مقدمة:

تُؤدّي أسئلة الذّاكرة التاريخية دورًا نشيطًا في صعود نقاشات الهوية وتأجيج الانتشار المأسوي للنّزاعات الأهلية والعِرقية حول العالم، وفي العقود الأخيرة باتت الذاكرة هاجسًا ثقافيًا ضخمًا، إذْ كانت حاضرة في طليعة محاجّات العدالة الانتقالية وإعادة الإعمار بعد الصّراع وشرْعنة سياسات العنف، كما تعَدُّ ركيزة محورية لباحثي إرث [الهولوكوست]؛ وتردّد صدى ازدهار الذاكرة ليبدوَ مفتاح تنظيم العمل الأكاديمي نظرًا إلى وُرودِ دراسات الذاكرة في تخصّصات التاريخ وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا والدّراسات الثقافية؛ وعليه، حتّى ولو كان النّسيان سُلُوّان، فإنّه من المستحيل الهروب من الذاكرة.

تهدف هذه الدراسة، في مُبتغاها العام، إلى تعريف القارئ على تلاوينٍ من التوظيف السياسي للذاكرة الجماعية، وفي مُبتغاها الإصلاحي تحاول تَلَمُّسَ مسارات تنقية هذه الذاكرة منْ ما قد يلحق بها من عوالق. وتطمح الدراسة، في مبتغاها الخاص، إلى تَبْيِئةِ مفهوم الذاكرة الاجتماعية عربيًا عبر صنع وشائج يُستعانُ فيها بما جادت به قرائحُ بعض مفكّري المشاريع العربية. بناءً عليه، تتمحورُ الإشكالية الرئيسية لهذه الدراسة على النحو التالي: ما هي متطلبات صناعةِ ذاكرةٍ جماعية عقلانية معبّرة عن التاريخ الشامل ومتحرّرة من الفئوية والطبقية؟؛ ويستتبعُ ذلك طرْح التساؤلات الفرعية التالية: نظريًا؛ ما هي طبيعة الفوارق وحدود التداخل بين الذاكرة الجماعية والتاريخ؟؛ إمبيريقيًا؛ كيف يتلاعب المعتقدون في الاختيار بالذاكرة الجماعية؟

تفترضُ هذه الدراسة أنّ طيْف الذاكرة الجماعية يحجبُ مواهب التاريخ، وأنّ توسيع مُدركات العقلانية إلى حمولة الفلسفة والأخلاق والقيم سيوفّر فرصًا مؤاتية لنجاح عمل المؤرخ؛ ولأنّ الذاكرة سرْدٌ يحافظ على الماضي، أو على الأقل تُقدّم صورة انتقائية له، فهي معرفةٌ من الماضي وليس بالضرورة أن تكون معرفةً عن هذا الماضي، بمعنى أنها لا تتناسب مع التاريخ إلا في حدود ما يتمّ استذكارهُ منه.

أولًا: في دلالية ومدلولية الذّاكرة الجماعية

إنّ الجانب الأكثر بروزًا للذاكرة هو دورها في الحفاظ على المعلومات التي تمّ الحصول عليها مُسبقًا لجعلها متاحة كل ما استدعى تراكمُ الأنشطة ذلك، فعندما يتذكر المرء، على سبيل المثال، أنّ قيصر قُتل فهذا يوصف على أنه ذاكرة دلالية، وعندما يتذكّر أنه كتب شيئًا أو حضر حفلة قبل بضعة أيام فهي ذاكرة عرَضية أو شخصية، أما حين يتذكر طريقة قيادة السيارة أو العزف على البيانو فتلك هي الذاكرة الإجرائية([1])؛ فلسفيًا، قَرنَ أرسطو بين التذكّر وبين صورةٍ أو انطباع يتشكّل من الداخل، وفي “مقالٍ في الفهم البشري” كتب جون لوك بأن عدم قدرة عقل الإنسان على وضع أفكار عديدة تحت النظر والتأمل في وقتٍ واحد، تُلزمه أن يمتلك مستودعًا يُلقي فيه تلك الأفكار التي في مقدورها أن تكون ذات نفعٍ في وقت آخر. أما هوبز فاعتبرَ من يدرك أنه أدرك فإنه يتذكر، واهتم دافيد هيوم بالتمييز بين الذاكرة والمخيّلة، فعند تذكّرِ شيء ما لا نكون أحرارًا، لأننا حينها نكون مقيّدين باستحضار الكيفية التي كانت عليها الأشياء فعلًا حين تجريبها، أما في حالة المخيِّلة تكون الحرية متوافرة في إجراء التغييرات والتحويرات والرّبط والفك؛ وبينما يقول برتراند راسل بأن الذاكرة تتطلب صورة يقف توماس ريد على طرف الطيف منكرًا أي إمكانية لتعريف الذاكرة عبر الصور. وقد وضع هنري بيرغسون الذاكرة في مركز تأملاته الفلسفية، واصفًا إياها على أنها جسر بين عالم العلم المحدّد والمتجسّد والميكانيكي وبين العالم الروحي المتعذّر على التعبير عن حقائقه بلغةٍ مضبوطة، فإدراك العالم الفسيولوجي يكون مُشربّا بالذاكرة([2]).

هكذا؛ ظهرت الذاكرة كطيورٍ في أقفاص أفلاطون، وصُورٍ في مخزن ذكريات جون لوك؛ قد تتّخذ شكل أخاديد في التسجيلات الصوتية، أو صورًا في معرض، وأرشيفات نصية ورقمية في مكتبةِ العقل الواسعة؛ بقدر ما تكشف هذه الاستعارات عن التزامٍ طويل الأمد بوجود آثار الذاكرة بقدر ما تفصحُ عن عدم الوضوح بخصوص طبيعتها([3])؛ ويُحيل تاريخ جسم المفاهيم والكلمات بهذا الصدد إلى مفردتين عند الإغريق؛ منمي (Mnémé) وَأنامنيزيز (Anamnesis)؛ تشير الأولى إلى الذكرى بما هي أمر يتبدّى يكون مجيئُه إلى الذهن كانفعال، والثانية موضوعًا لمطلب يسمى استذكارًا أو تفكرًا أو استرجاعًا، لذلك تقع الذاكرة على مفترقات دلالية وتداولية، تبدو مرة موجودة ومرة أخرى مبحوثًا عنها، فعندما تطرح منمي سؤال ماذا؟ تقابلها أنامنيزيز (الاستذكار) بسؤال كيف([4])؟

إلى حدود عشرينيات القرن المنصرم كان يُنظر إلى الذاكرة على أنها عملية داخلية ترتبط بالفرد المتذكّر وتنحصر فيه؛ ويُعتبر عالم الاجتماع الفرنسي موريس هالبفاكس المؤسس الفعلي لعلم اجتماع الذاكرة، حيث شدّد على أن الذاكرة ظاهرة مُجتمعية أيضًا، وليست مجرد إرث بيولوجي تتداوله المحافل العلمية([5]). وبحسب هالبفاكس فإنّ الذاكرة الجماعية انتقائيةٌ تختلف من مجموعة لأخرى، ما يؤدي بدوره إلى ظهور أنماطِ سلوكٍ متغايرة([6])، فلا يمكن فهمُ كل ذكرى إلا إذا حدّدنا مكانها ضمن فكر المجموعة المقابلة، ولأنه لا أحد يتذكّر بمفرده نحن في حاجة دائمة إلى الآخرين من أجل أن نتذكّر، وبمجرّد أن يدرك المرء النّقشَ الحتمي للفرد في مجموعات اجتماعية فإنّ وحدة الفرد وذاكرته سرعان ما تتلاشى إلى تعدّد؛ يستعين هالبفاكس بمفهوم “الأطر الاجتماعية” وهي الأدوات التي توظّفها الذاكرة الجماعية لإعادة بناء صورة تتوافق في كل وقت مع الأفكار السائدة في المجتمع، ولأننا ننتمي إلى مجموعاتٍ عديدة في آن واحد، فإننا نتشارك عديد الذكريات المتباينة ونخسر بعضها حين نغيّر المجموعات؛ ويميّز هالبفاكس بين الذاكرة التاريخية وذاكرة السيرة الذاتية، الأولى خارجية يتمّ نقلها في الغالب من السّجلات المكتوبة، أما الثانية فهي داخلية وجماعية تَحتفظ بها مجموعة أكبر، بمعنى أنها ذاكرة أمة تفصحُ عن تسلسل الأحداث التي يتمّ تذكرها في التاريخ الوطني([7])، ويشدد هالبفاكس على تضادٍ سرمدي بين التاريخ والذاكرة الجمعية، فالتاريخ مُتموضع خارج الجماعات وهو أعلى منها، يهتم بتأصيل الفوارق والأضداد، أما الذاكرة الجمعية فلا تحتفظ من الماضي إلا بما هو حيّ أو قادر على البقاء حيًّا عند الجماعة التي تَعتنقه([8])؛ إنّ إقامة التّواريخ على قواعدِ ذاكرتها، بمعنى جعل الخبر وحدةً معرفية لبناء سردية تاريخية، من شأنه أن يثير إشكاليات جوهرية حول يقينية الخبر وصدقيته([9]).

أعطت تصورات هالبفاكس زخمًا مستفيضًا لنقاشاتٍ حول الذاكرة الجمعية والهوية بدأت في تسعينيات القرن الماضي وقادتها البنائية الاجتماعية؛ يجادل البنائي دافيد لوفينتال بأنّ المعاصرين يبنون ماضيهم انتقائيًا، ويحاجج بنيديكت أندرسون بأن لغات الطباعة وضعت أسسَ وعيٍ وطني من خلال صنع مجالاتٍ موحدة للتبادل، فـ “الرأسمالية المطبعية” ربطت الناس في مناطق متفرقة بمنطقة أكبر، وصنعت مجتمعًا وطنيًا متخيّلًا حيث لا يتعلم الناس تاريخ مجموعتهم من آبائهم وأجدادهم فحسب، ولكن أيضًا من المدارس والكتب ووسائل الإعلام.

خلافًا للبنائية الاجتماعية؛ يفترض البدائيون أنّ الذاكرة الجمعية والهوية تتشكلان على أسس الروابط البدائية من الدّم والقرابة والنسب واللغة والتاريخ والمشترك. بعبارة أخرى يتم تمرير الذاكرة عبر الأجيال، ويعتقد جيريت غونغ أنه بالانتقال من جيل إلى جيل تُخبر الذاكرة والتاريخ الأجداد والأحفاد على كينونتهم، وتكتسب الدول هويتها الوطنية، وتُوجَّهُ القيم والأغراض بهدف رسم المستقبل باسم الماضي.

تشرحُ الذّرائعية فعالية التاريخ كأداة شائعة بين النخب لترسيخ السلطة واكتساب الدعم الشعبي، وتبيّن القوة الدافعة من وراء تعبئة المجموعات العرقية لتعزيز المصالح الفردية أو الجماعية، ويرى ستيوارت كوفمان في مؤلفه الكراهية الحديثة: السياسات الرمزية للحرب العرقية أن الناس يتعلمون الكراهية العرقية دون أن تولد فيهم، وأنَّ الأفراد والمجموعات يبالغون في قوْلبة أحداث التاريخ لتتناسب مع سردياتهم الحالية، والتعليم الحكومي وسيلةُ غرس قيم المجتمع المهيمن بهدف إنتاج مواطنين مخلصين بهوية مشتركة([10]).

الجدول الرقم (1)

ثلاثُ مقاربات للذاكرة الجماعية

تشكيل الذاكرة الجماعيةالميزاتوسائل الإعلام
البدائيةتمرّ عبر الأجيال على أساس الروابط البدائية مثل الدم والقرابة واللغة والتاريخ المشتركمتوارثة، ثقافية، صعبة التغييرالقصص العائلية، الحكايات الشعبية
البنائيةيعاد بناؤها استنادًا إلى اهتمامات واحتياجات الحاضرمبنية، تمّ تعليمها، تتغير بمرور الزمنالرأسمالية المطبعية، التعليم المدرسي، وسائل التواصل الاجتماعي
الذرائعيةتُستخدم كمصادر أو أدوات لفائدة مجموعات لتحقيق أهداف ومصالحمتلاعبٌ بها، سياسية، تتغير بمرور الزمنالروايات الرسمية، الدعاية، التعليم المدرسي

المصدر: Zheng Wang, Memory politics, identity and conflict : Historical memory as a variable, Op. Cit, p14.

ثانيًا: المُعتقدون في الاختيار والتّلاعب بالذاكرة

ميّز المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف بين نوعين من التاريخ؛ تاريخ الذاكرة الجماعية المُشبع بالأساطير والمشوَّه والجامع للأزمنة، ورغم ذلك فهو واقع معيش يتقاطعُ فيه الماضي بالحاضر، وتاريخ المؤرّخين كمطلبٍ ومسار معرفي محترف يضيء الذاكرة ويساعدها على تصحيح أخطائها وانحرافاتها؛ وقد يصطدم مساعي الباحث المؤرخ بمعوّقاتٍ تُعبّر عنها الذاكرة الجماعية وتنجلي في سلوكيات ومواقف ورموز ولغة وأعراف[11]، وأحيانًا سياسات يدافع عنها من لديهم اعتقاد في أنهم مختارون.

صاغَ يوهان غالتونغ “مُركّب: الاعتقاد في الاختيار – الأساطير – الصّدمات (CMT)” كمُحدّدٍ تتفاعلُ في ضوئه هوية الدولة؛ يشير مصطلح الاعتقاد في الاختيار إلى إيمان فئة (ات) بأنّها منتقاةٌ من قوى سامية ومتعالية (مثل الله أو التاريخ) لتكون أرفعَ من غيرها، على سبيل المثال يتجلّى شعور الصين القوي في الاختيار في عديد المُسميات التي عُرفت بها الصين (Zhongguo المملكة المركزية أو الأمة الوسط، Shenzhou الأرض المقدّسة)؛ وبعملية انتقائية، تشمل الذاكرة التاريخية، يحدّدُ المعتقدُ في الاختيار ما هو صدمة (مآسي الماضي التي تُلقي بظلالها على الحاضر والمستقبل) وما هو مجد (أساطير عن مستقبل مجيد، يُنظرُ إليها على أنها إعادةُ محاكاةٍ لفترة ذهبية معينة)([12])؛ مثالًا لا حصرًا أعادت القومية الصّربية سنة 1989 تنشيط صدمةٍ منتقاة من سنة 1389([13])، كما أنّ الوعي الصيني يتأثر بشدة بـ “قرن الإذلال” الممتد من حرب الأفيون الأولى (1839 – 1842) إلى نهاية الحرب الصينية – اليابانية عام 1945([14]).

الشكل الرقم (1)

مركّب: الاعتقاد في الاختيار – الأساطير – الصّدمات (CMT)

المصدر: Zheng Wang, Memory politics, identity and conflict : Historical memory as a variable, Op. Cit, p16.

أن يقوم المعتقدون في الاختيار بأسْطرةِ الذاكرة الجماعية ليس بسلوكٍ تحتكرهُ دول متخلفة وغير ديمقراطية؛ لقد تبنّت النمسا وسويسرا أسطورة “الضحية الأولى لـ هتلر” بينما كابدت سويسرا لتُقنع العالم بأسطورة “الحياد”، غير أنّ نقاشات عامة متأخرة أبانت عن طبيعة تعاونٍ كان مبهمًا لحكومة الدولتين مع الرايخ الثالث وتواطئهم مع جرائم الحرب النازية، فبينما اندمج النمسويون طواعيةً في آلة الحرب، تعاون السويسريون، بشكل وثيق، مع النازيين في المجالَين المالي والاقتصادي؛ وفي عام 1986 كان النمسويون مع موعدِ مواجهة حقيقة ماضيهم النازي، بعيدًا من خداعات وزيْف الأساطير، عندما ترشّح الأمين العام السابق لمنظمة الأمم المتحدة كورت فالدهايم لسباق الرئاسة متباهيًا بأنه زعيم حقوق الإنسان على كوكب الأرض مُخفيًا جانبًا من سيرته الذاتية حيث عمل لمدة ثلاث سنوات كضابط في الجيش النازي، ووصل النقاش في النمسا إلى حدّ وصْف فالدهايم بـ “مجرم حرب”([15])؛ رغم ذلك فاز فالدهايم بأصوات الرئاسة.
ينخرطُ المعتقدون في الاختيار، أثناء النزاعات المُستعصية، في سرديات التمجيد والثناء على الذات، كما تُمكّنهم عدسةُ الذاكرة الجماعية من تبرير اندلاع النزاع والتحكّم في مسار تطوّره، إضافة إلى نزع الشرعية عن الخصم أو تقديم أنفسهم على أنهم ضحيةٌ لهذا الخصم، حيث يُتيحُ استدعاء صور الماضي للمجموعة تعزيز التماسك والدفاع عن الهوية وتبرير المواقف المتخّذة، وفي فترة النزاعات تعمل العداوة عمل مكبّر الصوت في الدائرة الكهربائية، إذ تؤثر عدسة الذاكرة التاريخية في الجماهير والنّخب لتأويل الحاضر وإقرارِ ما يتعلّق بالشأن السياسي؛ في الصين مثلًا هناك إحساسٌ تاريخي عميق بالإيذاء من طرف القوى الخارجية، وينسّق التعليم الحكومي مع حملات الدّعاية لبناء ثقافة انعدام الأمن الصينية الخاصة وتشبيكِ الشكّ تجاه المؤامرات التي تستهدف الصين، لذلك غالبًا ما تكون الكرامة الوطنية والشرف إطاران يستند إليهما الصينيون في فهم الأحداث؛ في مقدورِ ذكرى تاريخية حيّة أن تبعث شعلة العداوات الحالية، كما أنّ هناك رابطًا أقوى يجمعها بنشوء القوميات التي كثيرًا ما تجد مؤونتها في ما تجودُ به الذاكرة التاريخية([16])؛ تذكرُ الكاتبة الصّربية سفيتلانا سلابساتش أنّه في خريف 1985 قدّم دبلوماسي مكسيكي محاضرة في جامعة بلغراد حدّد فيها مصبّ نهر نيريتفا في البوسنة بموقعة اسطورة طروادة القديمة، بدا كلّ الحضور توّاقين لاكتشاف أنهم ينحدرون فعليًا من سلالة قديمة ومجيدة، لم تكن لهم أية نيات في إحراج المحاضر، وهكذا كانت أسطورة حصان طروادة أمرًا ضروريًا في بناء الدولة وصعود القومية، كلّ شيء بدأ من أسطورة كما تقول سفيتلانا[17].

الشكل الرقم (2)

الذاكرة التاريخية كعدسةٍ أثناء النّزاعات

المصدر: Zheng Wang, Memory politics, identity and conflict : Historical memory as a variable, Op. Cit, p29.

تعْمد الأنظمة الشمولية إلى الاستحواذ الكلّي على الذاكرة، وتتنوّع أشكال سيطرتها المُتّبعة بين محو الآثار واتّخاذ إجراءات رادعة لتخويف الشعب ومنعهِ من تقصّي المعلومات أو نشرها وإخفاء الحقائق وغسل الأدمغة عبر تلطيفِ وتنْميقِ العبارات([18])؛ تبرزُ نماذج من الذاكرة الجمعية تنطبق عليها مواصفات الذاكرة المكلومة التي أدمنت المظلومية التاريخية والاستحضار المستمر للماضي، مثلُ هذه النماذج تحتاج إلى بناء تاريخ تعددي ومتوازن لنسيان قسوةِ الجراح الغائرة([19])؛ هناك نماذج أكثر تعقيدًا وعمقًا تتحول فيها الذاكرة الجمعية إلى طبقة اجتماعية قائمة بذاتها، بكل ما تحويه الطبقة من عناصر الثروة والمهنة ونوعية الحياة والتربية والثقافة([20])، فالكفاح المريرُ الذي خاضهُ ثوريو العالم حَملهُم على ألّا ينظروا لحيواتِ البشر إلا من وجهة نظر أيديولوجيتهم الخاصة، وألّا يُقيموا وزنًا للوقائع الاجتماعية إلا في ما ارتبط بأفكارهم ومعاركهم، في مقابلِ ذلك قبعَ القسم الأعظم ممّن أُريد تحريرهم في مصيَدة الجهل بصراعاتهم وتصوّراتهم، وعاشوا دون إدراكٍ منهم حياة من العبودية؛ كان الوعي الطبقي حاضرا عند الطليعة الثورية وغائبًا لدى عامة الناس([21])؛ ولأنّ المطالب البسيطة ستكرّس حالة استتارِ الوعي، كان لا بدّ من تطوّر تاريخي يدفعهُ بإلحاحٍ إلى دخول المعترك، سواءٌ كان هذا التطوّر حزبًا ضامًّا للبروليتاريا المُصَارعة للرأسمالية أو أزمةً اقتصادية حادة، هذه التطورات ستدفع من هم غير أخيارٍ إلى التعرّف إلى وضعهم في المجتمع([22])؛ في الجزائر مثلًا يؤدّي المحاربون القدامى ضدّ الاستعمار الفرنسي دورًا في بناء الذاكرة الجماعية، وبينما كان متاحًا لهم أن يتبنّوا رؤية أوسع للمصير الوطني، نسجُوا لذواتهم روايات تاريخية خاصة بمناطقهم، الشيء الذي انعكس لاحقًا على شرعية الدولة المركزية وجعلها عُرضةً للتهديد في حقبة التسعينيات “السوداء”([23])؛ عندما تتماهى الذاكرة الجمْعية بالطبقة الاجتماعية يتحكّم الجاهُ ،وليس المال، في التفاوت بين البشر، ومهما بلغ سعي الفرد واجتهد في الكسب سيكون عليه مُتعذّرًا أن يصعد في السلم الاجتماعي، لأن السعادة والكسب يحصلُ عادة لأهل الخضوع والتّملّق، ستُجمعُ أموال الرعية لتُنفق في بطانتها ورجالها، وتدريجيًا تَنشأُ الحضارة المؤذِنة بفساد العمران([24]).

ثالثًا: فلسفة التاريخ والعقلانية في مواجهة إساءة استعمال الذاكرة

على الرغم من أنّ الهشاشة كساءٌ للذاكرة المتلاعب بها، فإنها تُنتج انحرافات وعوارض مقلقة، فالقصص التأسيسية للذاكرة الجماعية، سواء كانت قصص مجد أو إذلال، تغذّي خطابَي الخوف والتملّق، وعلى هذا المستوى تكون الذاكرة المفروضة مسلّحة، حصرًا، بتاريخٍ مسموحٍ به، ذلك التاريخ الذي يُعلّم ويُحتفلُ به علنًا أمام الجميع، فنهاية القصة لم تُبنَ إلا على لبناتٍ تَخدمُ هوية المجموعة المعتقدة في الاختيار من تاريخ يُعلّم إلى تاريخ يُحفظ وتاريخ يُحتفل به؛ في هذا الوضع من التعظيم غير المشروط للذاكرة تنمو علاقة غير متناظرة بين المُتظلّم المُدّعي على أنه ضحية وبين المؤرّخ. فبينما يكون الأول أمام العالم في موقع المَدين بديونٍ وجبَ سدادها، يجد الثاني ذاته أمام إفراطٍ في الذاكرة ما يحيل إلى سوء استعمالٍ لها، أو نقصها ما يُنبئ بسوء استعمالٍ للنسيان، وعملُ المؤرخ لا يقوم فقط على تثبيت الوقائع بقدر ما يستند إلى تجميعِ الأبعَدِ أثرًا والأكثر دلالة منها، أيْ انتقاءٌ ومزجٌ يستهدفُ الحقيقة والخير معًا([25])؛ وللمؤرّخ في ذلك أسلافٌ ألمعيّون ودروس مشجّعة، بدءًا بـ ثيوسيديد واصفِ حرب البيلوبينيز وصولًا إلى ابن خلدون الأكثر شمولية واجتماعية([26]) انتهاءً إلى إسهام مدرسة الحوليات في تحرير التاريخ من الانغلاق على الذّات عبر دفع البحث التاريخي إلى وجهتَي التاريخ الاقتصادي والتاريخ الاجتماعي([27]).

خلّفَ جورج لوكاش إرثًا منهجيًا جاذبًا يستدلّ به مؤرّخو الذاكرة الجماعية المعاصرين؛ نجح لوكاش في سرد التاريخ وتأريخ السّرد، ورفع الغطاء على أنّ الفنون والرواية، من حيث هي إحدى أدوات تصوير التاريخ، ليست إلا انعكاسًا للوضع الاقتصادي والسياسي مُقيّضةً مآلاتها بهيمنة الأيديولوجيا/ الأسطورة على جهاز الدولة([28])؛ عاد لوكاش وتساءل عن أعجوبة ارتماء ألمانيا، أرض الفلسفة، في أحضان الهتلرية؛ جزءٌ من ذلك تتحمّله معضلة سوءِ فهمٍ لعلاقة التاريخ بالفلسفة، وجزءٌ يرجع إلى اللاعقلانية كظاهرةٍ دولية للطّوْر الإمبريالي([29]).

إذًا؛ الفيلسوف المؤرّخ والعقلانية هما أساس صنع نسق الحذاقة والفطنة في مواجهة مكْر الذاكرة الجماعية؛ كثيراً ما ردّد بينيديتو كروتشه بأنّ من يَحملُ لقب مؤرخ هو فيلسوف سواء أراد ذلك أو رفضه، وعلى نقيض المؤرّخ لا يتوقّف فيلسوف التاريخ عند الأحداث الجزئية، بل يعتني أكثر بمحاولة فهم مسار الأحداث الإنسانية ككل، محاولًا إدراك عللِها الشاملة؛ ها هو القدّيس أغسطين يؤسّس لنظرية العناية الإلهية كمحدّدٍ للتاريخ وعلى جانبٍ مُوازٍ ينظّر فولتير للتقدم وتأكيد الفعل الإنساني في التاريخ([30])، وعلى الرغم من تحفّظات الجابري أنشأ ابن خلدون فلسفةَ تاريخٍ رصينة لا يضاهيها مثيلٌ في القرون القديمة والوسطى[31]، أمّا هيغل فَبَرَعَ في جغْرفة تاريخ العالم([32]).

إنّ التحرّر من التبعية للآخر، بما يشتمل هذا الآخر على من لديه اعتقادٌ في الاختيار، لا يتمّ إلا من خلال عملٍ دؤوب للتحرر من التبعية للماضي، بما يحيل هذا الماضي إلى صفاقةِ الذاكرة الجماعية؛ ولا يعني ذلك رفضَ تراث الماضي بصورة كاملة، وإنما التعامل معه بشكل نقدي؛ هكذا يؤسّس الجابري للعقلانية قرينةً مع الروح النقدية([33])؛ وما أسّسهُ الجابري، أيضًا، في ذمّ العرفان يتناسب لصنع مماحكةٍ في ذمّ سطْوةِ الميثولوجيا على الذاكرة الجماعية، أين تعبّدُ طريق الهيمنة لأدنى درجات الفعالية العقلية، فالمعتقد بالاختيار ليس بخارقٍ للعادة، ولم ينلْ هبةً من قوة متعالية، كلّ ما في الأمر أنه اِستكان لفعل العادة الذّهنية غير المراقبة، فعل الخيال الذي يتغذّى من مُعطياتِ شعورٍ حالمٍ غير قادر على مواجهة الواقع والتكيّف معه، فليلجأ، على وَهنهِ غير المرئي، إلى نسجِ عالم خيالي خاصٍ به ينتقي عناصره من ما هو متراكمٌ منْ أساطيرَ منتقاة([34]).

ليست هذهِ بدعوة إلى نسجِ كائنٍ اقتصادي مفرط في العقلانية، فحيّزُ العقلانية الإدراكية يمتازُ، هو الآخر، بمجدٍ تليد، حتّى وإنْ كان يهدف إلى شرح الأسباب التي تدفع البشر إلى اعتناق معتقدات أيديولوجية وقيم أخلاقية وأحيانًا سحرية([35]). وكما ذهب ماكس فيبر، ليس المذهب الأخلاقي في دينٍ معيّن بل السلوك الذي يحدّده هذا الدّين هو الذي ينطوي على منافع بسيكولوجية، وإنّ تنظيم الطوائف والجمعيات المسيحية، وما أحدثتهُ من قهرٍ سلطوي أبوي، وطريقة تفسيرها المتفرّدة لمبدأ طاعة الله أفضل من طاعة الناس؛ كلّ هذا شكّلَ أحد أهم الأسباب التاريخية للنّزوع نحو الفردانية الحديثة([36])؛ إذًا، هي دعوةٌ إلى الإقبال، أو على الأقل مراعاة، العقلانية الأكسيولوجية المحمولة بحُزمٍ من القِيَم.

أقرّ أنطونيو غرامشي بأنّ الإنسان يتجاذبهُ نمطان من التفكير؛ تفكيرٌ بدونِ وعيٍ نقدي ومُصادَفي غير مترابط، تُفرضُ عليه من الخارج نظرةٌ نمطية إلى العالم؛ وتفكيرٌ واعي نقدي يساهم في بناء هذا العالم، ولا ينتظرُ من المحيط الخارجي أن يُشكّل شخصيته؛ وإنّ أول ضرورةٍ من ضروريات اكتساب الوعي النّقدي هو أن يتّجه الفرد إلى وحدةٍ منطقية منسجمة بعد أنْ يرفعَ التعارض القائم بين إرثه وبين ما يكتسبهُ من عالمٍ أرقى؛ تلك هي اللحظة المبتغاة من عمل المؤرخ: الاستقلال التاريخي التّام، والتي من شروطها تعميمُ المعرفة([37]) وأنْ لا تبقى محتكرةً في فئة أو طبقة ذات حظوة؛ وفي هذا المسعى الشاق يكون الاحترازُ واجبًا، لأنّ التاريخ ليس قضية المؤرخ وحده، بل هو هامٌّ لكل المجتمع؛ التاريخ مفهوم خطير يسيرُ دومًا بعكس الاتجاه العادي في المجتمع، هو إصلاحيٌ إذا عمّ الجمود ومحافظٌ إذا عمّ التغيير؛ وبما أنه خطير فهو أيضًا معرّضٌ للخطر، خطرَ الذّوبان في التقليد ما يجعلهُ محفوظًا غير مفهوم، وخطرَ الذّوبان في حاضر يتطلّع باستمرار إلى مستقبلٍ متجدّد([38]).

خاتمة

عُنيتْ هذه الدراسة، بدْءًا، بسرْد تطوّر الجهاز المفاهيمي للذاكرة إجرائيًا وفلسفيًا، واحتفتْ بالمنعطف البنائي – الاجتماعي الذي ولجتْ إليه الذاكرة من بوابة أنها أصبحت جماعية؛ وعادت الدراسة جدليًا لتبيّن أن موريس هالبفاكس لم يبقَ وحيدًا في الميدان ، وإنْ كان صاحب السّبق، لأنّ البدائية والذّرائعية قد دخلتَا للتّوّ على خط التّضاربات النظرية الكبرى في حقل الذاكرة الجماعية؛ وعلى خلفية التمييز بين تاريخ المؤرخين وتاريخ الذاكرة الجماعية سطعَ مُركّب الاعتقاد في الاختيار الذي صاغَ شروحاً عن تلاعبٍ واحتكارٍ وطبْقنةٍ لهذه الذاكرة في سياقات الانتقاء للصدمات والأساطير؛ ولتجاوز وصايةِ هذه الذاكرة أرشدت الدراسة إلى نماذج منهاجية من شأن توطينها أن يكون منارةً للمؤرخ في سبيل تحقيق الاستقلال التاريخي التام؛ مناهج تشمل أعمال جورج لوكاش ومدرسة الحوليات وفريديريك هيغل وابن خلدون ومحمد عابد الجابري، ونماذج تستند أساسًا إلى رؤية فلسفية للتاريخ تستهدف عقلنته، وبما يجود به مُركّب العقلانية من مرونةٍ ونَأْي عن الجمود.

 

قد يهمكم أيضاً  التاريخ المفاهيمي: مقاربة إيبيستيمولوجية

#مركز_دراسات_الوحة_العربية #التاريخ #التأريخ #الذاكرة_الجماعية #فلسفة #العقلانية