تـوطـئــة:

يفرز بحث ظاهرتَي التطرّف والإرهاب طائفة من المعاني وعدداً من الدلالات يمكننا إجمال أهمها بما يأتي:

1 – إنها ظاهرة راهنة وإن كانت تعود إلى الماضي، لكن خطورتها أصبحت شديدة في ظل العولمة، ولها تجاذبات داخلية وخارجية، عربية وإقليمية ودولية، لأن التطرّف أصبح كونياً، وهو موجود في مجتمعات متعدّدة ولا ينحصر في دين أو دولة أو أمّة أو شعب أو لغة أو ثقافة أو هويّة أو منطقة جغرافية أو غير ذلك، وإنْ اختلفت الأسباب باختلاف الظروف والأوضاع، لكنه لا يقـبل الآخر ولا يعتـرف بالتـنوّع، ويسعى إلى فرض الرأي بالقـوة والعنـف والتـسيّد.

وإذا كانت منطقتنا وأممنا وشعوبنا الأكثر اتهاماً بالتطرّف، فإنها الأكثر تضرّراً منه، حيث دفعت الثمن عدّة مرّات وعدّة أضعاف جرّاء تفشّي هذه الظاهرة. لذلك لا ينبغي إلباس المنطقة ثوب التطرّف تعسفاً أو إلصاق تهمة الإرهاب بالعرب والمسلمين بشكل خاص، بوسم دينهم أو تاريخهم بأنه يحضّ على التطرّف والإرهاب، علماً بأن المنطقة تعايشت فيها الأديان والقوميات والسلالات المختلفة، وكان ذلك الغالب الشائع، وليس النادر الضائع كما يُقال.

2 – تثير مظاهر التطرّف ومخرجاتها التباساً نظرياً وعملياً، بعضه يعود إلى القوى الدولية الكبرى، والآخر إلى قوى التطرّف المحلية، التي تستند إلى تفسيرات وتأويلات تنسبها إلى «الإسلام»، ولا سيّما بالنظرة إلى الآخر بما يمكن تصنيفه بـ «الإسلامولوجيا»، أي استخدام التعاليم الإسلامية ضدّ الإسلام؛ في حين يستخدم الغرب الإسلاموفوبيا (الرهاب من الإسلام) في محاولة لتعميم وربط بعض الأعمال الإرهابية والمتطرفة بالإسلام والمسلمين وهم الأكثر تضرراً منها.

ولهذا فإن البحث في موضوع التطرّف والإرهاب لا بدّ من أن يتناول مواقف الجماعات والتيارات الفكرية المختلفة، الجديد منها والقديم، والديني وغير الديني، إضافة إلى المصالح الدولية والتوظيف السياسي الإغراضي ومحاولات الهيمنة والتسيّد.

3 – لم تعد الظاهرة تقتصر على جماعات محدودة، بل إن تهديدها وصل إلى أساسات الدولة والهويّة، وخصوصاً في مجتمعاتنا التي غالباً ما تلجأ إلى العنف في حل الخلافات، الأمر الذي يحتاج إلى حوار فكري وثقافي ومعرفي، ليس بين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب فحسب، بل بين أتباع الديانات والثقافات المختلفة، داخل كل بلد وعلى مستوى إقليمي لتحديد ضوابط وأسس توافقية لمواجهة هذه الظاهرة، التي لا يمكن القضاء عليها أو محاصرتها إلّا بنقيضها، ونعني بذلك نشر أفكار التسامح واللاعنف وقيم العدل والمساواة والتآخي والتضامن بين الأمم والشعوب، واحترام الهويّات الفرعية.

4 – ربط موضوع مواجهة التطرّف ومحاربة الإرهاب بمبادئ المواطنة والمساواة، وهما ركنان أساسيان من أركان الدولة العصرية التي هي دولة الحق والقانون المستندة إلى قواعد العدل والشراكة والمشاركة.

أما على المستوى الخارجي فيمكن ربطه بالمشترك الإنساني الذي يمثل جوهر المساواة بين البشر واحترام خصوصياتهم شعوباً وأقواماً وأدياناً ولغات وهويّات وخصائص جغرافية وتاريخية.

أولاً: جدلية التطرّف والإرهاب

تكاد ظاهرة التطرّف تشغل الناس في مجتمعاتنا وفي مجتمعات أخرى، بما فيها متقدّمة، لأنها أصبحت لا تهدّد السلم المجتمعي والحياة العامة والعلاقات بين الناس فحسب، بل السلم والأمن الدوليين، وخصوصاً إذا ما تحوّلت من الفكر والتنظير إلى الفعل والتنفيذ، فما بالك إذا استُخدم الدين ذريعة للتطرّف، ولا سيّما من خلال تكفير الآخر.

جدير بالذكر أن ظاهرتَي التطرّف والإرهاب استفحلتا، بعد موجة ما أطلق عليه «الربيع العربي» التي ابتدأت في مطلع عام 2011، والتي كان من أعراضها «الجانبية» تفشي الفوضى وانفلات الأمن وضعف هيبة الدولة الوطنية، بل تآكلها أحياناً، إضافة إلى محاولات التفتيت والتقسيم. وقد ساعد انهيار الشرعية القديمة وعدم استكمال بناء ورسوخ الشرعيات الجديدة، على حصول بعض الاختراقات الأمنية والأعمال الإرهابية، كما حصل في تونس وفي مصر.

إن تفشّي ظاهرتَي التطرّف والإرهاب بات قضية دولية مطروحة على طاولة البحث والتشريح في الأمم المتحدة وعلى صعيد المجتمع الدولي كله، فلم يعد كافياً منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001 الإرهابية، وجود قرارات تعالج قطاعياً وجزئياً بعض مظاهر التطرّف والإرهاب، وإنما استجدّت الحاجة الملحّة والماسّة إلى بحث شامل للظاهرتين بأبعادهما ودلالاتهما المختلفة.

وقد كانت الأمم المتحدة قد أصدرت نحو 19 اتفاقية وإعلاناً دولياً حول الإرهاب، لكنها لم تتوصل إلى تعريف لماهيته بسبب اختلاف المصالح الدولية، والتفسيرات والتأويلات الخاصة بذلك، وخصوصاً من جانب القوى المتنفّذة في العلاقات الدولية. وحتى حين أصدر مجلس الأمن الدولي 3 قرارات بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر، وفي ما بعد 4 قرارات بعد احتلال «داعش» للموصل عام 2014، لكن الأمر لم يتغيّر وظل تعريف الإرهاب عائماً، بل ازداد التباساً بحكم التفسيرات المختلفة بشأنه، باختلاف مصالح القوى الدولية‏[1].

ثانياً: في تعريف الإرهاب والإرهاب الدولي

إذا كان الإرهاب وليد التطرّف، فإن الاختلاف في تعريفه وخصوصاً على المستوى الدولي لا يزال مستمراً، وفي كثير من الأحيان يتم خلط الإرهاب بالمقاومة لأغراض سياسية، وهو ما تعتمده «إسرائيل» في سياستها التوسعية الاستيطانية، حين تعتبر كل مقاومة لإرهابها الدولي، «إرهاباً»، علماً بأن المقاومة عمل مشروع حسب القانون الدولي من أجل «التحرر الوطني»، مثلما هو حق الدفاع عن النفس طبقاً للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة التي تنص على: «… الحق الطبيعي للدول، فرادى أو جماعات، في الدفاع عن نفسها إذا اعتدت قوة مسلحة على أحد أعضاء (الأمم المتحدة)، وذلك إلى أن يتخذ مجلس الأمن التدابير اللازمة لحفظ السلم والأمن الدوليين…»‏[2].

وقد رصد الباحث ألكس شميد‏[3] في كتابه الإرهاب السياسي (Political Terrorism) وجود نحو 109 تعريفات لمصطلح الإرهاب، وهي تنطلق من خلفيات ومصالح سياسية مختلفة. ويذهب نعوم تشومسكي‏[4] إلى تحديد مضمون الإرهاب، الذي يعني حسب وجهة نظره: كل محاولة لإخضاع أو قسر السكان المدنيين أو حكومة ما عن طريق الاغتيال والخطف أو أعمال العنف، بهدف تحقيق أهداف سياسية، سواء كان الإرهاب فردياً أو تقوم به مجموعات أو تمارسه دولة، وهو الإرهاب الأكثر خطورة.

وإذا كان تعريف الإرهاب مهمّاً لجهة التحديد القانوني، فإن بعض الدول الكبرى والمتنفّذة، لا تريد الوصول إلى تعريف جامع مانع، لأن ذلك يتعارض مع مصالحها، ويحدّ من استخداماتها لأشكال مختلفة من القوة قد ترتقي إلى الإرهاب. مع أنها حتى لو تم الوصول إلى ذلك، فإنها لن تلتزم به، وهو ما تمارسه «إسرائيل» التي لا تحترم قواعد القانون الدولي والشرعة الدولية لحقوق الإنسان، بانتهاكاتها المستمرة لحقوق الشعب الفلسطيني ولجميع القواعد الآمرة والملزمة (Jus Cogens) ذات الطابع العلوي والسامي.

يقول باتريك سيل‏[5] إن المنظمات الصهيونية هي أول من أدخل الإرهاب عبر القنابل التي توضع في الحافلات والأسواق العربية، وذلك أثناء الثورة الفلسطينية بين أعوام 1936 – 1939، وكانت منظمة فلاديمير جابوتنسكي هي من باشر بذلك، ومنظمات الهاغانا وشتيرن وغيرهما، وهو ما سارت عليه قيادات إسرائيلية مثل بن غوريون وغولدا مائير وموشي ديان وإسحاق شامير ومناحيم بيغن ونتنياهو وغيرهم، وصولاً إلى العدوان المتكرّر على غزّة.

وعلى الرغم من إقرار المجتمع الدولي بمخاطر ظاهرة الإرهاب الناجمة عن التطرّف، إلا أنه لم يتم التوصل حتى الآن إلى تعريف المقصود به، على الرغم من وجود حزمة من القرارات الدولية، لكنها ومنذ العام 1963 كانت قطاعية، أي أنها تشمل تشريعات تتناول بعض مجالات الإرهاب مثل: الهجمات الإرهابية على متن الطائرات أو الاستيلاء عليها أو خاصة بالمواد النووية أو تهديد النقل الجوي أو مكافحة التفجيرات أو تمويل الإرهاب الدولي أو مكافحة الإرهاب النووي أو غيرها.

إن معظم الاتفاقيات التي صدرت عن الأمم المتحدة لم تعالج موضوع الإرهاب بصورة شاملة، بل عالجت ظواهر الإرهاب الفردي وإرهاب الجماعات، واستبعدت معالجة ظاهرة الإرهاب الدولي الذي تمارسه الدولة وحكومتها. وحتى بعد صدور ثلاثة قرارات دولية خطيرة من مجلس الأمن الدولي عقب أحداث 11 أيلول/سبتمبر إلا أن التعريف ظل ضبابياً إن لم تكن المهمة أصبحت أكثر تعقيداً، وهذه القرارات هي:

الأول – القرار الرقم 1368 الذي صدر بعد يوم واحد من أحداث 11 أيلول/سبتمبر الذي أرَّخ لفاصل تاريخي بخصوص مكافحة الإرهاب الدولي‏[6].

والثاني – القرار الرقم 1373 الصادر في 28 أيلول/سبتمبر العام 2001، (أي بعد سبعة عشر يوماً من الحدث الإرهابي)، وهو أخطر قرار في تاريخ المنظمة الدولية، عندما أعطى الحق للدول (المتنفّذة بالطبع) بشنّ حرب استباقية أو وقائية بزعم وجود «خطر وشيك الوقوع» أو «محتمل»، ويعدّ هذا القرار عودة للقانون الدولي التقليدي الذي يجيز «الحق في الحرب» و«حق الفتح» «والحق في الحصول على مكاسب سياسية في الحرب»، وذلك تبعاً لمصالح الدولة القومية‏[7].

والثالث، القرار الرقم 1390 الصادر في 16 كانون الثاني/يناير 2002 والذي فرض على الدول التعاون لمكافحة الإرهاب الدولي، وإلا فإنها يمكن أن تتعرض للعقوبات الدولية‏[8].

كما أصدر مجلس الأمن 4 قرارات دولية أخرى بعد احتلال «داعش» للموصل، ومع ذلك ظل التعريف غائباً، ولعلاقة القرارات بموضوع بحثنا نذكرها لاستكمال الموضوع:

1 – القرار رقم 2170 وصدر في 15 آب/أغسطس 2014، وذلك على خلفية سلّة القرارات التي أشرنا إليها، والتي أعقبت أحداث 11 أيلول/سبتمبر التي وردت في فقرات سابقة.

2 – القرار رقم 2178 وصدر في 24 أيلول/سبتمبر 2014، ونصّ على «منع تدفق المقاتلين الأجانب إلى سورية والعراق». ودعا الدول إلى «وضع ضوابط فعالة على الحدود، وتبادل المعلومات»، كما استحضر القرار الرقم 1373 عام 2001، الذي يشكّل مرجعية للقرارات التي صدرت بعده بخصوص مكافحة الإرهاب.

3 – القرار الرقم 2185 وصدر في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، وأكد دور الشرطة كجزء من عمليات الأمم المتحدة لحفظ السلم والأمن الخاص بالبعثات السياسية، وعلى التعاون المهني لمكافحة الإرهاب ومشاركة الجميع، إضافة إلى تبادل المعلومات مع المبعوثين الخاصين.

4 – القرار الرقم 2195 الصادر بتاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2014 حول التهديدات التي يتعرض لها السلم والأمن الدوليين. وقد أكّد هذا القرار «العمل الجماعي لمنع الإرهاب بجميع أشكاله ومظاهره»، وحثّ الدول على «التصديق على الاتفاقيات الدولية ذات الصلة»، وشدّد على أهمية «الحكم الرشيد، ومكافحة الفساد، وغسل الأموال». واستذكر القرار الرقم 1373 أيضاً.

وقد صدرت هذه القرارات جميعها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بتنفيذ العقوبات في الحال واستخدام جميع الوسائل المتاحة بما فيها القوة لوضعها موضع التطبيق.

ثالثاً: التطرّف والإرهاب «إشارة إلى الحالة العراقية»

أسهم انتقال الإرهاب إلى العراق بعد الاحتلال في تعميم ثقافة العنف والتطرّف بحيث أصبحت ثقافة سائدة تمترست خلفها قوى سياسية وزادها عمقاً توافد الإرهابيين وصعود الظاهرة الطائفية واستشراء الفساد، الأمر الذي يحتاج إلى مناقشة جادة وهادئة ودراسات وأبحاث تتعلّق بطبيعة المجتمع العراقي وما رافق تاريخه الحديث والمعاصر من عنف اتخذ طابعاً سياسياً، وهو ما حصل في العهد الملكي، ولاحقاً منذ ثورة 14 تموز/يوليو 1958 حين اشتدّ الصراع بسبب ما شهدته الساحة السياسية من استقطابات حادّة بين القوميين والشيوعيين، حيث ارتفعت موجة العنف العام 1959 إلى مستويات عليا، وتوّجت بعد انقلاب 8 شباط/فبراير 1963، بالطابع الدموي الإقصائي، فضـلاً عن التأثير الكبير للحروب التي عاشها العراق لنحو ربع قرن، لا سيّما الحرب العراقية – الإيرانية (1980 – 1988) وحرب غزو الكويت، وفيما بعد حرب قوات التحالف ضد العراق (1990 – 1991) والتي أعقبها نظام العقوبات والحصار الدولي الذي فُرض على العراق (1991 – 2003).

وقد ظلّ الخوف من الآخر هو الأساس الذي يتحكّم في هاجس الأمن منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى الآن، بغض النظر عن النظام السياسي، وقد ازداد هذا الهاجس حدّة بعد عام 2003، معيداً إنتاج دورات العنف والإرهاب لطبع الحياة السياسية العراقية كلّها، وزاد الأمر تعقيداً فتح الحدود على مصراعيها في إطار استراتيجية واشنطن لاستدراج الإرهابيين إلى العراق، بحجة التمكّن من الإجهاز عليهم، وهو ما عاظم انتشار الخلايا الإرهابية ونماذج التعصّب والتطرف، ولا سيّما بإغراق المكتبات بالمطبوعات والكتب والكراريس التي تغذي ذلك.

ثلاثة روافد تغذّى منها الإرهاب في العراق، وفقّس في بيئتها بيض التطرّف:

أوّلها: الطائفية ونظام المحاصصة أحد مخرجاته.

وثانيها: الفساد الذي كان الوجه الآخر للإرهاب والتطرّف.

وثالثها: ضعف مكانة الدولة التي أجهز عليها الاحتلال الأمريكي للعراق، الأمر الذي ساعد على بروز ظواهر التطرّف والإرهاب، وخصوصاً الطائفي المرتبط بتكفير الآخر و«شيطنته» ومحاولة إقصائه أو تهميشه والسعي للتسيّد عليه، وكانت باكورة أعماله غير القانونية وغير الشرعية، حلّ الجيش وقوى الأمن الداخلي.

وتكرّست صيغة المحاصصة الطائفية – الإثنية في مجلس الحكم الانتقالي الذي قسّم المجتمع العراقي إلى شيعة وسنّة وكرد، وخصّص نسباً لكل منهم، وباشر بتأسيس نظام الزبائنية الذي يقوم على الامتيازات والمكاسب، ففتح بذلك الباب على مصراعيه أمام الفساد بمختلف أنواعه وأشكاله، لدرجة أصبحت الغنائمية سمة تطبع التشكيلات الحكومية اللاحقة وذيولها‏[9].

وكان بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق (13 أيار/مايو 2003 – 28 حزيران/يونيو 2004)‏[10] بعد الجنرال جي غارنر، قد بدّد لوحده نحو 8 مليارات و800 مليون دولار، وأعقبته حكومتان بددتا نحو 20 مليار دولار، وهما حكومتان مؤقتتان، وكان الهدر الأكبر خلال فترة ما بعد انتخابات عام 2006 وعام 2010 (أي من عام 2006 إلى عام 2014)، ولا سيّما أن واردات العراق شهدت ارتفاعاً هائلاً، حيث بلغ ما وصل إلى الحكومة العراقية نحو 700 مليار دولار، لكنها لم تـثمر عن شيء جدي في إعادة الإعمار أو إصلاح البنية التحتية والخدماتية من تعليم وصحة وخدمات بلدية وبيئية وغيرها، وذلك بسبب استشراء الفساد والرشا وهدر المال العام، وكان ذلك وجهاً آخر للإرهاب.

حتى الآن هناك نحو 1000 من كبار موظفي الدولة بمن فيهم وزراء ونواب ووكلاء وزارات ومديرون عامون متهمون بقضايا فساد، وإن كان نظام المحاصصة الغنائمي القائم على الزبائنية يعمل بكل طاقته للتملّص من المساءلة في ظلّ قضاء عليه الكثير من الضغوط والتأثيرات السياسية، فضـلاً عن أنه وأجهزة الرقابة الأخرى قائم على نظام المحاصصة التي تجعل الإفلات من العقاب «أمراً مألوفاً»، وخصوصاً بوجود الميليشيات وضعف أجهزة إنفاذ القانون والدولة عموماً.

لقد كان حلّ الجيش العراقي وقوى الأمن الداخلي بما فيه شرطة النجدة وشرطة مكافحة الجريمة وحرس الحدود، عامـلاً أساسياً في إضعاف هيبة الدولة، وانتشار الفوضى والعنف والإرهاب، ولا سيّما بفرض الطائفية ونظام المحاصصة كصيغة معتمدة من قبل الاحتلال، الأمر الذي دفع العديد من الشرائح الاجتماعية إلى اللجوء لمرجعيات ما قبل الدولة: الدينية والإثنية والطائفية والعشائرية والمناطقية والجِهوية والعائلية وغيرها، لتكون حامية وداعمة لها. وإذا كانت نظرية «الصدمة والترويع» وفي ما بعد «الفوضى الخلاقة» قد استهدفتا التفكيك وإعادة التركيب، إلا أنهما أفضيا إلى تفشّي ظواهر التعصّب والتطرّف والعنف والإرهاب التي لا تزال مستمرّة منذ أكثر من 13 عاماً وتتّخذ أشكالاً مختلفة ولها رؤوس عديدة.

وقد كان احتلال «داعش» للموصل في 10 حزيران/يونيو عام 2014، وتمدّده إلى نحو ثلث أراضي العراق، وخصوصاً في محافظتي صلاح الدين والأنبار وأجزاء من محافظتي كركوك وديالى وصولاً إلى أطراف بغداد خير دليل على استمرار حالة الضعف والوهن التي عانتها الدولة العراقية وأجهزتها، بما فيها القوات المسلحة التي صُرفت المليارات من الدولارات على إعادة تأهيلها، مثلما صُرفت على الكهرباء والماء اللذين ما يزالان شحيحَين.

وإذا كان «داعش» والقوى الإرهابية قد تعرّضت مؤخراً لهزائم كبيرة في صلاح الدين والرمادي، ثم تُوِّجت بتحرير الموصل فإن تأثير هذه القوى لا يزال قائماً والبيئة الحاضنة مستمرة، وخصوصاً باستمرار نظام المحاصصة الطائفي – الإثني المُنتج للفساد المالي والإداري والسياسي.

صحيح أن ظاهرة الإرهاب دولية وعلاجها لا بدّ من أن يكون دولياً أيضاً، لأنّه أصبح تهديداً للسلم والأمن الدوليين، وقد شهد العالم ما بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر عام 2001 الإرهابية التي حصلت في الولايات المتحدة، سلسلة من الأحداث الإرهابية الخطيرة والكبرى، التي أثّرت في ميدان العلاقات الدولية، ولا سيّما لجهة علاقتها بالتطرّف والتكفير واتّهام الإسلام والمسلمين بها، ودمغهم بالإرهاب الدولي والتطرّف المستديم، في ظلّ موجة مرتفعة النبرة من الإسلاموفوبيا (الرهاب من الإسلام) وصعود قوى وتيارات تدعو إلى استخدام القوة أو التهديد بها لحلّ النزاعات الدولية أو الداخلية، وبزعم مكافحة الإرهاب فإنها تريد التسيّد وإملاء الإرادة وفرض الهيمنة على العلاقات الدولية، والانفراد بالقرار الدولي.

مقابل ذلك، فإن القوى التكفيرية المتطرّفة والإرهابية وجدت في اختلال نظام العلاقات الدولية مبرّراً لشنّ حملاتها الإرهابية بزعم أن كل ما في الغرب «شرّ مُطلق»، رافعة من شعار العداء للغرب أساساً نظرياً لفكرها المتطرف، ومحوّلة بالتفسير والتأويل بعض تعاليم «الدين الإسلامي» ومثُله وقيمه إلى نوع من «الإسلامولوجيا»، أي استخدام التعاليم الإسلامية ضدّ الإسلام وبما يتعارض معه، خصوصاً بتكفير الآخر، ولعل «الغربفوبيا» (الوستفوبيا) هو الوجه الآخر «للإسلاموفوبيا». وإذا كانت الظاهرة الأولى منتشرة في الغرب، فإن الظاهرة الثانية لا تزال قوية التأثير في مجتمعاتنا وتستند إليها القوى الإرهابية في مشروعها الفكري التكفيري.

رابعاً: نحو استراتيجية لمكافحة الإرهاب والتطرّف

لا تكفي ردود الفعل للقضاء على الإرهاب والتطرّف، والأمر يحتاج إلى خطة طويلة الأمد، خصوصاً بالتعاون مع دول الإقليم ومع المجتمع الدولي، ويتطلب ذلك جهداً داخلياً على مستوى كل دولة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وقانونياً وتربوياً ودينياً، بهدف اجتثاث الظاهرة من الجذور وتجفيف منابعها الفكرية والسياسية والثقافية، وخصوصاً بإغلاق منافذ التمويل، وهذا يتطلّب اعتماد حكم القانون ومبادئ المساواة والشراكة وعدم التمييز والعدالة، ولا سيّما العدالة الاجتماعية، إضافة إلى الحرّيات بمنظومتها التي تتعلّق بحرّية التعبير وحق التنظيم الحزبي والنقابي والمهني وحق الاعتقاد والحق في المشاركة في تولي المناصب العليا دون تمييز.

الإرهاب يضرب أحياناً، بل في أغلب الأحيان عشوائياً، لكي يهدّد المجتمع ويضعف الثقة بالدولة ويعلي من شأن الجماعة الإرهابية. إنه لا ينشغل بالضحية، بل هو يرتكب عمله تحت المبررات الإلغائية، في محاولة لفرض نمط «مختلف»، وسلوك «منفرد» وحياة «مناقضة» لما هو سائد، وذلك بواسطة القوة والعنف، كما هو إرهاب تنظيم الدولة الإسلامية «داعش» مثـلاً.

ولكن ما السبيل لقطع دابر الإرهاب؟ هل بالعنف أو بالقوّة وحدهما؟ ولكن التجارب أكّدت أن المعالجة الأمنية غير كافية، لأنه الإرهاب سيتناسل ويتوالد إذا ما استمرّت الظروف على ما عليه، ولا يمكن القضاء على الإرهاب، إلّا بالفكر المضاد، وبالمزيد من احترام الحقوق والحرّيات واعتماد مبادئ المواطنة المتساوية وتحقيق القدر الكافي من العدالة وتحسين ظروف العيش.

لا تتعلّق الظاهرة بالعراق أو العالم العربي والإسلامي فحسب، ولا حتى بالعالم الثالث بشكل عام، فالتطرّف ظاهرة كونية منتشرة وتجد أحياناً الظروف المناسبة للانتشار حتى في مجتمعات متقدّمة وديمقراطية، ذلك أن العنصرية ظلّت مستمرة ولا تزال ذيولها حتى الآن في الولايات المتحدة، ومثلما ذهب المهاتما غاندي‏[11] ضحية التعصّب والتطرّف في الهند بعد استقلالها مباشرة عام 1948، فقد كان مصرع مارتن لوثر كنغ‏[12] في الولايات المتحدة عام 1968 هو الآخر على يد أعداء الحقوق المدنية والمساواة بين السود والبيض.

لقد سمّم الإرهاب القائم على التطرّف والتكفير علاقات المجتمعات بعضها مع بعض، وأضرّ بعلاقات فئاتها وأديانها ومذاهبها وحتى أفرادها، مثلما أشبع المجتمعات الدولية بهواء ثقيل ورائحة كريهة، ولكن الخطر الأكبر هو السيطرة على عقول الشباب أفراداً وجماعات والعبث بها، وخصوصاً بزراعة الكراهية وتبرير العدوان وإيجاد الذرائع لإقصاء الآخر واستسهال عمليات القتل والتفجير.

وإذا كانت يد الإرهاب طويلة وضاربة، فليس ذلك بفعل الإمكانات المادية والاقتصادية فحسب، فمثلها بعشرات ومئات الأضعاف يوجد في العالم، لكن التطرّف والتكفير قوي بقدرته على اختراق عقول الشباب العاطل، الممسوس بكرامته والشاعر بشحّ فرص العيش الكريم وانعدام العدالة وعدم المساواة وحالات الإحباط واليأس التي يصاب بها.

خـاتـمـــة

بالعودة إلى العراق الذي ضربه الإرهاب على نحو شديد ومستمر منذ احتلاله إلى اليوم، يمكننا السؤال: هل الإرهاب الدولي صناعة عراقية أم أنه جزء من إنتاج كوني كانت سوقه العراقية رائجة؟ ارتبط في أذهان الكثير من العراقيين والعرب بعد احتلال أفغانستان عام 2001 والعراق عام 2003 بمحاولة الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش، إضفاء مسحة دينية على احتلاله العراق، فتارة باسم «الحرب الصليبية» التي قيل إنها زلّة لسان، وأخرى باسم «الفاشية الإسلامية» خلال العدوان على لبنان عام 2006، وثالثة بمحاولات السخرية من الإسلام والمسلمين برسم صور كاريكاتورية للرسول وإلصاق كل عمل إرهابي بهم في إطار مشروع «الشرق الأوسط الكبير» و«الشرق الأوسط الجديد»، الأمر الذي شجّع القوى المتطرفة الداخلية على اعتبار كل ما هو «غربي» عنصرياً واستعلائياً في ردة فعل لخطيئة بخطيئة أخرى لمجابهة الأولى.

لقد استُزرِع التعصّب بالتربة العراقية فأنتج تطرّفاً، وهذا الأخير قاد إلى الإرهاب المنفلت من عقاله، وخصوصاً بإشعال الصراعات المذهبية والإثنية التي اتخذت طابعاً استئصالياً أو تهميشياً بعد الاحتلال، ولكن ذلك لا يعني أنه أمر مستورد بقدر ما كانت هناك ظروف اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية ودينية وطائفية ونفسية ساعدت على انتشار فايروسه، وذلك بالاستفادة من الحواضن التي شكّلت بيئة صالحة لنموها؛ وأساسها غياب المصالحة الوطنية والشعور بالتمييز والإقصاء، وبدلاً من اعتماد الدستور على المواطنة والمساواة والمشاركة المجتمعية المستندة إلى الحرية والعدل بوصفها ركائز للدولة العصرية الحديثة، فإنه ذهب إلى ما يسمى «دولة المكوّنات» التي ورد ذكرها في الدستور ثماني مرات، وليس ذلك سوى تكريس لصيغة المحاصصة‏[13].

وباستقراء تجربة ما بعد الاحتلال، فإنه يمكن استخلاص بعض الاستنتاجات الأولية:

1 – لا يمكن القضاء على الإرهاب باستخدام القوّة المسلّحة لوحدها في مواجهة الإرهابيين.

2 – القضاء على الإرهاب والتطرّف يحتاج إلى وحدة وإرادة وطنية بغض النظر عن الخلافات السياسية، مثلما يحتاج إلى حفظ الكرامة وحقوق الإنسان، إذْ لا ينبغي أن تفضي الإجراءات والتدابير الهادفة إلى ملاحقة الإرهاب والإرهابيين إلى الانتقاص من كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية، وهو الأمر الذي ثارت من أجله شعوب العديد من البلدان العربية في ما سمّي «الربيع العربي»، بغض النظر عن مآلاته وملابساته وتعرجات مساراته.

3 – تتطلّب مكافحة الإرهاب والقضاء على التطرّف وضع حد للتمييز الطائفي ولنظام المحاصصة.

4 – وضع حدٍّ للفساد وملاحقة المفسدين والمتسببين في هدر المال العام، وتلك كانت مطالب التظاهرات التي اندلعت منذ عام 2015 وإلى الآن.

5 – إعلاء مرجعية الدولة فوق جميع المرجعيات الطائفية والإثنية والحزبية والسياسية والعشائرية وغيرها.

6 – وضع الكفاءات العراقية، ولا سيّما من الشابات والشبان في المكان الصحيح والملائم لإدارات الدولة، وذلك خارج دائرة الولاء، باعتماد معايير الكفاءة والنزاهة.

7 – اعتماد استراتيجية علمية متكاملة سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وتربوية ودينية وإشراك المجتمع المدني فيها، تبدأ بالوقاية وتمرّ بالحماية وصولاً إلى الرعاية باتخاذ تدابير طويلة ومتوسطة المدى، وفي الوقت نفسه إجراءات آنية ضرورية، في إطار عمل مؤسسي، إضافة إلى الجوانب الأمنية والاستخبارية، وسيكون ركيزتها الأساسية: إرادة سياسية جامعة وتوافق وطني عام لتجفيف منابع الإرهاب اقتصادياً ومالياً والعمل على خفض مستويات البطالة والفقر والتهميش، وكذلك خطة إعلامية وثقافية وتربوية مجتمعية لنشر ثقافة اللاعنف والتسامح والاعتراف بالآخر والإقرار بالتعددية والعيش المشترك والمواطنة المتساوية، ومعالجة مشكلات وقوانين الاجتثاث والإقصاء.

وإذا كان الإرهاب قد استوطن مثل بعض الأمراض المستوطنة، فستكون مثل هذه المعالجات والمعطيات جديرة بتهيئة الظروف المناسبة للحد من تأثيراته تمهيداً للقضاء عليه، مثلما يتم القضاء على الأمراض المستوطنة في بعض البلدان التي شهدت تنمية مستدامة.