مدخل:

تكشف مسارات بناء الدولة القومية في الوطن العربي عن عملية بيولوجيا سياسية. لذا وجب تحليلها ضمن هذه الشروط من أجل فهم أن التهجين الذي أصاب الحياة العربية بمختلف جوانبها، هو بسبب أن عملية البناء ليست متناقضة ولا عرَضية، ولكنها من صنع سلطة بيولوجية تأسست منذ البداية على إدارة الحياة لمختلف الفئات والطبقات الاجتماعية، من خلال التحكم في الحياة والموت. وإذا بقي تحليل الظاهرة المجتمعية في الوطن العربي بعيداً من هذا السياق، فلا يمكن مناقشة قضايا العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين المواطنة وتقسيم الثروة داخل المجتمعات العربية.

ورغم التطورات الدراماتيكية التي عرفتها بعض البلدان العربية، في إطار ما يسمى بالربيع العربي، إلا أنه ما من شك في أن الحراك الديمقراطي الذي عرفته هذه المنطقة شكّل لحظة تاريخية لشعوب المنطقة من أجل الانعتاق من الحالة المزرية التي كانت تعانيها على جميع المستويات. ورغم عدم وضوح الرؤية حول حيثيات «الربيع العربي» ومآلاته، إلا أنه عمل – في لحظته التاريخية – على تحريك مؤشرات التحليل السياسي، بما ينبئ بتحولات جذرية على المستويات النظرية والتطبيقية لعلم السياسة. وهنا كان دور الأدبيات السياسية الجديدة في تحليل هذه الظاهرة، بطريقة تخرج عن المسلَّمات التي رهنت شعوب المنطقة في السعي إلى أي تغيير. ومن أهم المداخل النظرية لتحليل ظاهرة الحراك العربي تلك الإسهامات النظرية النيوماركسية لكل من أنطونيو نيغري (Antonio Negri) ومايكل هاردت (Michael Hardt)، في إطار نظريتهما حول الإمبراطورية (Empire) والتعدد (Multitude)(**).

يسعى هذا البحث إلى تطبيق الإطار النظري لنيغري وهاردت على الأحداث والتطورات التي عرفتها البلدان العربية. ويمكن الإشارة هنا إلى أن موضوع الدراسة يركز على الحراك السلمي، ويستثني مساعي العسكرة والتحالفات مع الإمبراطورية العالمية التي انتهجتها بعض الانتفاضات العربية، ما نزع عنها غطاء المقاومة وأدرجها في إطار السياسة البيولوجية للإمبراطورية.

أولاً: الإمبراطورية والتعدد في عصر العولمة

لقد ربط مايكل هاردت وأنطونيو نيغري صعود الرأسمالية العالمية بصعود الإمبراطورية في صيغتها المفردة. وخلافاً للأشكال للقديمة للإمبراطوريات الاستعمارية، فإن إمبراطورية الوقت الراهن غير مركزية وغير إقليمية، وقد تحكمت في حركة فواعلها، وخلقت أشكالاً جديدة للسلطة البيولوجية.

1 –
الإمبراطورية والسلطة البيولوجية ونشوء التعدد

تشير الإمبراطورية إلى نظام عالمي جديد أزيحت فيه الدولة القومية والإنتاج الصناعي لمصلحة الضرورات اللامركزية وغير الإقليمية للتدفقات عبر الوطنية لرأس المال والعمل والمعلومات. وهو النظام حيث الإنتاج البيولوجي للسياسة – خلق الحياة الاجتماعية، والقيم، والمفاهيم، والعلامات التجارية، والمعلومات، والصور، والسلع غير المادية – يفرض الهيمنة خاصةً في سياق تلاشي الحدود الجيوسياسية والثقافية. ومن خلال مجموعة من الشبكات المرنة والمتقلبة، فإن الهياكل المؤسسية التأديبية لمرحلة الحداثة تتمدد وتنتشر، والعادات والممارسات الإنتاجية تصبح متشابكة مع أجهزة القيادة والسيطرة (الحكومية، البيروقراطية، وسائل الإعلام) وتتغلغل في الحياة اليومية وتعمل مباشرة على أجساد المواطنين وأدمغتهم.

لقد أكّد جيل دولوز (Gilles Deleuze) هذا الانتقال التاريخي والسياسي من المجتمع التأديبي إلى مجتمع السيطرة، من خلال التحول الجذري من السلطة المركزية للمؤسسات (مثل السجون والمدارس والمستشفيات، والأسرة… إلخ)، نحو شبكات جذمورية للسيطرة، تمتد إلى ما هو أبعد من انتشار تأديبي صريح للسلطة نحو أشكال أكثر دينامية وضمنية في ممارسات الحياة اليومية [1].

وفقاً للتعريف الذي قدّمه هاردت ونيغري، فإن السلطة البيولوجية هي شكل من أشكال السلطة تنظم الحياة الاجتماعية من داخلها، وتتبعها، وتفسرها، وتستوعبها وتعيد ترتيبها. في هذا المجال، يمكن لهذه السلطة أن تحقق سيطرة فعالة على الحياة بأكملها للسكان، فقط عندما تؤدي وظيفة حيوية مكتملة، حيث يحتضنها كل فرد وينشط في إطارها من محض إرادته. وتتمثل أعلى وظيفة لهذه السلطة في استثمار الحياة، ومهمتها الأساسية هي إدارة الحياة. وبالتالي تشير السلطة البيولوجية إلى الحالة التي يكون فيها الشيء الذي على المحك مباشرة في مجال السلطة هو إنتاج وإعادة إنتاج الحياة نفسها.

من جهة أخرى، يصف نيغري وهاردت التعدد كبروليتاريا جديدة، كفئة واسعة تضم كل الذين يمثلون عملاً مباشراً وغير مباشر، وأنه مستغلٌّ من طرف الأنماط الرأسمالية للإنتاج وإعادة الإنتاج. وبما أنهما يريان أن البروليتاريا وصلت إلى مرحلة النمو التام والناضج، فقد توقفا عن استخدام كلمة الطبقة العاملة، فهي – حسبهما – كان لها كل شيء ولكنها تلاشت عن كل شيء[2]. وحسبهما أيضاً، فإن السياسة البيولوجية الإمبراطورية لرأس المال تمثل عملية مدفوعة من الأسفل من طرف التعدد، وعليه تدخل الإمبراطورية صراع رأس المال من أجل ترويض التعدد، وهو ما يعطيها الاستدامة والقوة بسبب مميزات الإبداع التي يتصف بها التعدد، وذلك بسبب أن التحولات التي حصلت من الصناعة البسيطة إلى الصناعات الواسعة النطاق، من رأس المال النقدي إلى التغيرات البنيوية على المستوى فوق القومي وعولمة الأسواق، فإن كل مبادرات قوة العمل المنظمة هي التي تنظم أوجه التطور الرأسمالي.

2 – التعدد والبيولوجيا السياسية

يمثل مفهوم «التعدد» حسب هاردت ونيغري «مجموعة من الفردانيات»، والفردانية تعني فاعلاً اجتماعياً، إذ إن اختلافها لا يمكن أن يمتد إلى تشابه مع الفردانيات الأخرى. وعليه، فالتعدد يتكون من مجموعة من الفردانيات التي تتقاسم حالة متشابهة تتمثل بـ: الإمبراطورية؛ التطلع المشترك والديمقراطية الراديكالية. من هنا يؤكد هاردت ونيغري أنه اعتباراً من أن التعدد ليست له هوية (مثل الشعب) وليس موحداً (مثل الجمهور)، فإن الاختلافات الداخلية للتعدد تقوم باكتشاف «المشترك» (The Common) الذي يتيح لها التواصل والعمل معاً [3]. وهذا ما يسمى بالإنتاج البيولوجي للسياسة، وهو النموذج المهيمن الذي لا ينطوي فقط على إنتاج السلع المادية بالمعنى الاقتصادي البحت، ولكن أيضاً لأنه يؤثر ويساعد على إنتاج جميع جوانب الحياة الاجتماعية، سواءٌ أكانت اقتصادية أم ثقافية أم سياسية.

إن التطور الذي عرفه التعدد في كونه «حركة الحركات» كما اتضح في مطلع القرن الحالي، لم يضعه فقط على أساس أنه يمثل حركة جماعية مساواتية وتحررية تشترك في النضال السياسي ضد القوة الإمبريالية، ولكن يضعه – في الوقت نفسه – بمنزلة السبق لمجيء الديمقراطية المطلقة التي تعزز حرية التعبير للاختلافات وتواصلها المتساوي، والقضاء على الإقصاء والسيطرة والعلاقات العدائية. إن مشروع التعدد لا يعبر فقط عن الرغبة في عالم تسوده المساواة والحرية، ولا يطالب فقط بمجتمع ديمقراطي عالمي مفتوح وشامل، ولكن أيضاً يوفّر وسيلة لتحقيق ذلك[4]. وذلك لأن التعدد يمثل شبكة مفتوحة تضمينية حيث كل الاختلافات يمكن التعبير عنها بِحُرية وعلى قدم المساواة، وهو شبكة توفر وسائل التواصل حتى نتمكن من العمل والعيش المشترك. إن الذوات الاجتماعية للتعدد الناشئة من الإنتاج غير المادي تجعل من الممكن اليوم تحقيق الديمقراطية الحقيقية.

من خلال هذا التحول الجذري في المفاهيم السياسية، هل يمثل التعدد الموضوع السياسي الجديد (والتاريخي)؟ إن التعدد اللاإقليمي، الذي يعمل على نزع الطابع الإقليمي، يجمع كل الأفراد الذين يخضعون – بطريقة أو بأخرى – للأشكال الجديدة لرأس المال العالمي. وهنا تقوم قوى الإمبراطورية بإنتاج طبقة جديدة بالطريقة نفسها التي أنتجت بها الرأسمالية الصناعية في ما سبق طبقة البروليتاريا. إن التعدد حسب نيغري هو اسم لمتلازمة؛ فهو مجموعة من الفردانيات غير الممثّلة، وتعددية غير قابلة للمقايسة، نشطة ومتحركة دائماً. بمعنى آخر، إن التعدد يمثل سلطة. وعلى هذا الأساس، فإن التعدد لا يحمل هوية ولا يطمح إلى التوحيد، بل إنه يمثل تعددية للاختلافات المفردة تتألف من جميع الأشكال المختلفة للإنتاج الاجتماعي، ومن أهم خصائصه: التنظيم في شبكات؛ والبرهنة على محدودية النماذج التقليدية للنشاط السياسي؛ والعمل بصورة مشتركة[5]. وهنا تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد تناقض بين الفردانية والوجود المشترك، بل بالأحرى يمكن الحديث عن مصادفة بين الفردانيات والمشترك.

وتتلخص أطروحة هاردت ونيغري في أن النموذج الجديد للسلطة، الذي يسميانه «الإمبراطورية» – بالرجوع إلى النموذج اللامركزي الموسع للإمبراطورية الرومانية – يقوم بإنتاج شكل جديد من الذوات، وهي ذوات: (1) ضرورية لتغذية السلطة وإعادة إنتاجها وللتذويت (Subjectivation)؛ (2) تكون ضد السلطة في عملية التأسيس الذاتي. وتكمن قوة تحليلهما في إظهار أن هاتين الصورتين للذات هي نفسها، لأن السلطة الجديدة هي سلطة بيولوجية، أي سلطة تعم كل ثنايا الحياة من أجل تحقيق أقصى قدر من القدرة، من خلال السيطرة على المعلومات والتحركات والرغبات، وتقوم باستغلال كل من يقاومها[6]. وفي إطار نظام السلطة البيولوجية، تصبح الحياة ذاتاً وموضوعاً للسياسة في آن واحد، أي أن الحياة يمكن أن تتحول ضد السلطة وتوجه الإمكانات التي تريد السلطة استغلالها. وبالتالي، فإنه في مواجهة ذاتٍ معولمةٍ وموحدةٍ منتجة من طرف الإمبراطورية يمكن أن تقوم ذاتٌ معولمة أيضاً، ولكنها تجد في ذاتها احتمالات الحياة.

3 – التعدد والديمقراطية الراديكالية

لقد اشترك معظم المفكرين الراديكاليين في إحداث القطيعة في ممارسة السلطة وفق الأسس الديمقراطية الليبرالية، بحيث إذا كانت الديمقراطية الحديثة (الليبرالية) هي وليدة الحرية، فإن الديمقراطية الراديكالية اليوم تريد أن تكون وليدة المشترك[7]. وبما أن نيغري وهاردت يرفضان الاستراتيجيات القائمة على سلطة الدولة، فإن نظريتهما في الديمقراطية تقوم على أساس استراتيجية حول التعدد كمشروع منظم ذاتياً لإعادة التكوين السياسي. وهما يرفضان الأشكال الحديثة للديمقراطية ويؤكدان أن مفاهيم «الجمهور» و«الشعب» وضعت من طرف قواعد المجتمع لإعطاء الشعب نوعاً من السيادة، بينما السبب الحقيقي هو وضعه تحت الرقابة، ولهذا وجب العمل وفق قواعد جديدة يمكن أن تؤسس لمشروع ديمقراطي جديد[8]. وبسبب الفساد الذي تعرفه الديمقراطية التمثيلية الحديثة، فإنهما يدعوان من خلال التعدد إلى توجيه مفهوم الديمقراطية نحو مفاهيمها الراديكالية والطوباوية: الديمقراطية المطلقة بأن يحكم أي شخص من طرف أي شخص.

حسب الاعتقاد السائد لدى الديمقراطيين الراديكاليين، فإن الديمقراطية الحقيقية لا توجد في المجتمع المعاصر بل يوجد صراع من أجلها، وبما أنها غير ممكنة، فإن الناس مستغَلون باستمرار ومضطهَدون ومحرَّضون بعضهم ضد بعض. ومن أجل وضع الديمقراطية في حدود الممكن، فإن الناس يحتاجون إلى تطوير قابليتهم ليحكموا أنفسهم بأنفسهم. يؤكد نيغري وهاردت أن القوة الداعمة الأساسية للمقاومة الحديثة وصراعات التحرر هي رغبة غالبية الشعب في الديمقراطية الحقيقية، وأن بديله الديمقراطي الجديد قائم على التنظيم الذاتي للتعدد، الذي يضمن ثورة ناجحة غير ناتجة من الاستيلاء العنيف على سلطة الدولة، ولا الفوز في الانتخابات، وإنما من خلال الأداء الديمقراطي للتعدد. إن هذا هو جوهر الثورة الديمقراطية، هذه الثورة التي لا تنجح إلا إذا رغب فيها غالبية الشعب، وكان قادراً على صنعها. فالتحدي الحقيقي في مواجهة الديمقراطية الليبرالية ليس تطوير قوة مضادة، وإنما توفير قوة خلّاقة تكون بديلاً أصيلاً لهذه الديمقراطية. وفي هذا الإطار لا تحمل الديمقراطية الحقيقية شكلاً دولتياً، بل مجموعة من العادات المطوّرة من خلال التعاون والتواصل المثمّن لحرية الأفراد والمفكّك للتباين الاجتماعي، والمحوّل للوضعيات والبنى الاجتماعية والمعزّز لتقرير المصير الاجتماعي.

إن نمو الديمقراطية التشاركية في إطار العديد من الحركات الاجتماعية سيمكّن حركة مناهضة العولمة من الاعتماد على التنظيم الذاتي للشعب، ويمثل هذا الاتجاه نوعاً من الدولنة الديمقراطية التي تسعى إلى تجاوز المفهوم الصلب للدولة، بطريقة غير محددة عن طريق بنية تدرجية وغير مراقبة من طرف قيادة أقلية.

4 – التعدد و«الاستخدام الديمقراطي» للعنف

تتضمن ثلاثية «الإمبراطورية» لمايكل هاردت وأنطونيو نيغري (الكتب الثلاثة التي نشرها الكاتبان هي: الإمبراطورية؛ التعدد؛ الكومنولث) تحليلاً وإدانة للعنف القمعي – المادي منه أو الرمزي – الذي تقترفه الرأسمالية الاستعمارية العالمية الأحادية ضد القوى الإبداعية التعددية للطبقة العاملة ما بعد المادية الناشئة. وتتضمن الثلاثية كذلك المفهوم الثاني للعنف، الذي يحمل هو الآخر نوعين: مادياً ورمزياً؛ باعتباره عملية ذاتية الإبداع للتمايز الذاتي الاجتماعي تقوم به الطبقة العاملة لتفصل نفسها أنطولوجياً عن المعتدين عليها. وعليه، هناك مفهومان للعنف، الأول قمعي والثاني إبداعي.

ويمكن فهم العنف الإبداعي من خلال فهم نيغري للأنطولوجيا، والمستمد من تفسيره لأفكار سبينوزا، باعتباره عملية عدائية للكينونة. في أعمال كثيرة لأنطونيو نيغري، خاصة كتاب الشذوذ الوحشي[9]، يصف سبينوزا باعتباره المنظّر – النموذج للحداثة بالنسبة إلى موضوع الإبداع الذاتي الاجتماعي، حيث إن الطبقة العاملة، التي وصفها في هذا العمل باسم «التعدد»، تخلق نفسها من خلال عملية عدائية، عنيفة في بعض الأحيان، للتمايز الذاتي الاجتماعي عن الطبقة الحاكمة. وهكذا، فإن الديمقراطية تقوم على السلطة الأنطولوجية للتعدد، وتنشأ في إطار عملية وجودية وإبداعية للصراع الاجتماعي. وفي كتاب ماركس ما وراء ماركس[10]، يفسّر نيغري كتاب ماركس حول الاقتصاد السياسي[11] بأنه محاولة ماركس المنقوصة للذهاب إلى أبعد من فكرة المادية الجدلية، في إطار مفهومها المتعلق بالانتهاء الغائي، نحو مفهوم أكثر انفتاحاً لإبداع مادي أنطولوجي وغير غائي بل تعددي. في أعمال كثيرة لنيغري يتم وصف الإبداع الذاتي الاجتماعي كعملية عدائية من خلالها تفصل الطبقة العاملة نفسها وجودياً عن المعتدين عليها في عملية تتضمن العنف. وعليه، فإن فكرة العداء الأنطولوجي، الذي يتضمن العنف في بعض الأحيان، هي موضوع ثابت في معظم أعمال نيغري.

عندما تتم مناقشة العلاقة بين التعدد والإمبراطورية الرأسمالية العالمية، تصبح فكرة الإبداع الذاتي كتمايز ذاتي تنافري واضحة. وهناك العديد من الاستنكارات من العنف الرأسمالي في كتابات نيغري وهاردت، ولكن هناك أيضاً دعوات متكررة للعنف الإبداعي، وهما يشدان على أساس أنطولوجي جديد للتنافر حيث يظهر التعدد تنافرياً وإبداعياً[12]، ويؤيدان إنتاج الذاتية كسلطة من خلال الرفض والمقاومة والعنف والتأكيد الإيجابي للوجود. أحياناً هما يؤكدان السلمية من خلال الدعوة إلى «الحرب ضد الحرب» ​​التي هي عملية ديمقراطية غير عنيفة، ولكن بعد فترة وجيزة وافقا على «الحرب التأسيسية» التي تخلق الذوات الجديدة. فالتعدد يتطلب إضفاء الشرعية على سلطته الذاتية والعنف، وهو ما يؤدي إلى القتال ضد الإمبراطورية[13]. يمكن للعنف الديمقراطي فقط الدفاع عن المجتمع وليس إنشاءه، وهذا يكون فقط بسبب أن فاعلي العنف الديمقراطي يجب أن يكونوا ذاتيي التكوين، والمطلوب هو الإرادة الديمقراطية للسلطة.

ثانياً: الحراك الديمقراطي العربي كمظهر للصراع بين الإمبراطورية والتعدد

تعمل الرأسمالية في إطار الإمبراطورية على دمج السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية، في الوقت نفسه الذي يدفع فيه إلى الصدفة بين الأخلاق والقانون، وهذا ما يمثل بامتياز نموذج السلطة البيولوجية، لأنه يميل إلى التحكم، ليس فقط في التفاعلات الإنسانية، ولكن أيضاً يسعى إلى التحكم في طبيعة الإنسان (معارفه ومشاعره).

1 – المجتمعات العربية: من مجتمعات التأديب إلى مجتمعات السيطرة

في الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين ظهرت قوى الرأسمالية الليبرالية الجديدة بشكل بارز جداً في منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وبدأت في تقويض نظام السلطة التأديبية من خلال استكمال مؤسساتها وتثبيت أيديولوجياتها على أساس نظام جديد للسلطة البيولوجية. لا يمكن للنظام التأديبي في البلدان العربية أن يقاوم نظام التحكم للسياسة البيولوجية العالمية، خاصة في إطار انتشار مقاهي الإنترنت، والتجارة الإلكترونية، والأسواق الافتراضية، ومرونة العمل المتخصص، وأنسنة مؤسسات الدولة والتعددية المؤسسية… إلخ. وفي إطار هذا النظام الجديد للتحكم، فإن السكان غير معرّضين لحالات حجز، كما كان في إطار السلطة التأديبية، ولكنهم يتعرضون لرقابة مستمرة واتصالات فورية تجعل منهم مجرد أرقام في إطار عملية كبيرة للسيطرة البيولوجية، وهذا هو الانتقال من مجتمع التأديب إلى مجتمع السيطرة.

على سبيل المثال، يرتكز النظام التونسي السابق على السيادة والحوكمية حسب مفهوم فوكو، ومن بين أهم امتيازات السيادة هو حق الحياة والموت، وفي حالة وقوف الذوات ضد السلطة السيادية، تمارس عليها سلطة الموت[14]. إن الحق السيادي في الحياة أو الموت هو حق فعل الموت أو الترك للحياة. أما الحاكمية، فهي تشكل آلية للسلطة في الدول الغربية منذ القرن السابع عشر، حيث النمط الذي يشكل جزءاً رئيسياً من وظائف المراقبة والرصد وزيادة القوى الخاضعة لها وتنظيمها، وهذا ما يتجلى جلياً في ممارسات معظم الأنظمة العربية.

لقد أصبحت الحرب نظاماً للسلطة البيولوجية، أي شكلاً من أشكال الحكومة، لا تهدف فقط للسيطرة على السكان، ولكن أيضاً لإنتاج وإعادة إنتاج جميع جوانب الحياة الاجتماعية. إن فحص تنظير فوكو للسلطة البيولوجية أمر مهم، ولكن الأهم الإشارة إلى إدراج هاردت ونيغري لمفهوم «السيطرة على السكان» في تعريفهما له بشكل يتسق مع الجانب المهمّش لمفهوم الحاكمية، وهو الجانب الذي يعني طريقة الحكم حيث تندرج استراتيجيات السلطة السيادية فيه في إطار السلطة البيولوجية، وهو ما يعني تضميناً للسلطة السيادية، بدلاً من الغياب الكلي لها في إطار استراتيجيات مرتبطة بالحاكمية الليبرالية.

تكتيك آخر متاح للأنظمة العربية، مثلها في ذلك مثل الإمبراطورية، وهو منظمات المجتمع المدني، المعروف في الثقافة العربية بالحياة الجمعوية، التي تمنع من تشكيل التنظيمات الحرة من خلال تقييد عملياتها والمطالبة بالرقابة الحكومية. وتتم الرقابة الحكومية أيضاً في وسائل الإعلام، ما يحد من وجهات النظر المعارضة ويفرض أوامر نازلة من قمة الهرم السياسي[15]. وتتمظهر السلطة البيولوجية داخل المجتمعات العربية، وتعمل الأنظمة السياسية على هيكلتها، حيث يتجاوز مجتمع السيطرة المجتمع التأديبي. وهنا تنتج مظاهر السلطة البيولوجية مجتمعاً للسيطرة وتؤسّس للطاعة الكاملة بين المواطنين، ليس فقط من خلال العديد من المؤسسات داخل المجتمع التأديبي، وإنما من خلال السيطرة الكاملة على العلاقات الاجتماعية. وتزيد سلطة الاستثناء من خلال استخدام القوة من أجل تحقيق الطاعة الضرورية لهذه البنية السلطوية للإمبراطورية.

لقد خلقت عملية التضحية بالنفس التي قام بها البوعزيزي ذاتية جديدة بين الشعوب العربية، وذلك لإثبات الرفض المطلق للإمبراطورية. وعلى أساس أن طبيعة الجسم الواحدة للمجتمع، نتيجة السلطة البيولوجية والإمبراطورية، فقد سمحت الثورة التونسية للدخول في عالم السلطة البيولوجية وخلق موجة من التظاهرات المخبرية في جميع أنحاء المنطقة العربية. وقد تطورت حادثة البوعزيزي وبثت روحاً ثورية لدى الشباب العربي، الذي يمثل أكبر فئة عمرية في مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وهذا فوكو يشير في آخر دروسه في «الكوليج دو فرانس» أنه يأتي اليوم الذي يجب القيام فيه بتأريخ ما يمكن أن نصطلح عليه بالذاتية الثورية[16]. في هذا المجال، فإن غالبية الشباب العربي يتمتعون بدرجة عالية من التعليم، وهم شباب ضاقوا ذرعاً بالسياسات المتبعة التي لم ترقَ إلى مستوى تحقيق تطلعاتهم كمواطنين. وبالتالي، فإن هذا الحراك لا يحمل فكرة واحدة، بل يتفرع إلى العديد من الفردانيات، التي تحمل الكثير من الاختلافات الفردية، والتي تساعد على تمكين المواطنين وخلق علاقات قوى اجتماعية الجديدة. لقد خلق المواطنون في مختلف الأقطار العربية شعوراً مشتركاً جديداً يحمل العديد من مشاعر الإحباط والحاجة إلى بُنى سياسية ديمقراطية من خلال تعبئة المشترك، الذي يكوّن عنصراً أساسياً في إظهار البيولوجيا السياسية.

2 – السلطة البيولوجية للأنظمة العربية

إذا أخذنا في الاعتبار تقلبات الفلسفة السياسية المعاصرة من ناحية نجاح الكتّاب، يظهر معطى واحد واضح ومهيمن، وهو تحول الاهتمام مؤخراً من الفلسفة السياسية لأنّا أرندت (Hannah Arendt) نحو فلسفة ميشيل فوكو. وإذا كان ممكناً ترجمة هذا التحول في منظور الفئات المفاهيمية، فيمكن تأكيد التحول من نموذج «الشمولية» في إطار كتاب أرندت لعام 1951‏[17]، نحو نموذج «السياسة البيولوجية» المطوَّر من طرف فوكو في منتصف سبعينيات القرن الماضي. ولكن العنصر المهم في هذا التحول هو الوضع الخطي والمستمر الذي ميّز حركة هذه الأفكار[18]. إن نموذجي الشمولية والسياسة البيولوجية لا يظهران كلغتين مفاهيميتين غير متجانستين، بل يظهران في وضع تركيبي تطابقي من خلال نوع من التواصل التأويلي يجعل من النموذج الثاني كاستمرار أو تكملة للنموذج الأول.

وهنا يمكن طرح التساؤل التالي: هل يمكن لمفهوم السياسة البيولوجية أن يكون المجال الذي يسمح بإعادة الاعتبار للتضامن العميق بين الديمقراطية (الليبرالية) والشمولية؟

على أساس التلاعبات الأيديولوجية، التي عملت على معاكسة الديمقراطية والشمولية، لتعزيز الأولى على حساب الثانية بدون تمحيص وتدقيق، وعلى أساس ديمومة ممارسات الإبادة الجماعية ومعسكرات الاعتقال في العالم غير الاستبدادي المعاصر، والانزعاج من التطورات الحالية للمجالات البيولوجية والإيكولوجية، يجب علينا النظر في حقيقة أن نفي مبادئ حكم القانون الديمقراطي من طرف الأنظمة الشمولية في القرن العشرين كان لا يتعارض مع أخذ هذه الدول منطوقات تطبيقية تنبع من صميم دولة القانون[19]. إذا كان هذا ممكناً فإنه، وفقاً لأغامبين، في أي دولة حديثة، هناك نقطة تحدد لحظة ما حيث يوجد قرار يتعلق بالحياة يصبح قراراً متعلقاً بالموت، إذ إن السياسة البيولوجية يمكن أن تنعكس إلى سياسة الموت[20]. ولكن فوكو الذي يعود إليه الفضل في التنظير للبيولوجيا السياسية، لم يوفّق في التفكير في الطابع المركزي لمعسكرات الاعتقال النازي. وخلافاً لأنّا أرندت، لم يحقق فوكو إلا قليلاً حول سياسة الدول الشمولية الرئيسية في القرن العشرين. في المقابل، أحدث منظور السياسة البيولوجية النقص والقصور لدى أرندت عند تحليلها لمعسكرات الاعتقال. حتى في كتاب الحالة الإنسانية[21]، الذي يعطي دوراً مركزياً لانتشار الحداثة من خلال عملية الحياة، فإن أرندت لم تحدد أي صلة صريحة للسياسة البيولوجية مع تحليلاتها حول أصول الشمولية. من خلال تطوير مفهوم الحياة المكشوفة في علاقتها بالسلطة السيادية، والحياة المتحكم فيها من طرف السياسة في شكل استثناء، وتحليلها على أساس أنها استثناء من الداخل، أراد أغامبين تقريب وجهات النظر بين أرندت وفوكو من أجل دعم الأطروحة التاريخية – الفلسفية حول التواطؤ السري والجوهري بين الديمقراطية والشمولية.

من أجل فهم العلاقة بين السلطة البيولوجية والشمولية يجب الاطلاع على حجج أغامبين حول نموذج «المعسكر»، حيث إن الإنجاز العظيم لأرندت حسبه هو تحديدها لخصوصية الشمولية والمعسكرات، التي تبقى مختلفة عن ظاهرة السلطة البيولوجية، والعلاقة بين السلطة البيولوجية والشمولية تظهر من خلال الظروف السياسية التي تحدد العلاقة بين «الحياة البيولوجية» (zoé) و«الحياة السياسية» (bios). وتظهر السياسة البيولوجية عندما تقرر الدولة القيام مباشرة، بالإضافة إلى وظائفها العادية، بوظيفة الحياة البيولوجية للأمة[22]. وهنا يشير أغامبين إلى أن المعسكرات تمثل فضاء السياسة البيولوجية المطلق، حيث لا يوجد أمام السلطة سوى الحياة البيولوجية النقية من دون أي وساطة.

3 – البيولوجيا السياسية للحراك الديمقراطي العربي

إن القضية المركزية في مجال الفعل الثوري للتعدد هي ابتكار شكل لسلطة ديمقراطية تتناسب مع العملية الثورية، أي سلطة نشطة مستقلة يرتكز عليها التعدد في كليّته. وهذا يمثل شرطاً ضرورياً لكي يتحول التعدد إلى تنظيم سياسي مناسب، إذ إن التعدد يركز على تعددية الفردانيات الاجتماعية في إطار النضال، ويسعى إلى تنسيق أفعال هذه الفردانيات والحفاظ على المساواة فيما بينها. أما التنظيم في شكل حزب كما يرى الماركسيون، بلشفيين أو اشتراكيين، فإذا كان يمكن أن يكون له أرضية عقلانية ومفهومة على أساس الكفاءة، فقد ثبت فساد هذا النوع من التنظيم وعدم كفاءته، بما في ذلك طغيان البيروقراطية، والانفصال عن تجربة الحركة الاجتماعية، وفي هذا المجال يكون منطق الاغتراب الرأسمالي المتمثل بمقولة: «…لا، الحزب لا يقهر الشر»، هو السائد والمرجح[23].

لقد تميّز الحراك الديمقراطي العربي بمجموعة من الخصائص جعلته فريداً من نوعه، حيث يمتاز ببعض الصفات الذاتية والموضوعية، الداخلية والخارجية تختلف كل الاختلاف عن الحركات الثورية – إن صح التعبير – السابقة من الجيل الأول إلى الجيل الرابع، فهي تمنح آفاقاً جديدة لعلم السياسة من أجل تحليل ظاهرة الصراع السياسي بعيداً من النظرية الليبرالية وتفرعاتها، حيث أفضى الحراك العربي إلى التشكيك حتى في افتراضات نظرية السلام الديمقراطي حول العلاقة المتبادلة بين مفهومَي السلم والديمقراطية[24]، على أساس المسار العنيف الذي مرّت به الانتفاضات العربية خاصة في سورية وليبيا واليمن.

إن فهم التحدي القائم بين البيولوجيا السياسية للحراك الديمقراطي العربي والسلطة البيولوجية للبنى الإمبراطورية للأنظمة العربية يحتِّم تحليل مفهوم السلطة البيولوجية. وقد استخدم هاردت ونيغري ووسّعا النطاق التاريخي والاجتماعي لمصطلح السلطة البيولوجية أكبر من تحليله من طرف فوكو. وهذا التوسع في النطاق يكون جنباً إلى جنب مع ترتيب جديد للعمل الاجتماعي. حيث إنه مثلما اتسع أفق الأنشطة الإنتاجية في إطار هذه العملية لإعادة تركيب العمل الاجتماعي، وكما أن الحياة والإنتاج أصبحا يمثلان الشيء نفسه، فإن التركيز على السياسات البيولوجية يعمل على إعادة تعريف المفهوم الماركسي للعمل المنتج. إن أهمية أطروحة تصنيف المجتمع في إطار رأس المال لا تبدو واضحة إلا في إطار تحليل السلطة البيولوجية. ويمكن القول بدقة أكثر، إن طابع السياسات البيولوجية للتراكم الرأسمالي يساعد على تعبئة التأثيرات التفاعلية لجميع القوى الاجتماعية والأساليب الإنسانية المنتجة.

في الحالة العربية، يمكن تفسير الحراك الديمقراطي الأخير الذي شهده الوطن العربي بنشوء هوية جماعية مختلفة. ورغم أن هذه الأخيرة قد أنتجت خلال القرن الماضي من طرف النخب السياسية والفكرية المحلية كمشروع يهدف إلى إدخال المنطقة، رغم التشنجات والاختلافات على حول ثنائية الحداثة والأصالة، في النظام السياسي العالمي مع الحفاظ على خصوصيات المنطقة. ويقدم الحراك العربي اليوم مشهداً لتمثيل جماعي مبني من الأسفل، لا يحمل مبدأ فردانية العربي أو المسلم، ولكن على الضد، فإنه يعمل في إطار الطابع العالمي للتدفقات الثقافية من أجل تحديد موقع في إطار التهجين العابر للثقافات الذي يعرفه العالم اليوم. إن الشباب العربي اليوم لا يثور باسم العروبة المثالية كهدف سياسي، ولكنه ينشط باسم متطلبات العدالة الاجتماعية والتغيير الديمقراطي.

4 – تجليات خصائص التعدد في الحراك الديمقراطي العربي

يمثل الحراك الديمقراطي العربي تعدداً بامتياز. لقد قام بنوع من التفريغ الأيديولوجي للسياسة العربية، وغيّب المفاهيم العنصرية للصراع الحضاري التي ميّزت السياسات العربية في السابق[25]. إن تنظيم هذا الحراك يتفق مع تعريف نيغري وهاردت للتعدد على أساس أنه ائتلاف بلا قيادةٍ لبُنية أفقية، حيث إن وجود قيادة في حركية الانتفاضات من شأنه أن يقوّض قوتها ويجبرها على أن تكون منظمة تقليدية، كما إن مجموعة من الإمكانات مثل وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت هي التي تسمح للهيكل التنظيمي الفاقد للقيادة على تحقيق النجاح.

وعلى الرغم من أن هذه الأحداث معقدة وغير محددة، وأن مشاهد وسائل الإعلام وحدها ليست سوى عامل واحد في مصفوفة التاريخ المعقدة، إلا أنه من المؤكد أن وسائل الإعلام المنتشرة عالمياً تمثل عاملاً متزايد الأهمية. لقد استخدم النشطاء في البلدان العربية وسائل الإعلام الجديد والشبكات الاجتماعية لتنظيم التمردات الشعبية التي أطاحت الأنظمة التي قهرت شعوبها لعقود من الزمن. فالشعوب العربية قامت بتظاهرات غير عنيفة عبّرت من خلالها عن إرادتها في التغيير والتطلع نحو الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة. وهنا يؤكد هاردت ونيغري أن أحد التحديات التي تواجه مراقبي الانتفاضات التي انتشرت في شمال أفريقيا والشرق الأوسط هي قراءتها على أنها لا تمثل تكراراً للماضي، ولكن كتجارب أصيلة تفتح إمكانات سياسية جديدة تمتد إلى ما وراء المنطقة لتكريس الحرية والديمقراطية. في الواقع، الأمل هو أنه من خلال هذه النضالات، ينتقل الوطن العربي خلال العقد المقبل إلى ما وصلت إليه أمريكا اللاتينية في العقد الماضي، التي أنشأت مخبراً للتجريب السياسي بين حركات اجتماعية قوية وحكومات تقدمية من الأرجنتين إلى فنزويلا، ومن البرازيل إلى بوليفيا.

لقد وصف هاردت ونيغري الحراك العربي بأنه يمثل رغبات ثورية متمفصلة في شبكات جذمورية غير تدرجية دون سلطة مركزية أو قيادة. أما سلافيش زيزك (Slavij Zizek)، من جهته، فقد رأى فيه حركات سياسية قوية مع برنامج وأهداف واضحة، غير أن التنظيم الذاتي لهذه الحركات، حسبه، لا يكفي لفرض إعادة تنظيم حياة اجتماعية محددة، لأن هذا العمل يحتاج إلى قوة قادرة على اتخاذ القرارات السريعة وتنفيذها مع القسوة اللازمة لذلك[26]. وفي ما يتعلق بالكفاح المسلح، فإن هاردت ونيغري واضحان في هذا الشأن، حيث يقولان: «نحن نعتقد أن التعدد الأعزل هو الآن أكثر فعالية بكثير من مجموعة مسلحة، والاكتساح السلمي للساحات أقوى من هجوم مباشر»[27].

بالعودة إلى مسألة المشاركة السياسية الراديكالية، فإن ملاحظات هاردت ونيغري حول الربيع العربي جد مهمة، حيث يؤكدان أن تنظيم الثورات العربية يشبه ما رأيناه قبل عشر سنوات في أجزاء أخرى من العالم، من سياتل إلى بوينس آيرس وجنوى وبوليفيا؛ فالملاحظ هو شبكة أفقية لا تتمتع بقائد مركزي واحد. يمكن للهيئات المعارضة التقليدية المشاركة في هذه الشبكة، ولكن لا يمكنها التحكم فيها[28]. وقد حاول المراقبون الخارجيون – مثلاً – تحديد قائد للثورة المصرية منذ بدايتها، ولكنهم خشوا من أن يسيطر الإخوان المسلمون أو هيئة أخرى على الأحداث. والشيء الذي لم يستطيعوا فهمه هو أن التعدد قادر على تنظيم نفسه من غير وجود مركز، وأن فرض زعيم معين أو تحييده من قبل منظمة تقليدية من شأنه أن يقوّض قوته.

خاتمة

يمثل الحراك الديمقراطي الذي عرفته معظم البلدان العربية مطلع العام 2011 الهيكل التنظيمي للتعدد بكل امتياز، بما أن الإمبراطورية – المتمثلة بالبنى السلطوية للأنظمة العربية – تقوم بخلق مجتمع يتمتع بجسد واحد، وهو ما يسمح للتعدد الذي لم يعد هامشياً بفتح مجموعة من الشبكات داخل المجتمع، وهو ما يؤدي إلى إضفاء الطابع الفرداني على المبادرات والآمال الفردية. يعبّر الحراك العربي عن البنية الشبكية للتعدد، رغم الاختلافات في السياقات المحلية، على أساس أن كل نظام يتميّز بمجموعة من المواصفات تجعله فريداً من نوعه، ولا يمكن تشبيه الأنظمة السياسية وتحريك الظواهر الاجتماعية والسياسية نفسها بطريقة آلية من قطر إلى آخر، حيث يواجه كل قطر تحديات مختلفة تتطور بمعزل عن الأقطار الأخرى. بيد أن الاعتراف بطبيعة التعدد كسمة أساسية للانتفاضات العربية وفق مقاربة نيغري وهاردت يؤدي بالضرورة إلى الاعتراف بأن هذه الانتفاضات تمثل جسداً واحداً.

إن الاختلافات المحلية هي التي تساعد على إنشاء التعدد، وهي التي تمثل جوهر تعددية المشاعر والاتجاهات الثقافية، وبالتالي فإن التعدد لا يمكن حصره في هوية واحدة. وهنا التعدد يخلق تحدياً لمفهوم الإمبراطورية من خلال هذه الشبكة المفتوحة للفردانيات القادرة على التواصل والعمل المشترك بما يجسّد تعددية الأفكار والخلفيات. إن التعدد لا يثبط السياقات المحلية المختلفة، بل إن التعددية هي التي تسمح لهذه المقاومة الفاقدة للقيادة بالتشكل والاستمرار. في هذا السياق، عندما يتم النظر إلى التعدد كفاعل عالمي، لا يتم التغاضي عن السياقات المحلية، لأن فردانية كل سياق وصراعها داخل التعدد هو الذي يساعد على خلق المشترك الذي يساعد على مقاومة الإمبراطورية وسيادتها.

إن التعدد هو القوة الإنتاجية الحقيقية لعالمنا الاجتماعي، في حين إن الإمبراطورية هي مجرد جهاز للسيطرة على من يعيشون من حيوية التعدد، وكما يقول ماركس، فإن الإمبراطورية هي نظام «لمصّاصي دماء» العمل المتراكم الميت، والذي لا يبقى حياً إلا من طريق مص دماء الأحياء. لقد ختم هاردت ونيغري كتاب التعدد بقولهما إنه يمكننا بالفعل أن نعترف بأن وقت اليوم مقسّم بين اليوم الحاضر الذي مات بالفعل، والمستقبل الذي يعيش بالفعل، والمسافة الواسعة بينهما أصبحت هائلة، وفي الوقت المناسب، فإن حدثاً ما سيوجّهنا مثل السهم نحو المستقبل الذي نعيشه، وسوف يكون هذا هو الفعل السياسي الحقيقي للحب.

 

قد يهمكم أيضاً  الحماية الدستورية لحرية التعبير في الدول المغاربية : دراسة حالة تونس، الجزائر، المغرب