مقدمة:

برز في كل دولة من دول العالم – التي تعرضت للاستعمار – شخصيات قيادية، قادت حركة المقاومة ضده. إنّ دولة مثل المغرب ذات الحضارة التي تمتد إلى آلاف السنين، والتي تعرضت للاحتلالات الأجنبية، ومنها الاحتلال الثنائي الفرنسي – الإسباني منذ سنة 1912، برزت فيها شخصيات قيادية، قادت حركة المقاومة ضد الاستعمار، فكان محمد بن عبد الكريم الخطابي واحداً من أشهر أولئك القادة، الذي زعزع باستراتيجيته الحربية النظام الاستعماري الإسباني، عندما انتصر عليهم في معركة أنوال سنة 1921.

إن لشخصية محمد بن عبد الكريم الخطابي سجـلاً حامـلاً بجلائل الأعمال، اشتملت على جوانب كثيرة، أخذت حيزاً واسعاً من تفكيره في ظرف استثنائي عاشه المغرب أثناء مواجهته الاحتلال الإسباني في جزئه الشمالي المعروف بإقليم الريف، إذ عمل الخطابي على إنشاء حكومة قوية في إقليم الريف من 1921 – 1926 في خضم مواجهته الاحتلال الإسباني، وأخذ ينظمها تنظيماً يتناسب مع فكره الاجتماعي الحديث المعتمد على مقومات التقدم العصري الحديث وأساليبه كلها، من أجل بناء حكومة عصرية حديثة قائمة على التلاحم الاجتماعي، لتكون قادرة على مجابهة كل المخاطر التي يتعرض لها المغرب، ولا سيّما في إقليم الريف.

عالج محمد بن عبد الكريم الخطابي عدة أمور في الحكومة التي أنشأها، كالقضاء والإدارة والتعليم والصحة – التي سنتطرق إليها في البحث بالتفصيل – وكل ما يتعلق بالأمور الاجتماعية الموجودة في الحكومة التي أقامها في إقليم الريف، مطبقاً الوسائل العصرية الحديثة، والمستندة إلى الشريعة الإسلامية.

قسِّم البحث إلى عدة نقاط تكلمنا فيها على حياة الخطابي ونشأته في النقطة الأولى مع متابعة نشاطه السياسي، ثم تطرقنا في النقطة الأخرى إلى جهوده في التعبئة العسكرية والمعنوية من أجل إيجاد تلاحم اجتماعي بين القبائل التي سوف يعتمد عليها في مواجهة الخطر الإسباني، والتي نجح فيها عندما انتصر على الإسبان في معركة نوال سنة 1921، والذي هيأ له هذا النصر، التفكير في إنشاء حكومة في اقليم الريف. كما تطرقنا فيها إلى الجوانب الاجتماعية التي أوجدها الخطابي في حكومته كالقضاء والتعليم والإدارة والصحة.

أوّلاً: محمد بن عبد الكريم الخطابي: حياته ونشأته حتى سنة 1920

ولد عبد الكريم الخطابي[1] في قرية أجدير‏[2] المواجهة لجزيرة الحسيمة (النكور) – التي تبعد عن أجدير مسافة 900 متر احتلها الإسبان منذ سنة 1672 – في كانون الأول/ديسمبر 1882 لأسرة آل الخطابي من قبيلة بني ورياغل‏[3]، ويذكر أن نشأة أجداده كانت في مدينة ينبع من أعمال الحجاز التي غادروها إلى مراكش في القرن الثالث للهجرة‏[4].

تعلم في نشأته المبادئ الدينية والعربية على يد والده وعمه عبد السلام في قرية أجدير، ثم سافر إلى مدينة تطوان سنة 1896 لإكمال دراسته الدينية فيها، إذ التحق بالجامع الكبير وأخذ يدرس على يد شيوخها المعروفين‏[5]. ثم عاد إلى أجدير بعد إكمال دراسته، ولرغبته القوية في التعمق بالعلم والدراسة، سافر إلى فاس سنة 1902 لهذا الأمر، واستقر في مدرسة العطارين، ثم التحق بجامعة القرويين للدراسة على يد شيوخها الكبار‏[6]. وقد مكنه هذا الأمر من الاطلاع على المناورات الداخلية والخارجية التي كانت تعصف بالمغرب، كما له كانت فرصة التشبع بأفكار الحركة السلفية ومبادئها، التي أرسى دعائمها دعاة الإصلاح والنهضة والتجديد، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا، والتي أثرت تأثيراً كبيراً في إسهامات الخطابي في بناء الفكر والنهضة الوطنية المغربية‏[7].

عُرف الخطابي بذكائه ونشاطه الكبير اللذين وظفهما في ملاحظاته وتجاربه الثقافية والاجتماعية والدينية، ولا سيّما أثناء دراسته في مدينة فاس؛ فقد كان مدركاً وواعياً للأحداث السياسية التي يمر فيها المغرب، من حيث تتبعه لأطماع الدول الغربية في وطنه‏[8]، ولا سيّما ما كانت تقوم به فرنسا وإسبانيا في استمالة بعض ضعاف النفوس من أجل مساعدتهم على السيطرة على المغرب. لذلك، قام الخطابي سنة 1903 بتأسيس لجنة الإنقاذ مع مجموعة من طلاب الجامعة للقيام بانقلاب ضد المخزن، وتشكيل حكومة قوية قادرة على الوقوف في وجه الأطماع الأوروبية، والوقوف مع أبناء البلد المخلصين، ولا سيّما بعد المجزرة التي راح ضحيتها الكثير من المواطنين في الاصطدام الذي وقع بين قوات بوحمارة‏[9] وأنصار السلطان مولاي عبد العزيز (1894 – 1908) إلا أن الانقلاب فشل في اللحظة الأخيرة نتيجة وشاية أحد الطلبة‏[10] لكنه نجح في هذا الوقت في الوقوف إلى جانب والده في القضاء على ثورة بو حمارة وتخليص إقليم الريف منه، فكان لملازمة محمد بن عبد الكريم والده في هذا الأمر الدور في إعطائه خبرة في خططه الحربية وتوسيع معارفه العسكرية‏[11]، التي استفاد منها أثناء مواجهاته مع إسبانيا.

أراد عبد الكريم الخطابي معرفة ما يخطط له الإسبان في مليلة المحتلة، لذلك أرسل ابنه محمد إليها بعد أن أكمل دراسته في جامعة القرويين سنة 1906، كما أرسل ابنه الأصغر محمد إلى مدريد لإكمال دراسته‏[12]. وعدَّت هذه الخطوة حركة ذكية من عبد الكريم الخطابي لطمأنة الجانب الإسباني بعدم القيام بأي تحرك ضدها، ولمعرفة ما يخطط له – وإن أخذ منه ذلك سنوات -.

بدأ الخطابي زياراته إلى مليلة ونتيجة اختلاطه بالإسبان، تعلم لغتهم، فاستفاد منه الإسبان في تعيينه معلماً لتعليم أولاد المغاربة في مدينة مليلة سنة 1907، وبعد استقراره فيها شغل عدة وظائف؛ إذ عين مستشاراً في مكتب شؤون المغاربة خلال الأعوام 1909 – 1919، واهتم بالتنظيم العسكري والإداري للإسبان، إذ تعرف خلالها على وسائل الاحتلال، وعمل صحفياً أثناء المدة ذاتها من سنة 1908 – 1912 في جريدة تلغراماديل ريف (Telegrammadel Rif ) (برقية الريف) وساهم في إعدادها‏[13]. وكذلك عمل مستشاراً في المحكمة العليا للجنايات من سنة 1911 – 1914، فضـلاً عن تسلمه منصب قاضي القضاة من سنة 1914 – 1919. فكانت هذه الوظائف والسنوات التي قضاها – اثنتي عشرة سنة – فرصة استفاد منها الخطابي في معرفة نية الأسبان وكشف أسرارهم تجاه المغرب‏[14].كان لكل ذلك دوره في تعميق الفكر السياسي والثقافي والاجتماعي والذي سيبرز بصورة كبيرة، عندما أقام حكومته في الريف.

وإبان الحرب العالمية الأولى 1914 – 1918 أبدى الخطابي استعداده الصريح لتأييد العثمانيين حلفاء ألمانيا، ورغبته في التعاون مع السلطان المعزول عبد الحفيظ – المقيم في إسبانيا – من أجل إنقاذ البلاد‏[15]. كما حصل اتفاق بين عبد الكريم الخطابي ورئيس البعثة الألمانية (فرانسيسكو فارل) سنة 1915 على تزويد الريفيين بالسلاح مقابل قتال الفرنسيين في الحرب‏[16]. فلما علمت السلطات الإسبانية بذلك، ألقت القبض عليه بتهمة الإخلال بواجبه الوظيفي وتدخله في الشؤون السياسية، فاعتقلته وسجن مدة سبعة أشهر، ثم أطلق سراحه لبراءته، ثم سجن مرة ثانية – كرهينة لموقف والده المعادي للإسبان – ولم يطلق سراحه إلا بعد أن قدم والده اثنين من أبناء عمومته بدلاً منه‏[17].

على الرغم مما قام به الإسبان تجاه عبد الكريم الخطابي، إلا أنه عاد إلى مليلة بعد بقائه في أجدير مدة سنتين، وقد لخص سنوات إقامته في مليلة قائلاً: «لم ألتفت يوماً إلى الحضارة الغربية على أنها غاية الحياة والسعادة أو الاستقرار… كنت كلما زاد احتكاكي بالإسبان والأوروبيين، زاد إيماني بأنهم يعيشون في حلم الاستعمار واستغلال الآخر واستعباده، فازداد بُعداً من حضارتهم، وكل ما يسمونه التقدم والرقي؛ ما دام هذا التقدم والرقي يسخرونه لمصلحتهم من دون بقية أبناء الإنسان»‏[18].

اعتقد المغاربة بعامة، وعبد الكريم بخاصة، أن نهاية الحرب العالمية الأولى عام 1918 سوف تصفي جميع المشاكل التي أوجدها الاستعمار، وأن الدول الصغيرة سوف تتمتع «بحق تقرير المصير» لكن الحرب انتهت، وأعادت الدول الكبرى سيرها في طريق الاستعمار‏[19]، مخالفةً بذلك المبادئ التي ينادي بها الرئيس الأمريكي ويلسون والتي جاءت في مؤتمر الصلح في «فرساي» بباريس عام 1919‏[20].

وإزاء ذلك، بدأ عبد الكريم الخطابي بالتحرك لتنظيم ثورة ضد الاحتلال الإسباني، في حين أن المقاومة في إقليم جبالة كانت قائمة بقيادة أحمد الريسوني‏[21]. لذلك، وجد الخطابي ضرورة استدعاء ولديه من مليلة ومدريد، فالتحقا بأبيهما في أجدير مع انضمام عمهم عبد السلام إليهم أيضاً وقرروا: «بأن يحاربوا الاستعمار كيفما كان على العموم، وإسبانيا على الخصوص إلى آخر رمق»‏[22].

أخذت العائلة الخطابية بتعبئة دينية سياسية عسكرية بين الأهالي لإفهامهم حقيقة الأطماع الإسبانية وضرورة الجهاد ضدهم، وقد نجحوا في ذلك‏[23]. مما أثار قلق الإسبان الذين حاولوا استمالة عبد الكريم الخطابي لكنهم فشلوا في ذلك، فلجأوا إلى أحد عملائهم، ويدعى عبد السلام التفرستي الذي دس له السم في الطعام، فأصيب بنزيف نقل في إثرها إلى أجدير – إذ كان يقيم في المركز الذي أقامه في تفريسيت لتدريب المقاتلين – ودعا ولديه وأوصاهما: «إذا لم تستطيعوا الدفاع عن استقلال الريف وحقوقه فغادروه إلى مكان غيره» ثم توفي في كانون الأول/ديسمبر عام 1920‏[24].

في إثر ذلك، اجتمع زعماء بني ورياغل لاختيار محمد بن عبد الكريم الخطابي (الابن البكر) رئيساً لهم، فأخذ القائد محمد بن عبد الكريم الخطابي يعد العدة لتنظيم عمليات المواجهة، ولم يكن عدد المقاتلين آنذاك يتجاوز (200) مقاتل، فبدأت مرحلة جديدة من مواجهة الإسبان بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي‏[25].

كان الخطابي متأكداً بفكره الثاقب أن الانتصار على القوات الإسبانية لن يتم إلا في بناء الجبهة الداخلية وتأمينها، لذلك وجد أن عليه القيام بمهام كثيرة كان أولها العمل الجماعي وإقامة وحدة شعبية وطنية متجاوزة حدود الإطار القبلي والمحلي لمواجهة الاحتلال الإسباني. ونُقل عن أحد الصحفيين أن الخطابي امتلك «القدرة على تقدير قيمة القوة الجماعية وتوجيهها»‏[26]. أدرك الخطابي أنّه بدأ بإثارة الضمائر وإيقاظ الحماسة في قلوب القبائل من أجل نيل الحرية من الاحتلالين الفرنسي والإسباني، كما أخذ بإلقاء الخطب والمحاضرات الدينية الهادفة إلى إجماع الكلمة ونبذ الخلافات السابقة وترك العداوة والأحقاد التي كبرت مع الأفراد والجماعات، ليحل محلها الوفاق والمصالحة لاشتراكهم في عدو واحد‏[27]. وكان «يبث فيهم روح الوطنية الحقيقية التي تتماشى مع الدين الإسلامي والشريعة المطهرة ويستدل بالكتاب والسنّة في جميع أحاديثه ومواعظه البعيدة المدى»‏[28].

كان للثقافة العربية الإسلامية والثقافة الحديثة التي امتلكها الخطابي أثرٌ في إقناع الكثير من الأهالي بمواعظه وأحاديثه مشيرين إلى ذلك قائلين إنهم «كانوا ينتظرون بفارغ الصبر وقت صلاة الصبح والعصر حيث كان يؤم الناس ويلقي عليهم أحاديثه لكي يستنيروا بها، فكانوا يتقبلونها بكل اهتمام ويتحرقون شوقاً لتنفيذها»‏[29]. واستطاع بذلك وضع اللبنات الأولى لتنظيم داخلي اجتماعي أشرك فيه معظم القبائل ليقوم بالخطوة الأولى له من أجل بناء عسكري سياسي لمواجهة المحتل. وقد تعهد الجميع له بأنهم سيحققون رغبته في ذلك وقالوا له: «إننا مستعدون للدفاع عن وطننا وشرفنا بكل ما نملكه من الغالي والرخيص والأرواح»‏[30]. لما عقد مؤتمر إمزرون في 21 شباط/فبراير عام 1921، تم الإجماع من قبل قبيلته ومعظم القبائل – التي حضرت – على انتخاب محمد بن عبد الكريم الخطابي أميراً عليهم في مواجهة الإسبان وقيادة الكفاح، فقال لهم: «إنه لم يقبلها إلا امتثالاً لأمرهم الذي أجمعوا عليه أنه لا بد أن يكونوا على بال من أن إمارته ليست إمارة ملك، وإنما هي لاجتماع الكلمة»‏[31].

اتفق المؤتمرون على اختيار مركز جديد للمقاومة بدلاً من المركز السابق، وأجمعوا على موقع قبيلة تمسمان ومركز يسمى (القامة) لإدارة شؤون البلاد والكفاح، إذ توجه الخطابي مع المقاتلين الذين جمعهم إلى المركز ليباشروا عملهم العسكري، ولدعوة القبائل إلى الثورة، ويذكر أن الخطابي في أثناء وجوده في مركز (القامة) وجد ضرورة إنشاء مراكز فرعية لمراقبة تحركات القوات الإسبانية، فقامت في كل من أرزو جيدار، سوق الاثنين، وسيدي شعيب وأكروماس. وفي أثناء ذلك، تباحث الخطابي مع أتباعه في مشروع إقامة حكومة وطنية لإدارة شؤون البلاد، وتم إقرار المشروع في 15 كانون الأول/ديسمبر عام 1921 ‏[32]. نجد أن محمد بن عبد الكريم الخطابي استطاع جمع شمل معظم القبائل التي سيكون لها الدور الكبير في الحرب التحررية الريفية المقبلة، ولا سيّما بعد أن نجح في جمع وحدة صف القبائل التي سنرى نتائجها بوضوح في الحكومة التي سوف تقام في إقليم الريف، وهذا إن دل على شيء، فإنما على مدى عمق تفكير الخطابي بأهمية المرحلة التي يعيشونها، والتي تتطلب جهوداً غير عادية لنجاح مشروعه، ليكون قادراً على مواجهة إمكانات العدو المحتل الفائقة.

حاول الإسبان زعزعة وحدة الصف الوطني للقبائل وتفتيتها، والتي انضوت تحت لواء عبد الكريم الخطابي، على الرغم من وجود قبائل متعاونة معها، إلا أنها فشلت في مساعيها، وذلك للتعبئة السياسية والعسكرية الواسعة التي استمر بها الخطابي. قررت القوات الإسبانية في 1 حزيران/يونيو 1921 الهجوم على مركز (القامة)، وقُدر عدد القوات الإسبانية المهاجمة بـ(5500) جندي، تحصن (500) منهم في جبل إيران، بينما تقدم آخرون إلى المركز الإسباني في موقع أنوال، وزحفت قوات أخرى إلى قرية أجدير – 122 ألف جندي – مركز قبيلة بني ورياغل، فرد المجاهدون الريفيون عليهم لتبدأ الحرب بين الطرفين‏[33].

شهدت المناطق الجبلية (إيران) و(أغريبين) حرباً ضروساً بين قوات المجاهدين الريفيين الصغيرة المدعمة بحماسة المدافعين عن بلادهم، وقوة الإسبان الضخمة المدعمة بأسلحتهم الحديثة، فكان استيلاء المجاهدين الريفيين على قمة (إيران) أول خسارة منيت بها القوات الإسبانية‏[34]. هذا ما جعل القيادة الإسبانية في مدريد تتريث في مخططاتها الجديدة في المغرب الشمالي، بينما حققت هذه الانتصارات للريفيين نتائج إيجابية حينما جعلت الكثير من القبائل تتدفق عليهم للوقوف إلى جانبهم ضد الإسبان‏[35]، بل عدت المعارك التي خاضها الريفيون من الدروس المهمة التي استفاد منها بعض قادة العالم‏[36]. إذ إن الخطط التي اعتمدها الخطابي كانت مستوحاة من الخطط التي اعتمدها عبد القادر الجزائري عندما كان يقاوم الفرنسيين في القرن التاسع عشر‏[37].

بعد انتصار «إيران» أراد الريفيون التقدم والاستمرار في القتال إلا أن الخطابي بحكمته وعبقريته القتالية أمر مقاتليه على الفور بتحصين مواقعهم ومراكزهم الجديدة لمواجهة رد الفعل الإسباني الذي كان الخطابي وحده يعرف أنه سيكون قوياً وقاسياً. لذلك كانت خطة الخطابي أن يجعل القوات الإسبانية تتقدم لتحتل الهضبة المنخفضة (أغريبين) القريبة من «أنوال» من غير أن يقدروا ما تنطوي عليه هذه الخطة، إذ كانت «أغريبين» تبعد عن أقرب مصدر للمياه حوالى أربعة أميال‏[38]. وفي هذا الوقت، كان مقاتلو الريف قد اتخذوا مواقعهم في المخابئ والخنادق المواجهة لـ «أغريبين»، فعندما جرت أولى المحاولات الإسبانية لجلب الماء أدركوا أنهم وقعوا في مصيدة القوات الريفية، حتى إن أحد الضباط الإسبانيين عبر عن ذلك قائلاً: «إن رجالي يشربون دماءهم الخاصة»‏[39].

قررت القوات الإسبانية بقيادة القائد العام الجنرال سلفستر التحرك بقوات هائلة من منطقة أنوال في 21 أيار/مايو عام 1921 تتقدمها مدافعهم التي تلقي بقذائفها على خنادق القوات الريفية التي باغتتها في معركة مريرة عجزت القوات الإسبانية عن العودة إلى أنوال، وبدأوا يتقهقرون فانحطت معنويات الجيش الإسباني، وأصابهم الذعر والارتباك أمام كثرة قتلاهم والخسائر التي أصابتهم‏[40]، وغنم المجاهدون الريفيون الآلاف من المعدات والغنائم والمؤن الطبية‏[41]. انهزم سلفستر الذي كان صديقاً حميماً للملك ألفونسو الثالث عشر ملك إسبانيا آنذاك، والذي وعد ملكه وجيشه والعالم بأنه سينتصر على الريفيين وسيشرب الشاي في بيت محمد بن عبد الكريم الخطابي بأجدير‏[42]. خاب ظنه وقُتل في المعركة‏[43].

كانت معركة أنوال أول صِدام عسكري بين قوات الخطابي والقوات الإسبانية، وعلى الرغم من الفارق الكبير بين قوات الريفيين والإسبانيين، استطاعت القوات الريفية أن تحقق النصر وتطرد القوات الإسبانية من إقليم الريف بأكمله، ولم يبقَ إلا مدينة مليلة‏[44] التي رفض الخطابي التقدم نحوها لعدة اعتبارات، منها خشيته من قيام رجاله – الذين تغلب عليهم صفاتهم القبلية – بالانتقام من الإسبان المدنيين وهو في وقت بحاجة إلى تأييد دولي لكسب استقلالهم، كما أنه توقّع قبول الإسبان الصلح معه والاعتراف باستقلال الريف مقابل ضمان امتيازات اقتصادية من دون إراقة دماء‏[45]. كما برز في ما بعد أن قراره هذا كان السبب في تراجعه أمام التحالف الثنائي الإسباني – الفرنسي‏[46].

على الرغم من ذلك، فإن نتائج معركة أنوال كانت كبيرة بالنسبة إلى القوات الريفية، إذ أثبتت القدرات العسكرية العالية التي تمتلكها بقيادة الخطابي، التي وصل صداها إلى العالم الدولي إلى جانب المحلي والعربي، لكن أهم نتيجة كانت، واستمرت مع استمرار مقاومة الخطابي وأتباعه، إقامة كيان سياسي مستقل في إقليم الريف، عُرف بـ «حكومة الريف» لإدارة شؤونهم السياسية والعسكرية والاجتماعية مع مواصلة عمليات المقاومة والتحرير ليشمل المغرب بأكمله.

إنشاء حكومة الريف

عاد الخطابي إلى أجدير بعد انتهاء معركة أنوال، واجتمع مع زعماء القبائل الريفية، وقرروا في 19 أيلول/سبتمبر عام 1921 الإعلان عن تأليف حكومة وطنية مستقلة تدير شؤون البلاد مع تشكيل جمعية وطنية فيها لوضع ميثاق قومي‏[47]، وتعيين محمد بن عبد الكريم الخطابي «أميراً» عليها، الذي أكد أنها لن تكون بديـلاً من السلطنة أو المخزن المغربي، بل سوف يؤكد من خلالها شعبية الحكم وتأطيره لسلطة الشعب، وأنه منفذ لقراراته وطموحاته المشروعة، ذاكراً أن السلطة لم تكن هدفه بقدر ما كان تحرير الريف والمغرب بأكمله من ربقة الاستعمار من أجل تحقيق الاستقلال والسيادة الوطنية‏[48]. اختارت الجمعية أيضاً علماً للحكومة الوطنية المشكَّلة‏[49]، باعتبار أن هذه هي الأسس التي تحتاج إليها هذه الحكومة ليتم بعدها القيام بالتنظيمات الأخرى.

أثبت الخطابي بوصفه قائداً عسكرياً وزعيماً سياسياً، كفاءة قَلَّ نظيرها، فقد أنشأ حكومة حديثة قائمة على أسس برلمانية، وأوجد لها نظماً إدارية ومالية وقضائية جديدة، قام بإصلاحٍ ديني وثقافي وزراعي، وانشأ جيشاً يعتمد على أفضل أساليب القتال ويملك مختلف الأسلحة، بل أخذ يبحث عن رسائل مناسبة لإقامة علاقات دبلوماسية مع الدول كافة‏[50].

على الرغم من حالة الحرب التي يعيشها إقليم الريف، إلا أن جهود عبد الكريم الخطابي كانت واضحة في الاهتمام بتنظيم مؤسسات حكومة الريف بجميع مجالاتها، لتطويرها ونقلها من الواقع التقليدي الذي عاشته قبائل الريف عبر تاريخها الطويل إلى طور المؤسسات الحديثة، بما يتناسب مع تفكير الخطابي السياسي والعسكري والاجتماعي والإداري، والمنضَبَط ضمن حدود الشريعة الإسلامية. وسنركز هنا على الجانب الاجتماعي.

ثانياً: التنظيم الاجتماعي في فكر محمد بن عبد الكريم الخطابي

ذكرنا في صفحات سابقة أن الثقافة العربية الإسلامية والثقافة الحديثة التي امتلكها عبد الكريم الخطابي، جعلته شخصية ذات فكر ثاقب، وعقلية قيادية طموحة استفاد منها في تنظيم الحكومة التي أقامها في الريف المغربي، ولا سيّما في ما يخص الجانب الاجتماعي الذي حاول تنظيمه تنظيماً حديثاً. فقد بذل من أجل ذلك جهوداً عظيمةً من أجل إنقاذ البلاد بعد أن كانت الفوضى تعمها، والفتن والثورات منتشرة في طول البلاد وعرضها، فضـلاً عما كان يعانيه الناس من الأزمات الاقتصادية، لذلك حاول الخطابي إزالة كل هذه الصعوبات ومعاقبة العابثين بأمن البلاد‏[51]، فنجح في إحلال السلامة والطمأنينة محل الخوف والأذى، والعدل والقانون أمام الظلم والاستبداد، وبذلك تمكن من إحلال الأمن في بلاد الريف، مما شجعه على تحقيق إصلاحات مهمة لشعبه في كل فروع الحياة؛ فنظم مالية البلاد وأصلح الإدارة ونظم التجارة والزراعة، وأسس المدارس وأرسل البعثات العلمية إلى أوروبا، وعني بإصلاح الحالة الصحية في الريف، وحاول إنشاء المستشفيات والمستوصفات وجلب الآلات الفنية، وعمل على تعبيد الطرق وربطها بعضها ببعض الآخر، إلى غير ذلك من الإصلاحات التي ستكون نواة نهضة قومية شاملة في المستقبل‏[52]. ركز الخطابي في تنظيمه الاجتماعي على جوانب كثيرة كان أهمها:

1 – القضاء

يعد القضاء من أولى المؤسسات المدنية التي أولاها الخطابي اهتماماً بالغاً، منذ بداية حركته التحررية، في أن يكون هناك محكمة للفصل في القضايا المدنية والجنائية، وكان هو من يمارس القضاء بين الناس إلى جانب قيادته عمليات المقاومة‏[53]. وقد سعى إلى بناء دولة أساسها العدل؛ فبعد تنظيمه الإداري لحكومة الريف، فرض تطبيق الشريعة الإسلامية بدلاً من القانون العرفي، وحرم التشويهات الجسدية التي كانت تفرض كنوع من العقوبات، إذ أحدث غرامات وعقوبات بالحبس ضد مرتكبي جرائم القتل بدلاً من قانون القصاص‏[54].

كانت السلطة القضائية مستقلة عن باقي السلطات، وهي أول ما تم تنظيمه في أجدير؛ إذ يوجد مقر محكمة الاستئناف التي يترأسها وزير العدل الذي يساعده خمسة عشر مستشاراً، وكان لقاضي القضاة دور النيابة العامة، فيما اختار بعض الاعيان للعمل كمحامين‏[55].

ونظراً إلى عمق تفكير محمد بن عبد الكريم الخطابي ووعياً منه أن تسوية المسألة القضائية هي العامل الحاسم في إدماج جميع القبائل، إذ قام بتجميع كل الفقهاء – والحرب على أشدها مع الإسبان – وعينهم قضاة بإصدار (مرسوم) بنسبة قاضٍ لكل قاضٍ، لحل مشاكل القبيلة وكل ما يتعلق بحياتهم الاجتماعية، وكان الغرض من توزيع هؤلاء القضاة تحقيق القانون الموحد للشريعة الإسلامية، وتطبيق مركزية حكومة الريف‏[56] التي أخذت على عاتقها مسؤولية حفظ النظام الاجتماعي من طريق النظام القضائي المسند بمبادئ الشريعة الإسلامية ليزيل التقاليد والأعراف القبلية المتبعة كلها، في تلك المناطق‏[57].

أما بالنسبة إلى العقوبات المفروضة على الجرائم، فقد صُنفت بحسب نوع الجريمة، سياسية كانت أو اجتماعية، وقد أوضحت وثائق السجن المركزي الموجود في قرية أجدير نوع الجريمة والعقوبة المتخذة بحقهم‏[58].

وقد قسمت حكومة الريف جرائم النظام القضائي إلى ثلاثة أصناف:

  • جرائم سياسية واضحة كالتجسس والخيانة.
  • جرائم جنائية كالقتل والمنازعات الشخصية.
  • جرائم اجتماعية.

وإزاء كل صنف من هذه الأصناف، تقع عقوبة معينة بحسب مبادئ الشريعة الإسلامية، فتطبق عقوبة الإعدام رمياً بالرصاص على المتهمين بالتجسس والخيانة، وفرض الحبس والغرامات في المسائل المتعلقة بقضايا اجتماعية معينة أو ما يخص النظام العام‏[59].

وقد استعان الجهاز القضائي بالأجهزة الأمنية من أجل الحفاظ على الأمن الاجتماعي، وحال الاستقرار في حكومة الريف، وبذلك استطاع الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الاحتفاظ بالسيطرة السياسية والاجتماعية والعسكرية، وتحققت له هذه الأمور من خلال ولاء كل القبائل له، ولحكمه في حكومة الريف‏[60]، والتي وجدت في التنظيمات التي أقرها الأمير مجتمعاً عصرياً مطبقاً للقانون الذي يضمن لهم حقوقهم الاجتماعية بكل عدالة، كونها مستندة إلى الشريعة الإسلامية، وقد كَتَبَ صحافي أمريكي (بول سكوت مور) في سنة 1925 يصف النظام والقانون في حكومة الريف قائلاً: «لقد كان النظام والقانون يسودان البلاد، وخيّم الأمن على الممتلكات وطرق المواصلات»‏[61]. إن هذا الأمر لم يكن تحقيقه بالأمر السهل، لولا التعاون الجماعي بين الأمير والقبائل المنتشرة في الريف.

2 – الإصلاحات المالية

كان الاهتمام بالجوانب المالية للحكومة في بداية تشكيلها أمراً بالغ الأهمية، ولا سيّما أنها تحتاج إلى شراء الكثير من الأعتدة والأسلحة كونها ما تزال تواجه العدو المحتل. كما هو معروف، فإن النقد في مراكش كان يصدر من حين إلى آخر منسوباً إلى أسماء السلاطين الذين أصدروه، وقد كان الحسني – المنسوب إلى السلطان الحسن الأول 1873 – 1893 – هو العملة النقدية المتداولة، حينما فرضت الحماية الثنائية على البلاد. وبقي التعامل بها إلى سنة 1902 حينما أصدر الفرنك المراكشي في منطقة الجنوب، الفرنك الذي يصدره البنك المراكشي الذي تأسس بمقتضى معاهدة الجزيرة الخضراء. أما بالنسبة إلى الشمال المغربي، فقد حلت العملة الإسبانية محل النقد المحلي‏[62].

عندما قامت حكومة الريف، لم يكن لها عملة خاصة بها تنظم ماليتها، إلا أنها حاولت إصدار عملة ريفية تدعى «ريفان» من طريق «البنك الريفي» الذي أرادت إنشاءه في أجدير، ومع ذلك فإنها كانت تتداول العملة الإسبانية البسيطة (بيزيتا)، والعملة المروكية بسبب ظروف عدم الاستقرار التي تمر بها المنطقة‏[63]. ثم عملت على إصدار عملة ورقية تطبع في بريطانيا سنة 1924، لكن ظروف الحرب منعتها من الاستمرار في عملها‏[64].

على الرغم من عدم وجود عملة نقدية خاصة بحكومة الريف، إلا أن ذلك لم يمنعها من تنظيم ماليتها التي تتوقف عليها حرفيات مؤسساتها العسكرية والمدنية وقد جاءت مصادرها المالية من:

أ – الموارد الداخلية، وتشمل‏[65]:

  • الزكاة.
  • الضرائب.

ب – الموارد الخارجية، وتشمل:

  • فداء الأسرى.
  • الرسوم الجمركية.

أما بالنسبة إلى الموارد الداخلية، الزكاة، فقد كانت تدفع نقداً، أو على شكل مواد زراعية، إذ يلزم الفلاحون بزراعة أراضيهم وإلا سُحبت منهم وأعطيت لغيرهم ضماناً لعدم تركها من دون زراعة‏[66]. كما نظمت عملية جمع الزكاة بشكل دقيق، إذ كلف وزير المالية الأمناء بجمعها من المواطنين، مع وضع رقابة على الأمناء ذاتهم تقوم بالتفتيش والمحاسبة أثناء التقصير‏[67]. وقد أصبحت أموال الزكاة مورداً من موارد خزينة حكومة الريف، وقدرت قيمة مدخول الزكاة السنوية بمبلغ 75 ألف بيزيتا[68].

أما الضرائب، فقد كانت على ثلاثة أنواع، الأولى: تسمى «الضريبة» ويقوم بدفعها جميع المواطنين عدا الفقراء وجرحى الحرب، والثانية: تسمى «التيجان» وهي مفروضة على أصحاب الثروات، وقيمتها محددة من قبل حكومة الريف‏[69]. أما الثالثة: فهي الغرامات، وهي مفروضة على الجماعات الخارجة على السلطة المركزية، مثل قبيلة غمارة التي تمردت سنة 1923 على محمد الخطابي لما ذهب لتنظيم قبائلها، ففرضت عليها 30 ألف بيزيتا، وقبيلة بني زروال التي تمردت سنة 1925 بسبب دعاية بعض المتعاونين مع فرنسا، ففرضت عليها 500 ألف بيزيتا‏[70].

أما ما يخص الموارد الخارجية، فقد اعتمدت في تحصيلها على ما يأتي من فداء الأسرى ورسوم الجمارك، اللذين شكـلا مبلغاً مالياً ضخماً لخزينة الحكومة، فقد حصل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي في سنة 1923 على ما يقدر بـ 4 ملايين بيزيتا لقاء فداء أسرى معركة أنوال‏[71]. كما أخذت الفدية من الإسبان المحاصرين في مراكزهم، إذ كانوا يدفعون المبالغ العالية لقاء فك الحصار عنهم، وقد شجعت هذه الطريقة القوات الريفية على مواصلة حصارهم للمراكز الإسبانية‏[72].

وشكلت رسوم الجمارك مورداً آخر لخزينة الحكومة، التي كان مركز إدارتها مدينة الحسيمة‏[73]. كما أن الأموال المفروضة على السلع الداخلة والخارجة من فاس أو الجزائر كانت عالية جداً، لكنها توقفت مع بداية الاشتباك مع القوات الفرنسية‏[74].

على الرغم من كل المضايقات التي كانت تتعرض لها حكومة الريف، إلا أنها استطاعت أن تنظم ماليتها خدمة لتسيير إدارة البلاد وشؤونها الخدمية وتوفير كل مستلزماتها، ولا سيّما العسكرية منها كونها حكومة أُنشئت في ظروف حربية، ومستمرة في مواجهة قوات الاحتلال، فكانت تعتمد آنذاك على الاكتفاء الذاتي بما يحصلون عليه من طريق المعارك من الأموال التي يأخذونها لقاء افتداء الأسرى، أو المعدات العسكرية لتزويد أنفسهم.

3 – التعليم

أخذت مسألة التعليم حيزاً كبيراً من تفكير الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي أدرك أهمية ذلك، فسعى إلى تنظيم التعلم في الريف تنظيماً عصرياً لينشئ جيـلاً واعياً من الشباب قادراً على مواجهة الأعداء بأساليب حديثة عصرية. فكما هو معروف فإن التعليم الديني هو الذي كان سائداً في بلاد المغرب‏[75]، وبقي كذلك حتى إعلان الحماية الأجنبية عليه سنة 1912، إذ قام الإسبان والفرنسيون بإخضاع التعليم لإدارتهم لتوجيهه بحسب وجهتهم الاستعمارية، فأصبح التعليم في المغرب محدوداً بل مراقباً من قبل سلطاتها عدا المدارس العربية – الإسبانية، أو العربية – الفرنسية التي سمحت بها لأجل تخريج طبقة من الموظفين تستخدمهم سلطات الاستعمار كوسطاء لها في إدارتها، ولإضعاف اللغة العربية‏[76].

لذلك، اهتم الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي بنشر التعليم في كل الأجزاء التي حررها من يد القوات الإسبانية، ولا سيّما بعد تقسيم تلك المناطق إلى وحدات إدارية لتنشأ فيها المدارس، ويدخلها أبناء البلاد الذين لم يصلوا إلى سن الخدمة العسكرية‏[77].

نظم محمد بن عبد الكريم الخطابي التعليم في حكومة الريف تنظيماً حديثاً وعصرياً، إذ لم يعد يقتصر على التعليم الديني فقط، ولا سيّما بعد أن أنشأ وزارة المعارف (التربية) لتطوير المدارس التي انشأها، وجلب لها المدرسين من خارج المغرب من الجزائر ومصر، ليساهموا في النهضة العلمية الحديثة التي رسمها وخطط لها ونفذها الأمير في إقليم الريف‏[78]. إذ أسس ثلاث مدارس تعتمد في تدريسها على المناهج الحديثة والجديدة بل وأشرف على إدارتها ورعايتها وهذه المدارس هي:

أ – مدرسة أجدير التي ضمت الشبان الذين يمتلكون شيئاً من العلم، لتعليم علوم الرياضيات والعلوم، مواد خاصة بالقواعد العسكرية، وعين لإدارتها محمد بن الحاج حدو، أحد علماء بني ورياغل. وكان الأمير يشرف على هذه المدرسة بنفسه، وحدد لمديرها راتباً قدره 100 بيزيتا، وهو راتب عالٍ جداً في ذلك الوقت‏[79].

ب – مدرسة زاوية أدوز بقبيلة بقيوة، وقد أشرف الخطابي على وضع منهاجها أثناء توجهه إلى تلك الجهة، وعين الفقيه محمد ميشال – أحد علماء قبائل غمارة – مديراً عليها ويستلم راتباً مشابهاً لمدير المدرسة الأولى.

ج – ولم يغفل الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي الاهتمام بالتعليم الديني، إذ أسس معهداً دينياً في مدينة شفشاون بمساعدة أخيه محمد الخطابي، وعين له الفقيه العمري بمخصصات المدارس السابقة نفسها، كما اهتم بالتعليم العام الذي كان يدرس في المساجد مع إدخال مناهج تعليمية أخرى كالأناشيد الوطنية والرياضيات‏[80] من دون الإغفال عن تدريس القواعد العسكرية ضمن المناهج المقررة في المدارس العصرية من أجل خلق جيل من الشباب المثقف، ذي قدرات علمية وعسكرية يخدم بلده‏[81].

أدرك الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي أن لا شيء يمكن له من إخراج المنطقة من الجهل وإنقاذها من التخلف سوى تعليم حديث ومتطور، لذا حاول تنظيم هذا القطاع من خلال إنشاء المدارس العصرية وتعليم الذكور والإناث أيضاً، كما حاول إرسال عدد من الطلبة إلى مصر وتركيا لإكمال دراساتهم، لكن ظروف الحرب حالت دون ذلك. كما كان الأمير معجباً بالتعليم الحديث، وعمل على نشره في حكومة الإقليم، بمساعدة أخيه امحمد الذي كان من أوائل المهندسين في مجال المناجم، وقد يكون أول مهندس في اختصاصه في المغرب، وقدم مساعدة كبيرة لأخيه الأمير في إنشاء حكومة الإقليم نظراً إلى الخبرة العالية التي اكتسبها أثناء إقامته في مدريد بإسبانيا‏[82].

4 – الصحة

عانت أقطار المغرب العربي بعامة، والمغرب بخاصة، أوضاعاً صحية متدهورة، فقد كانت تعتمد على الطب الشعبي في مداواة أغلب الأمراض التي كانت تنتشر فيها، نتيجة ظروف اجتماعية كثيرة كالفقر والجوع والأوبئة التي كانت تودي بأرواح الكثيرين من الناس. وقد ظلت الحال كذلك حتى بداية عهد حكومة الريف، لانعدام وجود الأطباء والمستوصفات والمستشفيات فيها، إلا أن الوضع تغير بعد انتصار الثورة الريفية في معركة أنوال سنة 1921 التي وفرت كمية من الأدوية والمعالجات الطبية التي حصلوا عليها كغنائم استفادوا منها مدة طويلة، لكن الحاجة المستمرة إلى الأدوية في ظروف كالتي تعيشها حكومة الإقليم ألزمهـا بالبحث عن وسائل جديدة تعينهم على رفع المستوى الصحي في إقليم الريف، وقد قامت سنة 1923 بالاستعانة بطبيب وطبيبة فرنسيين، إلا أنه لا تعرف مدة بقائهما‏[83].

تأثرت الأوضاع الصحية في حكومة الريف سنة 1924 تأثراً كبيراً، ولا سيّما بعد استخدام القوات الإسبانية لأسلحة الغازات السامة‏[84]، والحصار الذي فرضته على قوات الريف، الذي أثر في عدم وصول الأدوية والإسعافات الطبية من طنجة لغرض معالجة الجرحى من الريفيين والجرحى المصابين من الإسبانيين أيضاً، لذلك استقدمت حكومة الريف أحد الأطباء المغاربة الذي كان في فاس ويدعى المحبوب الذي عانى كثيراً أثناء عمله، لعدم وجود المستشفيات والأدوية، وعلى الرغم من ذلك، قام بمجهود كبير وإن كان محدوداً‏[85].

ازدادت الحالة الصحية سوءاً في حكومة الريف بعد سنة 1925 بعد استمرار الحرب بين حكومة الريف والإسبانيين والفرنسيين معاً، ونَجَم عن ذلك سقوط الكثير من الجرحى والقتلى. كما حالت المضايقات الإسبانية والفرنسية دون تلقي إقليم الريف خدمات المنظمات الدولية (منظمة الصليب الأحمر)‏[86]، وقد أشار الخطابي حول ذلك الأمر لأحد الصحفيين بقوله: «وبعد سنة 1920 أخذنا نشعر بالحاجة إلى الأدوية، فإن طياراتهم كانت تجرح كثيراً منا، وعلى أثر ذلك اضطررنا لطلب المعونة من جمعيات الصليب الأجنبية للعناية بمرضانا وجرحانا»‏[87] علماً أن عملها لخدمة الإنسانية من دون تمييز. يذكر الأمير الخطابي بحقها قائلاً: «يسؤونا أيم الحق أن نرى جمعية الصليب الأحمر من الأمم النصرانية من غير تمييز جنسية ولا قومية تهتم بجرحى الإسبانيين وأسراهم الذين بقوا في أيدينا ونبعث لهم الكميات الوافرة من الدراهم، وترسل لهم الأطباء ليقوموا بمداواة جرحى الإسبانيين، وليس لنا من جمعياتنا الخيرية من يصلنا»‏[88].

على الرغم من المعاناة التي كان يعيشها سكان إقليم الريف تحت إشراف طبيب فرنسي يدعى كود، الذي جاء مع البعثة الفرنسية لغرض معالجة الجرحى الفرنسيين، كما قدمت البعثة بعض المعالجات والخدمات الصحية للريفيين بحكم وجودها بينهم. ومع استمرار الثورة الريفية ضد الإسبان والفرنسيين تدهورت الحالة الصحية، فكان لا بد من إنشاء مستشفى لمعالجة المرضى والجرحى، لذلك فكرت حكومة الريف ببناء مستشفى في منطقة أجدير بمساعدة الطبيب كود، فطلبت منه أن يخطط لإقامة مستشفى في منطقة عين حلون في أعالي أجدير، إلا أن الهجوم الإسباني في أواخر سنة 1925 أفشل هذا المشروع‏[89]. وبهذا لم تسمح الظروف للأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي، أن يحقق ما كان يفكر فيه، إذ كان يريد إقامة جهاز علاجي كبير للسكان، ولا سيّما بعد أن تفشت الأمراض بفعل القنابل السامة التي كانت تسقطها الطائرات الإسبانية‏[90].

إن الجهود التي بذلها الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي من أجل إقامة تنظيم اجتماعي عصري في إقليم الريف، كانت كبيرة ومنظمة، وسعى إلى استمرارها على الرغم من الظروف الصعبة التي كانت تواجه حكومة الإقليم. وعلى الرغم مما واجهه الأمير، يبقى التنظيم الاجتماعي في فكره تجربة حقيقية لنظام نهضوي شامل جديد واستثنائي في تاريخ المغرب.

خاتمة

برز محمد بن عبد الكريم الخطابي بكل ما يحمله من صفات كقائد وفقيه ودبلوماسي وعسكري ورجل دولة من الدرجة الأولى في المدة التي كان الاحتلال الثنائي الفرنسي – الإسباني مفروضاً على الشعب المغربي في جزأيه الشمالي والجنوبي، قاهراً كل الظروف من أجل التصدي للاحتلال الأجنبي، ولا سيَّما في الجزء الشمالي في إقليم الريف.

على الرغم من كل الصعوبات التي واجهت عبد الكريم الخطابي لكنه نجح في إنشاء حكومة عصرية حديثة مبنية على التلاحم الاجتماعي عندما استطاع إلغاء كل العادات والتقاليد القبلية التي كانت عند قبائل الريف، ولا سيّما مسألة الثأر التي كانت تجر البلاد إلى التطاحن القبلي، وعدم الاستقرار وفقدان الأمن. كان لذلك أثره الواضح بين القبائل التي وجدت في الحكومة الجديدة ما يمكّنها من جمع شملهم وتوجيه قوتهم تحت قيادة عبد الكريم الخطابي لمواجهة الإسبان.

كان التنظيم الاجتماعي أحد الأسس المهمة التي أخذت حيزاً واسعاً في فكر محمد بن عبد الكريم الخطابي من أجل بناء حكومة منظمة تنظيماً عصرياً حديثاً في ظل ظروف استثنائية صعبة كانت تواجه فيها الاحتلال الإسباني.

اعتمد محمد بن عبد الكريم الخطابي في خطواته الاجتماعية على معالجة أمور عدة، كالقضاء والإدارة والتعليم والصحة وغيرها من الجوانب الأخرى، باعتبارها من الأسس المهمة التي تقوم عليها أي حكومة عصرية، وقد بذل الخطابي جهوداً كبيرة من أجل تثبيت هذه الأمور، عندما أشرف بنفسه على تطبيقها والعمل بها بمساندة أشخاص أكفاء، كان لهم دور في قيام حكومة الريف.

أثمرت نتائج الجهود التي قام بها محمد بن عبد الكريم الخطابي، قيام حركات تحررية شعبية في المغرب من أجل الحرية والاستقلال.

 

قد يهمكم ايضاً  ثورة يوليو : شعلة في واقع عربي مظلم