تحديات الرقمنة
[1]بعدما غدت الرقمية مجالاً عالمياً شاملاً، وبعدما أصبح تموضع الأفراد والمجموعات والبلدان في البيئة الرقمية أمراً لا مفر منه، وبعيداً من الانبهار بالتكنولوجيا الرقمية أو من التخوف منها، وبمعزل عن التمايزات العائدة لكل بلد، بل حتى لكل فرد، على مستوى امتلاك التكنولوجيا، ومهارات استخدامها، وطرائق التعامل معها، فإننا نطرح أسئلة التموضع العربي في البيئة الرقمية، وما ينجم عنها من تحديات، ومن إشكاليات على المستويات الأنتروبولوجية والفكرية والثقافية.
إذا نظرنا إلى التكنولوجيا فاعلًا مندرجًا في مركب من العوامل الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فإننا سرعان ما نلاحظ أن التحولات التكنولوجية أدت بالضرورة إلى تحولات اقتصادية، فتم الانتقال من الرأسمالية الصناعية الوطنية إلى الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة، وهو انتقال أدى إلى اضطراب النظام السياسي الدولي؛ فغدا هذا الأخير يدار من جانب التحالف بين الدول المهيمنة والمنظمات الدولية، وبالتالي فرض هذا التحالف على الدول الوطنية تبني النموذج النيوليبرالي، وهو ما أضعف سيادة هذه الدول، ودفعها إلى أن تستبدل نموذج دولة الرعاية بعقد اجتماعي جديد يؤسس للدولة الاجتماعية النشطة الساعية لتنشيط الأفراد المستبعدين من العقد الاجتماعي ليحلوا مشاكلهم بأنفسهم، ويكونوا متعهدين لحياتهم. وهو ما يعني أن هناك محاولات لإيجاد أنماط جديدة من التنشئة والإدماج الاجتماعي للأفراد، بحيث غدا المطلوب من هؤلاء أن يكونوا مستهلكين بشراهة، منافسين بلا هوادة، ومتصلين بلا كلل ولا ملل. هؤلاء الأفراد تحتاج الآلة النيوليبرالية إليهم لتعمل وتدور، كما أشار غي باجوا (Guy Bajoit). وبغية إعطاء معنى وتبرير لما يقوم به النظام النيوليبرالي في دوائر متعددة انتج الفاعلون أيديولوجيا نيوليبرالية اتصالية عدُّوها بديلاً من الأيديولوجيات التي أخفقت في حل مشاكل الإنسانية، بهدف توجيه الممارسات والسلوكيات التي تتخلل المجالات العلائقية للحياة الجماعية والاجتماعية. وبهذا، وبضربة واحدة، تمت التضحية بالتقدم الاجتماعي على مذبح التقدم التقني .
واللافت للنظر أن قوام الثورة التقنية التي تعيش شعوب العالم في خضمها تشكَّل من تحول التقنية من وسيلة إلى غاية، ولا سيما بعدما ذهب التداخل بين الإنسان والآلة باتجاه تسارعي متصاعد، وهو ما وضعنا أمام مقولة ما وراء الإنسان. وهذا ما عدّه البعض استبعاداً للحياة الإنسانية من نفسها، واختزالاً لها بعمليات موضوعية. بهذا باتت فكرة التقدم تشير حصرياً إلى التقدم التقني، دافعة إلى الخلف أفكاراً مثل التقدم الفني والفكري والروحي والأخلاقي. وهكذا غدت التقنية تنتشرسريعاً، وتتوالد ذاتياً، وتسيرعلى هواها، غير عابئة بالحياة، في غياب أي ضابط. هذا لا يعني أنه ما من أحد يدير هذه التقنية ويتحكم فيها، ويوظبها لأهداف وغايات خاصة، إنما عمالقة الرقمية عملوا لعقود من الزمن في الخفاء، مكتفين بإشاعة الوعود والأوهام الخادعة كمثل: التحرر، الأفقية، التفاعلية، الحرية، المساواة، التفتح، الفردانية، التفاهم بين الشعوب… إلخ. ونادراً ما كان العالم يعرف عنهم شيئاً، إلى أن بدأت تتكشف نواياهم ومخططاتهم الربحية عندما بدأوا يتصارعون على المنصات والتطبيقات وداتا المعلومات. وبهذا طبّعوا بطريقة حاذقة المستخدمين مع العالم الاتصالي، وهو ما يعني أن عمالقة الرقمية الذين يبشرون بانتهاء الحياة الخاصة قاموا بأي شيء لكي لا يعرف الناس عنهم أي شيء.
وللمفارقة، كشفت هذه التقنيات، التي عُدّت وسائل تحرر، عن كونها وسائل جديدة من الرقابة ومن الضغط، في الوقت عينه؛ فبتنا نشهد رواجاً للأدوات الذكية التي تجمع المعطيات عن المستخدمين، وهو ما يُمكّن الـ «بيغ داتا» من شق سريرتنا والكشف عن المعنى الخفي لسلوكنا، بغرض فهم انفعالاتنا، واستباق رغباتنا، ومراقبتنا وإيقاظ المستهلك الراقد في داخلنا؛ ففي ممارسة الشبكات الاجتماعية يحصل انتهاك للخصوصية والداخلية بعدما كان الله وحده له الحق في النظر إلى داخلية الفرد. بهذا تسير بنا الثورة الرقمية إلى عالم حيث الإنسان يكون مفصولاً عن نفسه وينتهي إلى أن يكون قابلًا للرقابة المطلقة من دون إكراه ولا عنف.
مفاعيل الرقمنة
بفضل عمالقة الرقمية، بدأ الإيمان بالأمة يضعف، استبدلِت الأمة بالمحلي والعالمي، وغدت الهويات الإقليمية تتحرك إلى ما وراء الأمة وخارجها؛ وفي هذا الـ «ما وراء» يراود الإنسانَ شعورٌ بأنه مواطن عالمي؛ فالوجه الكلاسيكي للهوية المرتكز على مخطط فردي للحياة وعلى استقلالية ترتكز على معايير جديرة بأن توجِّه مسار الحياة، حلّت محله أوجه جديدة من الهوية الظرفية المرنة، ذات الطابع المؤقت، التي تبدأ بركوب الأمواج بمجرد ظهور فرص جديدة وجذابة.
كذلك ضعفت الدولة بمختلف هياكلها وبناها الهرمية والمؤسسية، بعدما دخلت المنصات الرقمية في معركة ضد الدولة بهدف التوصل إلى قوانين أقل وحضور أخف؛ فالشبكات الاجتماعية تمثل قلب ومصفوفة تحول العالم البشري إلى عالم غير مسبوق، تغيب عنه المعايير، وهذا ما يعزز التوافقات في ظل نظام السوق والنظام التجاري الرقمي الذي يفرض بشدة الفوضى على العالم لتصبح السوق مطلقة، وبهذا تؤسس «الأناركية» الرقمية هيمنتها على العالم. لكن ألا يعني غياب المعايير انتشاراً للأخلاق المُحرّفة والمبادىء الزائفة، ألا يدفع ذلك باتجاه التعسف الذاتي والعنف الكلامي؟
اللافت للنظر أن هذه المنصات هيأت الأرض للشعوب لأن تتخلى عن الدولة، وتنفصل عنها، وتهاجر إلى مجالات ما بعد سياسية، ولا سيما الشبكات الاجتماعية. هؤلاء الأفراد الهاربون لا يأملون في شيء، هم ساخطون، لديهم نفور من الاجتماعي والسياسي، يجهدون لفصل أنفسهم عن الجسم السياسي الحقيقي، عن مؤسساته، عن قيوده، عن خطاباته، عن الهيكل العمودي الذي يبنيه، عن الثبات الذي يفرضه من أجل الانضمام إلى الحشد الإنساني الافتراضي والمتقلب. هذه الهجرة الرمزية الافتراضية تُفرِغ النظام السياسي من نسغه، وبالتالي تُفقِد السياسة استقلاليتها، بعدما التهمتها التكنولوجيا والاقتصاد، ولا تكاد تحاكي نفسها، وتخفي عجزها عن السيطرة على مسار الأمور.
فضلًا عن أن الـ «بيغ داتا» أفرغت الديمقراطية من جوهرها، كما يرى البعض، فلم يبق منها سوى ديكور المؤسسات والمواعيد المقدسة للانتخابات؛ فالديمقراطية كسيرورة تستغرق وقتاً طويلًا، في حين أنه في ظل سيرورة التسارع الاجتماعي تتضاءل الموارد الوقتية المتاحة لدى السياسيين بفعل المستجدات التكنولوجية والمضاربات الاقتصادية وتبدلات الحياة الثقافية، وهذا ما أوقعهم تحت ضغط اتخاذ الكثير من القرارات في أوقات سريعة. هذا عدا عن أن المحاجَّة غدت عاجزة إزاء دينامية موجات تكوين الرأي. وبهذا أُفرِغت الديمقراطية من طاقاتها وغدت أشبه بقوقعة فارغة، وغدا المطلوب منها أن تكون أقل أيديولوجية، أكثر براغماتية ولا مركزية، وأكثر تشاركية .
ولم تعد المواطنة سوى كلمة عتيقة، لا تتجاوز الوضع القانوني وممارسة حق التصويت، وهي بذلك شبيهة باستطلاع الرأي. يُضاف إلى ذلك النفور المتزايد من السياسة الذي يصب في مصلحة الـ «بيغ داتا» التي تحلم بتحييد المواطن كي تحتفظ بالمستهلك المنتج للمعطيات.
كذلك أسهمت الرقمية في إضعاف القوى الوسيطة، وبالتالي في إختفاء الرأي العام المستند في الأساس إلى القراءة والمحاجَّة وإعمال العقل، في حين أن حركات الآراء التي تنقلها الشبكات الاجتماعية متبخرة ومتقلبة.
على المستوى الفردي، إنسان الشبكات الاجتماعية هو إنسان الاستياء، الرغبة في الانتقام، والحسد والغيرة والشعور بالعجز. وهذه المشاعر المظلمة تُولّد العنف، الناجم عن الخوف المتبادل، المُتمثل بالمساواة الطبيعية بين الناس من ناحية، وبالإرادة المتبادلة في إيذاء بعضهم البعض من ناحية ثانية؛ ففي الشبكات الاجتماعية كل واحد غدا مساويًا للآخر؛ التلميذ مساوياً للأستاذ، العالم مساويًا للجاهل. هذا النمط من المساواة الطبيعية غير القانونية هو مصدر لانفلات العنف. وبهذا أطلقت وسائل التواصل طاقة العنف التي كانت الدولة تكبحها؛ فانتشار العنف على الشبكات يعُبّر عن ظاهرتين: الأولى الضعف العام للرابطة السياسية، والثانية، حرب مجمع الشبكات الرقمية ضد شكل الدولة، وهذا ما أطلق عليه ريدكير
(Robert Redeker) تسمية حروب الحيتان (la guerre des Leviathans). وعوضاً من الحوار في الشبكات، نشهد مناوشات، ولا سيما أن فلسفة الشبكات الاجتماعية تكمن في الذاتية. من هذا المنطلق انفلتت الذاتيات وتحررت من ضماناتها المتمثلة بالاعتراف بالرضا الاجتماعي، والتسلسل الهرمي للمعرفة وشرعية المؤسسات والنظام الاجتماعي. وبهذا انتقلنا من الذات المتمفصلة حول النظام ، المندرجة في الكون، إلى ذاتية متفلتة لا تعترف بشرعية سوى نزقها الخاص. ففي هذا الزمن، طُرِد العام ليحل محله الخاص، وتم الاحتفاظ بالذاتية، ونُحِّيت العمومية جانبًا، وسادت ثقافة الإقصاء. وللمفارقة، إن الفرد في هذه الشبكات التي أوهمته أنه صاحب السيادة ليس له سيادة على نفسه.
وبعدما كان الحيز الخاص هو مكتسب حضاري يتوجب الحفاظ عليه، فرضت التقنيات نفسها وغدا الإنسان موصولًا بالعالم من خلال الشاشات، محرومًا خصوصيته، تراقبه التقنيات تحت غطاء انفتاحه على العالم وتفتحه. غير أن هذا الاغتصاب للهوية يخفي حقيقة السوق، إذ تعمل الأخلاق المنحرفة من أجل صحة الأسهم في سوق الأوراق المالية لتويتر وفايسبوك، وغيرهما، ويخفي حقيقة السلطة. السوق والسلطة يمثلان الأرضية المخفية للشبكات الاجتماعية .
إن قيم عمالقة الرقمية الجديدة هي قيم الذاتية المستفحلة التي تحبس الإنسان في سجن جسده، في عرقه، في بيولوجيته وعواطفه وتعسفه، لذا أصبحت الأسئلة الجنسية مركزية في المناقشات السياسية. هذه القيم الجديدة ترسم الحدود لصورة جديدة للإنسان الرقمي؛ فأسطورة الطبيعة تمارس فعلاً فوضوياً، يُضمِر تدميراً للتسلسل الهرمي للمخلوقات الحية، أي تسطيحهم وتحويلهم إلى مخلوقات أفقية، ثم سحقهم في خط أُفقي. وتعمل «مذيبات» أخرى، كما سمّاها ريدكير، على مهمة التفكيك الحضاري والأنتروبولوجي بهدف تسريع تغيير العالم، كمثل تعديل مفهوم الجندر بهدف حل الجنس، والكتابة التضمينية التي يؤمل منها حلّ اللغة بوصفها حقيقة تاريخية، والثرثرة مزيل الحقيقة المنتشرة على جثث المحادثة والحوار والكلام البارع.
كذلك حُذِفت في الكثير من النظم المدرسية أمثلة التحليل المنطقي والقواعدي لمصلحة المرور من التحليلي إلى الترابطي، وفي هذا ارتداد طفولي. واللافت للنظر أن الرؤوس المفكرة للرقمية تحرص على حماية أبنائها من العالم الذي تعِده لأطفال الآخرين .
كذلك، بعدما أُزيح العلم، وحلت محله أيديولوجيا النزعة العلمية التي انتشرت على نحوٍ خارق بين جميع الفئات، تحت عنوان التوافق مع روح العصر، وبعد انهيار الأيديولوجيات، تم العمل على إلغاء الثقافة من المجتمع ومن ثم أُبعِدت من الجامعة، من خلال الإضعاف التدريجي للتخصصات الأدبية، وإنقاص ساعات الفلسفة، وطغيان المبدأ التقني العلمي. وفي حالة العلوم الإنسانية، بعد الإلغاء الجذري للذاتية، باتت هذه العلوم تعاني خواءً موضوعاتيًا، أي غدت من دون موضوعة دراسية، وانفصلت عن تجذرها في الكينونة، وباتت تعمل على غرار العلوم الطبيعية، على حد تعبير ميشال هنري.
أما في القضاء، فبفضل الـ «بيغ داتا»، أصبحت المعاقبة تتم على النوايا لا على الجرم، وهذا ما أسقط أساس القانون الجنائي الذي يحدد الذنب اعتمادًا على أدلة ملموسة؛ فعوضاً من الانطلاق من الهدف للحصول على معطيات، أصبحنا ننطلق من المعطيات للوصول إلى الهدف، تبعًا لما ورد في كتاب الإنسان العاري ((L’homme nu.
هذه التغيرات لم تأت مصادفةً، إنما اتبعت منطقاً ممنهجاً من التسارع التقني وتسارع التغيير الاجتماعي، وتسارع إيقاع الحياة. على سبيل المثال، في الحداثة المتأخرة، نشهد ميلاً متنامياً إلى أن تكون دورة الحياة الأسرية أقل زمنًا من حياة الفرد، كذلك ضاقت مدة العمل وغدت المهن تتغير بإيقاع سريع، والاستقرار المؤسسي ينحو نحو الزوال. هذا التسارع الكفيل بتغيير النظام الزمكاني للمجتمع، يدفع الناس لاعتبار الوقت سلعة نادرة، وهذا ما يشعرهم بالقلق والتوتر، وخصوصاً أن انقباض الزمن يستثير في الإنسان نفاذ الصبر؛ علماً أن أول محرك للتسارع هو المنافسة وقوانين الربح. التسارع يؤدي إلى عدم الاندماج وإلى تآكل الترابط، على حد قول هرتموت روزا.
التحديات المطروحة على النخب الفكرية والثقافية العربية
مع الرقمية، تعمقت الفجوة بين البلدان المنتجة والبلدان المستهلكة، ازدادت حدة الصراعات الاقتصادية بين الشركات العملاقة على كسب السبق في التطبيقات والابتكارات والمنصات، ازداد التباعد بين الأجيال، وابتعدت المسافة بين المعرفة الرقمية وثقافة الأجيال السابقة، ازدادت الاضطرابات التي أدت إلى ممارسات جماهيرية سرعان ما أسست معايير ثقافية جديدة، تتحدى الأعراف والتقاليد الراسخة.
فكما استُغِلت الطبيعة واستُنفدت مواردها إلى أبعد الحدود في العصر الصناعي، ها نحن في مرحلة ما بعد التصنيع المسماة مرحلة الحداثة المتأخرة، نشهد على استغلال الموارد الإنسانية إلى أبعد الحدود، ومن أهمها استغلال العقل والذكاء الإنساني لمصلحة الذكاء الاصطناعي، وبهذا تعمل التكنولوجيا على تعديل حياة الفرد على نحوٍ جذري.
حاليًا، بالترافق مع الصراعات البينية العربية ومع الموجة الرقمية، نلحظ أن المواطنين والأفراد كل يدور في شرنقته، وفي فلك يقينه. وبعض الحكومات والقوى والأحزاب النافذه استخدمت مواقع التواصل لتسطيح الشعوب وتوجيهها عبر وسائل متعددة؛ منها مثلًا استخدام حسابات وهمية (BOT) لتدعيم آراء تصدر من حسابات المؤثرين الموجهة. وهذه أحد أسباب زيادة الكراهية والشعبوية، وقد تصل إلى «شيطنة» أفراد معينين أو مجموعات دينية، طائفية، عرقية، وحتى حزبية معينة.
تحيلنا هذه التحديات تلقائيًا إلى مجموعة مسائل وموضوعات: الـ «بيغ داتا» وحماية المعطيات الشخصية، الشفافية إزاء الزبائن ، تضخم المعلومات، اختلاط الحدود بين الحياة الخاصة والحياة المهنية، التباعد الرقمي بين الأجيال والأماكن، الآثار، تنبؤات المعادلات الحسابية. ويقع الفعل في قلب هذه المقاربات، كون الرقمي فتح فضاءً جديداً للفعل، من خلال مضاعفة إمكانيات الفعل الإنساني وإعطائه بعدًا تضخيميًا معيِّنًا. هذا عدا عن توسع بعض الممارسات الخارجة عن القانون وغير الأخلاقية مع الرقمية. كذلك انتشرت الشائعات الكاذبة والمناقشات المزيَّفة المعدة للترويج لماركة أو لشخص معين أو لفكرة معينة. وهذا ما يطرح مسألة مصداقية المعطيات والبيانات ، تلك المواد التي أصبحت ثمينة على مستوى الاقتصاد الرقمي. في هذا السياق ، من المفيد الاستنتاج أن ابتكار معايير جديدة هو لإعادة التوازن إلى تلك الملامح المعيارية للرقمي، على أنها الأكثر سلبية بالنسبة إلى الاتصال المتواصل. لذا تم ابتكار «الحق في عدم الاتصال»، وفيما يتعلق بذاكرة الأدوات الرقمية، تم ابتكار «الحق في النسيان». ربما هذه من ميزات النظام الرأسمالي الذي يستمد مرونته واستمراريته من خلال تمكنه من فرز آليات لتصحيح الخلل من داخلة.
في هذا الخضم، نلحظ النخب الفكرية العربية الطامحة إلى الإصلاح والهادفة إلى الوصول إلى أنظمة ديمقراطية على مثال البلدان المتطورة، ينصب جهدها على نقل التجارب والأدبيات السياسية الغربية، من دون أن تأخذ في الحسبان أن هذه الأنظمة تعاني أزمات بفعل الصراع القائم بين الدولة ومُثُلها المستوحاة من عصر الأنوار وعمالقة الرقمية. كذلك نجد النخب الأكاديمية العربية القيمة على الجامعات تلهث للأخذ في المناهج الفكرية والبحثية الغربية، من دون أن تعي أن الجامعات ولا سيما أقسام العلوم الإنسانية والفلسفية تعاني في تلك البلدان من تهميش، نتيجة تنصيب العلم والتقنية نفسهما كمصدر وحيد للمعرفة.
كذلك نلحظ أن الإعلام الذي استوردنا أحدث تقنياته وآليات عمله، وخصوصًا مع موجة الإعلام الفضائي ودخول البلدان العربية بقوة إلى هذا الفضاء. وبعدما توقع منه البعض أن يسهم في تحرر الشعوب العربية، تبيّن أنه لم يؤد إلا الى المزيد من الاغتراب وإلى صعود التيارات التفكيكية التي امعنت تشتيتاً وشرذمة وانقسامات . هذا عدا عن أن الانتفاضات التي كان محركوها من رواد شبكات التواصل الاجتماعي لم تفلح في التوصل إلى ما هو مشترك والى نواة للبناء.
فنحن لم نستلحق مرحلة التصنيع. وها نحن نقفز خطوات في المجهول في مرحلة الحداثة المتأخرة المتسمة بالتسارع. المهم أننا غدونا نعيش في في عصر استعمار رقمي جديد ناعم يشبة نعومة الأم القابضة على أنفاس أولادها .
علمًا أن الحراك الكبير على المستوى البحثي والفكري والفلسفي في البلدان الغربية، الذي انهمك بشرح هذا التحول وبفضح المنطق الكامن وراءه، نادرًا تلقفته الأدبيات الفكرية العربية، فلو عرضنا العناوين التي تصدرت كتابات المفكرين والفلاسفة النقديين لمرحلة الحداثة المتاخرة لوجدنا تعبيرات: الهمجية، الفوضى، الفراغ ،الاستلاب، صراع الحيتان، التدمير، الهشاشة، العري، الحداثة السائلة، التسطيح، التفاهة، الصندوق الأسود… إلخ.
في هذا السياق، نضع النخب الفكرية والثقافية العربية أمام مسؤولياتها، علّنا نستفيق من غيبوبتنا ونلج هذا العالم بكامل قوانا الفكرية والعقلية والنقدية. هذا الصندوق الأسود بحاجة إلى أن نخلعه، ونكشف ألاعيبه وغاياته، ربطاً بالسياق الذي أُنتِج فيه، وسياق استخداماتنا لمنصاته، لنعي على الأقل من يستخدم من؟ فلفهم واقع اجتماعي معين علينا البدء بفهم كيفية عمله وتحليل المنطق الخاضع له، أن نحلل المنطق الرأسمالي في مرحلته النيوليبرالية من دون أن نغفل العناية بدراسة المناطق الأخرى التي تعمل بمبادىء مغايرة، لتعاكس أو تفرمل أو تصلح أو توقف المنطق المهيمن. إن اكتساب رؤية نقدية للعالم معناه الاعتناء بالاختلاف، وهي طريقة في مقاومة الامتثالية السائرة في الانتشار. ولعل منطلق المقاومة سيكون في إعادة الإنسان إلى مركز الاهتمام ، ويتعلق الأمر بحماية الحساسية والحدس والذكاء الإنساني بمختلف أوجهه. بهذا الشرط يمكننا الحفاظ على جزء من إنسانيتنا. وكي لا نغلق الباب على تكدر، يكفي أن نشير إلى أن بعض المجموعات الفلسطينية الهادفة التي لديها مشروع إنعاش الذاكرة الفلسطينية، ولديها مهارات تكنولوجية، أمكنها أن تحقق بعضاً من أهدافها، فحاربت تخطي المكان بإحضار المكان المنهوب إلى اللامكان، وحاربت التسارع وتخطي الزمان باستحضار الزمن الثقيل الوطأة، وبتجذير الحدث الأليم؛ حدث احتلال الصهاينة لفلسطين وطرد شعبها. وحاربت الحصار بالتنقل بين المنصات؛ وهو ما يعني أن نقد البنى الزمنية للمجتمع ومحركاته التسارعية ونتائجه الاستلابية هو الطريق الواعد لمستقبل ممكن للنظرية النقدية على حد تعبير روزا.
المصادر:
نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 535 في أيلول/سبتمبر 2023.
نهوند القادري عيسى: أستاذة جامعية في الإعلام – لبنان.
بدعمكم نستمر
إدعم مركز دراسات الوحدة العربية
ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.