في الدخول المباشر إلى صلب الموضوع، أطرحُ على نفسي السؤال كما طرحَه، ويحاول طرحَه كلٌّ منكم: ما هو دوري في الإصلاح الدّينيّ؟ وما عساها أن تكونَ مشاركتي في تسليط الضوء على «التجربة المسيحيّة في مجال الإصلاح الدّينيّ»؟ وإلى أيّ مدى تشكّلُ التجربةُ الإصلاحيّة المسيحيّة نموذجاً يُحتذى به؟ كل ذلك في خضمّ خضّات تتوالى فصولُها يوماً بعد يوم، وكأنّك لا تلبثُ أن تضعَ الرّقعَ الواحدةَ قرب الأخرى، على ثوب ألفيّ قديم‏[1]، ربما لا يقدر على احتمال شكّ الإبر المتتالية، ولا الانسجام مع متطلّبات العصر الجديد، حتى تستدعيكَ النتوءاتُ هنا وهناك، وكلّها تريد رقعةً جديدة، لوناً جديداً، فحُلّة جديدة! هذا إن لم تصبك بعد سهامُ «زرادشت» النيتشويّ الداعي إلى هدم كلّي للهيكل القديم إن كنت تريد فعـلاً بناءً جديداً‏[2]!

في الواقع، لا يزالُ ثوبُ الكنيسة متيناً قادراً على تحمّل المزيد والمزيد من التلوين، وكأنّه خِيطَ أساساً على نول التجديد المستمرّ؛ وهو كالخوابي العتيقة، لا يلبثُ أن يتعصرنَ ويتجدّد دونما خِسارة في القيمة أو في المكانة القدسيّة، ولا حتى في الجماليّة. والسبب يعود للإنسان، ابن الإنسان، آدم الجديد، الذي حاكَ، وزيّن ولبّس، وما فتئ يدعونا للتغيير، لأنّه جديدٌ أبداً، هو هو في كلّ مكان وزمان.

في هذا الإطار الحصريّ، ولكي نستفيضَ في بحثنا عن الإصلاح الدّينيّ في مجالات التجربة المسيحيّة، أظنّ أنّه من الأفضل التركيز على ثلاثة محاور أساسيّة، هي ركائز ثلاث: ركيزة الكتاب، وركيزة الإنسان والمجتمع، وركيزة المؤسّسة الكنسيّة؛ وكلُّها ركائزُ متداخلةٌ، الإنسانُ محورُها وجوهرُها وغايتُها.

وإذا كان المطلوب قراءة تاريخيّة نقديّة، فسوف نحاول أن نحترمَ هذا الأمر من دون الوقوع في تتابعيّة الأحداث وسردها التاريخي، بل نعلّق مسلّطين الضوء على ليشيّتها (لِمَاذِيَّتها) مُستفيدين قدر المستطاع من نتائجها الإيجابيّة والسلبيّة على السواء.

أولاً: الركيزة الكتابيّة

انطلاقاً من قناعتنا العميقة أنّ كلّ عمليّة إصلاح دينيّ تتّجه تلقائيّاً نحو الماضي الزاخر، ماضي التأسيس، وماضي البدايات المفعمة حياةً وزخماً روحيّاً وعمقاً لاهوتياً أصيـلاً، ماضي النعمة الصافية والفيّاضة؛ وقبل الإبحار على متن سفينة النقد التاريخيّ، نعودُ بدورنا إلى ينابيع إيماننا، إلى جذورنا الروحيّة وتعاليمنا السماويّة، وإلى الكتاب المقدّس. هذا ما نادى به الإصلاحيّون في كلتا الحياة الرهبانيّة والكنسيّة. العودةُ إلى تعاليم المؤسّسين وإلى الكتاب المقدّس، كمرجعيّة روحيّة واحدة، وهداية مسلكيّة كفيلة بتقويم المسار وتصويب الأهداف‏[3]. عودةٌ حميدة تفترضُ ترجمة المراجع إلى لغة العامّة لكي يقرأَها كل مؤمن، ويستفيدَ منها كلُّ سالك على درب الخير، ويهتديَ من دون الوقوع في حبائل مفسّرين حصريّين قد يريدون له ما لا يريده الله أو المؤسّسون‏[4].

الأمثلة كثيرةٌ لا مجالَ لتعدادها، يكفي ما قام به كرمليّا إسبانيا، يوحنا الصليب (Jean La Croix) وتريزيا الأفيليّة (Thérèse d’Avila)، في تجديد الحياة الرهبانيّة وما قام به كلّ من بيار فالدو (Pierre Valdès)، جون هاسّ (Jun Hus)، وجون ويكْلِف (John Wycliffe) وجيروم (Jérôme de Prague (Jeroným Pražský))، حتى إيراثموس (Erasme) ولوثر (Luther) في محاولتهم التحرريّة والإصلاحيّة، كلّ على طريقته ووفق حاجات بيئته وعصره. القاسمُ المشترك عندهم جميعاً هو التحرّر من استئثار رجال الدين بمعرفة الكتاب وبتعليمه وفرض القيود الدينيّة واللغويّة والضميريّة على شعب أعزل، فقير، غير مثقف‏[5]. فكانت العودة إلى الكتاب وإلى تعاليم الرّب والمؤسّسين هي الحلّ والوسيلة الفضلى للحلّ.

«الله جعل السَّبْتَ للإنْسَان، وما جَعَلَ الإِنْسَانَ للسَّبْتِ. فابْنُ الإِنْسَانِ رَبُّ السَّبْتِ أَيْضاً»‏[6]؛ قد تكون هذه هي المُعادلة الصحيحة لنقاشاتنا، وهذا هو الشعار الأبلغ لمن يُسخّر كرامةَ الإنسان، وحرّيتَه، وضميرَه، وبساطَته النبيلة لعباداتٍ وُضِعت أصـلاً في خدمته ولمساعدته على النموّ الروحيّ. فإذا كان السبتُ للإنسان، فالإصلاح الدّينيّ هو أيضاً للإنسان؛ وليس الإنسانُ للسبت، ولا الدّين للدّين، كما لا حاجة لتعويم الله والدفاع عنه، وهو المكتفِي غيرُ المحتاج لشيء.

وإن ركّزتِ الكنيسةُ، منذ نشأتها ومسيرتها الأولى، على اسم «العهد الجديد» لكتابها، وهو إسمٌ إصلاحيٌّ في الجوهر، فلاقتناعها العميق أنّ قديمَ العهد ولّى، والجديدُ هو الباقي والمستمرّ. هذا لا يعني أنّ الآباء والمسؤولين الكنسيّين همّشوا التوراةَ وكتبَ التاريخ والأنبياء والحكمة، والمزامير، وحرقوها، أو تخلّوا عنها، بل استفادوا من كلّ ما أتى فيها حرصهم على كلّ ياء وفاصلة في عهدهم الجديد. الجديدُ في الموضوع، أنّ الكتبَ القديمة باتتْ تُشرح استناداً إلى العهد الجديد الذي، أتى ليكمّل وليتمّم‏[7]. بطريقة أخرى، ليعطيَ معنى جديداً لتدبير الله الخلاصيّ منذ التكوين حتى اليوم، وما بعد اليوم.

والكتاب قصّةُ حياة، وتعليمٌ وطريقٌ إلى الخلاص. القصّةُ لابن الإنسان، والتعليمُ للكلمة ابن الله، والطريقُ يوصلُ المحلّتين، الأرضيّةَ والسماويّة، بالحقّ والحياة. على هذا المنوال، وفي هذه الديناميّة، يتخطّى التعليمُ الإلهيّ متطلّباتِ الإنسانيّ المحدودةَ ليطعّمَها بالحقّ الذي لا يشيخُ، وبالحياة والولادة الدائمة. سرّ الحركة وسرُّ استمراريّتها من سرّ الثبات في الإيمان، صورةُ جوهر عقليّ، نوسيّ، حريّةُ خلقٍ وحريّةُ عبادة؛ سرُّ ثقة قويّة بالكلمة الجريئة والمصحّحة: «قيل لكم (سمعتم أنّه قيل) […] أمّا أنا فأقول لكم. […]»‏[8]. فسماعُ الكلمة والعملُ بها هما أيضاً نعمةٌ إلهيّة قُدِّرَتْ لنا «لنكون خدّاماً للعهد الجديد، لا للحرف بل للرّوح، لأنّ الحرفَ يقتلُ أمّا الرّوحُ فيحيي»‏[9].

أليس هذا ما رسمه ابن الإنسان في عمق تدبيره الخلاصيّ، في أوّل إعلان له في المجمع، وكان اليومُ يومَ السبت؟: «روحُ الرّبّ عليّ، ولهذا مَسحني لأبشّر المساكين، وأرسلني لأنادي بإطلاق الأسرى وعودة البصر إلى العميان، وأطلق المقهورين أحراراً، وأنادي بسنة مقبولة للربّ»‏[10]. بهذه القراءة المتأنّية لسفر آشعيا، تبين مضامينُ النبوءة، وتتكشّف أسرارُ الرسالة التي تَجَسَّدَ من أجلها ابنُ الله‏[11]. ليس المقصودُ، هنا، فقط شرحَ القديم بالجديد، بل التأكيدُ على جوهر الرسالة في العهدين والتي تتركّز على محوريّة إنسانيّة أوّلاً وآخراً، محوريّةٌ جوهريّة، الحريّةُ مادّتُها وقوّتُها، لأنّها من روح الله به وله. «فإنّ الرّبّ هو الرّوح وحيث يكون روحُ الرّبّ تكون الحريّة»‏[12].

فالحريّة أسمى عطيّة جُبلنا عليها. لأنّه حرّ، خالف آدمُ الطوباويُّ الوصيّةَ. ولأنّ حُريّتَه من قدسيّة طاعته للآب الناهي من أكل ثمار شجرة الحياة، لمْ يُقتلْ آدم، بل عوقب وأُدّب، ليدركَ أنّ الحريّةَ مسؤوليّةٌ، ووعيٌ، كما هي حقٌّ وواجب. الحريّةُ غيرُ المسؤولة، عمياءُ، تتعثّر وتقع، تَطمسُ الحقائقَ، وتخشى نورَ النهار، بينما الحريّةُ المسؤولة انتباهٌ وفطنة وشراكة حقيقيّة تُضفي على الصورة صفاءها وبهاءها وإشعاعَها.

تبشيرُ المساكين بالحقّ، كفتح عيني الأعمى، وهداية السبيل؛ وإطلاقُ الأسرى كإطلاق المقهورين أحراراً، لحياة ومصير جديدين، ومسؤوليّاتٍ جديدة، تُعمّق رباطَ الشراكة الحقّة. في هذا المفهوم للحريّة تتأطّرُ صورة المؤمن بالإله الذي لا يخاف من حريّة الإنسان، بل يريدُها لأنّه لا شراكة ممكنة من دونها. «والله الذي خلق الإنسانَ من دونه (دون إرادته) لا يخلّصه من دونه»‏[13]. هكذا فهم أغسطينوس سرّ اهتدائه بعد ضياع طويل، وصراعٍ دائم بين الإرادتين، ليقتنعَ نهائياً أنّ إرادة الإنسان الحرّة لا تتعارضُ ومشيئةَ الله بل تتقاطعُ معها في سبيل خلاصه، وإحقاق الشراكة النهائيّة.

على الحريّة، حريّة الإيمان، كما توصّفها النصوص الكتابيّة وتؤطّرها، تتركّز، عمليّةُ التجديد والإصلاح الدائم والمتواتر، لأنّ التماثُلَ والأصل مسعى لا يُقهر، ودربٌ لا ينقضي، وكلُّ محاولةٍ لتغييب الإنسان عن مسعاه، وطمسِ معالم الهداية إلى الحقّ، سوف تظلّ تصطدمُ بمناعة ثورة ثابتة، أقلُّ ما يقالُ فيها إنّ روحَ الرّبِّ محرِّكُها ومُغذّيها.

ولمّا استساغَ رجالُ الدين، في فترة ما، العملَ على هواهم، تفسيراً وتشريعاً وتطبيقاً، لما فيه مصالحِهم الشخصيّة، مبتعدين كلّ البعد عن النموذج الإنسانيّ المسيحيّ الأصيل، الذي يؤثر خدمةَ الآخرين على استعبادهم للآخر الضعيف والبسيط، حرّكتْ النزعةُ الاستقلاليّةُ الجوهريّةُ، عند هذا البعض الآخر، مشاعرَ التقوى المتضاربة بين خدمة الكلمة الحقّة وخدمة الرؤساء، المتكلّمين الزائفين، فكانت انتفاضاتُهم المتتالية وإن لم تعطِ، على الفور، ثماراً ناضجة. إنّها انتفاضاتٌ مبنيّة على أساس الوحي الكتابيّ الذي وفّق بين التعليم الإلهيّ والمثل الحيّ المترجم خدمة ومحبّة وتفانياً‏[14]. ولأنّ من ائتُمن على تثبيته شرعاً كنسيّاً قائماً، قد ابتعد كثيراً من هذا الأصل، كما أشرنا أعلاه؛ ولأنّ نعمةَ الله وروحَه لا يزالان يعملان ما دام النهارُ قائماً، اتكلَ القائلون بالإصلاح، والداعون إليه، على الحدس العلويّ في فهم إرادة الرّب، كما كشفها الوحيُ الكتابيّ، وقالوا لا، ولا، وأعادوا صياغة المفردات بما يتناسبُ وصوتَ الضمير، ويتناغمُ وصدى الكلمة المتجسّد. وكانت مواقفُ المعلّم الأوّل حافزاً أساسيّاً لهم، فحملوا سوطَ الكلمة والموقف، وقلبوا «الطاولة» للمرّة الثانية والثالثة مردّدين: «بيتي بيت صلاة يدعى، وأنتم تجعلونه مغارة لصوص»‏[15]، كما جعلتم من طاولةِ التقدمة محلّةَ شراءٍ وبيع، ومن قدسِ الأقداس كهفَ تآمرٍ لسَنِّ فتاوى قاتلةٍ وظالمة.

ثانياً: الركيزة الإنسانيّة والمجتمعيّة

لمّا كان الكتابُ، كلُّ كتاب دينيّ، غايتُه الأولى والأخيرة هي الإنسانُ العاقل، القادرُ على الفهم والاستيعاب والتطبيق، في سبيل البلوغ إلى الهدف الأسمى، توسّعت مروحةُ الاستفادة منه لتطولَ أبعادَ الشخص في كلّيَّتها الجسديّة والنفسيّة والروحيّة. وإن كانت جهةُ التعليم العقل، فغايتُه لا تنحصِرُ فقط في نقلِ معلومةٍ وشرحها والتدقيق فيها، بل تبغي الوصول بها إلى الإنسان في حياته اليوميّة، في علاقاته مع الغير ومع الذات، هذا الغير الآخر. بالأحرى، إذا كانت الكتابةُ عقائديّةً، روحيّةً مسلكيّةً أخلاقيّةً، توجيهيّة، وقانونيّة تُشكّل دستوراً أو نظاماً حياتيّاً هو بمنزلة عهدٍ بين الله والإنسان، من جهة، وبين الإنسان وأخيه الإنسان، من جهة أخرى، كما وأنّها قد تشملُ علاقتَه بالطبيعة وخيراتها في الوقت ذاته.

في هذا الإطار، الإنسانُ يكتبُ (بوحي إلهيّ أو بدونه)، والإنسانُ يقرأ، والإنسانُ يستفيد. وكلُّ الهفوات والأخطاء التفسيريّة تنعكس مباشرة على الإنسان في علاقاته العموديّة والأفقيّة التي ذكرنا. لذا كانت الحركاتُ الإصلاحيّة، كالثورات العلمانيّة، أنسيّةً بامتياز، مؤمنةً كانت بإلهٍ ساهرٍ غافر أو غيرَ مؤمنةٍ به. وفي الحالتين فهي تؤكّدُ إيمانها بالإنسان صاحبِ التوجّهات العلائقيّة الثلاثيّةِ الأبعاد.

غالباً ما احتوى الخطابُ الإصلاحيُّ مقولتين: نقديّة هجوميّة وتحريضيّة دفاعيّة، زبدتهُما الواحدة حريّةُ الرأي والإيمان. كلّ ذلك، استناداً إلى الكشف الكتابيّ حول قيمة الحريّة الإنسانيّة، التي احترمَها اللهُ وصانها وقدّسَها، كفضيلةٍ أساسيّة هي بمنزلةِ الجوهر في الكائن البشريّ، كصورة ومثال، ولما فيها من تماثلٍ حميم والجوهرِ النوسيّ الروحيّ. الفكرُ حرّيةٌ أو لا يكون، والإنسانُ المفكرّ حرٌّ بالطبيعة. وكلُّ تعليق أو قمعٍ لحريّةِ التفكير، في الرأي وفي العقلنة وفي التفسير، مسٌّ بالماهيّة، وطمسٌ للصورة، وتلوينٌ تعسّفيّ مَرَضيّ لا يخلّص. في هذا السياق، تسلّح الإصلاحيّون بكلّ ما أوتوا من شجاعة لانتقاد الوضع المزري والفاسد القائم، والمخالف أصـلاً لتعاليم الكتاب والمؤسّسين، وشرعوا باستمالة المناصرين، من جهة، وبتحريضهم على المسؤولين الكنسيّين، من جهة أخرى، مؤسّسين بدورهم لبديل هو الأفضل بنظرهم. منهم من بَقي تحت لواء الكنيسة الأم، ومنهم من خرج نهائيّاً عن طاعتها، ضارباً، عرض الحائط، كلَّ فتاوى أحبارها وأحكامَهم الجائرة والظالمة والمُظلمة.

في المقابل، نقع في الرّدّ الإصلاحيّ، على مقولتين متشابهتين: دفاعيّة تجريميّة، وهجوميّة تبريريّة، غايتهما المحافظة على المكاسب الشرعيّة وغير الشرعيّة التي عُمل بها حتى الحين. وغالباً ما تكونُ العودةُ أيضاً إلى نصوص كتابيّة تشدّد على الطاعة واحترام الرؤساء، والأخذ بفتاواهم كمؤشّر حصريّ لنيل الخلاص. ولا تكتملُ صورةُ المجتمع السليم إلّا بالقبول بمبدأ الخضوع التام للرؤساء كشرط ووسيلة للعيش الحرّ والمسالم. وفي مثل هذه الحالة، تولّدت أحياناً حركاتٌ استقلاليّة تامّة بادلت الحرم بالحرم والسيف بالسيف، وتفاقمت الأمور حتى الاقتتال فالحرب الدينيّة، كما شهدتها أوروبا في نهاية العصر الوسيط.

لا شكّ في أنّ المقولات الآنف ذكرُها هي تعبيرٌ عن انفعالاتٍ طبيعيّة في مناخ واقع مُتأزّم يتعرّض له الإنسان في المجتمع. وهي، بالتالي، ردود فعل لاواعية لشخصيّة اجتماعيّة مركبّة على نقيضين، آمر – مطيع ؛ سيّد – عبد؛ ولا سبيل للمصالحة الذاتيّة بين الضدّين، ولا مجال للتطابق بين الطرفين إلّا في عمليّة انسجام كليّة، قلْ في تماثل تام مع شخصيّة آدم الجديد، حسب اللاهوت البولُسي واليوحنّوي، وكما عبّر عنها وحاول شرحَها لوثر الإصلاحي في رسالته حول «الحريّة المسيحيّة». في الواقع، يقول مارتن لوثر في بداية رسالته:

«إنّ المسيحيّ حرّ وسيّد من كلّ النواحي وليس خاضعاً لأحد…

إنّ المسيحي خادم للكلّ من كلّ النواحي، وخاضعٌ للجميع»‏[16].

ومع علمه الراجح وتصريحه الواضح بالتناقض الظاهر في هاتين المقولتين، يعمل لوثر على تبيان إمكان التوفيق والنجاح في عمليّة التوحيد بين مدّ الذات وجزرها، وتبيان وحدة الهويّة، وكيف يكونُ الإنسانُ حُرّاً وخادماً في آن. فانطلاقاً من معتقده «التبرير بالنعمة بواسطة الإيمان»، معطوفاً على إيمانه الثابت بكلمة ابن الله الحيّ، لا يجد لوثر صعوبةً في إيجاد المسوّغات الروحيّة والمراجع الكتابيّة ليدعمَ رأيَه وينشّطَ مُعتقدَه، وبخاصّة أنّ إيمانَه بالطبيعتين المسيحيّتين راسخٌ تماماً. فالمسيحُ هو في الوقت عينه ابنُ الله «ومولودٌ من امرأة تحت الناموس»‏[17]؛ هو الإله الذي صار عبداً ومات لأجلنا، موفّقاً في شخصه، آدم الجديد، السّيادةَ المطلقة والخدمةَ غير المشروطة، الحريّةَ والعبوديّة‏[18]، وهو الآتي «ليَخدُم لا ليُخْدَم»‏[19]. وتكونُ المحبّة هي العاملُ الأساسيُّ في تداخل الضدّين وتطبيعِهما من غير تعقيدات، انطلاقاً من قول الرسول: «لا يكُنْ عليكم دينٌ لأحد إلّا حُبّ بعضِكُم لبعض؛ فمن أحبّ غيرَه أتمَّ الشريعة»‏[20] فكلّ الوصايا تكتملُ بهذه الوصيّة الوحيدة لأنّ «المحبّة هي كمالُ الشريعة»‏[21]. وإذا كان جوهرُ الله محبّة، إلهيّة جوهريّة وإنسانيّة صُوَريّة، فهكذا يتناغم الضدّان في النفس البشريّة ويتآلفان، ليصيرا واحداً في المحبّة.

يستفيض لوثر في شرح هذه المقولة – المشروع الحياتيّ والكيانيّ، مشدّداً على دور النّعمة الأساسي في حفظها وفي تحقيقها من دون الاتكال المباشر على الأعمال الشخصيّة. يكفي أن نؤمن بتبرير الله لنا لنصير أهـلاً له ولبعضنا، إذ تتفعّل النعمةُ فينا حبّاً ووداعةً وتواضعاً ورحمة. وتكون الخلاصةُ أو ما «ينتج من كلّ ما سبق أنّ المسيحيّ لا يعيش بنفسه بل في المسيح وفي قريبه، وإلّا فهو ليس بمسيحيّ»‏[22].

والغاية الأخيرة من الرسالة في الحريّة المسيحيّة يختصرها لوثر في هذا المقطع الشهير الذي يظهر بوضوح تضارب المقولتين:

«لهذا السبب، ومع أنّه ينبغي أن نقاوم بجرأة معلّمي التقاليد، وأن نستهجنَ بشدّةٍ شرائعَ الباباوات التي بواسطتها ينهبون شعبَ الله، لكن يجب أن نوفّرَ الشعبَ البسيطَ الذي يسيطرُ عليه أولئك الطغاةُ العادمو التقوى بشرائعهم، إلى أن يتحرّروا»‏[23].

ويُكمّلُ بالقوّة ذاتها وبالتصميم الثابت حتى التحقيق العمليّ فيضيفُ خاتماً:

«يجب أن ننظرَ إلى الطقوس والقوانين في حياة المسيحيّ كما ننظرُ إلى النماذج والخرائط عند البنّائين والصنّاع. توضعُ الخرائطُ والنماذج، لا لتكونَ هيكليّةً دائمة، بل لأنّنا من دونها لا نستطيعُ أن نبني أو نصنعَ شيئاً. وعندما يكتملُ البناءُ توضعُ النماذجُ والخرائطُ جانباً. إذاً هي ضروريّةٌ ومطلوبةٌ ولا نرفضُها، لكن ما نرفضُه هو التقديرُ الخاطئُ لها إذ إنّ لا أحدَ يعتبرُها البناءَ الحقيقيَّ الدائم»‏[24].

طبعاً لا شيء دائم، «ولا جديد تحت الشمس»‏[25]، لأنّ هدفَ الإنسان الوصولُ إلى الغاية المرجوّة وقد استفاضت الكتبُ المقدّسةُ في شرحها وتبريرها، لزمنٍ وزمنين وليس للأبد. فعندما يصلُ الإنسان، وتكون الكتبُ قد أتمّت دورَها بما يكفي ويزيد، لا تعودُ لازمةً، لأنّا سوف نسمع الكلمةَ مباشرةً ونقرأُها في عينيّ الله وقلبه‏[26]. ويبقى السؤال المنطقي هنا: هل شمل لوثر، في عداد هذه النماذج التي نتخلّى عنها، نموذج الإصلاح اللوثري بالذات أم أنّه وقع هو أيضاً في خطأ المعتقدين أنّهم الأقرب من الحقيقة الدينيّة وتعاليمهم تبقى ثابتة؟!

في مجال آخر، وللمضيّ قدماً في طريق الإصلاح من أجل بناء هذه الشخصيّة المُنسجمة مع ذاتها ومع ربّها والقريب، يصيبُ لوثر، كغيره من الإصلاحيّين، في وضع إصبعه على الجرح الحقيقيّ، ألا وهو التربية. وهذا هو موضوعُ كلِّ عمليّة إصلاح مُجتمعيّة مؤسّساتيّة وفرديّة، دينيّة وعلمانيّة. فإذا كان الإنسانُ لا يصيرُ ما هو عليه إلّا بالتربية حسب مقولة كانط‏[27]، وقبله أفلاطون وكونفوشيوس، كرّس الإصلاحيّون وقتاً ومجالاً تكلمّوا فيهما عن التربية وسبل إنجاحها، إن في برامجها وهيكليّاتها أو في منهجيّتها ولغتها وسبل توفيرها.

«التربية البيتيّة غير كافية (يقول لوثر). يجب أن يسهرَ الحكّام على تثقيف الأولاد. فإنشاء المدارس هذه أولى مهمّاتهم الأساسيّة. ويجب ألّا توكلَ الوظائفُ العامّة إلّا إلى الأكثر فَهماً وعلماً. من المهم جدّاً أن نتعلّم اللغات: فالشيطان يخشى هذه الدروس ويحاول أن يوقفَها. أما كانت هي الوسيلة التي ساعدتنا على اكتشاف العقيدة الحقيقيّة ؟ فأوّلُ شيء أعطاهُ المسيح إلى تلاميذه كان عطيّةَ التكلّم بلغات. نحن لا نعرف اللاتينيّة في الأديار، ولا نكاد نعرف الألمانيّة: لذا من الواجب أن يكون هناك تعليم أفضل!

[…]

يجب أن نؤسّس لفتح مكتبات عامّة. نضع فيها، أوّلاً، كتبَ اللاهوت، اللاتينيّة، اليونانيّة، العبريّة، والألمانيّة؛ من ثمّ كتب تعلّم اللغة، كالخطباء، والشعراء، مسيحيّين كانوا أو لا؛ أخيراً، كتب الشرع القانوني، والطبّ: والحوليّات، والتاريخ، باللغة التي كتبت فيها، هذه الكتب يجب أن تحظى بالمكانة الأولى في المكتبة.[…]»‏[28].

من ناحيته، إيرازموس السابق في الطروحات التربويّة، لم يضع اللوم على رجال الدين وحدهم بل على الحكّام، وبخاصّة المصرفيّون ورجال الأعمال الذين يديرون أموال رجال الكنيسة ويشجّعونهم على جبي الأموال بشتّى الوسائل، إنْ ببيع الغفرانات أو بعبادة ذخائر القدّيسين، وكلّ أنواع السيمونيّة المشجوبة في الأوساط الشعبيّة المؤمنة. لذلك نراهُ يطلق حركةً تربويّة واسعةَ النطاق، وقد تمنّى على البابا القويّ أن يقاوم تجربة المال والسلطة المتطرّفة. من هنا كان برنامجه الواضح «Enchiridion militis christiani» (دليل الجندي المسيحي)، والذي نجد أبرزَ أفكارِه في كتابه الآخر الشهير في مديح الجنون، حيث النقد الساخر والمسؤول لرجال الدين، ومن بينهم الرهبان الذين نراهم في كلّ مكان إلّا في صوامعهم وأديارهم، فكيف بوسعهم أن يحتملوا حياتهم اليوميّة لولا القليل من الجنون‏[29]؟

لا ننسى أنّ القرن السادس عشر لم يكن قد عرف بعد انتفاضةَ الأنوار بكاملها، ولا بأعلامها كافّة وكتاباتهم الصارخة، كما سوف تترسّخ وتتوسّع في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر مع الأعلام جان جاك روسّو وفولتير ودايفيد هيوم وغيرهم من فلاسفة ورجال فكر انتقدوا الكنيسة والدولة على السواء. ولكنّ المهمّ في الموضوع أنّ عمليّة الطباعة سهّلت كثيراً نشرَ الأفكار، وباللغات التي يعرفُها الشعب، وليس فقط باللاتينيّة، لغة الطبقة المثقّفة العالية. من هنا كلّ من أسهم في طروحات تربويّة وتثقيفيّة، أمثال جون ويكليف في إنكلترا، وجون هاس في براغ، وديزيديريوس إيراسموس من روتردام، واللاهوتي الإصلاحيّ توماس مونتسر (Thomas Münster) الذين انتقدوا الكنيسة وطريقة عيش المسؤولين فيها من دون الخروج على طاعتها، ومن ثمّ مارتن لوثر الإصلاحي الثائر ومن تبعه من إصلاحيّين، وغيرهم الكثر، قد ساعدوا حقّاً في إضافة مِدماكٍ أساسيٍّ على بناء مستقبل أكثر حريّة من حيث إنّه أكثر ثقافة ووعياً وانفتاحاً.

في هذا الإطار، ولكي نكون منسجمين مع ذاتنا، وننتقل إلى العصور الحديثة وإلى الركيزة الثالثة في الكنيسة كمؤسسة، لا بدّ من ذكر نيتشه الفيلسوف، الذي احتمى وراء رجال التنوير، وبخاصة فولتير، وهدّم ليبني، ولو كانت ضرباتُ مطرقته قاسيةً وموجعة في أغلب الأحيان. فنسمعُه يقول إنّه هاجم ليحفّز على التغيير ولم تكن غايتُه الهدمَ للهدم. وهذا موقفٌ متطرّفٌ خافَ منه نيتشه وحذَّرَ من الوقوع به تحت تسمية العدميّة السلبيّة:

«الاعتداء على الكنيسة، هذا يعني إعادة بناء المسيحيّة…»‏[30]

«الكنيسة هي من ينفّرنا، وليس سمّها»‏[31]

«أنا نفسي أتحدّر من سلالة إكليرس بروتستانتي: وإذا ما كنت قد استمدّيت منهم معنىً عالياً وصافياً، لما كنت أعرف من أين لي الحقّ بمحاربة المسيحيّة. قاعدتي هي التالية : المسيحُ الدجّال هو نفسه المنطق الضروريّ لتطوّر المسيحيّ الحقيقي. فيّ أنا، المسيحيّة هي المنتصرة على ذاتها في تخطيّها لذاتها.»‏[32]

«أيضاً، ما عدنا مسيحيّين: في نموّنا خَرجنا من المسيحيّة، لا لأنّنا أقمنا بعيدين عنها، إنمّا لقربنا الشديد منها، وأيضاً، لأنّنا كبرنا انطلاقاً من جذور مسيحيّة […]»‏[33].

لن أعود بالحنين، عشرينَ سنة إلى الوراء، لأكمل تفهّمي للمواقف النيتشويّة، ولا لأعيدَ له اعتباراً جرّدته منه المسيحيّةُ المجروحةُ بسهامه، بل لأجدّدَ موافقتي على طروحاته السبّاقة والمُفيدة، التي وإن هزّت قواعدَ بعض الدعوات الكهنوتيّة والمسيحيّة بوجه عام، فهي رسّخت إيمانَ الكثيرين بكنيستهم التي صَمدت، وما زالت صامدةً أمام الضربات المتتالية، ومن بينها عظاتُ المسيح الدجّال. فالسُّمُّ، الذي ما فتئ يجذب نيتشه ولا ينفّره، هو تعاليمُ الكنيسة الجوهريّة، كما خرجت من فم يسوع المسيح، النموذج الأعلى للإنسان المتفوّق (Über Mensch). بينما الكنيسة المنفّرة هي الكنيسة الغارقة في هرميّـتها الهرمة، وفي قوانينها الجائرة أحياناً، وفي ممارسات رجال الدين غير الأخلاقيّة، الخنوعة والدائمة الانفعالات الحاقدة.

نعم الكنيسة صامدةٌ واللوثريّون، والفولتيريّون والنيتشويّون كثر. بناؤها على الصخرة يجنّبُها الترنّحَ والسقوط ولو عصَفت بها، أحياناً، بعضُ الرياح المتعدّدة المصادر والاتجاهات. فالروح حياتُها وغناها وقوّتُها وليس الحرفُ ولا الشرائع المتبدّلة. إنّها صامدة وقادرة دوماً على التأقلم والتجدّد وجذب المفكّرين والفلاسفة والعلماء والبسطاء بكلّ تأكيد. فما عساها أن تكون قواعدُ الدفاع والهجوم المضادّ للحركة المعاكسة للإصلاح؟

ثالثاً: الركيزة الكنيسة الكاثوليكيّة والمؤسّساتيّة، بنوع خاص

من الطبيعي جدّاً أن تكون الحركات الإصلاحيّة قد وجدت لها آذاناً صاغية ولو لم تكن متفهّمة ومستجيبة بالمطلق؛ وهذا يعود، في واقع الحال، إلى تشبّث رجال الدين بمكانتهم العالية وبمصالحهم الشخصيّة، أكثر من خوفهم على العقيدة والدّين والممارسات التقويّة. لذا نجد أنّ أولى ردود الفعل اتَسَمتْ، في الغالب، بالعنف والقمع والحرم، ولكنّها شهدَتْ، في المقابل، وعياً ضميريّاً تمثّلَ في صدورٍ فعليّ، عن مجمع اللاتران، لتوصيات إصلاحيّة في شقّها العمليّ، التربويّ والمسلكيّ لرجال الدّين بدرجة أولى، واستناداً إلى تعليم الكتاب المقدّس، بدرجة ثانية:

«نقرّر ونأمر: من الآن وصاعداً، على كلّ الأحبار الكرادلة الحاضرين، وبناءً على تعليم الرسل، أن يعيشوا، في الدهر الحاضر، برزانة وعفّة وتقوى، نابذين الكفرَ والشهواتِ العالميّة‏[34]. وأن يتجنّبوا ليس الشرَّ فقط، بل كلَّ مظهر شرّير، وليتوهّجوا عندئذ أمام أعين الناس.» […]

«وألّا تكن منازلهُم، وعيالهُم، وموائدُهم، وألبستُهم تستدعي الشجبَ لا بأبّهتها، ولا بفضاحتها، ولا بأيّ شيء آخر، متجنّبين التحريضَ على المعصية وتجاوزَ الحدود؛ والأنسبُ لهم أن يستحقّوا اعتبارَهم مرآةَ تواضعٍ وتقشّف… فليكتفوا إذاً بما يعبّر عن تواضعِهم الكهنوتيّ. […]»‏[35].

لم تُطرح في هذا المجمع أيُّ مسألةٍ عقائديّة أو ليتورجيّة على بساط البحث والنقاش، بل ثُبّتَ ما كان معروفاً. واكتفى الاتفاقُ على لجم الممارسات الشاذة والمشكّكة. وبخاصّة أنّ حركة الإصلاح تميّزت، منذ القرن الرابع عشر، بطروحات مقبولة من الجميع كالإنسيّة الذاتيّة، إلى جانب ما تحققّ بالتوازي من حيث مركزيّة الكتاب المقدّس وتفعيل العمل الجماعيّ في المؤسّسة الكنسيّة، لتصبح الجماعةُ محورَ الحياة الروحيّة الدينيّة، من دون التعتيم على الخلاص الفرديّ المبنيّ على التبرير بالإيمان. هذه أمورٌ لم تكن غريبة إذن عن منطق الكنيسة الكاثوليكيّة ولو كانت الممارساتُ مشوبةً بالضعف حيناً وبالإخفاق حيناً آخر.

1 – المجمع الفاتيكاني الثاني

ويأتي المجمعُ الفاتيكاني الثاني ليشكّل، عقب الحرب العالميّة الثانية، وبعد نصفَ قرن ٍتقريباً من أزمة روحيّة ومعنويّة شلّت قدراتِ الفكر عن تقصّي أيّ معنىً سامٍ للحياة وللوجود، مرحلةً جديدة مفصليّة في تاريخ الكثلكة والعالم الغربي والشرقي على السواء.

لا شكّ في أنّ أزمة المعاني، إلى جانب الضياع الكليّ في مفاهيم فلسفات وجوديّة مُلحدة وأخرى عبثيّة، حاولت أن تنشّط قدراتِ الإنسان الواعية وتقنياتِه على حساب حياته الروحيّة التي أصبحت خارجة على الموضة، سرّعت في اتخاذ القرار مع وجود أشخاص ذوي الكفاية، وأصحاب الاختصاص في المجالات المتنوّعة، وبخاصّة الإنسانيّة واللاهوتيّة. لا ننسى، في هذا الإطار، الملهَمين بينهم، المرسلين الحقيقيّين لهذه المهمّة: يوحنا الثالث والعشرون، بولس السادس، ويوحنا بولس الثاني، وجوزف راتزينغر، وقد كان لا يزال أستاذاً شاباً، إلى جانب لاهوتيّين وفلاسفة من الصفّ الأوّل، جاك ماريتان، وهنري دو لوباك، دانييلو، إيف كونغار، كاميلو، دوبوي، شونو، وبالتازار، وكاسبر وهانس كونغ، وغيرهم من أصحاب الأفكار العصريّة والتحرّريّة.

إنّ مجرّد انعقاده كمجمع مسكونيّ دُعي إليه غيرُ الكاثوليك وغير المسيحيّين، كان خطوةً إصلاحيّة بحدّ ذاتها، أنتجت بنداً مجمعياً جديداً هو الحوارُ المسكونيّ، بين المسيحيّة والديانات الأخرى، وبين الكاثوليك، من جهة، والكنائس المسيحيّة، من جهة ثانية، لما في ذلك اعترافٌ بالآخر المختلف دينيّاً، الذي هداه الله إلى طريق يخلّص نفسَه فيها. والورقةُ الأولى التي اهتمّ بها الكاردينال فرينغز (Frings)، ورسم هيكليّتها مع رايتزينغر الشاب، وإعجاب يوحنا الثالث والعشرين بها، والمصادقة عليها بالرغم من تحفّظات البعض، كانت هي الخطوة الثانية في الخطّ ذاته‏[36]. والموضوعات المختلفة التي نوقشت وصدرت فيها مقرّرات وتعاليم جديدة: في العقيدة؛ في علاقة التقاليد (الإرث الكنسي الآبائي) مع الكتاب المقدّس؛ في الليتورجيا والعبادات؛ في الرسالة، في السلطة الكنسيّة؛ في دور مريم العذراء في التدبير الخلاصيّ وفي الحياة الكنسيّة؛ في الكهنة والرهبان؛ في إيلاء التربية الإكليريكيّة أهميّة قصوى من حيث إنّ الإكليريكيّين هم قادةُ الجماعات الروحيّة ومنشّطو الرعايا المؤمنة؛ في الحياة الإجتماعيّة؛ في العلوم وفي الأخلاق؛ في التعليم الديني؛ وفي التربية المدرسيّة والجامعيّة، لكانت قد بقيت كلاسيكيّةً عاديّة، بالرّغم من المجهود الجبّار في عصرنتها وصياغتها بلغة القرن العشرين تلبية لحاجات أبناء العصر، لو لم تُرفق بنصوص هامّة وجديدة، منها احترام سائر الديانات والتشديد على حريّة الفرد والمعتقد والممارسات، والسماح بالاحتفال الليتورجي وفق اللون المحلّي والعادات المحلّية، ومن بينها الاحتفال بالذبيحة الإلهيّة، والخوض بشجاعة ومسؤوليّة في أمور أخلاقيّة آنيّة، وبخاصة في الجنس، في الزواج والبتوليّة، وفي أمور بيوإيتيكيّة كالإجهاض والقتل الرحيم، وموانع الحمل وغيرها. أخيراً الدور الكبير والهامّ لوسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة في نشر الإيمان ودقّة الحفاظ على صوابيّة طروحاتها وبرامجها.

ويبقى أهمّ ما في الموضوع، إدخال العلمانييّن إلى دائرة القرار، بعد العودة إليهم في التحضير وطلب الاستشارة من ذوي الاختصاص بينهم. وفي هذا المجال، تكون الكنيسةُ، التي أصمّت أذنيها نحو أربعة قرون على صرخة لوثر والإصلاح البروتستنتي، وهمّشت محاولاتِ السابقين قبلَهم كجون هاس، وويكليف، وجيروم، وإيرازموس ومونتسر، وسدّت أذنها عن سماع صوتهم، تعودُ وتتبنّى مفهومَ الشراكة الحقيقيّة ونوعاً آخر من الديمقراطيّة في حياتها. وإذ بقيَ دورُ العلمانيّين خجولاً في البداية، فقد وجَد طريقَه الصحيح نحو التحقيق والمشاركة الفعليّة في العمل الكنسيِّ الرعائيّ، والرسوليّ والتعليميّ.

من جديد قديم المجمع الفاتيكاني الثاني، ومن صلب التعليم الإلهيّ، عودةُ الكنيسة إلى رسالتها الحقيقيّة مع الفقراء وإلى جانبهم. وإن شدّدنا في كلمتنا على مركزيّة الإنسان وحريّته فلا ننسى، بالتالي، أنّ البشر، وإن تساووا في عين الرّب، فهم غيرُ متساوين في الحالة الاجتماعيّة. لذا، وعلى مثال المعلّم الذي أتى رفيقاً للفقراء، شافياً للمرضى، معزياً للمقهورين، وغافراً للخطأة، اهتمّت الكنيسة، بكلّ شرائح المجتمع، التي هي، في النهاية، موضوعُ خدمتها الرسوليّة والاجتماعيّة والتربويّة والاستشفائيّة والروحيّة. فشجّعت المؤسّسات الرهبانيّة والكنسيّة الأخرى على القيام بواجبها الأخويّ والإنسانيّ إلى أقصى الحدود. كما لا تزال تدافع عنهم وتنادي بالعدالة الاجتماعيّة والمساواة المعيشيّة للجميع، بكلّ ما أوتيت من قوّة. ونموذج البابا فرنسيس واهتمامُه الخاص والدؤوب بسكّان الضواحي، المهمّشين، صوتٌ صارخٌ، مكمّلٌ وأصيل.

2 – ما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني، البابا بنيدكتوس السادس عشر

دائماً، في إطار الركيزة الثالثة في الكنيسة المؤسّسة، أعتقد أنّ الكتاب الحدث، الصادر عن دار فيار (Fayard)، أيلول/سبتمبر 2016، حول المقابلة الأخيرة مع بنيدكتوس السادس عشر‏[37]، يفرض ذاته علينا لما يحويه من إضاءات على أهميّة المجمع وكيفيّة تحضيره وأهدافه.

فجوزف راتزينغر (Joseph Ratzinger)، الأستاذ الجديد الذي طلبه الكاردينال فرينغز (Frings) كمستشار ومساعد في التحضير لأعمال المجمع، وقد صار البابا المتقاعد الأوّل في تاريخ الكنيسة، – (ولما لهذه الخطوة الجريئة والسبّاقة من أثر إصلاحي في هيكليّة الكنيسة الإداريّة على مستوى القمّة)  – له الباعُ الطويل في عمليّة الإصلاح والتجدّد اللاهوتيّين في الكنيسة الكاثوليكيّة، وذلك قبل دخوله أروقة الفاتيكان، وفيها، وبعدها.

يعتقد بينيدكتوس السادس عشر «أن الإصلاح الحقيقيّ يكون على مستوى التجديد الداخليّ، أي في اشتعال القلوب»‏[38]. في محاولة «لتشجيع جديد نحو الإيمان، نحو عيش ديناميّة الإيمان، من خلال القلب، وإعادة اكتشاف الله، وإعادة اكتشاف المسيح؛ أي أن نضع الإيمان في الوسط»‏[39]. لهذا السبب، يقول رايتزنغر، كانت سنةُ الإيمان وهي الأخيرة في عهده‏[40].

لذلك، وانطلاقاً من ثوابته الروحيّة وما عملَ لأجله طيلةَ حياته، يقول: «على الكنيسة ألّا تكونَ جامدة، وأن تكونَ ديناميّةً وساحةً للتطوّرات الجديدة. وألّا تكونَ متشبّثةً بأنماط جاهزة، بل أن تشهدَ باستمرار على حصول أمور مذهلة، وتحملَ في كلّ وقت ديناميّة التجديد[…]‏[41] ويعطينا قداستُه أمثلة على ذلك، مشيراً إلى ما يمكن أن توفّره «عواملُ جديدة، أفريقيّة، فيليبينيّة، ومن أميركا اللاتينيّة، على سبيل المثال، تحيي الغرب التَعِب وتعطيه دفعاً، توقظُه من خموله ومن انزلاقه نحو نسيان إيمانه […]»‏[42] والتخلّي عنه لا سمح الله.

أمّا على صعيده الشخصي كأستاذ ولاهوتيّ، فكان قد أصدرَ رايتزينغر كتابه شعب الله الجديد، في مرحلة التعليم الجامعي 1966 – 1977، حيث عالجَ مسألةَ المشاركة بين الأساقفة (Collégialité des Evêques) وتجديد الكنيسة‏[43]. وبين 1977 و1982: كتب: الإفخارستيّا، في قلب الكنيسة؛ الايمان المسيحي وأوروبا؛ إيمان، تجدّد، ورجاء، تفكير لاهوتي حول وضع الكنيسة الحالي‏[44]. وكلُّها أعمال صارت مراجعَ أساسيّةً على منابر الكلّيات الحبريّة، تسوّق للغةٍ جديدة ونفَس لاهوتيّ كنسيّ جديد.

وعندما صار بابا، فقد كان أوّل من سمحَ بأن يدرِّسَ الإسلام، في الكلّيات الحبريّة، أستاذٌ مسلم، وآخر بروتستنتي لتدريس اللاهوت الإصلاحي.

أمّا في عمله كلاهوتيّ، وانطلاقاً من قناعاته الراسخة أنّ تعليم الكنيسة الأساسيّ صحيحٌ، نراهُ ينتحلُ شخصيّةَ كونفوشيوس ويقول إنّه «أخذ ما كان موجوداً، واستأثر بجوهره «النخاعيّ»، أعاد هيكليّته ووضعه من جديد في إطار الزمن الحالي، نافحاً فيه تعبيراً جديداً» ‏[45].

يعود بينديكتوس السادس عشر إلى هذا الموضوع لاحقاً ويوضّح قائلاً: «إنّها محاولةُ إعادةِ اكتشاف المعنى الأساسيّ الذي لم نعدْ نراهُ هكذا، من حيث – «حَثِّ القرّاء على حريّة إيمانٍ جديدة تُبحَثُ وتُفكَّر جوهريّاً وتُعاش في بُعدها الجماعيّ» -‏[46] بذلك، يربطُ قداستُه فهمَ الإيمان واستيعابَه بحريّة المؤمن وطريقةِ عيشه في الكنيسة. وكأنّ الإيمانَ ليس عمليّةً عقليّةً روحيّة بحتة، بل هو أيضاً سيرةٌ ذاتيّة فيها الوجعُ، فيها القلقُ، وفيها ربحٌ وخسارة، وفيها عقلنةٌ وتطوّرٌ فكريّ شامل، وفيها أيضاً وأيضاً تفاعلٌ يوميّ مع عمل النعمة الإلهيّة.

وعن معنى أن تكون تقدّميّاً، لا يتردّد البابا المتقاعد عن التصريح أنّه مع لوباك ودانييلو وآخرين كانوا فعـلاً تقدّميّين. «وكانوا يريدون تجديداً جذرياً للاهوت، وإعطاء الكنيسة شكـلاً جديداً أكثرَ حيويّة»‏[47]. «في تلك الحقبة، أن تكون تقدّمياً فهذا لا يذكر كقطيعة مع الإيمان، بل نحاول أن نفهمَه ونعيشَه بطريقة أفضل متمسّكين بالجذور»‏[48].

كل هذا يتوقّف، حسب رأيه، على ما نسمّيه مسيرةَ التحديث. «فالمسألةُ ليست في أن نعرفَ ما هو العصريّ ومن هو عصريّ. المهمّ، في الواقع، ليس في أن نُعلنَ الإيمانَ بطرق صحيحة وجيّدة، بل أن نعلِّم َكيفيّة فهمِه والتعبير عنه بطرق جديدة من أجل عصرنا الحالي. وأن تتشكّل أيضاً طريقةُ حياة جديدة»‏[49].

في المقابل، «أن تكون مجدّداً ومحافظاً، الإثنان لا غنى عنهما. يجب علينا أن نجدّد، وقد حاولتُ دائماً إعطاءَ الدفع اللازم لتفكير عصريّ حديث للإيمان. في الوقت ذاته، تبقى الاستمراريّةُ واجبةً، يجب ألّا ندعَ الإيمان ينقطع أو ينكسر»‏[50]. بالطبع لا يمكنُنا أن نفعل، لأنّ الإيمانَ بمفهومه الكتابيّ، البولُسيّ بوجه التحديد، تواصليّةٌ مُستمرّة من مُرسِلٍ أوّل، هو الله، إلى مُبشّر، إلى سامع، إلى مؤمن، إلى داعٍ‏[51]. من هذا المنطلق، لا يمكن للتجديد أن يقتطعَ أيّ حلقةٍ في هذه التواصليّة الإيمانيّة. ويبقى مفهومُه الخاصّ للكتاب المقدّس مرتبطاً، ثقافيّاً ولغويّاً، وإنسانيّاً لا شعورياً، بإرثٍ طويل كان وسيبقى.

ولأنّه يُدرك تماماً صعوبةَ العمل وجدّته وما يحتّمه من مسؤوليات، يردف قائلاً: «في هذا الإطار على اللاهوت أن يهتمَّ بالأعمال بطريقة أكثرَ عمقاً، ويتركَ للبشر إمكانيّاتِ تصوّر أخرى. فترجمةُ اللاهوت والإيمان إلى لغة عصريّة لا زال ينقصُه الكثير؛ علينا أن نخلقَ نماذجَ تصورّيّةً تساعدُ الناس اليوم على فهم أنّه يجب ألّا يكون البحثُ عن الله في «مكان ما»، حصريّ بعقيدة أو بتقليد مذهبيّ. هناك الكثير ممّا يمكن فعله في هذا المضمار»‏[52].

«فليس صحيحاً القول إنّا نملكُ الحقيقة، فالحقيقةُ هي التي تملكُنا، هي التي مَسّتنا في الأساس»‏[53].

3 – الإصلاح الماروني والترجمة الفعليّة لمقرّرات المجمع الفاتيكاني الثاني

ما أن انتشرت أخبارُ المجمع، وصدرتْ مقرّراتُه، وما واكبها من أعمال وأحداث، حتى بدأ العملُ الفعليّ، على قدم وساق، في الكنائس الكاثوليكيّة، شرقاً وغرباً، وكنيستُنا المارونيّة منها. وكان أنّ حظّ الموارنة الكبير وحظَّ الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة الأكبر أنْ تتمَّ مراسمُ إعلان شربل مخلوف الراهب اللبناني طوباويّاً في الحفل الختامي للمجمع الفاتيكياني الثاني، سنة 1965، برئاسة البابا بولس السادس، الذي عاد وأعلنه قدّيساً للكنيسة جمعاء سنة 1977. وكأنّ الحدثَ الرسالة ذو مضمون واحد: لا إصلاح حقيقيّ إلّا بإصلاح السيرة الذاتيّة. والقدّيسون الذين عاشوا مُرَّ الحياة وحلوَها، والذين عايشوا فتراتِ فسادٍ وتصحُّر روحيّ، لم يشكّوا يوماً بصدقيّة القول الإصلاحيّ المؤسّس، ولم ييأسوا من التحقيق، فكان لهم أن وصلوا وصاروا نموذجاً حيّاً أكيداً.

مع هذا الحدث الجلل وما رافقه من تواصل مباشر بين الرهبانيّة اللبنانيّة المارونيّة والدوائر الفاتيكانيّة، وبمباركة أبويّة من السلطات المحليّة في لبنان، بدأ العمل في جامعة الروح القدس في الكسليك التابعة للرهبانيّة، بمشروع الإصلاح الليتورجي، عمـلاً بتوصيات المجمع.

الكلّ يعلم أنّ حالَ الموارنة من حالِ سائر الكنائس الشرقيّة قد تعرّضَ لهزّات كثيرة، ولهجماتٍ متعدّدةِ الأسباب والأنواع، ومنها الليتنة في القرون الأربعة الأخيرة. فقد عمدَ المرسلون الأوروبيّون إلى تغريب وليتنة كلّ احتفالات الموارنة الطقسيّة وطرقَ ممارستها، بحجّة التطابق الإيمانيّ والتعبيريّ والمسلكيّ مع روما. ومن خالف أو عارض كان يُعتبر من الهراطقة، تُحرق ُكتبُه أو تُصادر. يجدر التنويه أيضاً أنّ قسماً كبيراً من الغربيّين كان يعتبرُ الموارنةَ، وعن غير وجه حقّ، من التابعيّة المونوفيزيائيّة أو اليعاقبة، وهذا خطأٌ تاريخيٌّ كبير دفعتْ الكنيسةُ المارونيّة ثمنَه دماءً واضطهاداً.

وبعد المجمع الفاتيكاني الثاني وما واكبه من توصيات ليتورجيّة جديدة تسمحُ بالممارسات الليتورجيّة وفق العادات والتقاليد المحليّة، اللون المحلّي، شاءت العنايةُ الإلهيّة أن يأتيَ من روما في الوقت عينه متخصّصون جدد من أبناء الرهبانيّة ليكملوا العمل في جامعة الروح القدس في الكسليك التي كانت لا تزال حديثة العهد. بين هؤلاء المتخصّصين، اثنان في الليتورجيا، الأبوان يوحنا ثابث وعمانوئيل خوري؛ واحد في الموسيقى المقدّسة، الأب لويس الحاج؛ وآخر اختصاصي في الكتاب المقدّس وشاعر مرهف، الأب الحبيس يوحنا الخوند، وآخر في الأنثروبولوجيا، الأب يوسف مونّس. وفورَ تسلُّمهم مهمّاتهم الجديدة في الجامعة، بدأت ورشةُ العمل في التجديد الليتورجيّ، ونفضِ الغبار عن التراث المارونيّ، وإلباسُه حلّةً جديدة على أساس الأصل الماروني السريانيّ القديم.

قُسّمت السنةُ الطقسيّة إلى سبعة أقسام – فصول أو أزمنة تدورُ حول شمس المسيح، ولكلّ قسم منها صلواتُه وألحانُه وقراءاته. كانت عمليّةُ الترجمة من السّريانيّة إلى العربيّة سهلةً نوعاً ما، في مقابل ترجمة الألحان السريانيّة إلى العربية على الوزن السريانيّ ذاته، وهذا كان إعجازاً هربَ منه كبارُ شعراء لبنان، ومن بينهم الشاعر الكبير سعيد عقل. فاستقرَّ العملُ، في النهاية، على شاعرين من شعرائنا الرهبان الكبار، يوحنا الخوند وروفايل مطر، وانكبّا على هذا العمل بمؤازرة الأب الحاج الموسيقي، الذي أبدع في توحيد الألحان وضبطها وتوصيف طريقة أدائها.

قبل هذا العمل كانت رعايانا تنشدُ الألحانَ السريانيّة على سجيّتها، وفي بعض الأوقات، بطريقة مختلفة كلّياً، بين قرية وأخرى. ولكن بعد التجديد، صرنا نسمعُ اللحنّ السريانيّ في اللغتين السريانيّة والعربيّة على الوزن ذاته ومن دون تكسير أو تبديل في الآداء، وبخاصّة أنّ الأب الحاج كان قد كتب موسيقى كلّ الألحان بطريقة علميّة واضحة، مرافقة للأبيات الشعريّة.

أمّا المختبر الأوّل والأهمّ فكان جمهور الإخوة الإكليريكيّين من أبناء الرهبانيّة في الكسليك، وبعض الرعايا التي تخدمها الرهبانيّة. سنة بعد سنة، ومع إطلالات تلفيزيونيّة وإذاعيّة على طول السنة الطقسيّة، وبمباركة بعض الأساقفة المحليّين، بدأت أغلبيّةُ الرعايا تعتمدُ الإصلاح الكسليكيّ، حتى حلّت في النهاية البركةُ البطريركيّة، وتمّ تعميمُ الصيغة الجديدة على كلّ الرعايا والأديار، في لبنان وخارجه. شملت هذه الورشة كتبَ الفرض المارونيّ، الصلوات الخمس : الصباح، ونصف النهار، والمساء، والستّار، ونصف الليل، إلى جانب القدّاس الإلهي، والمتعيّد الماروني أي صلوات القدّيسين، شفعاء الطائفة أو شفعاء الرعايا. وكان لأمّ الله، مريم العذراء النصيبَ الأوفر والأغنى والأجمل. ومجملُ الألحان ترجمت أو استُوحيت من البيت غازو المارونيّ، والشحيم، وغيرهم من مخطوطات مارونيّة كانت، ولحظّنا السعيد، لا تزال محفوظة في مكتبات الفاتيكان ولندن وفرنسا، منذ القرن الثالث عشر.

اللافت للنظر والمهمّ في آن أنّا اليوم، إن حضرنا قدّاساً في لبنان أو في سورية أو في أمريكا اللاتينيّة أو في أستراليا أو في كندا وفرنسا، فنحن نسمع اللحنَ السريانيّ المارونيّ في اللغات العربيّة والسّريانيّة والإنكليزيّة والفرنسيّة والإسبانيّة، هو هو من دون أيّ تغيير. وكان للمجمع البطريركي الماروني 2004 – 2006‏[54]، دورَه في تكريس هذا الإنجاز الكنسيّ الكبير. أمّا فائدتُه على الرعيّة وأبنائِها فكانت أيضاً غزيرة جداً من حيث إنّ الكنائس أصبحت تمتلئُ بالمصلّين، وبخاصّة الشباب منهم، وأصبحَ بإمكان المؤمنين أن يسمعوا الألحانَ وينشدوها في بيوتهم ورعاياهم ويفهموا كلماتِها، ما يسهّل عمليّةَ التأمّل والصلاة والمشاركة الفعليّة.

ما لا شك فيه، أنّ إنشاء كلّية اللاهوت الحبريّة، في جامعة الروح القدس في الكسليك، واستلامَها شعلةَ التعليم اللاهوتي من جامعة الآباء اليسوعيّين، لتنشئة الكهنة الجُدد، وتربيتهم على مفهوم الإصلاح والعودة إلى الجذور، كانت له أيضاً مفاعيلُه الإصلاحيّة الجمّة، وبخاصّة، أنّ كلّية اللّاهوت الحبريّة، في الكسليك، تنشّئ أغلبيّة كهنة الشرق الكاثوليكيّ، وقد وصل كثيرٌ منهم إلى مراتب عالية في الكنيسة، من أساقفة ورؤساء عامّين ومدبّرين، ومبشّرين.

خلاصة

منذ نشأتها والكنيسة في تجدّد دائم، لأنّها، وبكلّ بساطة، جماعةٌ بشريّة تفاعليّة مع بعضها البعض ومع الطبيعة، تخضعُ لتأثيرات الزمنمكان، وتعمل وفق مشيئة الرّب وإلهامات روحه القدّوس.

تبدأ الاعتراضات مع جماعة الرسل أنفسهم، في مجمع أورشليم، ومعضلة المحافظة على الموروث اليهوديّ، من جهة، والانفتاح على الشعوب كافة، من جهة ثانية. وكانت الصلواتُ وصفاءُ النيّة المتركّزة على الإيمان الراسخ والحيّ كفيلة بتجنّب الانشقاقات، إذ سهّلت القبول بالطروحات الجديدة وكأنّ إرادةَ الرّب هي الموحيّة والفاعلة في الأشخاص.

صحيح أنّ المجامع المتتالية شهدت تشنّجاً أقوى وصل إلى حدّ الحرم والاتهام بالهرطقة المتبادلة، ولكنّ الكنيسة بقيت موحّدةً على إيمانها بالرّغم من كلّ الصعوبات.

الانقسامُ الكبير بين الشرق والغرب في القرن الحاديّ عشر، لم يكن ليحصل لولا تعنّتِ بعض السياسيّين والمنحازين إليهم من رجال الديّن. ومع ذلك، فمسألةُ الانبثاق (فيليوكوي) لم تؤثّر في التقارب اللاهوتيّ بين الكنيستين بخاصّة وأنّ تراثاً روحيّاً غنيّاً جدّاً كان ولا يزال يجمع الكنيستين، إنّها تعاليمُ الآباء السّريان والأنطاكيّين وغيرهم. وإذا كانت مسألةُ الخضوع إلى روما كمرجعيّة عامّة هي المشكلة، فهذا لم يؤثّر بدوره في النظام الكنسيّ الأساسيّ الذي لاحظ، منذ البدء، قيام خمس بطريركيّات كبرى (أورشليم، الإسكندريّة، أنطاكيا، بيزنطية، وروما). ولمّا أعطيت روما مقام الأولى بين الأوائل، فقد عاد هذا الأمر إلى كونها مركزَ الإمبراطوريّة، وفيها استشهدَ عامودا الكنيسة بطرس وبولس، ولم يشكّل هذا الموضوع مشكلةً في التراتبيّة أو الأحقيّة لأنّ البطاركة متساوون في المرتبة‏[55].

وما مسألةُ العصمة البابويّة، التي أتت متأخّرة جدّاً في المجمع الفاتيكاني الأوّل سنة 1870، إلّا جواباً انفعاليّاً ترداديّاً على الانشقاق الثاني في القرن السادس عشر ومخلّفاته طيلة قرون، وما أنتجه من حروب بين الأخوة. فكانت محاولة الدفاع هجوميّةً بتكريسِ المُكتسبات، من جهة، وتثبيت المؤمنين في إيمانهم، من جهة ثانية، مع العلم أنّ الكنيسة عرفت في هذه الحقبة أحباراً سيّئي السمعة، غير إسكندر السادس أو رودريك دو بورجا (1492). في المقابل تبقى هناك فسحةٌ إيمانيّة من نوع آخر: الكنيسةُ تُصان وتُدار بفعل الروح القدس وقوّته، وليس بقوّة البشر.

من ثوابتِ الأمور أنّ الكنيسةَ، مؤمنينَ ومؤسّساتٍ، عرفتْ خضّاتٍ متتاليةٍ وثوراتٍ وانتفاضات، ولكنّها بقيتْ هي الكنيسة. وكما أنّ الجسدَ يتعرّضُ لكلّ أنواع الأمراض ومنها ما يؤدّي في بعض الأحيان إلى عمليّات بتر وترميم وغيرها، فالكنيسة، جسدُ المسيح السرّي، تعرّضتْ بدورها لهذه الأمور، وبقيتْ شاهدةً حيّة للمسيح الرأس، مستفيدةً من أصوات المعترضين والثائرين، لكي تتجدّدَ وتُكملَ المسيرة. طبعاً لم تكن الأمورُ سهلةً، وبخاصة مع وجود بعض الأحبار الفاسدين، ولكنّ نعمةَ الله لم تتوقّف عند هذا الحدّ، والمعترضون لم ييأسوا، وقد كانت نعمةُ الله تحرّكُهم باستمرار حتى ولو كان الثمنُ، في بعض الأحيان، غالياً جدّاً.

من هنا كان العملُ الإلهيّ، أو عملُ الروح بإرسال أشخاص مناسبين في الوقت المناسب، مشاركةً إلهيّة مباشرة في الإصلاح من حيث إنّ هؤلاء المختارين حملوا شعار التجديد دون الخروج على طاعة الكنيسة؛ فكانوا هم حلقةَ الوصل مع الثائرين والمتطرّفين في طروحاتهم الإصلاحيّة، وأثبتت النتائجُ في ما بعد انتصارَ الخير في الكنيسة جمعاء. ومن النتائج الملموسة لهذا الأمر، قيامُ بعض المؤسّسات الدينيّة وأخرى علمانيّة بتلقّف المبادراتِ الكنسيّة الداعية إلى التجديد، فحَسّنت، وطوّرت، وبقيت اليدَ العاملةَ الفعّالة في سبيل تحقيق ملكوت الله. لذا على السلطات الكنسيّة أن تشجّع دائماً هذه المؤسّسات، وتحضنَها وتواكبَ أعمالها ومبادراتِها الفرديّةَ والجماعيّة، لأنّ الكنيسةَ الجامعة هي المُنتصرةُ على الرتابة وعلى الفساد وعلى الركود الروحيّ.

وكما في كلّ عمل مؤسّسي، يكونُ النقدُ الذاتيُّ سبيـلاً للتطوّر والبقاء، كذلك في المجتمعات الديّنية والروحيّة، نحن بحاجة مستمرّة إلى نقد ذاتيّ يحملُ لواءَه مؤمنون حقيقيّون يُصغون إلى إلهامات الروح، يستشفّون تعاليم الكتب الإلهيّة، ويعملون بصدق، لا لذواتهم ولا لزعاماتهم، ولا لأحبارهم، بل للإنسان بدرجة أولى، ولكنيستهم، ولجماعتهم المؤمنة، التي تجسّدُ عملَ الله ومشيئتَه في المجتمع البشريّ، بدرجة ثانية وأخيرة.

في الختام، أيّها الكرام، لا يعتقدَنّ أحدٌ أنّ خير جماعة المؤمنين يوفّرُه بشريّون عاديّون، بل هي دوماً نعمةُ الله الفاعلة في قلوبِ ذوي النيات الصالحة، هي التي تُجدِّدُ وتحيي. وإذا كانت نعمة الله تعمل أيضاً في البشر ومَعَهم، فالتربيةُ على الإصغاء إلى إلهامات الروح، وعلى احترام الآخر، وأخذ المبادرة بكلّ حريّة ومسؤوليّة، من أهمّ ما يمكن لرجل الإصلاح القيام به في كلّ مكان وزمان. فلنسأل اللهَ عوناً صالحاً، ومشورةً أكيدة، وثباتاً على الإيمان القادر على نقل الجبال، وتحويلِ الماء خمراً.

المصادر:

(*) نُشرت هذه الدراسة في مجلة المستقبل العربي العدد 455.

(**) يوحنا عقيقي: نائب الرئيس في جامعة الروح القدس – الكسليك (لبنان).

البريد الإلكتروني: jeanakiki@usek.edu.lb

[1] «لا أحد يقتطع رقعة من ثوب جديد ويرقع بها ثوباً بالياً، وإلّا فإنّه يمزّق الجديد، والرقعة التي يقتطعها منه لا تتلاءم مع الثوب البالي… وتوضع الخمرة الجديدة في زقاق جديدة». انظر: الكتاب المقدس، «إنجيل لوقا،» الأصحاح 5، الآيتان 36 و38.

[2] Friedrich Nietzsche, Œuvres Philosophiques complètes, VII, Par-delà bien et mal: La Généalogie de la morale, «Deuxième Dissertation», §24 (Paris: Gallimard, 1971), p. 285.

[3] خلافاً لما تؤمن به الكنيسة الكاثوليكيّة بوجود ثلاثة مصادر للاهوت: الكتاب المقدّس، التقليد الكنسي، وسلطة الكنيسة التعليميّة، قال لوثر بمصدر واحد هو الكتاب المقدّس (Sola scriptura)، مع إمكانيّة المؤمن لفهمه مباشرة؛ وهذه هي القناعة الثالثة بين أربع: الأولى، تأكيد أنّ إله يسوع المسيح هو إله محبّة يخلّص الخاطي بمشيئته ونعمته لا غير؛ الثانية لا وجود لنوعين من المسيحيّين، كهنة ومؤمنين، بل كلّنا كهنة بفعل المعموديّة، وهذا ما يُدعى بالكهنوت العالمي؛ الرابعة، الكنيسة المسيحيّة واقع روحيّ، لا تنحصر فقط بالكنيسة الرومانيّة، والمسيح قائدُها الأوحد، وليس البابا. انظر: Claudette Marquet, Les Protestants, Les Eessentiels; no. 121 (Toulouse: Milan Press, 2002), pp. 10‑11.

[4] «الشمس خير للجميع، وبمتناول كلّ العالم. وهذا ينطبق أيضاً على تعاليم المسيح؛ لا ترفض أحداً، إلّا من رفض ذاته كرهاً لذاته. إنّي، قطعيّاً، ضدّ رأي الذين لا يريدون ترجمة الرسائل الإلهيّة إلى لغة مبسّطة، كي لا يكون باستطاعة العامّة أن يقرأوها، كما وأنّ تعليم المسيح يبقى محجوباً ولا يفهمه إلّا حفنة صغيرة من اللاهوتيّين. أو أن حصن المسيحيّة مسيّجٌ بالجهل حيث هي محتجزة. […] أريد أن تكون النساء الأكثر تواضعاً قادرات على قراءة الإنجيل، ورسائل القدّيس بولس. حبّذا لو تترجم هذه الكتب إلى كلّ اللغات، بحيث يكون باستطاعة الإسكتلندي والإيرلندي، وأيضاً التركي والفاتحين المسلمين أن يقرأوها ويفهموها. هذه هي المرحلة الأولى: أن يفهموها بكلّ الوسائل المتاحة. […] ليكن بإمكان المزارع أن يغنّي مقاطع منها وهو يفلح حقله، والخيّاط أن يلحّن بعضها وهو في مشغل حياكته، أو أن يخففّ المسافر عناء سفره بقراءة هذه النصوص؛ […]». انظر: Erasme, Les Préfaces au Novum Testamentum (1516), traduites du latin par Y. Delègue (Genève: Labor et Fides, 1990), pp. 73‑77.

«حاولت أن أتكلّم الألمانيّة لا اليونانيّة أو اللاتينيّة. ولكي أفعل، عليّ ألّا أعود إلى النصوص اللاتينيّة. المرأة في عملها البيتيّ، الأولاد في ألعابهم، البرجوازيّون في الساحة العامّة، هؤلاء هم الدكاترة الواجبة استشارتهم؛ من فمهم نتعلّم كيف نتكلّم، وكيف نفسّر، بعد ذلك، سوف يفهمون عليكم ويكلّمونكم بلغّتهم. […] أصدقائي الأعزاء، عندكم اليوم كتابكم المقدّس باللغة الألمانيّة. احرصوا على استعماله جيّداً بعد موتي […]». انظر: Luther d’après Luther, «Fragments extraits de ses œuvres» par G. A. Hoff (Lausanne, 1887), pp. 119‑123.

[5] كما في رسالة لوثر إلى ألبرت، رئيس أسقفة ماينس، في 31 تشرين الأول/أكتوبر 1517، يوم علّق لوثر أطروحاته الخامسة والتسعين. قارن بـ:       Luther d’après Luther, pp. 34‑35.

[6] الكتاب المقدس، «إنجيل مرقس،» الأصحاح 2، الآيتان 27 – 28.

[7] المصدر نفسه، «إنجيل متى،» الأصحاح 5، الآية 7.

[8] المصدر نفسه، «إنجيل متى،» الأصحاح 5، الآيات 22، 28، 32، 34، 39 و44.

[9] المصدر نفسه، «رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس،» الأصحاح 3، الآية 6.

[10] المصدر نفسه، «إنجيل لوقا،» الأصحاح 4، الآية 18.

[11] المصدر نفسه، «سفر إشعياء،» الأصحاح 61، الآية 1.

[12] المصدر نفسه، «رسالة بولس الرسول الثانية إلى أهل كورنثوس،» الأصحاح 3، الآية 17.

[13] St. Augustin, Sermon 169, 11, 13 (PL 38, 923).

إنّها حريّة نتمسّك بها لأنّها عطيّة من المسيح ربِّنا: «إنّ المسيح قد حرّرنا لنبقى أحراراً…». انظر: الكتاب المقدس، «رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية،» الأصحاح 5، الآية 1. «دعينا إلى الحريّة…» (الأصحاح 5، الآية 13).

[14] […] لا أؤمن لا بالباباوات ولا بالمجامع وحدها، إذ يبدو أنهم غالباً ما أخطأوا وتناقضوا فيما بينهم. إنّي متعلّق بنصوص كتابيّة أعود إليها، وضميري مأسور بكلمات الله. [..]» انظر: Martin Luther, Œuvres, publiées sous les auspices de l’Alliance nationale des Eglises luthériennes de France et de la revue «Positions luthériennes» (Genève: Labor et Fides, 1966), tome 2, pp. 313 – 316.

«الكهنة يصمّون آذاننا بأرسطو وأفلاطون، وفرجيل، وبيتراركوس، ولا يهتمّون بخلاص الأنفس. لماذا هذا الكمّ من الكتب بدلاً من كتاب واحد يحوي الشريعة والحياة؟ أيّها المسيحيّون عليكم جميعاً أن تقتنوا إنجيـلاً، ليس الكتاب، بل روحه. (…) لا تسكن المحبّة المسيحيّة في الكتب. فكتب المسيح الحقيقيّة هم الرسل والقدّيسون، والحياة الحقيقيّة تكمن في التمثّل بحياتهم. ولكن في أيّامنا، فقد أصبح هؤلاء الرجال كتب الشيطان. يتكلّمون ضدّ الكبرياء والطموحات وهم غارقون فيها حتى آذانهم. يبشّرون بالعفّة ويصاحبون النسوة. يفرضون حفظ الصوم ويعيشون في الترف. (…) الأحبار يتمسّكون بكراماتهم ويحتقرون الآخرين. (…) لا فكر عندهم إلّا ما كان أرضياً وللأمور الأرضيّة. (…) في أزمنة الكنيسة الأولى، كانت الكؤوس من خشب والأحبار من ذهب؛ بينما اليوم، فكؤوس الكنيسة من ذهب وأحبارُها من خشب». انظر: Extrait d’un sermon de Savonarole prononcé le dimanche de l’Avent (dimanche avant Noël) de 1493.

[15] الكتاب المقدس، «إنجيل متى،» الآيات 13 – 21.

[16] مارتن لوثر، الحرية المسيحيّة، ترجمة موريس سيكل وجورج صبرا (بيروت: منشورات كلّية اللاهوت للشرق الأدنى، 2013)، ص 9.

[17] الكتاب المقدس، «رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية،» الأصحاح 4، الآية 4.

[18] المصدر نفسه، «رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي،» الأصحاح 2، الآيتان 6 – 7.

[19] المصدر نفسه، «إنجيل مرقس،» الأصحاح 10، الآيتان 43 – 44، و«إنجيل يوحنا،» الأصحاح 13، الآيات 4 – 17. ويسوع المسيح يغسل أرجل التلاميذ (إنجيل متى،» الأصحاح 20، الآيات 25 – 28).

[20] المصدر نفسه، «رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية،» الأصحاح 13، الآية 8.

[21] المصدر نفسه، «رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية،» الأصحاح 13، الآية 10.

[22] لوثر، الحرية المسيحيّة، ص 41.

[23] المصدر نفسه، ص 45.

[24] المصدر نفسه، ص 47.

[25] الكتاب المقدس، «رسائل الجامعة،» الأصحاح 1، الآية 9.

[26] «اعلموا، أيّها الرهبان، أن تعلمي الشفهي العقائدي هو كعبّارة من قصب البانبو. فالتعليم الذي نجلّه سوف يُترك. إذاً، كم بالأحرى ما لا يتعلّق بالتعليم؟» «دهامّابادا، «سوترا الماس»، «سوترا الحكمة الكاملة» المقطع 6 (تعاليم بوذا).

[27] Emmanuel Kant, Réflexions sur l’éducation, traduction, introduction et notes de A. Philonenko (Paris: Vrin, 1966), pp. 98‑99.

[28] لوثر، في التربية، رسالة موجّهة إلى المستشارين في المدن الألمانيّة سنة 1524.

Luther d’après Luther, «Fragments extraits de ses œuvres» par G. A. Hoff, Lausanne, 1887, pp. 144‑155.

[29] Erasme, Eloge de la folie, traduction de Pierre Nolhac (Paris: Editions Garnier-Flammarion, 1964), tomes LIV, p. 104

[30] «إلى جورج براندس»، في كوبنهاغن، تورينو، تشرين الثاني/نوفمبر 1888.

[31] نسبيّة الأخلاق، «البحث الأول».

[32] NGF., XIV, 24[1], § 6, Aut. 1888.

[33] NGF., XII, 2[200].

[34] الكتاب المقدس، «رسالة بولس إلى طيموتاوس،» الأصحاح 2، الآية 12.

[35] Décret du 5e concile de Latran sur la réforme de la Curie (1514), Session IX, 5 mai 1514, Léon X: Bulle de réforme de la curie, Chapitre: Des Cardinaux. «Concile de Latran V (1512 – 1517) », dans: Les Conciles Œcuméniques. Les décrets, t. II-1 (Paris: Editions du Cerf, 1994), pp. 1261 – 1269.

[36] إنّها المخطّط الأوّلي الخاص بمنابع الوحي أو أصوله (Sources de la Révélation)، التي رأى فيها راتزينغر «تحديداً لفكر معادٍ للحداثة». وقد صار تعديلُها أو إسقاطها نقطة فاصلة في تقدّم أعمال المجمع، وقد اتُّهمَ راتزينغر، على أثرها، بتسويق أفكار ماسونيّة. ولكن بما أن التصويت لم يكن بغالبيّته لمصلحة المعارضة المحافظة، فقد طلب البابا يوحنا 23 بإعادة كتابة النصّ بما يتوافق وتوجّهات الكاردينال فرينغز.

Bénoît XVI, Dernières Conversations, avec Peter Seewald, traduit de l’Allemand par Odile Demange (Paris: Fayard, 2016), pp. 156‑158.

[37] المصدر نفسه.

[38] انظر المقدمة في: المصدر نفسه، ص 13.

[39] المصدر نفسه، ص 262.

[40] Lettre Encyclique, Lumen Fidei, du souverain Pontife, François, aux évêques, aux prêtres, et aux diacres, aux personnes consacrées et à tous les fidèles laïcs, sur la foi, Vatican 2003.

إنّ سنة الإيمان كان قد حضّرها وأطلقها البابا بنديكتوس السادس عشر، وقد أنضج ثمارها خليفتُه البابا الحالي فرنسيس الذي نشر الرسالة فيما بعد.

[41] Bénoît XVI, Dernières Conversations, p. 52.

[42] المصدر نفسه، ص 53.

[43] المصدر نفسه، ص 188.

[44] المصدر نفسه، ص 191.

[45] المصدر نفسه، ص 18. مع العلم أن كتباً كلاسيكيّة كثيرة نُسبت إليه، فقد كان كونفوشيوس يردّد دائماً أنّه «ينقل ولا يخترع شيئاً من جديد. أحترم الأجداد وأؤمن بهم».

« Le Maître dit: « Je transmets, et n’invente rien de nouveau. J’estime les Anciens et ai foi en eux. […] » Les Analectes de Confucius, VII :1

[46] عن هنري دو لوباك، ص 99.

[47] المصدر نفسه، ص 100.

[48] المصدر نفسه، ص 154.

[49] المصدر نفسه، ص 250.

[50] Bénoît XVI, Dernières Conversations, pp. 267‑268.

[51] الكتاب المقدس، «رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية،» الأصحاح 10، الآيتان 14 – 15.

[52] Bénoît XVI, Ibid., p. 250.

[53] المصدر نفسه، ص 272.

[54] «انعقد المجمع البطريركي الماروني في ثلاث دورات امتدّت ثلاث سنوات بين حزيران/يونيو 2004 وحزيران/يونيو 2006، برئاسة البطريرك مار نصر الله بطرس صفير. شارك في المجمع 450 شخصاً بين مطارنة ورؤساء ومندوبي رهبانيات وعلمانيين من الأبرشيات إلى جانب ممثلي الكنائس الكاثوليكية والأرثوذكسية والبروتستانتية، وثلاث ممثلين عن السنة والشيعة والدروز. أصدر المجمع ثلاثاً وعشرين نصاً، حدّد الملف الأوّل هويّة الكنيسة المارونية وانتشارها في العالم وحضورها في الشرق، بينما تطرّق الثاني إلى بنية الكنيسة فصدرت نصوص حول البطريرك والأساقفة والكهنة والشمامسة والرهبانيات المارونية والطقوس والليتورجيا، أما الملف الثالث فناقش أموراً معاصرة في الكنيسة كالسياسة والثقافة والإعلام والتعليم والأرض…» المجمع البطريركي الماروني، النص الأول: «كنيسة الرجاء»، المقدّمة.

[55] «عندما زار البابا بولس السادس لبنان حيّاه البطريرك أثيناغوراس، في الفنار، بـ «خليفة بطرس الأقدس». وعندما جاء البطريرك إلى روما أكّد أنّ أسقف روما هو «حامل النعمة الرسوليّة وخليفة لمجموعة من الرجال الحكيمين والقديسين الذين جعلوا هذا العرش لامعاً. هذا الكرسي هو الأوّل في الشرف والمرتبة ضمن الكنائس المسيحيّة التي تشكّل جسد المسيح والمنتشرة في العالم كلّه والذي قداسته وحكمته وصراعه من أجل الإيمان المشترك للكنيسة الواحدة غير المنقسمة هو خاصة وثروة لكلّ العالم المسيحي».

البطريرك من جهته شدّد على أنّ موضوع أوّليّة روما لم يكن هو موضوع الخلاف، ولكن بعض تطبيقاته الحديثة. وقد استخدم في أكثر من مناسبة وأكثر من مرّة تعبير القديس أغناطيوس الأنطاكي «رئاسة المحبّة» في حديثه عن السلطة المعطاة لكنيسة روما.

الأرشمندريت ديمتري شربك، الوكيل الأسقفي لمتروبوليت عكار في صافيتا، عن النشرة البطريركية لبطريركية أنطاكية وسائر المشرق، العدد 9 (2009).


يوحنا عقيقي

نائب الرئيس في جامعة الروح القدس- الكسليك- لبنان.

مقالات الكاتب
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز