تحاول الورقة بصورة موجزة البحث في مدى تأثير الحرب الأهلية في السودان‏[1] في الاستقرار والتنمية، من خلال الإشارة إلى الحرب التي كانت تدور رحاها بين شمال وجنوب السودان (1955 – 2005)، – باستثناء فترة سلام مؤقتة بين أعوام 1972 – 1983؛ الحرب الأهلية الأولى -؛ والحرب الأهلية الثانية (1983 – 2005)، ومدى تأثير تلك الحرب على الاستقرار والتنمية؛ وذلك من خلال مناقشة الأسئلة التالية:

  •  هل الحرب الأهلية التي اندلعت في جنوب السودان منذ بواكير الاستقلال، نتاج لمتناقضات موضوعية حتمية بين الشمال والجنوب، الأمر الذي أدى إلى استمرارية الحرب وفصل الجنوب عن الشمال، وبروز كيانين مستقلين؟ أم هناك أسباب وبواعث غير موضوعية – أسباب عارضة – تحتم عدم استمرارية الحرب من خلال البحث عن نقاط التقاء مثل التنمية، وتوزيع الثروة، والمشاركة في السلطة… إلخ؟
  •  هل الآثار والنتائج التي ترتبت على اندلاع الحرب في مناطق متعددة داخل السودان ستؤدي الى عدم الاستقرار، والفشل في تحقيق الحد الأدنى من التنمية؟

أولاً: مدخل تاريخي

مع استبعاد الخوض في كل ما يتعلق بالحرب اجتماعياً وثقافياً، سنتناول في المدخل، التطور التاريخي للعلاقة ما بين الشمال والجنوب خلال الحقبة 1821 – 1881؛ وذلك من خلال مناقشة المحاور التالية: الدولة المهدية وبناء الوحدة الوطنية «1821 – 1898»؛ الاستعمار البريطاني وأثره في العلاقة ما بين الشمال والجنوب «1898 – 1956»؛ فترة الاستقلال، وانعكاساتها السياسية «1953 – 1956»؛ الحكومة الوطنية الأولى والجنوب «1954 – 1956».

1 – تطور العلاقات بين الشمال والجنوب 1821 – 1881

ظل جنوب السودان قروناً طويلة معزولاً نسبياً عما يدور في الشمال، بل تعتبر أصقاع الجنوب مجهولة بالنسبة للعالم الخارجي، إلا النذر اليسير، حتى عندما توغلت المسيحية فالإسلام في شمال السودان، خلال القرنين السادس والتاسع على التوالي، ولم يكن لهما أي أثر على قبائل الجنوب إلّا عند قيام مملكة الفونج‏[2] – عاصمتها سنار – في القرن السادس عشر، ولقد كانت بعض القبائل التي تسكن المنطقة تعيش في حالة حروب، حيث كانت القبائل القوية تفرض سيطرتها على القبائل الضعيفة ولم يستتب الأمن نسبياً بين تلك القبائل إلا بعد مجيء الحكم العثماني خلال الحقبة 1821 – 1881، عندئذ دخلت العلاقات ما بين الشمال والجنوب مرحلة جديدة، بل خضع السودان لأول مرة لحكومة إدارية واحدة، بسطت نفوذها الإداري على أرجاء الشمال والجنوب، وربوع البلاد كافة‏[3]. هنا نُشير إلى أن محمد علي باشا منذ استيلائه على حكم مصر في عام 1805، اقتنع بضرورة تكوين جيش نظامي حديث يحمي به المركز في الداخل ويبني به الإمبراطورية التي حلم بتكوينها. ولتحقيق ذلك الغرض أكملت جيوش محمد علي سيطرتها على السودان في عام 1821، بهدف الحصول على الرجال والعاج والذهب. ونستطيع القول إن الجنوب حتى عام 1821 لم يتعرض للاحتلال ولم تكن له علاقة وطيدة بالشمال حتى الحكم العثماني، ومن ثم الحكم الإنكليزي؛ وهذا ما يؤكد لنا حداثة السودان كبلد واحد بحدوده الحالية، «فالسودان بكل ثقافاته المتنوعة، قد التقى في عام 1821، ليحكمه الأتراك، ثم الإنكليز، ثم الاستقلال، تخللت ذلك فترات لم يتح فيها لأهله التفاعل، وأن يصبحوا أمة، وأن يصبحوا شعباً واحداً، غير أن القوى الاستعمارية لا تزال ترى فيهم شعوباً منفصلة»‏[4]. ونستطيع القول إن من ضمن الآثار الإيجابية للحكم العثماني في السودان، فتح المدارس ونشر التعليم؛ كذلك بدأت بواكير التصاهر العرقي والتلاقح الثقافي بين الشمال والجنوب، وأصبحت اللغة العربية لغة مخاطبة في مناطق متعددة، هذا فضـلاً عن التأثير الاجتماعي الذي بدأت تظهر ملامحه في أوساط زعماء العشائر الجنوبيين الذين أصبحوا يتشبهون بالشماليين في زيِّهم، وفي طريقة المأكل والملبس، والأنماط العربية الأخرى؛ أيضاً من الآثار الإيجابية للحكم العثماني، فرض نوع من الوحدة السياسية على السودان، باستثناء سلطنة دارفور‏[5] في أقصى غرب السودان؛ فقد «أحدث الحكم التركي في السودان على مدى الستين عاماً متغيرات في المجتمع السوداني أبرزها المركزية الإدارية – ولو أن هناك فترات لامركزية – حيث خضعت البلاد لحكم واحد أزال إلى حد كبير المنافسات، والصراعات القبلية، وأصبح السودان قطراً موحداً، اتصل أكثر من ذي قبل بالعالم الخارجي وبخاصة مصر»‏[6]؛ وعليه يجوز لنا القول إنه حتى الحكم العثماني لم يكن هناك أي نظام إداري أو سياسي موحد يجمع بين شمال وجنوب السودان.

2 – الدولة المهدية وبناء الوحدة الوطنية 1881 – 1898

تُعد الثورة المهدية التي اندلعت في عام 1881، للتخلص من الحكم العثماني، أول ثورة وطنية في تاريخ الحركة الوطنية السودانية، ذات آفاق قومية، وبعد ديني، حيث كانت تطلعات قائد الثورة محمد أحمد المهدي‏[7]، وخليفته عبد الله التعايشي، وطنية قومية، ويتضح ذلك من خلال محاولات المهدي نقل دعوته المهدية خارج نطاق السودان، واتصالاته بحكام الجزيرة العربية، ومصر، والمغرب الأقصى‏[8].

وكان لشخصية المهدي القوية، ولتحركاته الواسعة، واستقطاب قادة جيوشه من مناطق وأصول عرقية مختلفة، أثر كبير في نجاح الثورة، وفي اتساع رقعة التصاهر والتمازج، والتلاقح بين العناصر العرقية المختلفة المكونة للسودان، حيث شاركت في الثورة معظم القبائل السودانية، بمن فيها القبائل الجنوبية، مثل قبيلة الدينكا، كبرى قبائل الجنوب، والنوير، والشلك، التي رحبت جميعها بدعوة المهدي لها، وشاركت في الثورة، بل وجدت انتصارات المهدي المبكرة تجاوباً بين قبائل الدينكا والنوير، إذ حفزت بعض زعمائها ادعاء النبوة من منطلق الرغبة في توحيد قبائلهم، واستنفارها ضد الحكم العثماني‏[9] تعبيراً عن تذمرها، ورفضها له. يتضح لنا ذلك بجلاء من خلال دمج الدينكا لفكرة المهدي في تراتيلهم، مثل: هو المهدي ابن دينق نحن النمل على الأرض نُصلي له‏[10].

ونستطيع القول إن الدولة المهدية استطاعت بدافع الحماسة إلى التصدي للغزو الأجنبي أن تعمل على تقوية الوحدة الوطنية والقومية، هذا فضـلاً عن الأثر الذي نتج من التحركات السكانية الواسعة التي حدثت خلال تلك الفترة، لظروف اقتصادية واجتماعية وسياسية، إلى أواسط السودان، بحيث أدى إلى اتساع نطاق الانصهار العرقي وتبلور الشخصية القومية السودانية الذي انعكس في اللغة المشتركة، ووحدة الفكر السياسي، والتطلع إلى المساواة الاجتماعية بين أفراد المجتمع جميعهم. وعلى الرغم من نجاح الدولة المهدية، ومحاولتها في توحيد جزء كبير من الشعب السوداني، ورغم تطلعات محمد أحمد المهدي، وطموحاته إلا أن المنية قد عاجلته في وقت مبكر من العمر؛ وبوفاه المهدي في حزيران/يونيو 1885، تقلد خليفته عبد الله التعايشي أعباء الدولة، غير أن المشاكل والصراعات التي واجهته داخلياً وخارجياً حالت دون تحقيق أهدافه، بل أدت إلى انحسار نفوذ المهدية، والقضاء عليها في واقعة كرري بالقرب من أم درمان وأم دبيكرات جنوب الخرطوم عام 1899 حيث قتل الخليفة عبد الله التعايشي قائد الدولة، وعاد الجنوب إلى ما كان عليه من قبل، بل أخذ النفوذ الأجنبي في الازدياد والتغلغل في السودان بعامة والجنوب بخاصة‏[11]، وانفتح الباب بذلك لاستعمار جديد، تمثل بالاستمعار البريطاني 1898 – 1956.

3 – الاستعمار البريطاني 1898 – 1956

بذلت بريطانيا جهوداً مضنية منذ احتلالها السودان في عام 1989، لتشويه صورة الروابط التاريخية التي تربط بين أبناء الشمال وأبناء الجنوب في السودان، بل عملت على تطبيق سياسات ارتكزت فيها على محاربة العروبة والإسلام في الجنوب بغية عزله ثقافياً وفكرياً وروحياً، وبالتالي تسهيل عملية فصله عن الشمال وضمه إلى ممتلكاتها في أوغندا أو شرق أفريقيا، الأمر الذي جعل موضع جنوب السودان يمثل محوراً أساسياً في الاستراتيجية البريطانية، وتنفيذاً لتلك الاستراتيجية، حرصت بريطانيا على فرض سيطرتها على أقاليم الجنوب، من طريق سياسة فرّق تسد، وتعيين إداريين بريطانيين أكْفاء لهم المقدرة في المحافظة على الإمبراطورية البريطانية آنذاك، وكلف اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في مصر بتنفيذ ذلك المخطط، الذي حدد بدوره للإداريين البريطانيين سياسة بلاده بقوله إن هؤلاء المتوحشين السودانيين الجنوبيين الذين يسكنون المنطقة محتاجون إلى القانون والنظام من طريق الحكم العسكري المباشر‏[12]؛ رغم المحاولات البريطانية الجادة لعزل الجنوب عن الشمال، ووضع استراتيجية خاصة لتنفيذ ذلك المخطط، فقد ظل النفوذ البريطاني محدوداً في جنوب السودان حتى عام 1920، ولم يتعدَّ المناطق المتاخمة للمراكز ومقار الشرطة. فقد واجه الثوار الجنوبيون الإدارة البريطانية وتمردوا على سلطتها، حيث كانت قبائل النوير أشد القبائل الجنوبية تحدياً للبريطانيين، إذ أشعل زعيمها موت دونغ نار الثورة ضد البريطانيين في عام 1920، كما حذت قبائل أخرى حذو النوير، من بينها قبائل الدينكا، واللاتوكا وغيرها. ولم يكتب لهذه الثورات النجاح، لأنها كانت تفتقر إلى التسليح الحديث، والتنظيم والوحدة‏[13]. عمل البريطانييون، بغية تنفيذ مخططهم الذي يرمي إلى فصل الجنوب، على تطوير سياساتهم المتلاحقة تحقيقاً لهذا الغرض، ففي عام 1917‏[14]، أُنشئت قوة عسكرية في الجنوب، عرفت باسم فرقة الاستوائية، بهدف عزل القوات العسكرية الشمالية في الجنوب، وإنشاء جيش سوداني جنوبي، خوفاً من نشر الإسلام والتقاليد الشمالية بين صفوف المواطنين في الجنوب. وفي عام 1918، اعتُبر يوم الأحد العطلة الرسمية في كل أنحاء الجنوب بدلاً من يوم الجمعة‏[15]، إضافة إلى إقرار اللغة الإنكليزية لغة رسمية لجنوب السودان. هذا فضـلاً عن إطلاق العنان للبعثات التبشيرية، والسماح لها بالعودة إلى الجنوب بعد أن تم إبعادها في ظل الدولة المهدية، بل أوكلت لها الحكومة عدداً من المسؤوليات والمهمات، مثل التعليم والخدمات الاجتماعية، مع تقسيم الإقليم الجنوبي إلى مناطق نشاط لكل بعثة تبشيرية‏[16]. هذا ما يؤكد لنا أن البريطانيين منذ وقت مبكر أخذوا يعملون على تنفيذ سياسة معينة في الجنوب تختلف عن سياستهم في الشمال بغية خلق هوية ثقافية جنوبية مختلفة ومتميزة عن الهوية الثقافية الشمالية، من هنا كان تركيزهم على مجالات التعليم والنشاط التبشيري. عليه نجد أن تطور التعليم في المديريات الجنوبية كان تطوراً مستقـلاً، مختلفاً عن الإطار الذي كان يقوم عليه نِظام التعليم في الشمال حيث كان التركيز في المنهج يقوم على محاربة أي علاقة بالإسلام واللغة العربية بهدف إزالة كل المؤثرات العربية – الإسلامية في الجنوب وإحلال العادات القبلية والمسيحية واللغة الإنكليزية محلها، إضافة إلى تضييق فرص التعليم في الجنوب مقارنة بالشمال، وبخاصة في مجال التعليم العالي‏[17]. في عام 1920 بدأت تتبلور فكرة سياسة خاصة بالجنوب؛ يتضح لنا ذلك من خلال المذكرة التي كتبها السيد (ت. ر) مدير مديرية منطقة منقلاً آنذاك، حيث كتب يقول: «لقد حان الـــوقت لفصل هذه المديرية عن باقي أجزاء السودان، أو إقرار سياسة خاصـــــة أكثر حزماً بالنسبة للإدارة ‏[18]، في العام نفسه أجرى مديرو المديريات الجنوبية الثلاث التصويت على السياسة الواجب اتباعها وانتهوا إلى القرار التالي: «لا يُعتبر الدين الإسلامي أمراً غير مرغوب فيه، وأن أي خطوه تستهدف وضع حد لانتشاره يتعين وقفها، ولكن لا يعني ذلك أن يشجع انتشاره»‏[19]، أي بمعنى أنه غير ممنوع وغير مرغوب في انتشاره. في عام 1922 صدر قانون الجوازات والهجرة – قانون يمنح الحاكم العام بمقتضاه الحق في أن يعلن أي جزء من أجزاء السودان منطقة مقفولة لا يجوز لأي شخص دخولها أو الخروج منها إلا بإذن من السلطات. يعتبر هذا القانون خطوة عملية في تنفيذ السياسة البريطانية الخاصة بالجنوب، حيث أُعلن الجنوب منطقة مقفولة لا يسمح بدخولها أو الإقامة فيها لأي شخص غير جنوبي إلا بإذن أو تصريح خاص من السلطات البريطانية. وهكذا نجحت السلطات البريطانية في استغلال القانون المذكور لمنع أبناء الشمال من دخول المديريات الجنوبية أو البقاء فيها. نشير هنا إلى أن السياسة البريطانية الرامية إلى عزل الجنوب والشمال استمرت حتى بدايات استقلال السودان في عام 1953؛ الأمر الذي يقودنا إلى طرح التساؤل التالي: هل نجحت الإدارة الوطنية عقب الاستقلال في معالجة تلك العقبات، أم فشلت في ذلك؟ هذا ما سنحاول الإشارة إليه بشيء من الإيجاز في سياق الفقرات التالية:

4 – مرحلة الاستقلال وانعكاساتها السياسية 1953 – 1956

بدأت المسيرة نحو تحقيق الاستقلال في السودان، تتبلور منذ عام 1953، واكتملت في كانون الثاني/يناير 1956، وأعلن رسمياً استقلال السودان وتكونت أول حكومة وطنية منتخبة بزعامه إسماعيل الأزهري، رئيس الحزب الوطني الاتحادي؛ أما في ما يتعلق بسياسة الحكومة الوليدة تجاه قضايا التنمية، وبخاصة في الجنوب، فقد قرر مجلس الوزراء في حزيران/يونيو 1956 إنشاء إدارة خاصة للمناطق المتخلفة ومن بينها الجنوب، هدفها الأساسي التعجيل بالتنمية في تلك المناطق، كما أنشأت مناصب وكلاء مديريات لا يشغلها في المديريات الجنوبية الثلاث غير الجنوبيين، كما عين عدد كبير من أبناء الجنوب في الجيش والشرطة، كذلك تم توسيع الحكم المحلي وأعطي الجنوبيون فرصاً أوسع في إدارة شؤونهم المحلية، كما أولت الحكومة في تلك الفترة التعليم اهتماماً خاصاً نتيجة الأضرار التي لحقت به عقب حوادث عام 1955‏[20]. أما عن سياسة السلطة المركزية بالخرطوم الحديثة العهد آنذاك تجاه الأزمة لم تكن ناجحة تماماً في احتوائها، ومن ثم حل المشكلة، إذ تحولت الحركة السياسية الجنوبية المناهضة لسياسة السلطة المركزية، إلى مواجهات عسكرية تجاوزت التذمر والعصيان المحدود – عصيان حامية توريت عام 1955 – مواجهة عسكرية تــمظهرت في حــــــرب أهلية شملت معظم أصقاع الجنوب تديرها قيـــــادة موحدة عُرفت رسمياً بحركة «الأنيانيا»‏[21]. وجدير بالذكر أن دخول السلطات المركزية المتعاقبة في مفاوضات مع قادة حركة الأنيانيا، مثل اعترافاً رسمياً بل اقتناعاً بجدية الانعطاف في النزاع، من ثم تفاقم الأزمة، وأثرت في الاستقرار والتنمية منذ استقلال السودان وحتى اليوم.

ثانياً: الحروب الأهلية

1 – الحرب الأهلية الأولى

على الرغم من وفرة الدراسات التي بُحثت دون تصنيف الحرب الأهلية الأولى «حرب الجنوب» خلال الحقبة من 1955 – 1972‏[22]، التي اندلعت في إقليم جنوب السودان، ومن دون الخوض في تفاصيل الحرب الأهلية الثانية أيضاً، التي اندلعت خلال الحقبة 1983 – 2005؛ ومن دون الخوض في تفاصيل البواعث الذاتية والموضوعية‏[23] لأسباب اندلاع الحرب الأهلية، سنركز فقط على تأثير الحرب الأهلية الثانية على الاستقرار والتنمية مع الإشارة إلى بعض النماذج التي تمت بعد إيقاف الحرب باتفاق السلام، لمحاولة ترسيخ السلام على المستويين النظري والتطبيقي، والإشارة إلى بعض الظروف التي حالت دون ذلك على سبيل النمذجة، وأثرت بدورها في عملية الاستقرار والتنمية.

الجدير بالذكر، أن جنوب السودان، بعد توقيع اتفاقية أديس أبابا – التي أنهت الحرب الأهلية الأولى – شهد استقراراً ظاهرياً عاماً، انعكس هذا الاستقرار على السودان عموماً، وبخاصة في الفترة التي ساد فيها السلام 1972 – 1983، تلك الفترة التي تحققت فيها إنجازات تنموية ضخمة «رغم فشل بعضها، انعكست بدورها على التنمية الاقتصادية والاجتماعية، حيث كانت نِتاجاً طبيعياً بلا أدنى شك للاستقرار الذي حققته الاتفاقية، فلم يكن بالإمكان الشروع في أي مشروع تنموي في ظروف الحرب، فضـلاً عن فقدان الثقة الدولية اللأزمة للحصول على القروض نسبة لانعدام الاستقرار»‏[24].

ونشير إلى أن الإنجازات التنموية التي تحققت في السنوات في الحقبة 1973 – 1983، تعتبر من أكثر الإنجازات التي تمت في السودان منذ الاستقلال وحتى 1973، وذلك نسبة إلى الاستقرار الذي تحقق بتوقيع الاتفاقية، فضـلاً عن المساعدات والامتيازات التي تحصل عليها السودان؛ وخير دليل على ذلك الجدول الرقم (1) الذي يوضح ميزانيات التنمية الخاصة بجنوب السودان خلال الفترة 1972 – 1978‏[25] بالجنيه السوداني؛ أيضاً الجدول الرقم (2) الذي يوضح الامتيازات للسودان بالدولار الأمريكي خلال الفترة 1973 – 1978‏[26].

الجدول الرقم (1)

ميزانيات التنمية الخاصة في جنوب السودان خلال الأعوام من 1972 – 1978

عامالميزانية المقدرة
(ج. س)
الميزانية الفعلية (ج. س)الميزانية الفعلية بالنسبة المئوية
من الميزانية المقدرة
72/19731.400.000560.00040
73/19747.300.000740.00010
74/19757.100.0001.150.00016.2
75/19767.200.0001.360.00022.7
77/197815.300.0003.360.00023.6
المجموع38.300.0007.680.00020.1

 

الجدول الرقم (2)

المساعدات الامتيازية للسودان بالدولار الأمريكي

الدول197319741975197619771978
أوروبا الغربية42.654.4110.3115.6109.2224.2
دول أوبيك العربية3.380188.2253.2111.371.7
دول شرق أوروبا الاشتراكية «سابقاً»8.810.926.26.13.3
الصين7.69.23.42.82.7

 

هكذا حققت اتفاقية أديس أبابا، التسوية السلمية للحرب الأهلية الأولى، ذلك لمناقشتها، جذور الأزمة، بشيء من الوضوح والشفافية، مقتنعة بأن وحدة الوطن لا تبنى إلا على الحقائق الموضوعية، التي من بينها حق أهل الجنوب في تطوير ثقافاتهم وتقاليدهم في نطاق السودان الموحد، مرتكزة على مرجعية ضخمة من الميراث الذي تم من خلال الحوارات السابقة مثل قرارات مؤتمر المائدة المستديرة، توصيات لجنة الإثني عشر، مقررات مؤتمر الأحزاب السياسية، مُشّكلة بذلك نقطة مرجعية لأي حديث حول العلاقة بين الشمال والجنوب. بالإضافة إلى ما سبق، أثبتت الاتفاقية، عنصراً مهماً جداً، هو أن إقرار السلام في السودان ممكن، الأمر الذي يدحض صحة التساؤل الأول في مطلع الورقة، والذي يفترض بأن الحرب الأهلية هي نتاج لمتناقضات موضوعية بين الشمال والجنوب، وهذا يستدعي بدوره، انفصال الجنوب عن الشمال وبروز كيانين مستقلين. بل لقد استطاعت الاتفاقية أن تحوِّل الحركة الانفصالية الجنوبية المحظورة إلى حركة سياسية مشروعة في إطار السودان الموحَّد، كذلك استطاعت أن تحقق الاتفاق على قيام حكم ذاتي إقليمي لجنوب السودان، فضـلاً عن أن قانون الحكم الذاتي الإقليمي لعام 1972، استبعد اتباع نِظام الاتحاد الفدرالي ونِظام الحكم المركزي، كنموذجين لنِظام سياسي وإداري قادر على تطوير الوحدة الوطنية. على النقيض تماماً، نجد أن الاتفاقية تؤكد صحة التساؤل الثاني، الذي مفاده أن الحرب الأهلية هي نتاج لمتناقضات غير موضوعية بين الشمال والجنوب، بالتالي حتمية استمراريتها غير واردة، بل تقيم كظاهرة، والبحث عن نقاط التقاء يؤدي إلى نهاية الحرب، الأمر الذي حققته الاتفاقية، حيث جرى البحث في نقاط الالتقاء، تلك النقاط التي ضمن بعضها في دستور 1973.

2 – الحرب الأهلية الثانية

السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا اندلعت الحرب الأهلية مرة ثانية في عام 1983‏[27]؟ وما هي أهم التطورات السياسية التي ترتبت عليها، ومدى تأثيرها في الاستقرار والتنمية؟ هذا ما سنحاول الإجابة عليه بشيء من الإيجاز في سياق الفقرات التالية:

أ – في الأسباب

– القصور الذاتي الذي صاحب تنفيذ بعض بنود اتفاقية أديس أبابا ولا سيَّما في ما يتعلق بالمسائل الأمنية.

– اتفاقية المصالحة الوطنية، التي تم التوصل إليها في عام 1977، بين الرئيس السابق جعفر نميري والصادق المهدي رئيس الجبهة الوطنية آنذاك، المناوئة للنِظام في ذلك الوقت، ومن بين ما تم الاتفاق عليه الآتي‏[28]: (أ) قيام ثلاثة أقاليم في جنوب البلاد، بدلاً من إقليم واحد؛ (ب) التمسك بالدستور الإسلامي بدلاً من الدستور العلماني. (ج) إعادة النظر في الترتيبات الأمنية المتعلقة باتفاقية أديس أبابا؛ (د) تعيين رؤساء الأقاليم بدلاً من انتخابهم. أدت الاتفاقية التي لم يعمل بها الرئيس الأسبق مباشرة بعد المصالحة الوطنية إلى إحداث نوع من التغيير في المجال السياسي تجاه الجنوب عموماً، بل ولدت نوعاً من الخوف لدى بعض الجنوبيين معتقدين أن مصالحة الجبهة الوطنية لنِظام نميري تمت على حساب الجنوب والوحدة الوطنية؛ وهذا من ضمن الأسباب، والبواعث التي أدت إلى اندلاع الحرب الأهلية الثانية في عام 1983.

– من ضمن الأسباب التي زادت التوتر حدة، بل أسهمت في تعقيد المشكل، قرار الرئيس الأسبق نميري، القاضي بإعلان قوانين أيلول/سبتمبر 1983، واعتبار السودان دولة إسلامية، الأمر الذي أحدث بدوره ردود فعل عنيفة في أوساط الجنوبيين المسيحيين، وبخاصة الحركة الشعبية التي عملت على توظيف تلك القوانين، توظيفاً مدروساً، واستطاعت «أن تكسب العديد من القوى السياسية والإثنية في الغرب والشرق إلى التحالف معها»‏[29]؛ «بحجة أن الشمال المسلم يريد أن يفرض الإسلام على أهل الجنوب المسيحيين وغيرهم»‏[30]؛ الأمر الذي أضفى بدوره بُعداً عقائدياً على الصراع، موضحاً لنا مدى تطور البُعد المحلي للحرب الأهلية الثانية، الذي جاء كنتاج طبيعي للاختراقات المتواصلة للدستور، وهذ ما أدى إلى هدم اللبنات الأساسية للوحدة الوطنية، وخلق حالة من عدم الاستقرار انعكست بدورها على العملية التنموية الأمر الذي أسهم في تزايد حدة أزمات النِظام المايوي آنذاك، والى تدويل الحرب الأهلية الثانية؛ بل أدى إلى سقوط النظام المايوي في إثر الانتفاضة الشعبية، التي اندلعت في 26 آذار/مارس 1985 مطالبة بإسقاط النِظام، الأمر الذي أتاح الفرصة للقوى السياسية والثقافية لاحتواء الانتفاضة وتنظيمها من خلال ميثاق‏[31] تم توقيعه في فجر السادس من نيسان/أبريل 1985. هكذا، تجاوباً مع الجماهير واستجابة لضغط الضباط والجنود، استولت القوات المسلحة، بقيادة الفريق عبد الرحمن محمد حسن سوار الذهب على السلطة، والتزمت بوعدها بألا تتجاوز مرحلة الحكم العسكري أكثر من عام بمثابة فترة انتقالية لإعداد البلاد لانتخاب هيئة نيابية وتسليم السلطة إلى المدنيين؛ وهذا ما تم بالفعل، ولكن للأسف لم تنجح النُخب الوطنية في الشمال، والجنوب في الوصول إلى الحل السلمي، الأمر الذي فاقم من حدة الحرب وانهيار الديمقراطية الثالثة.

– عدم مقدرة الحكومة الانتقالية، والحركة الشعبية لتحرير السودان على توظيف الفترة الانتقالية – التي امتدت من نيسان/أبريل 1985 حتى نيسان/أبريل 1986 – بالصورة المثلى، وتوظيف المناخ الديمقراطي للحوار بغية إحلال، واستدامة السلام السوداني‏[32].

– أيضاً الخِلافات السياسية داخل حكومة الجبهة الوطنية، وما تبعها من خِلاف حزبي على الساحة السياسية أدى إلى تعقيد الموقف على الصعيد السياسي، فضـلاً عن التدهور الاقتصادي والاجتماعي من جهة، وتطور الحرب الأهلية الثانية من جهة أخرى، الأمر الذي وسع من دائرة الصراع السياسي وزاد من حالة عدم الاستقرار – أي فشل كل القوى السياسية، والنخُب السودانية الشمالية والجنوبية خلال المرحلة الديمقراطية الثالثة «حزيران/يونيو 1986 حتى حزيران/يونيو 1989» من إنهاء الحرب، والمحافظة على الديمقراطية وضمان استمراريتها – وهكذا للمرة الثالثة ما بعد الاستقلال تتحول الحرب الأهلية محور الصراع كاشفة بذلك عن عجز الحكم المدني عن تجاوز الإشكاليات وسانحة الفرصة لأكثر عناصر الدولة قوة وانضباطاً إلى التدخل لمعالجة الأمور، الأمر الذي دفع بالقوات المسلحة في 30 حزيران/يونيو 1989 إلى التدخل لاستلام زِمام السلطة في البلاد.

ب – التداعيات السياسية

– في 30 حزيران/يونيو 1989 استولت القوات المسلحة السودانية على زِمام الأمور بقيادة العميد عمر حسن أحمد البشير، الذي أعلن تشكيل مجلس قيادة ثورة الإنقاذ الوطني، موضحاً أن من بين أهم الأسباب الرئيسية لتفجير الثورة، قضية الجنوب‏[33]، معلناً أن الثورة ستضع موضوع الحرب في صدر أولوياتها، وستسعى إلى البحث عن سلام دائم بأسلوب المفاوضات مع الحركة الشعبية من دون شروط مسبقة، عليه بادرت ثورة الإنقاذ بداية بإصدار عفو عام يشمل كل الجنوبيين الذين حملوا السلاح منذ عام 1983، كما أعلنت عن وقف إطلاق النار من جانب واحد، من ثم شرعت في إجراء اتصالات بالحركة الشعبية التي تجاوبت معها في بادئ الأمر‏[34]، أسفرت تلك الاتصالات عن عقد اجتماع بين الطرفين في الفترة من 19 – 20 آب/أغسطس 1989 في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وتوالت الاتصالات إلى أن أفضت لاتفاق السلام في عام 2005. ونشير إلى أن المفاوضات استمرت من أيار/مايو 2002 إلى الأول من كانون الأول/ديسمبر 2004 في كينيا‏[35] برعاية الهيئة الحكومية المشتركة للتنمية (إيقاد)، وتُوِّجت باتفاق السلام الشامل في التاسع من كانون الثاني/يناير 2005. ونشير إلى أن الاتفاق ضم ست اتفاقيات، أو «برتوكولات» ندرجها في الجدول الرقم (3):

الجدول الرقم (3)

بروتوكولات اتفاق كينيا (2004)

الرقمالبرتوكولتاريخ التوقيع
1برتوكول مشاكوس الإطاري20 تموز/يوليو 2002
2برتوكول الترتيبات الأمنية25 أيلول/سبتمبر 2003
3برتوكول اقتسام الثروة7 حزيران/يناير 2004
4برتوكول اقتسام السلطة26 أيار/مايو 2004
5برتوكول أبييّ26 أيار/مايو 2004
6برتوكول جنوب كردفان والنيل الأزرق26 أيار/مايو 2004

 

– نشير هنا أيضاً، على سبيل المثال، إلى بعض الجهود التي بُذلت في إطار تنفيذ الاتفاق على مستوى الواقع، وعلى وجه الخصوص البروتوكول الخاص بجنوب كردفان والنيل الأزرق، وتحديداً برنامج المشورة الشعبية – التي كان الهدف منها الوصول إلى تسوية نهائية للنزاع السياسي في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق، وتصحيح أي قصور في اتفاقية السلام الشامل، بغرض التوصل إلى حل يُرضي جميع المواطنين، والأطراف في الولايتين. حل يدعم، ويعزز، ويوطد السلام الدائم، والمستدام في الولايتين، وفي كل أنحاء السودان‏[36]؛ وردت المشورة الشعبية كما هو موضح في الجدول الرقم (3)، في الاتفاق، أو البرتوكول السادس الخاص بجنوب كردفان والنيل الأزرق، والذي وقع في يوم 26 أيار/مايو 2004، حيث ورد في الفصل الأول «الأحكام التمهيدية» «المادة الثالثة»، أن المشورة الشعبية يُقصد بها: «حقاً ديمقراطياً وآلية لتأكيد وجهة نظر شعبيّ ولايتيّ جنوب كردفان والنيل الأزرق كل على حدة بشأن اتفاقية السلام الشامل بخصوص أي من الولايتين التي تم التوصل إليها بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان». بمعنى آخر: المشورة الشعبية حق ديمقراطي وآلية لتأكيد وجهة نظر، ورأي مواطني جنوب كردفان والنيل الأزرق في اتفاقية السلام الشامل. نشير هنا إلى أن البرتوكول يحتوي على مبادئ، وموجهات عامة لحسم النزاع في الولايتين، وتلبية رغبات، وطموحات المواطنين، على أن يأخذ الطرفان في الحسبان في أي حل سياسي، وإداري، واقتصادي، واجتماعي للنزاع في الولايتين الجوانب التالية:

أ – ضمان حقوق الإنسان، والحريات الأساسية لكل المواطنين في الولايتين بحسب الدستور الانتقالي.

ب – تطوير، وحماية التراث الثقافي المتنوع، واللغات المحلية لمواطني الولايتين.

ج – تنمية الموارد البشرية، والبنية التحتية كهدف رئيسي ينبغي تحقيقه لتلبية الحاجات الأساسية لتحقيق التنمية، واستدامة السلام.

من بين الجوانب التي تضمنها البرتوكول أيضاً الآتي:

(1) على المجلس التشريعي المنتخب أن يُنشئ لجنة برلمانية لتقويم وقياس تنفيذ الاتفاقية، وأن تقدم اللجنة تقريرها إلى المجلس بنهاية السنة الرابعة لتوقيع الاتفاقية.

(2) أن تُنشئ رئاسة الجمهورية لجنة مستقلة لتقويم وقياس تنفيذ الاتفاقية، وأن ترفع اللجنة تقريرها إلى الحكومة القومية وحكومة الولاية، وذلك لتصحيح أي إجراء لضمان تنفيذ الاتفاقية.

(3) باعتماد شعب الولاية لهذا الاتفاق من خلال المجلس التشريعي عندها يصبح الاتفاق تسوية نهائية للنزاع السياسي.

(4) إذا قررت السلطة التشريعية في الولاية، بعد استعراضها للاتفاقية، أن هناك قصوراً في الترتيبات الدستورية، والسياسية، والإدارية في البرتوكول، عندئذ تشرع السلطة التشريعية في التفاوض مع الحكومة القومية بغرض استكمال النقص على أن لا يتعدى الاستكمال الروح، والإطار عام للاتفاقية.

– بالفعل تم البدء في تنفيذ برنامج المشورة الشعبية في أيار/مايو 2010، وفقاً لخمس مراحل، تتمثل بما يلي: مرحلة المفهوم المبسط للمشورة الشعبية؛ مرحلة التثقيف؛ مرحلة التشاور، وأخذ الرأي؛ مرحلة جمع، وإدخال، وتحليل البيانات؛ مرحلة إعداد التقارير. ولكن للأسف توقف البرنامج في نهاية المرحلة الثانية‏[37]، وبداية المرحلة الثالثة في السادس من حزيران/يونيو 2011، وذلك لاندلاع الحرب مجدداً في منطقة جنوب كردفان.

– ورغم التوصل إلى اتفاق السلام الشامل، وارتفاع سقف التوقعات باستدامة السلام، والالتفات إلى التنمية، حدث الانفصال في التاسع من تموز/يوليو 2011؛ وأصبحت هناك العديد من العوائق والمتاريس مثل ترسيم الحدود، والنفط، وغيرها، والتي أصبحت بدورها بؤر تسهم في تأجيج وتجدد الخلافات.

ج – آثار الحرب

لقد تركت الحرب الأهلية الثانية، التي اندلعت منذ عام 1983 وحتى مطلع عام 2005، وما زالت آثارها مستمرة حتى الآن، آثاراً سلبية على كل الصعد، ونظراً إلى ندرة المعلومات الشاملة لآثار الحرب الأهلية الثانية في المجالات كافة، فسنكتفي بالإشارة إلى بعض المجالات ذات الصلة بالجوانب التنموية والاستقرار على سبيل النمذجة، على النحو التالي:

– في مجال الخسائر البشرية‏[38]: بحسب ما ورد في تقرير لجنة بحث آثار الحرب الدائرة المنبثقة عن مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا إسلام، إن خسائر القوات المسلحة وقوات الحركة والأطراف الأخرى في الفترة من 1984 حتى أيلول/سبتمبر 1989 بلغت 34621 قتيـلاً، فضـلاً عن أعداد الوفيات من جراء المجاعة والأمراض الناتجة من الحرب والذين بلغ عددهم في عام 1988 295000 شخص.

– في مجال الآثار الاقتصادية‏[39]: لقد امتدت خسائر الحرب الأهلية الثانية على كل المجالات الاقتصادية؛ ففي المجال الزراعي تعطلت عدة مشاريع زراعية تنموية مثل توقف العمل في مشروع إنتاج الأرز بمنطقة أويل ومشروع إنتاج الشاي بالمنطقة الاستوائية، أيضاً توقف العمل في مشروع الألبان في بحر الغزال بعد تردي الأحوال الأمنية وهجرة الخبراء الأجانب، أيضاً تعطل العمل في مشاريع الإعاشة الزراعية بالأقاليم الجنوبية بعد اكتمال معظم البنى الأساسية من منشآت وآلات واكتمال معهد بأي الزراعي، كما توقفت مشاريع الزراعة الآلية بالأقاليم الجنوبية والتي أنشئت أصـلاً لزيادة إنتاج الذرة والسمسم، …، هذا فضـلاً عن امتداد تأثيرات الحرب المباشرة إلى الأقاليم الأخرى مثل منطقة جنوب كردفان حيث توقف تنفيذ بعض المشروعات التنموية الزراعية كمشروع التنمية الريفية بجبال النوبة والذي تم تمويله من السوق الأوروبية المشتركة بتكلفة مقدارها أربعة عشر مليون دولار. أما في المجال الصناعي فقد توقف الكثير من المشروعات الصناعية مثل مصنع تعليب الفاكهة والخضروات بواو؛ مشروع سكر ملوط بإقليم أعالي النيل؛ تجدر الإشارة هنا في مجال السكر أن البلاد فقدت مئة وعشرة آلاف طن من السكر كان يمكن إنتاجها منذ عام 1977. وفي مجال التعدين والتنقيب عن النفط، توقفت برامج المسح الجيولوجي والتعدين كما توقفت اكتشافات الذهب في منطقة كبويتا بسبب الظروف الأمنية، وفي مجال التنقيب عن النفط توقفت أعمال جميع الشركات التي منحت تراخيص التنقيب بسبب تدهور الأحوال الأمنية في مناطق التنقيب، الأمر الذي عطل إمكان الاستفادة من استخراج النفط المكتشف، وبلغت جملة الخسائر التي فقدتها البلاد في مجال النفط قرابة الثلاثة مليارات دولار، ذلك وفقاً لتقديرات لجنة بحث آثار الحرب. كذلك توقف العمل والحفر في مشروع قناة جونقلي‏[40] ذلك المشروع الحيوي المهم، هذا فضـلاً عن الخسائر في مجال الثروة البرية والحيوانية. وتقدر الماشية التي فقدت بسبب الحرب الأهلية بنحو 6.600.000 رأس. أما في ما يتعلق بالإنفاق عام، فقد بلغت المصروفات الإضافية الطارئة في ما يتصل بالنفقات العسكرية والدعم المركزي للأقاليم الجنوبية نحو 229.4 مليون جنيه سوداني عن الفترة من عام 1983 حتى عام المالي 1989/1990، كما ارتفعت تكلفة الحرب من بليون مليار سوداني في عام 1983/1984 إلى 2.4 مليار جنيه سوداني في عام 1989/1990 – زيادة بنسبة 140 بالمئة – أي ما يعادل 11 مليون جنيه سوداني في اليوم – وهذا في عام 1989 -، وأفاد إدوارد لينو، ممثل الحركة الشعبية والجيش الشعبي في غرب أوروبا بتاريخ 4 نيسان/أبريل 1995، بأن تكلفة الحرب الأهلية آخذة في الازدياد، حيث كانت تكلف الدولة في اليوم الواحد نحو مليون دولار ذلك في الفترة من 1989/1991، بينما بلغت 2 مليون دولار في الفترة من 1992/1993، و2.5 مليون دولار في عام 1993، هذا وفقاً لتقديرات الحركة الشعبية، فضـلاً عن تقديرات الحكومة والحركة الشعبية، هناك تقديرات بعض الخبراء الماليين والاقتصاديين في الخرطوم والتي ترى «أنه نظراً إلى الوضع الاقتصادي في البلاد، فإن المجهود الحربي فيها والذي يقدر بشكل ما بمليون دولار يومياً يعد هرطقة اقتصادية»‏[41]. كذلك من ضمن الآثار الاقتصادية وقف المساعدات الاقتصادية عن السودان، مثل ألمانيا الاتحادية التي جمدت أي تعامل مالي وتقني مع السودان في عام 1989 بحجة غياب السلام في الجنوب والديمقراطية في الشمال؛ فضلاً عن تعليق المنحة الهولندية المخصصة للمساعدة في حفر قناة جونقلي بسبب الحرب‏[42].

– الخسائر الاقتصادية المشار إليها، جزء من الآثار الاقتصادية المترتبة على الحرب الأهلية الثانية منذ اندلاعها في عام 1983 وحتى 1993 – حتى ما يسمى اتفاق السلام الداخلي الذي تم في تلك الفترة، ولم يكتب له النجاح -، وما زالت هناك العديد من الآثار الاقتصادية التي نجمت كنتاج طبيعي لاستمرارية الحرب أثناء، وبعد الانفصال في عام 2005، وتفاقمت بصورة حادة، الأمر الذي أثر بدوره في الاستقرار الاقتصادي – إذا اعتبرنا ان الاقتصاد هو المحرك الأول للاستقرار السياسي -، ومن ثم الانعكاس على الاستقرار السياسي وبخاصة في الفترة الحالية – نُشير هنا إلى أن السودان شهد خلال عام 2018 أزمات طاحنة بدأت بزيادة كبيرة في أسعار السلع والخدمات، وبخاصة السلع الضرورية من اللحوم والخضروات والألبان والسكر والخبز، بينما شهد النصف الثاني من العام أزمات خانقة في المشتقات البترولية والدقيق، فضـلاً عن عدم توافر السيولة المالية وفشل عملاء البنوك في سحب مدخراتهم نتيجة ذلك، كما تهاوى سعر الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية إلى أدنى مستوى له، فقد هوى أمام الدولار الأمريكي إلى أكثر من خمسين جنيهاً في السوق الموازية‏[43] -؛ نُشير هنا أيضاً إلى خروج النفط من المعادلة الاقتصادية السودانية، وفي هذا الصدد أشارت مجلة الأوكونوميست إلى تقرير اقتصادي معلوماتي عن دولتي السودان، في مجمله حمل تحذيرات من انحدار وتدهور الاقتصاد ليصبح يعتمد بصورة كلية على الديون الخارجية في عام 2019. شمل التقرير دولتي السودان مستصحباً ظروفاً سياسية ودبلوماسية رأت المجلة أنها تؤثر مباشرة في اقتصاد دولتَي السودان الذي اعتبر مثل التوأم السيامي لم يتم فصلهما حتى الآن بصورة كلية حيث لا تزال الديون الخارجية تشكل ملفاً أعمق من ملف ترسيم الحدود، فضـلاً عن حتمية عبور نفط الجنوب عبر أراضي وموانئ السودان حتى إشعار آخر ببناء خط أنابيب بديل يتجه جنوباً وهو أمر مستبعد في ظروف الجنوب الحالية؛ موضحةً أن الاقتصاد السوداني سيعاني كثيراً في الأعوام المقبلة بسبب انحسار عائدات النفط لجهة انخفاض إنتاجه، مبينةً أن الإنتاج حالياً يبلغ 115 ألف برميل في اليوم يتوقع أن ترتفع العام المقبل إلى 135 ألف برميل بدخول إنتاج مربع (6)، مضيفاً: إن ذلك لن يكون له أثر في الاقتصاد السوداني بسبب الانخفاض الكبير في سعر البترول عالمياً، فضـلاً عن انخفاض سعر البترول السوداني. وقطعت المجلة أن الاقتصاد السوداني بحلول عام 2019 سيعتمد كلياً على الديون الخارجية من الصين تحديداً‏[44]؛ وتفيد تقارير منذ نهاية التسعينيات، وحتى عام 2005 بأن الحرب تكبد الاقتصاد السوداني المرهق مليوني دولار يومياً في ظل بيئة طاردة للاستثمار الوطني والأجنبي، وظروف أمنية غير مواتية للتنمية، الأمر الذي أوجد اختلالات جوهرية شلت الحياة الاقتصادية وتجلت مظاهرها في انخفاض حجم الناتج القومي، تزايد نسب التضخم، ارتفاع معدلات البطالة، سوء الخدمات العامة والمرافق، وتدني حجم الناتج القومي، ومتوسط دخل الفرد، وانعكاس ذلك على الأوضاع الصحية والتعليمية فحجم الناتج القومي، رغم ثروات السودان الطبيعية الضخمة، لا يتجاوز 52 مليار دولار في عام 2001 – وذلك قبل خروج المعادلة من النفط، والتدهور في الوقت الراهن -، وبلغت نسبة البطالة في عام 2002 (18.7 بالمئة) – هذه النسبة الكبيرة تترجم عملياً إلى مشاكل اجتماعية، وبخاصة إذا علمنا أن 40 بالمئة من سكان السودان هم دون الثامنة عشرة، وهذا يعني أن قطاع الشباب في الفترة الحالية وفي المستقبل المنظور، إذا لم تطرأ على سوق العمل تغيرات جذرية، سيظل يعاني البطالة لسنوات قادمة‏[45]، وللأسف تلك النسبة في تزايد؛ هذا فضـلاً عن التدهور الاقتصادي لدولة الجنوب الوليدة بسبب الحرب أيضاً، وفي هذا الصدد أعلنت صحيفة فاينينشيال تايمز البريطانية، أن الصراع في جنوب السودان أدى إلى تدهور اقتصادي كبير؛ ووفقاً لتقرير أعدته مؤسسة فرنتير إيكونوميكس، ومقرها بريطانيا، فإن الحرب في جنوب السودان كلّفت 158 مليار دولار خلال عقدين. وأضافت الصحيفة أنه على قادة المنطقة اتخاذ إجراءات عملية لوقف التوترات في جنوب السودان، وذلك خلال اجتماعات الاتحاد الأفريقي، التي تقرر انعقادها في نهاية كانون الثاني/يناير الجاري، بعد شهور من مباحثات السلام المتعثرة؛ ونقل التقرير عن ناشطين، في مجال المساعدات الإنسانية قولهم، إنهم بحاجة إلى 1.8 مليار دولار للوصول إلى أكثر من أربعة ملايين شخص في عام 2015 وحده، مشيراً إلى فرار مليوني شخص على الأقل؛ ونقلت الصحيفة، عن معدي تقرير «فرنتير إيكونوميكس» قولهم، إنه إذا ما توقف القتال في نهاية العام الجاري حداً أدنى، سوف تخسر جنوب السودان 22 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي، خلال فترة قوامها خمسة أعوام، وذلك نظراً إلى أن جانباً كبيراً من النشاط الاقتصادي لجنوب السودان غير رسمي فإنه من المرجح أن تكون التكاليف الفعلية، التي تكبدها هذا الاقتصاد أكبر كثيراً؛ وأضاف التقرير في حالة استمرار القتال لمدة خمس سنوات أخرى، سوف تخسر الدولة ما يُقدر إجماليه بـ 158 مليار دولار في الناتج المحلي الإجمالي، بما يُعادل خسارة مذهلة نسبتها 1328 بالمئة، على مدار عشرين سنة؛ وأشارت الصحيفة، أن بنك التنمية الأفريقي توقع في السابق أن يرتفع معدل النمو السنوي لجنوب السودان إلى 8 بالمئة سنوياً، إلا أن صندوق النقد الدولي، قال إنه من المرجّح أن ينخفض بنسبة 15 بالمئة في عام 2014‏[46]؛ يضاف إلى كل ذلك الاستغلال غير الرشيد للثروات الطبيعية ولا سيّما في المناطق الجنوبية التي تشهد بصورة عشوائية عمليات قطع لأشجار الغابات بطريقة عشوائية في بلد يعتمد 75 بالمئة من سكانه على الطاقة التقليدية‏[47]؛ هذا فضـلاً عن عدم الاستفادة من الثروة النفطية بعد الانفصال حيث أدت الحرب في الجنوب إلى توقف عمليات التصدير.

– عن الآثار الاجتماعية والنفسية‏[48]: نكتفي بالإشارة إلى بعض آثار الحرب الأهلية الثانية في مجال التعليم والخدمات الصحية. في ما يتعلق بمجال التعليم العالي والعام فلقد تركت الحرب آثارها على مئات المدارس التي اغلقت في جنوب البلاد بسبب تردي الأحوال الأمنية وهجرة عشرات الآلاف من الطلاب الذين نزحوا لأقاليم السودان المختلفة هذا فضـلاً عن امتداد تأثير الحرب إلى بعض مناطق التماس مثل منطقة جنوب كردفان وجنوب النيل الازرق، ففي مجال التعليم العالي نجد أن معظم مؤسسات التعليم العالي – فوق الثانوي – قد توقفت بسبب الحرب مثل جامعة جوبا، معهد يامبيو الزراعي، معهد أمادي لتنمية المجتمع، معهد مريدي التعليمي، مركز التدريب متعدد الأغراض إضافة إلى المركز الإقليمي لتدريب المحاسبة في مدينة جوبا، مدرسة تدريب المعلمين الطبيين… إلخ. أما في ما يتعلق بالتعليم العام فإن المدارس الابتدائية والمتوسطة والثانوية والمعاهد التي أغلقت بفعل الحرب في كل من أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية بلغ عددها 977 مدرسة ابتدائية، 148 مدرسة متوسطة، 35 مدرسة ثانوية، 8 معاهد عليا لتأهيل المعلمين، ووفقاً لإحصائية لجنة بحث آثار الحرب الدائرة فإن الطلاب النازحين من سن 7 – 15 سنة من منطقة شمال وغرب بحر الغزال وأعالي النيل إلى جنوب كردفان وجنوب دارفور بلغت 45.000 طفل، أما النازحون إلى العاصمة القومية فبلغ عددهم 15.730 فرداً، وفي إحصاءات أخرى فإن «معدل الأمية وسط الأطفال النازحون واللاجئون في الفترة العمرية من 7 – 14 سنة بلغت 73.9 بالمئة ذكور و89.9 بالمئة إناث، أما في الفئة العمرية 15 – 19 سنة بلغت 64.2 بالمئة ذكور و89.9 بالمئة إناث 109 وفي تقارير أخرى لمُنظمة حقوق الإنسان الأفريقية تشير إلى أن هناك نحو 17.000 طفل بايدي الجيش الشعبي‏[49]… إلخ. ووفقاً لتقديرات عام 2003 فإن 61.1 بالمئة من مجموع الشعب السوداني لا يعرفون القراءة والكتابة؛ قد تكون مشكلة الأمية في السودان مشابهة للأمية المنتشرة في بعض الدول الأفريقية، ولكن ارتباط أمية 61 بالمئة من السودانيين بمشكلة الجنوب هو ما جعلها أثراً من آثار هذه الحرب، وفهم الأسباب الكامنة وراء هذا العدد من الأميين غير عسير، فعلى سبيل المثال ما أنفق على التعليم في السودان خلال الفترة 1995 – 1997 كنسبة مئوية من الناتج القومي لا يتعدى 1.4 بالمئة، في حين بلغت هذه النسبة على التوالي في بلد كساحل العاج 5 بالمئة وكينيا 6 بالمئة وسيشل 10 بالمئة، في الوقت نفسه بلغ حجم الإنفاق العسكري المعلن في السودان 3.6 بالمئة من الناتج العام أي قرابة ثلاثة أضعاف ما أنفق على التعليم‏[50]؛ أما في ما يتعلق بأثر الحرب على الخدمات الصحية، وفقاً لإحصائية في آب/أغسطس 1989، والتي تشير إلى أن المستشفيات العاملة في الإقليم الجنوبي ثلاثة مستشفيات من أصل ستة عشر مستشفى‏[51]؛ وفي آخر الإحصاءات عن تأثير الحرب على الرعاية الصحية فتعتبر معدلات وفيات الأطفال دون الخامسة في السودان من أعلى المعدلات في أفريقيا والوطن العربي، إذ بلغت 116 طفـلاً في الألف، في حين تنخفض هذه النسبة على سبيل المثال في عدد من الدول العربية والأفريقية التي لا تملك موارد طبيعية كما هو السودان وكالأردن على سبيل المثال إلى خمسة في الألف فقط، وذلك له أسباب متعددة منها: أمراض سوء التغذية، ضعف الوعي الصحي، ندرة الخدمات الوقائية والعلاجية، تعرض أطفال الجنوب على وجه التحديد للأوبئة القاتلة مثل الحصبة وشلل الأطفال والسل والدفتيريا والسعال الديكي والتيتانوس؛ أمر تردي الأوضاع الصحية في السودان لا يقتصر فقط على الجنوب، فالمياه الصالحة للشرب لا تتوافر إلا لـ 25 بالمئة فقط من السكان، وذلك يعني أن 75 بالمئة من السودانيين يستهلكون مياهاً غير صالحة للشرب؛ والخدمات والمرافق العامة في السودان تعيش هي أيضاً من جرّاء الحرب معاناة مستمرة تتفاقم حدتها كلما زادت معدلات الهجرة من الريف إلى المدينة، فقد بلغ عدد أهل الحضر من مجموع السكان في السودان 18.9 بالمئة عام 1975 ثم ارتفع إلى 36.1 بالمئة عام 2000، ومن المقدر أن يصل إلى 48.7 بالمئة عام 2015. وهذا يدل على أن الريف يمثل باستمرار عامل طرد لسكانه، الأمر الذي يؤثر في تراجع عدد الأيدي الزراعية العاملة وما ينجم عن ذلك من آثار سلبية على الزراعة – وهذا هو الواقع الآن وبخاصة في ظل انصراف العديد من الأيدي عاملة بل معظمها في الريف إلى العمل في مناجم التعدين الأهلي للذهب -؛ ويجمل تقرير التنمية الإنسانية في الوطن العربي الصادر عن الأمم المتحدة في حزيران/يونيو 2003 تفاصيل المشهد في جنوب السودان بقوله إن التخلف الذي يعانيه هذا الإقليم مرجعه إلى: انتهاكات حقوق الإنسان؛ عدم تمكين المرأة اقتصادياً وهو ما أفقد قطاعاً كامـلاً من المجتمع القدرة على الإسهام في التطوير؛ اختلال البناء المؤسسي؛ ندرة المعارف التقنية الحديثة والعجز عن إجادة استغلال القليل المتوفر منها؛ نقص «إنسان الحكم» الصالح. وفي مجال حقوق الإنسان وضع التقرير سلماً معيارياً من سبع درجات لاحترام الحريات العامة بما فيها حرية التعبير والحقوق السياسية، وكان نصيب السودان – للأسف – في الترتيب الأخير؛ وفي مؤشر التنمية البشرية الصادر عن منظمة الأمم المتحدة عام 2002 يحتل السودان المرتبة الرقم (139) في قائمة تضم 173 دولة في العالم‏[52]؛ هذا فضـلاً عن تعطيل الحرب للعديد من طرق السكك الحديد والنقل النهري والسياحة، وغيرها من الجوانب الاجتماعية الأخرى.

– أما عن الآثار الاجتماعية النفسية التي أفرزتها الحرب الأهلية الثانية فتتمثل بالنزوح السكاني الداخلي والخارجي وما ترتب عليه من آثار اجتماعية مثل تفشي الجريمة، والبطالة، والانهيار الأخلاقي. في ما يتعلق بالنازحين وفقاً للمعلومات المستقاة من معتمدية النازحين ومفوضية الإغاثة وإعادة التعمير، التي تشير إلى أن أعداد الذين نزحوا إلى العاصمة القومية وحدها حوالى ثلاثة ملايين نازح بينما تقدر أعداد النازحين لأقاليم السودان الأخرى بحوالى 850.000 نازح.

– وتشير دراسة أجرتها مُنظّمة Sudan Aid أن معدل تدفق النازحين من الأقاليم الجنوبية وجنوب كردفان خلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر 1986 إلى شباط/فبراير 1987 إلى العاصمة بمعدل 12125 فرداً شهرياً، أما الذين لجأووا بسبب الحرب إلى دول الجوار مثل إثيوبيا، كينيا، أوغندا، فيقدر بنحو 354.542 لاجئاً سوداني‏[53]؛ أيضاً هناك تقارير تفيد بأن عدد الأطفال الذين ماتوا في مناطق الحرب وأثناء عملية النزوح بسبب الجوع، والأمراض نحو 250.000 طفل‏[54]، ذلك في عام 1987 هذا فضـلاً عن الآلاف من الأطفال الذين ما زالوا يعانون نتيجة لاستمرار الحرب حتى بعد الانفصال في عام 2005؛ أدت عملية النزوح المشار إليها – والتي ما زالت مستمرة حتى الآن نظراً إلى تردي الأوضاع بجنوب السودان – إلى ظهور العديد من الأمراض والأوبئة وبخاصة الأمراض النفسية والعصبية التي سجلت ارتفاعاً ملحوظاً خلال الفترة 1983 – 1987 مثل الفصم الصحي، إدمان الخمور، الاكتئاب، فصام الشخصية، ذلك وفقاً لسجلات مستشفى التجاني الماحي للأمراض العصبية والنفسية، بالإضافة إلى تفشي البطالة، واحتراف المهن الهامشية فضـلاً عن التفكك الأسري داخل الأسر النازحة والإخلال بالأعراف الاجتماعية‏[55]؛ وهناك إحصاء آخر يفيد بأن الحرب الأهلية في جنوب السودان (1955 – 1972 و1983 – 2003) حصدت ما يزيد على مليوني قتيل، وأعداداً أخرى لا تحصى من الجرحى والمعوقين، وكان نصيب الهجرات الداخلية الناجمة عنها ضعفي أعداد القتلى، فقد تشرد أربعة ملايين سوداني وأصبحوا لاجئين داخل وطنهم. أما من ضاقت بهم سبل العيش بين ربوع الوطن وقرروا النزوح إلى البلدان المجاورة فقد بلغ عددهم 420 ألف لاجئ[56] . نُشير هنا إلى أن السودان رغم فقره وهجرة العدد السابق ذكره يؤوي على أراضيه ما يزيد على المليون لاجئ من الدول المجاورة. هذا فضـلاً عن الآثار السلبية العديدة التي لم يعهدها المجتمع السوداني بهذه الكثرة من قبل، مثل تزايد الأنشطة الخارجة عن القانون، اختطاف الماشية، وتهريب العاج والذهب، وانتشار تجارة الأسلحة بين الميليشيات القبلية، وغيرها من المظاهر السالبة.

– الآثار السياسية‏[57]: لقد تركت الحرب الأهلية الثانية تأثيرات مباشرة ما زالت مستمرة على الوضع السياسي داخل السودان كما تركت آثارها الواضحة في السياسة الخارجية؛ في ما يتعلق بالوضع السياسي الداخلي نجد أن الحرب الأهلية الثانية أسهمت في عدم الاستقرار السياسي بل تعتبر السبب الرئيسي في عدم الاستقرار السياسي منذ تفجرها في عام 1983 وحتى عام 2005، وما زالت آثارها ممتدة حتى الآن حتى بعد انفصال الجنوب، الأمر الذي انعكس بدوره على الخلل الاقتصادي، الذي ما زالت آثاره واضحة حتى الآن حيث نجد أن كل الطاقات والموارد الاقتصادية أصبح استغلالها محدوداً بفعل الحرب ووجهت لجهود الحرب، وهو ما أدى إلى تفاقم حدة الأزمة الاقتصادية عاماً بعد عام دفعت بالبلاد إلى خفض عملتها عدة مرات وما زالت عملية خفض العملة مستمرة نتيجة لاستمرار الحرب حتى الآن في بعض مناطق السودان وبصورة سيئة جداً[58]؛ هذا فضـلاً عن إيقاف عملية التنمية، إذ توقف الكثير من المشروعات التنموية المختلفة مثل مشروع قتاة جونقلي سابقاً وتوقف تدفق النفط، وغيرها من المشروعات التنموية المختلفة في أرجاء البلاد كافة. أيضاً من ضمن آثار الحرب الأهلية الثانية على المستوى السياسي الداخلي، تفتت الجبهة الداخلية شمالية وجنوبية وانقسامها بين مؤيد ومعارض للحركة الشعبية، فضلاً عن ظهور المليشيات المسلحة وبخاصة في مناطق التماس، وتطور تلك الميليشيات في الوقت الراهن.

– أما عن آثار الحرب الأهلية الثانية على مستوى السياسة الخارجية فيمكن لنا الإشارة إليها من خلال سياسة حسن الجوار، التعاون الإقليمي واستقطاب العون التنموي إضافة إلى التعاون العربي الأفريقي؛ في ما يتعلق بسياسة حسن الجوار، نجد أن وضع السودان الجغرافي والجيوبوليتيكي يجعله مجاوراً لتسع دول تتباين نظمها السياسية والاقتصادية والاجتماعية ما يجعل من مبدأ حسن الجوار في سياسته الخارجية هدفاً أمنياً، وسياسياً، واجتماعياً، الأمر الذي جعل من ذلك المبدأ شبه مستحيل في ظل استمرار الحرب الأهلية يتضح ذلك من خلال التأرجح السياسي الخارجي حول علاقات السودان مع دول الجوار، الأمر الذي دفع بالعديد من دول الجوار على اختلاف أنظمة الحكم فيها وباختلاف منطلقاتها الفكرية والأيديولوجية، أن تشكل أحد الركائز لدعم الصراع في السودان، هذا فضـلاً عن التوتر في العلاقات مع العديد من دول الجوار الذي حدث نتيجة لاستمرار الحرب آنذاك، وما زالت تلك الآثار تلقى بظلالها في الوقت الراهن، رغم تحسن علاقات السودان مع الدول المجاورة، إلا إننا نجدها لم تكن بالمستوى المطلوب.

– في ما يتعلق بالتعاون الإقليمي، واستقطاب العون التنموي، نجد أن استمرار الحرب الأهلية الثانية عمل على إضعاف دور السودان في المُنظمات، والتجمعات الإقليمية وشبه الإقليمية، الأمر الذي أدى إلى تشويه صورة السودان في تلك المُنظمات، وبخاصة أن الحرب ارتبطت لدى الكثير من الدوائر الأفريقية بأنها حرب دينية وعرقية. كذلك نجد أن استمرار الحرب أثر في استقطاب العون التنموي بل عمل على إيقاف العديد من المشروعات التنموية نسبة إلى وقف الدول المانحة للمنح أو تعليقها وبخاصة أن أغلب القروض والمعونات لم تعد ذات طابع اقتصادي أو إنساني صرف بل لها جوانبها السياسية والأمنية وهو ما دفع بالعديد من الدول المانحة مثل ألمانيا وهولندا، إلى ربط العون والمنح بإفرازات الحرب الأهلية المتمثلة بانتهاك حقوق الإنسان والتعصب الديني والعرقي… إلخ، هذا فضـلاً عن تأثير الحرب في أداء الدولة الاقتصادي مثل العجز عن الوفاء بالتزاماتها نحو بعض الدول في ما يتعلق بتسديد الديون أو القروض، وهو ما حال دون إمكان الحصول على معونات أو قروض جديدة بل أضعف صدقية الدولة وسط الدول المانحة للعون والمؤسسات والصناديق المالية الدولية؛ الأمر الذي عمّق أزمة السودان الاقتصادية نتيجة الانخفاض الحاد في موارد العملة الأجنبية، وما ترتب عليها من تضخم تجلت مظاهره في الانخفاض المستمر لقيمة العملة الوطنية، ثم التقشف، وإلغاء الإعانات، ومعاناة الفئات منخفضة الدخل، وتنطوي هذه الصعوبات الاقتصادية على احتمالات زيادة حدة التوتر، أو البحث عن سياسات مغايرة؛ أيضاً نجد أن استمرار الحرب الآن في مناطق مختلفة مثل غرب، وشرق السودان، وغياب السلام أدى إلى إضعاف دور السودان في التعاون العربي – الأفريقي بل مس بصفة مباشرة أهداف هذا التعاون وبخاصة أن الحرب كما أشرنا إلى ذلك أصبحت تأخذ بُعداً عرقياً مثل تصويرها حرباً بين العرب والأفارقة. هذا فضـلاً عن أن الحرب الأهلية الثانية تركت آثارها وألقت بظِلالها على الجوانب السياسية كافة وجميع المناشط الاقتصادية، الأمر الذي أثر بدوره في عملية الاستقرار السياسي الداخلي بل أثر في صورة السودان الخارجية فصار اسم السودان مرتبطاً بالجوع، والإغاثة، وانتهاك حقوق الإنسان، وبالحرب والتعصب الديني والعرقي، والإرهاب، إلى غير ذلك من المسميات التي ما هي إلا إفراز طبيعي للحرب الأهلية الثانية، وللأسف ما زالت تلك الآثار ماثلة حتى بعد انفصال الجنوب في تموز/يوليو 2011، وألقت بظلالها على النزاعات الحالية في غرب السودان.

– نجد أن الحرب الأهلية، وغياب الإدارة الوطنية الرشيدة، أثرت بصورة سالبة في استقرار السودان، وجعلته – رغم الثروات الطبيعية التي يزخر بها – من أكثر الدول الأفريقية فقراً، وتخلفاً؛ وهذا ما أكدته العديد من الدراسات العلمية والتقارير‏[59]، التي أشرنا إلى بعضها في المتن، ورغم فترات الاستقرار التي أعقبت الحربين «الأولى والثانية»، واستخراج النفط لم تتمكن النُخب الحاكمة‏[60] من حسن إدارتها، وحسن توظيفها بالصورة المثلى، خير مثال على ذلك الأزمة الاقتصادية التي يعانيها السودان في الوقت الحاضر، والتي يعزي العديد من الخبراء أن من بين أسباب استفحال الأزمة الاقتصادية حالة عدم الاستقرار، والصرف على الجوانب الأمنية بنسبة أكبر‏[61].

– في الختام ما تم تناوله بشيء من الإيجاز يؤكد لنا أن الآثار والنتائج التي ترتبت على اندلاع الحرب في مناطق متعددة داخل السودان أسهمت في عدم الاستقرار، وحالت دون تحقيق الحد الأدنى من التنمية؛ وهذا ما نعتقده يجيب عن بعض مضامين السؤال الذي طرحناه في مطلع الورقة: هل الآثار والنتائج التي ترتبت على اندلاع الحرب في مناطق متعددة داخل السودان ستؤدي إلى عدم الاستقرار، والفشل في تحقيق الحد الأدنى من التنمية؟ .

 

قد يهمكم أيضاً  السودان: من الاستبداد إلى التقسيم

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #السودان #نتائج_الحرب_الأهلية_السودانية #تأثير_الحرب_في_السودان #الحرب_السودانية_الأولى #الحرب_السودانية_الثانية #الحرب_الأهلية_السودانية #الحرب_الأهلية_في_السودان #الاستقرار_في_السودان #التنمية_في_السودان