجراءات «ضرورة»، أو يتقلبون في تعاملهم مع انتهاكات الحقوق والحريات بين صمتٍ وإدانةٍ وفقاً لمعايير مزدوجة، أو يحتكرون زيفاً حق الحديث باسم الوطنية، وباسم الدولة الوطنية. إن الحركة الديمقراطية الباحثة عن تقدم الوطن بالحرية، وقوة الدولة بالعدل والحق ورفع المظالم، هي الأوْلى بالانتساب إلى الوطنية، وهم يملكون من قبول التعددية والتنوع واحترام الآخر ما يُلزم بالانفتاح على أصوات ومجموعات بين صفوف موالاة الحكم/السلطة باتت تتحفظ على طغيان المكوِّن الأمني وتنتقد تكرر المظالم والانتهاكات وتتخوف من إماتة السياسة.

أولاً: فك شفرة الفكرة الديمقراطية

في هذا السياق، يتعين على المنتسبين إلى الحركة الديمقراطية في مصر إدراك استحالة المزج بين الفكرة الديمقراطية وبين فهم للعلاقة بين المواطن والمجتمع والدولة ومنظومة الحكم/السلطة يستند إلى تبرير احتكار المنظومة هذه لمؤسسات وأجهزة الدولة واختزالها في إرادة الحاكم الفرد، وتشويه أدوات قوتها الجبرية، عسكرية وأمنية وقضائية، بطغيان القمع وتغييب العدل وسيادة القانون، ومن ثم توظيفها لحصار واستتباع المجتمع وإلغاء حيويته وفاعليته المودعة في تنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، ولإخضاع المواطن وتجريده من الإمكانات الفعلية للاختيار الحر، وللمبادرة الفردية والسعي الذاتي إلى التقدم عبر إعمال المعرفة والعلم والعقل، وإلى الترقي من خلال التزام قيم الإنسانية المحبة للحياة وللتسامح.

فالقناعات الكبرى التي تتشكل من حولها الفكرة الديمقراطية تتمثل بـ:

* حتمية تحرير المواطن الفرد من استبداد منظومة الحكم/السلطة والانتصار لحقه في الاختيار الحر إزاءها، كما تنتصر الفكرة العلمانية للحق ذاته لجهة السلطات والمؤسسات الدينية.

* ضرورة فك حصار منظومة الحكم/السلطة للمجتمع وغلّ اليد المستبدة والجبرية والقامعة لمؤسسات وأجهزة الدولة، لكي تتحرر إرادة الناس الجماعية وتصان إنسانيتهم من الظلم والقهر والخوف، ومن ثم تطلق حيوية وفاعلية واستقلالية تنظيمات المجتمع الوسيطة والقطاع الخاص.

* تطبيق مبادئ العدل وسيادة القانون وتداول السلطة والمحاسبة لإنقاذ مؤسسات وأجهزة الدولة من أخطار احتكارها من قبل منظومة الحكم/السلطة وللحيلولة دون التوظيف الاستبدادي والإخضاعي لقدراتها عوضاً عن الاضطلاع بمهام الدولة الأصلية، وهي: ضمان الأمن، وتحقيق الإدارة الرشيدة (ذات الكفاءة وغير الفاسدة) والتوافقية (محل رضاء قطاعات شعبية واسعة) للموارد والثروات، واحترام حق المواطن في الاختيار الحر، والامتناع عن حصار المجتمع.

وليست مصر باستثناء على هذه القاعدة التي تثبتها تواريخ البشر المعاصرة، شرقاً وجنوباً كما غرباً وشمالاً. وليس نشر الفكرة الديمقراطية اليوم بين أهلها وفي ربوعها بممكن ما لم تستقر في الضمائر والعقول أولوية حق المواطن في الاختيار الحر، وحق المجتمع في الحرية والإنسانية واستقلالية تنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص، وواجب الدولة في العدل والتزام سيادة القانون والتداول والمحاسبة في مواجهة خطر استبداد منظومة الحكم/السلطة. وليست الحركة الديمقراطية المصرية بمغادرة لمواقع وخانات الوهن الراهنة ما لم – بين شروط أخرى – تسلِّمْ جميع أصواتها ومجموعاتها ويقنع الراغبون في الانتساب إليها بكارثية تبرير إخضاع المواطن، وتمرير حصار المجتمع، وإبعاد مؤسسات وأجهزة الدولة عن مهامها الأصلية واختزالها في إرادة الحاكم الفرد باستدعاء لحالة «الاستثناء» أو لخطاب «الضرورة» التي تتجلى عند البعض في شرعنة لحظات الخروج على الديمقراطية، وعند البعض الآخر في الدفاع عن إجراءات غير ديمقراطية وفي تبني مقايضات شمولية مآلها الفشل كالاستقرار في مقابل الحق والأمن في مقابل الحرية، وعند البعض الثالث في تجديد دماء حكم الفرد عبر الترويج لمقولات «مرشح الضرورة»، ثم «رئاسة الضرورة» ثم ضرورات الإنقاذ الوطني. ولسنا، بالتبعية، بقادرين على العودة بمصر إلى مسار تحول ديمقراطي ما لم نصنع من جهة، الكثير من الروابط الإيجابية بين الإنقاذ الفعلي للوطن وبين الانتصار للمواطن وللمجتمع وللدولة العادلة القوية، ونفك من جهة أخرى ومن دون تردد أو مواربة أو رمادية الارتباطَ المتوهم بين الإنقاذ الفعلي للوطن وبين قبول استبداد منظومة الحكم/السلطة وحكم الفرد والادعاء المتكرر بحضور استثناءات تحتمه أو ضرورات تفرضه.

حين تتصاعد اليوم وبعد صمت نسبي، وعلى وقع المظالم المتراكمة والشواهد المتتالية لحكم الفرد وطغيان القمع في مصر، الإدانة العلنية لانتهاكات حقوق الإنسان والحريات، وتعلو أصداء المطالبة بإحياء السياسة كنشاط حر وتعددي وتفاوضي ومقاومة غلبة النهج الأمني على فعل الحكم/السلطة ومؤسسات وأجهزة الدولة، نكون إزاء تحولات إيجابية جوهرها تخليق مساحات إضافية في المجال العام للدفاع عن بعض مضامين الحكم الرشيد وعن الحقوق والحريات دون معايير مزدوجة. إلا أن السمات الديمقراطية لهذا الحراك الراهن، من جهة، تظل مراوغة لأن المشاركين فيه يميناً ويساراً تورطوا في الماضي القريب في الترويج لحديث «الاستثناء» ولخطاب «الضرورة» ولتبرير إخضاع المواطن وحصار المجتمع والخروج على مسار التحول الديمقراطي واختزال الدولة في حكم الفرد تحت يافطات «إنقاذ الوطن»، وما لبثوا يرفضون الاعتراف معرفياً وفكرياً وسياسياً بأن الإنقاذ الفعلي ما كان له وليس له أن يتأتى دون إقرار حق المواطن في الاختيار الحر وحق المجتمع في الاستقلالية وحتمية تطبيق الدولة الوطنية لمبادئ العدل وسيادة القانون والتداول والمحاسبة، لكي تكتسب وتحافظ على قوتها ومنعتها، ولكي تكف عن انتهاك حقوق وحريات المواطن وتمتنع عن حصار المجتمع.

من جهة أخرى، يصعب تصور أن حراك إدانة انتهاكات الحقوق والحريات والمطالبة بإحياء السياسة الراهن سيتطور في اتجاهات راسخة الارتباط بالفكرة الديمقراطية ما لم يُعد ِالمشاركون فيه بصرامةٍ نقدية النظرَ في مرتكزات رؤيتهم لعلاقة المواطن والمجتمع والدولة ومنظومة الحكم/السلطة والهوية المنشودة لمصر اليوم وغداً.

يميناً، أحسب أن المسؤوليات التالية تأتي في الصدارة:

* عبء إعادة الاعتبار لحق المواطن في الاختيار الحر ولاحترام مشاركته في إدارة الشأن العام عبر الآليات والإجراءات الانتخابية وغيرها، من دون التحقير من وجهة الاختيار والمشاركة إن باستدعاء نظريات «الزيت والسكر» أو من خلال إخضاع الفقراء ومحدودي الدخل وغير المتعلمين وأهل الريف لاستعلاء مدّعي الوعي من ميسوري الحال والطبقات الوسطى والفئات المتعلمة والمدينية.

* اكتشاف الأفضلية الأخلاقية والأولوية المجتمعية والسياسية لحماية حيوية وفاعلية واستقلالية تنظيمات المجتمع الوسيطة (منظمات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية) والقطاع الخاص إزاء تغوُّل مؤسسات وأجهزة الدولة المسيطر عليها من قبل منظومة الحكم/السلطة على السعي المستمر إلى التحالف مع المنظومة هذه نظير بعض الحماية وشيء من الامتيازات التي لا يستقر أبداً نمط منحها ومنعها.

* التيقن من أن إقرار حق المواطن في الاختيار الحر واستقلالية المجتمع هما مع إجراءات العدالة الاجتماعية ضمانتا نشوء وتماسك طبقات وسطى قوية تبحث عن المبادرة الفردية بهدف الترقي وتتجه إلى النشاط في التنظيمات الوسيطة والقطاع الخاص، وذلك لإنجاز التقدم العام، كما تطالب بخدمات تعليمية واجتماعية وثقافية ذات جودة، ولا تنتظر مؤسسات وأجهزة الدولة لتدير لها مسارات حياتها وأدوارها وتدفع منظومة الحكم/السلطة إلى الالتزام بالعدل وسيادة القانون والتداول والمحاسبة.

* إدراك أن اعتماد مبادئ مواطنة الحقوق المتساوية من دون تمييز وفصل الدين عن قضايا الحكم والسلطة والسياسة وإخضاع المؤسسات العسكرية والأمنية لرقابة السلطات العامة المنتخبة ليس لها كعناصر أساسية للمجتمع الحديث وللدولة الوطنية الحديثة أن تتطور وتستقر في مصر إلا في سياق تحول ديمقراطي حقيقي، وأن انتظار أن يأتي بها حكم الفرد هو وهْمٌ كامل تدحضه كل تواريخ البشر المعاصرة وتواريخنا المصرية أيضاً، وأن الاستعداد للصمت على القمع وللتعامل بمعايير مزدوجة مع انتهاكات الحقوق والحريات في سبيل ذلك الوهْم هما صنوُ سقوط أخلاقي ومجتمعي وسياسي يستدعي الاعتذار والتراجع.

أما يساراً، فإعادة النظر في علاقة المواطن والمجتمع والدولة ومنظومة الحكم/السلطة وتعميق حراك إدانة الانتهاكات والمطالبة بإحياء السياسة تستدعيان أمرين أساسيين:

* سحب الشرعية الأخلاقية والمجتمعية والسياسية الممنوحة لليد المستبدة والجبرية والقامعة للدولة إزاء المواطن ولفرضها الحصار على المجتمع وتنظيماته الوسيطة وقطاعه الخاص بإدراك أن تغوّل الدولة، ومن ورائها منظومة حكم/سلطة غير ديمقراطية، وتدخلها في كل جوانب حياة المواطن ووجود المجتمع، إنْ باسم الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للفقراء أو العدالة الاجتماعية أو مكافحة الفساد أو إنجاز التنمية أو لإنقاذ الوطن، ليس لهما إلا أن يصنعا من مؤسسات وأجهزة الدولة وحشاً يروِّع المواطن والمجتمع بالقمع، بيد أنه يفتقد كل الأسباب الفعلية للقوة وللمنعة وللتقدم، فدولة اليسار المتغولة هي نقيض الأمل في الدولة الوطنية العادلة القوية ونقيض الفكرة الديمقراطية، طالما لم تحضر مبادئ العدل وسيادة القانون وتداول السلطة والمحاسبة وتستقر الضوابط الناتجة منها ومن حق المواطن في الاختيار الحر والمجتمع في الاستقلالية.

* إعادة الاعتبار لأولوية الصياغة الديمقراطية دستورياً وقانونياً وسياسياً للعلاقة بين المؤسسات العسكرية والأمنية وبين المؤسسات التنفيذية المدنية والسلطة التشريعية المنتخبة والسلطة القضائية المستقلة لكون تداعيات الابتعاد عنها أو الانتقاص منها أو تبرير تأجيلها بحديث «الاستثناء» وخطاب «الضرورة» هي استمرار حكم الفرد وطغيان القمع وتشويه أدوات قوة الدولة الجبرية العسكرية والأمنية والقضائية التي نحتاج إلى اضطلاعها بمهامها الاعتيادية لصالح المواطن والمجتمع ولصالح الدولة الوطنية نفسها.

ومن دون ذلك ستتراجع فرص إكساب حراك إدانة الانتهاكات والمطالبة بإحياء السياسة الراهن في مصر سمات ديمقراطية واضحة، وتطويره باتجاهات راسخة الارتباط بالفكرة الديمقراطية على نحو قد يفك شفرتها ويتجاوز بعض خطايا وإخفاقات اليمين واليسار. غير أن فك الشفرة، وفي سياقه الاجتهاد معرفياً وفكرياً للبحث عن مخارج للحركة الديمقراطية من مواقع وخانات الوهن وللمواطن وللمجتمع وللدولة الوطنية عن صون وحماية من الآثار المدمرة للاستبداد، يقتضي أيضاً تحرير الفكرة الديمقراطية من بعض الأوهام واجبة التفكيك.

ثانياً: تفكيك أوهام التعاقب والتأجيل والضرورة وتديين السياسة

هي أوهام أحاطت بالفكرة الديمقراطية في مصر منذ خمسينيات القرن العشرين، وضربت عليها صنوفاً من الحصار المعرفي والقيمي والفكري والسياسي على نحوٍ حال دون تجذرها المجتمعي، ومكن – بين عوامل أخرى – السلطوية الحاكمة من البقاء طويلاً ومن احتواء لحظات الطلب الشعبي على الديمقراطية – وهو دوماً ما كان طلب وحراك بعض القطاعات الشعبية المؤثرة، وليس صياح الأغلبيات الساحقة – معرفاً بالعدل وسيادة القانون وتداول السلطة والسلم الأهلي وضمانات الحقوق والحريات الشخصية والمدنية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وما لبثت الأوهام هذه تحكم حصارها حول الفكرة الديمقراطية في واقعنا الراهن، وتفتح أبواب مصر مشرعة أمام التجديد المستمر لدماء السلطوية الحاكمة وسعيها الدائم إلى إخضاع المواطن والمجتمع والدولة لإرادتها الانفرادية.

أما الوهم الأول فيرتبط بترويج منظومات الحكم/السلطة التي سيطرت على مصر منذ 1952 ومعها بعض نخب اليسار التقليدي بفرعيه الماركسي والناصري (ومضاده اليسار الديمقراطي الذي تبلور فكرياً وتنظيمياً خلال العقود الماضية) لكون بناء الديمقراطية يمر أولا عبر تحقيق معدلات تنمية اقتصادية واجتماعية تتغلب على أزمات التخلف والفقر والأمية والبطالة والفجوات الواسعة في معدلات دخول الأفراد وتحسن من ظروف الناس المعيشية ومن مستويات الخدمات التعليمية والصحية وخدمات الرعاية المتاحة لهم، ثم يعقب الجهود والخطط التنموية التي ليس لها من دون «الدولة ومشروعاتها العملاقة» من فاعلين قادرين على الاضطلاع بها، ويتبعها لاحقا التأسيس لسيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات وغير ذلك من أشكال «رفاهية الأغنياء وميسوري الحال» التي لا تعني في شيء جموع الفقراء والأميين والعاطلين عن العمل – طبعاً وفقاً لإرادة منظومات الحكم/السلطة ومقولات نخب اليسار التقليدي المشار إليها هنا.

وبعيداً من أن الكثير من دراسات العلوم السياسية والأبحاث الاقتصادية تجرد الرؤية «التعاقبية» – البدايات التنموية المتبوعة بتحول ديمقراطي – من الحجيّة نظراً إلى العدد المحدود من المجتمعات والدول التي اقتربت من التماهي معها منذ خمسينيات القرن العشرين وإلى الخصوصية البالغة المرتبطة بها (كوريا الجنوبية كمثال) وتصنفها من ثم كوهم ذي جاذبية للسلطويات الحاكمة، يتجاهل «التعاقب» ثلاث حقائق هي:

* إن تطور المجتمعات والدول يندر أن يأتي في خطوط مستقيمة لا تتداخل أو في مراحل زمنية قاطعة يمكن بصددها إعمال القواعد الهندسية والحسابات المعملية لتعريف البدايات والنهايات المنظمة وتحديد النقلات المتوقعة من خطط تنموية إلى تحول ديمقراطي.

* إن اعتياد منظومات الحكم/السلطة والنخب المتحالفة معها على إخضاع المواطن والمجتمع والدولة والامتناع عن التأسيس لسيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات، يزج بها في الربط العضوي بين وجودها وبقاء إرادتها الانفرادية وحماية مصالحها وبين غياب الديمقراطية، ويرتب من ثم دفاعها المستميت عن السلطوية ومحاربتها الشرسة للحظات الطلب الشعبي على الديمقراطية حتى حين تنجح الخطط التنموية في التغلب على أزمات التخلف والفقر والأمية والبطالة، وتتحسن ظروف الناس المعيشية، وهو ما لم يحدث في مصر على نحو مستدام منذ خمسينيات القرن العشرين.

* إن تواصل غياب الديمقراطية ينزع عن مؤسسات وأجهزة الدولة، وعن غيرها من المؤسسات العامة، وعن المؤسسات الخاصة، بل عن بعض تنظيمات المجتمع الوسيطة في المساحات الأهلية والمدنية، القدرة على إدارة شؤونها وشؤون المواطن بمعزل عن السلطوية الحاكمة التي تصبح بذلك الإطار المرجعي الوحيد للمجتمع وللدولة، ويصبح التعاطي معها الخبرة الوحيدة الجاهزة للاستدعاء فردياً وجماعياً.

ولا يختلف جذرياً عن وهم «التعاقب» وهم آخر تشترك في الترويج له مصرياً منذ خمسينيات القرن العشرين منظومات الحكم/السلطة، والنخب الاقتصادية والمالية والإدارية (والأخيرة تعود على بيروقراطية مؤسسات وأجهزة الدولة وعلى قطاعات موظفي العموم ذوي التأثير) المتحالفة معها، وبعض نخب اليسار التقليدي، وعديد النخب المنتسبة لفظياً إلى المبادئ الليبرالية والمدعية زيفاً الالتزام بالفكرة الديمقراطية، والنخب الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية التي لا تعرف إلا البحث عن الاستتباع من قبل الحكم/السلطة كملاذ للحماية من القمع وللحصول على بعض الامتيازات؛ وهْم «لا صوت يعلو اليوم على…»، وما يتأسس عليه من تبرير تأجيل بناء الديمقراطية وارتهان سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات لأهداف تصاغ كشعارات كبرى، وتربط منظومات الحكم/السلطة بينها وبين «المصلحة الوطنية» و«الصالح العام» على نحو أحادي لا يحتمل الإضافة أو التعديل، وتسير على درب الحكام نخب التابعين.

منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم، ومقولات «لا صوت يعلو» تتعاقب وتتجه بقية مفرداتها إلى تحديد الاستقلال الوطني أو التنمية وتأهيل الناس للممارسة الديمقراطية أو الاشتراكية، أو تحرير فلسطين، أو مواجهة الصهيونية والإمبريالية، أو معركة تحرير التراب الوطني أو الرخاء الاقتصادي أو الاستقرار أو الحفاظ على الدولة الوطنية أو الحرب على الإرهاب كصنو «المصلحة الوطنية» وأهداف «المرحلة» غير القابلة للإضافة أو التعديل، ولإقصاء كل ما يتعلق بأهداف أو قيم أو مبادئ أخرى. منذ منتصف القرن العشرين وإلى اليوم، ومقولات «لا صوت يعلو» توظف لتبرير تأجيل الديمقراطية، وللتعميم الزائف للنظرة السلبية لسيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات – في الحد الأقصى – كمعوقات وقتية تحول بين مصر وبين حماية «مصلحتها الوطنية» وكذلك بينها وبين تحقيق أهداف «المرحلة»، ومن ثم ينبغي تجاهلها، وفي الحد الأدنى كترف «لا تحتمله الأخطار والتهديدات والتحديات التي يتعرض لها الوطن» يتعين تأجيله وإسكات الأصوات والمجموعات التي تطالب به، وعند الحدين تستبعد على نحو شمولي الروابط الإيجابية بين سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات وبين إنجاز المجتمعات والدول لاستقلالها الوطني وللتنمية وللتقدم وللرخاء وللسلم الأهلي، وذلك على الرغم مما لهذه الروابط من دلائل ذات حجية ومصداقية تأتي بها تواريخ الكثير من الشعوب البعيدة عنا وبعضها القريب منا.

ثم تستند منظومات الحكم/السلطة والنخب المتحالفة معها إلى وهم «التعاقب» والوهم التأجيلي الذي تتضمنه مقولات «لا صوت يعلو» للترويج لوهم ثالث يحكم الحصار حول الفكرة الديمقراطية في الواقع المصري، ويمكِّنُ للسلطوية الحاكمة بفاعلية، ويضمن بقاءها؛ وهم الضرورة الوطنية. قبل صيف 2013 وبعده، وكتاباتي دائمة التحذير من المحتوى السلطوي لمقولات فعل الضرورة متجسداً في تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة في 3 تموز/يوليو 2013، ومرشح الضرورة في الانتخابات الرئاسية الذي جسده وزير الدفاع السابق المشير عبد الفتاح السيسي، ورئيس الضرورة الذي صار إليه بعد إعلان نتائج الانتخابات الرئاسية. والحقيقة أن المحتوى السلطوي لمقولات الضرورة هذه ينبع من كونها في حدها الأدنى تبرر للخروج على الديمقراطية بادعاء انتفاء البديل لتدخل المؤسسة العسكرية في السياسة بينما البديل المتمثل بالانتخابات الرئاسية المبكرة كان حاضراً، ومن كونها في حدها الأقصى تنزع عن المواطنات والمواطنين الحق في الاختيار الحر في الانتخابات بإضفاء شرعية الضرورة الوطنية على المرشح الرئاسي لمنظومة الحكم/السلطة (أو على قوائمها ومرشحيها في الانتخابات البرلمانية القادمة)، ومن كونها في حدها الأقصى أيضاً تحول عملياً بين الناس والتعبير الحر عن الرأي فيما وراء توجهات وأفعال رأس السلطة التنفيذية التي يروج لها كالتعبير الأوحد عن الضرورة الوطنية، وينتفي من ثم الحق في معارضتها سلمياً – فالمعارضة تستحيل فوراً خيانة لمقتضيات الضرورة الوطنية – أو في البحث عن بدائل إنْ فيما خص التوجهات والأفعال – تصير زيفاً إما عنوان تآمر على الوطن أو جهل بمصالحه العليا أو مثالية خائبة – أو الأشخاص – يخونون أو يشوهون أو يسفهون.

غير أن مقولات الضرورة، وهي ذات تاريخ مديد يصل بين خمسينيات القرن العشرين واليوم، تتجاوز في صياغاتها وفي مجالات توظيفها تبرير الأحداث الكبرى ذات المحتوى السلطوي وإضفاء شرعية على منظومات الحكم/السلطة؛ فباسم الضرورة الوطنية أيضا تتحالف النخب الاقتصادية والمالية والإدارية مع الحكم/السلطة، وهي في الكثير من الأحيان تبتغي فقط حماية مصالحها وامتيازاتها وعوائدها، وباسم الضرورة الوطنية تتنصل نخب اليسار والنخب الليبرالية من الفكرة الديمقراطية وتنقلب على سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات، وتقبل إماتة السياسة كنشاط سلمي وحر وتعددي وتوافقي، وتصمت على المظالم والانتهاكات مدفوعة إما بأوهام التعاقب والتأجيل أو بالرغبة في الاقتراب من الحكم/السلطة، وحماية المصالح والامتيازات أو بالسعي إلى التخلص من العدو الأيديولوجي الذي يجسده اليمين الديني، وباسم الضرورة الوطنية يخرج على المجال العام الكثير من رموز النخب الفكرية والثقافية والأكاديمية والإعلامية لتبرير المظالم والانتهاكات بمعايير مزدوجة، بل وللترويج لهيستيريا العقاب الجماعي.

أما الوهم الرابع الذي يسهم في إحكام الحصار على الفكرة الديمقراطية في الواقع المصري ويمنع تجذرها المجتمعي فمركزه «تديين السياسة وتسييس الدين»، عبر الزج الفاسد للدين المنزه في دروب الحكم والسلطة وشؤونها وشؤون المجتمع والدولة؛ عبر الاستغلال الفاسد للدين المنزه ومساحاته ورموزه لإضفاء قداسة زائفة، إن على منظومات الحكم/السلطة وتوجهاتها وأفعالها أو على جماعات وتيارات اليمين الديني وسردياتها ومقولاتها وممارساتها؛ عبر التوظيف الفاسد للدين المنزه الذي يعود في مصر إلى سياقات زمنية أبعد من منتصف خمسينيات القرن العشرين، والذي تتورط به إلى اليوم مؤسسات دينية رسمية، كما تحاوله جماعات وتيارات اليمين الديني، وينزع، بادعاء احتكار الحقيقة المطلقة عن شؤون الحكم والسلطة والمجتمع والدولة؛ ينزع المحتوى الديمقراطي المتمثل بالتنوع والتعدد والاختلاف والتدافع السلمي وحق المواطن في الاختيار الحر والتعبير الحر عن الرأي في إطار سيادة القانون وتداول السلطة وضمانات الحقوق والحريات.

يضفي وهم تديين السياسة وتسييس الدين، وبفاعلية مجتمعية يصعب إنكارها، على منظومات الحكم/السلطة، وهي تخضع لإرادتها الانفرادية، المواطن والمجتمع والدولة، وتحارب بشراسة لحظات الطلب الشعبي على الديمقراطية شرعيةً اعتادت المؤسسات الدينية الرسمية (الإسلامية والمسيحية) ونخبها على صياغتها، وتجديدها لتواكب تنوع الأحداث واختلاف شخصيات الحكام وتوجهاتهم وأفعالهم؛ ويمكّن جماعات وتيارات اليمين الديني في لحظات الصعود المجتمعي من ممارسة الاستعلاء على المختلفين معهم والاستخفاف بمقتضيات المواطنة وضمانات حقوقهم وحرياتهم حتى وهي تجتهد للانتساب إلى الفكرة الديمقراطية، وتزين لهم في لحظات التراجع الخلط الكارثي بين المقاومة السلمية للمظالم والانتهاكات التي يتعرضون لها وبين روايات مظلومية شمولية ومتطرفة ومعادية للآخر أينما كان تبرر التطرف والعنف والدماء؛ وفي كل الحالات تحاصر الفكرة الديمقراطية ويحاصر الباحثون عنها والمطالبون بها.

لا خلاص للفكرة الديمقراطية في مصر من صنوف الحصار المفروضة عليها من دون تفكيك للأوهام الأربعة، أوهام التعاقب والتأجيل والضرورة وثنائية تديين السياسة وتسييس الدين.

 

قد يهمكم أيضاً  دور الرأسمالية المصرية الكبيرة في خطف ثورتي يناير ويونيو