تتألف هذه الدراسة من ثلاثة مباحث، نتناول في الأول منها بعض معالم الموقف الاقتصادي الراهن على المستوى العربي في إطار بيئة اقتصادية منقسمة ومأزومة، ونعرج في الثاني على بعض مكونات الإطار الدولي للتغيرات الاقتصادية، ثم ننتهي في الثالث بتحليل التغيرات الاقتصادية المحلية لمصر في الإطارين العربي والدولي.

أولاً: بعض معالم الموقف الاقتصادي الراهن على المستوى العربي
(بيئة اقتصادية منقسمة ومأزومة)‏

1 – بيئة اقتصادية منقسمة
البيئة الاقتصادية العربية متعددة الأطراف ومنقسمة بين دول نفطية ودول غير نفطية ودول «شبه نفطية» وعدد من الدول الأشد فقراً أو الأقل نمواً، وأخرى «ذات ظروف خاصة». هذه هي السمة الأولى للاقتصاد العربي، إن صح أن يكون اقتصاداً مجمـلاً.
فالملاحظ قبل أي شيء أن الوطن العربي يحتضن مجموعات من البلدان مختلفة جذرياً من حيث بيئة التطور الاقتصادي، وبخاصة من حيث مستوى الدخل القومي ومتوسط نصيب الفرد منه. وللتدليل على ذلك نبدأ بالإشارة إلى أن حجم الناتج المحلي الإجمالي (بأسعار السوق الجارية) لمجموع الدول أعضاء جامعة الدول العربية في عام 2014 مثـلاً قد بلغ نحو 2.8 تريليون دولار. وفي هذا المقام، تعتبر البلدان العربية الستة أعضاء «مجلس التعاون لدول الخليج العربية» – أو مجلس التعاون الخليجي – هي الأكثر استحقاقاً لوصف «المجموعة النفطية» على المستوى العربي (إضافة إلى ليبيا). وقد استحوذت هذه الدول الست على أكثر من 1.6 تريليون دولار، أي أقل قليـلاً من نصف الإجمالي (4/7). مع العلم أن مجموع عدد السكان في الدول الست في تلك السنة – بمن فيهم العمال الأجانب المقيمون – نحو 42.18 مليون نسمة، يمثلون نحو 9 بالمئة من مجموع سكان البلدان العربية (377.7 مليون نسمة تقريباً). هذا يعني – بطريق المقابلة – أن 91 بالمئة من السكان العرب يحصلون على أقل من 50 بالمئة من الدخل العربي الإجمالي.
وربما لا يكون بعيداً من مقتضى السياق إذا أشرنا هنا إلى خلل التركيبة السكانية في بلدان الخليج، نظراً إلى عِظم ارتفاع نسبة الأجانب إلى المواطنين بصفة عامة.
وغالباً ما كانت الإحصاءات العربية تدرج الجزائر والعراق في عداد «الدول شبه النفطية». وفي هذا السياق وجدنا أن حجم الناتج المحلي الإجمالي للجزائر – بالأسعار الجارية لعام 2014 – بلغ 220 مليار دولار، أي أقل من 10 بالمئة من الناتج المحلي العربي؛ مقابل تعداد سكاني بلغ 38.7 مليون نسمة، أي أقل من 10 بالمئة من السكان العرب … فهي إذاً تمثل حالة توازنية من حيث التساوي التقريبي بين حصتها من الدخل ومن السكان.
أما في العراق فقد وصل الناتج المحلي الإجمالي إلى مستوى يلامس 205 مليارات دولار، مقابل تعداد سكاني بلغ 36 مليون نسمة، وهذا يعني توازناً تقريبياً في حصة العراق من الدخل والسكان قياساً على المستوى العربي العام، بنسبة تقل عن 10 بالمئة في الحالتين.
في ما يتعلق بالمجموعة غير النفطية، فإننا نكتفي هنا بأن نمثل لها بحالة جمهورية مصر العربية إلى حد معين، حيث بلغ مستوى الناتج 286.7 مليار دولار، أي نحو 10 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي العربي، مقابل حجم للسكان يلامس سقف 87 مليون نسمة تقريباً في ذاك العام – 2014 – أي أنها تستأثر بأكثر من 25 بالمئة من السكان في المجموعة العربية، ما يعني خلـلاً في التوازن غير خافٍ على أي حال.
تبقى مجموعة رابعة، يطلقون عليها مسمَّى الدول الأشد فقراً أو الأقل نمواً، أو «أقل الأقل نمواً» إن شئت، ويمثل لها – في الإحصاءات الصادرة عن جامعة الدول العربية – بكل من جيبوتي والصومال وجزر القمر وموريتانيا واليمن. وقد وجدنا أن أغلبها يتسم بخفة نسبية في عدد السكان، وأكثرها عدداً اليمن (26 مليوناً) والصومال (11مليوناً)، ثم موريتانيا (3.7 مليون) فجيبوتي (مليون واحد فقط) وأخيراً: جزر القمر (760.000 نسمة). يبلغ العدد الإجمالي للسكان في هذه البلدان الخمسة 42.5 مليون نسمة وهو يزيد قليـلاً على مجمل حجم السكان في دول الخليج بمن فيهم العمال الأجانب المقيمون، ويمثل نحو 9 بالمئة من السكان العرب – أما مستوى الناتج المحلي الإجمالي المجمع للدول الأقل نمواً (باستثناء الصومال حيث لم تتوفر عنها بيانات) فقد بلغ نحو 40 مليار دولار أي نحو 2.5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي الخليجي (وقرابة 1.5 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العربي العام).
يبقى أنه من الممكن تصنيف مجموعة من البلدان العربية على أنها «ذات ظروف خاصة»، إما لأنها تقع تحت الاحتلال الدائم حتى الآن (فلسطين) وإما لأنها سبق أن وقعت تحت الاحتلال قريباً (العراق) أو تعيش حرباً أهلية مزمنة (الصومال). وتشاء المقادير في ظروف ما بعد كانون الثاني/يناير 2011 – وعلى فترات متفاوتة – أن نضيف كـلاً من سورية وليبيا واليمن …! ونرجو أن تسمح المقادير بآفاق حسنة لهذه البلدان الشقيقة في أقرب وقت.
هذه إذاً هي السمة الأولى للبيئة الاقتصادية العربية الراهنة، كبيئة تتسم بالتجزؤ وبالتفاوت أو عدم التوازن بمعياري الدخل والسكان، بل وذات طابع «انقسامي» واضح، بمعنى ميلها الباطن المستمر إلى توليد المزيد من التباينات.
ثانياً: السمة الثانية للبيئة الاقتصادية العربية أنها بيئة «مأزومة» إذ تعيش، أو تتعايش، فيها عدة أزمات جوهرية، بالمدلول الاقتصادي، وإن كان ذلك بدرجات متفاوتة حسب الظروف المختلفة للمجموعات العربية سابقة الذكر.
يتمثل ذلك بصفة أساسية – في جانب منه – بما يأتي:
أ – الاعتماد الزائد في الدول المسماة النفطية وشبه النفطية على النفط كقطاع مهيمن بصفة كلية تقريباً على مصادر توليد الناتج المحلي الإجمالي والإيرادات الحكومية والنقد الأجنبي. ونظراً إلى أن هذه الدول هي الأكثر قدرة – بالاحتمال وكذا بالفعل إلى حد ما – على تحريك عجلات النمو في سائر البلدان العربية، فيمكن القول إن النمو الاقتصادي العربي على الإجمال محكوم بمتغير عالٍ وسريع التذبذب، وخاضع كلياً للظروف الخارجية.
ب – الضعف النسبي للقطاعات الأعلى قدرة على رفع مستوى الناتج والإنتاجية في المدى الطويل، وبخاصة الصناعة التحويلية (Manufacturing) التي نفرق تفرقة حاسمة فيما بينها وبين صناعات الاستخراج التعديني والطاقي كالنفط والغاز.

ثانياً: بعض مكونات الإطار الدولي للتغيرات الاقتصادية

يشهد العالم عدداً من التطورات الاقتصادية التي تمثل إطاراً محدداً للتغير على الصعيدين المحلي والعربي والإقليمي. ومن أهم هذه التطورات ما يتعلق بالقضايا الثلاث الآتية:
1 –
تدخل الدولة، كضرورة لا مهرب منها،
في مختلف المجموعات الدولية
في العالم الصناعي يعد التدخل بالسياسات المالية والنقدية والتنظيمية أمراً مهماً للحد من أثر الأزمات المالية الواسعة، كأزمة 2008 – 2009. وقد كان تدخل الحكومة الأمريكية في 2009 عامـلاً حاسماً لمواجهة ما سمي أزمة «الرهن العقاري» من خلال سياسات «التيسير الكمي» بدءاً من الدعم المالي للبنوك وشركات التأمين العملاقة، وانتهاءً بتملك مؤقت لحصّة من الأسهم لحين انقشاع غيوم الأزمة على المؤسسات المعنية. وفي الحالات التي لم يلحظ فيها تدخل إيجابي لجهاز الدولة من أجل الإنقاذ – منطقة اليورو كمثال واضح – أخذت تستفحل مظاهر الأزمة، وتأخذ وقتاً أطول من أجل التعافي، كما في فرنسا وألمانيا، وبصورة أشد في إسبانيا والبرتغال وأيرلندا.
وفي التاريخ الاقتصادي المعاصر للبلدان الصناعية المتقدمة، كان دور الدولة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية – مثـلاً – وحتى منتصف السبعينيات من القرن العشرين، أمراً حاسماً في إطار ما سمي سياسات «دولة الرفاهة» من خلال ضمان حدود دنيا مقبولة لمستوى المعيشة، وبناء نظم تأمينية فعالة ومنظومات للحماية الاجتماعية، وبخاصة في مجال تأمينات البطالة والتأمين الصحي، بل ودعم المزارعين، كما حدث في شمال أوروبا (إسكندنافيا) وفي غربها (فرنسا وألمانيا بالذات).
وفي مختلف دول العالم اعتُبر التدخل بصورة عامة عامـلاً ضرورياً للتغلب على نواقص ما سمي «الاقتصاد الحر»، حيث إن ترك أمر تسيير الحياة الاقتصادية لقوى السوق وحدها يمكن أن يؤدي إلى نتائج ذات طابع «كارثي».
2 – التكتلات والتجمعات الاقتصادية
نلاحظ بروز التجمع أو «التكتل» كسمة حاكمة للتفاعلات الاقتصادية على المستوى العالمي، سواء في البلدان الصناعية أو في البلدان النامية أو في الحالات التي تجمع دولاً من هذه وتلك.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك: الاتحاد الأوروبي. وبهذه المناسبة نرى أن «الخروج البريطاني» ليس دليـلاً على تناقص أهمية المشروع الأوروبي الاندماجي بالضرورة، بل قد يكون دافعاً في الاتجاه الآخر، أي إلى مزيد من تقوية المشروع الأوروبي، في مواجهة الترابط «غير الحميد» و«غير المتكافئ» مع الولايات المتحدة الأمريكية عبر الأطلسي.
نشير أيضاً إلى «منتدى التعاون الاقتصادي الآسيوى – الباسيفيكي» الذي يضم البلدان المطلة على المحيط الهادي بما فيها الولايات المتحدة والصين واليابان؛ وتجمع «الآسيان» (رابطة دول جنوب شرق آسيا).
أما في المنطقة العربية والأفريقية، فهناك تجربة تاريخية ممتدة للعمل الاقتصادي العربي المشترك، الذي وصل إلى حد إقامة «منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى»، اعتباراً من كانون الثاني/يناير 2005، وإن لم تتكافأ ثمرات العمل المذكور مع الآمال المعقودة عليه، لأسباب متعددة .
وتتمثل إحدى وأكبر الخطوات الأفريقية في هذا المجال في إقامة «منطقة التجارة الحرة الثلاثية» التي تجمع كـلاً من «كوميسا» و«سادك» وتجمع شرق أفريقيا الإنمائي، وقد تم توقيع الاتفاقية المنشئة للمنطقة الثلاثية في شرم الشيخ عام 2015.
3 – تجنب سياسات «التقشف»
علي إثر سياسات «دولة الرفاهة» التي سادت العالم الصناعي والنامي عقب الحرب العالمية الثانية وحتى منتصف السبعينيات، كما أشرنا، والتي ارتبطت بما يسمى الاتجاه الكينزي (نسبةً إلى المفكر الاقتصادي البريطاني الأشهر جون ماينارد كينز) – تحولت الدول الغربية نحو اتباع سياسات نقيضة، قائمة على «التحول إلى القطاع الخاص»، و«إطلاق قوى السوق» سعياً إلى مواجهة تبعات «أزمة التضخم الركودي» التي أعقبت ارتفاع أسعار البترول بعد حرب تشرين الأول/أكتوبر 1973. وكان المدخل الذي اتبعه الغرب منذ مطلع الثمانينيات قائماً على ما أطلق عليه نهج «الليبراليين الجدد» القائم على تحويل عبء الأزمة المالية إلى الفئات الاجتماعية محدودة الدخل. وقد تمّ ذلك من طريق سياسات «التقشف» (Austerity) الهادفة إلى تقليص الإنفاق الاجتماعي الموجه إلى الفئات الفقيرة، باعتباره – وليس الإنفاق على التسليح مثـلاً – هو السبب الداعي إلى اتساع فجوة العجز في الموازنات العامة، واللجوء من ثم إلى «التمويل التضخمي» الذي يغذي الركود وارتفاع الأسعار.
وكان الوجه الآخر لسياسات التقشف تجاه الفئات الاجتماعية الأدنى على سلم الدخل، تقديم إعفاءات ضريبية ومزايا متنوعة لقطاع الشركات ولكبار رجال الأعمال والمال والصناعة.
ويرى بعض الاقتصاديين في هذا المجال أن سياسات التقشف «تجلب تحيزات طبقية وأعمال شغب وعدم استقرار سياسي، وديوناً أكثر وليس أقل، واغتيالات وحروباً …»‏ .
لذا يلزم أخذ الحيطة والحذر في مصر وسائر البلدان العربية عند التعامل مع الأزمات الاقتصادية في المراحل الانتقالية، من خلال اتباع حزمة سياسات اقتصادية واجتماعية متوازنة، لضمان عبور هذه الأزمات و«أعناق الزجاجات» في مراحل الانتقال بأمان نسبي معقول.

ثالثاً: المتغيرات الاقتصادية المحلية لمصر
في الإطارين العربي والدولي
المحدد الرئيس للتطور الاقتصادي في المحيط العربي – الإقليمي لمصر في الأجل المتوسط (3 – 5 سنوات) هو متغير النفط والغاز، إنتاجاً وتجارةً وسعراً.
خلال المدة الأخيرة (3 – 5 سنوات الماضية) مالت أسعار النفط إلى الانخفاض، مع تذبذب طفيف، حول 50 دولاراً تقريباً للبرميل، نزولاً عن المستوى السابق الذي كان يلامس قرابة 150 دولاراً؛ هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فقد حدث تغيُّر ملموس في هيكل الطلب والعرض، إذ اتجه الطلب الكلي إلى الانخفاض، كأثر لموجة انكماشية في الاقتصاد العالمي ومركزه الأوروبي – الأمريكي، وبخاصة من جانب الصين والهند وكوريا الجنوبية كدول مستوردة كبيرة للنفط في العالم. في هذا الوقت تغيرت هيكلية العرض بفعل موجة الخروج والدخول للمنتجين وأوزانهم النسبية في الأسواق الدولية للنفط والغاز. فقد حدث خروج نسبي لإيران بفعل العقوبات الدولية والغربية المفروضة عليها في إطار التعامل مع برنامجها النووي، وأدت الاضطرابات السياسية المتوالية في العراق إلى انخفاض مستوى الإنتاج، تبعه خروج شبه كلي لليبيا من سوق الصادرات النفطية، وبخاصة خلال 2014 – 2015 في إثر توقف العمل في الموانئ الرئيسية ومصافي التكرير، بعد أن قام ما يسمى «حرس المنشآت النفطية» بدور رئيسي في ذلك.
تم تعويض النقص في العرض العالمي، من طريق زيادة ثم ثبات مستوى الإنتاج عند السقف المرتفع، من قبل السعودية التي دأبت على تأدية دور «المورَد المكمل» في سوق النفط العالمية، عن طريق رفع السقف تعويضاً للنقص إن وقع، وخفض الناتج إن لزم الأمر، في حال تشبّع السوق. أما الولايات المتحدة الأمريكية فقد رفعت مستوى الإنتاج من حقول النفط الصخري إلى درجة غير مسبوقة، حتى زاد إنتاجها من النفط الخام بوتيرة عالية مستمرة تقريباً، وبخاصة منذ عام 2010، ليرتفع من 5.5 مليون برميل يومياً تقريباً في ذلك العام إلى 6.5 مليون برميل يومياً في عام 2012، ثم 7.4 مليون برميل يومياً في عام 2013، ويقدر وصوله إلى 8.5 برميل يومياً في عام 2014، لتحتل بذلك المركز الثالث على الصعيد العالمي خلال العام الأخير بعد كل من روسيا (ذات المركز الأول بإنتاج بلغ 10 مليون برميل يومياً) ثم السعودية (9.7 مليون برميل يومياً). وبينما كان مستوى الإنتاج لروسيا ثابتاً تقريباً خلال الفترة 2010 – 2014 فقد ارتفع الإنتاج السعودي من 8,2 مليون برميل يومياً تقريباً عام 2010 إلى 9.7 مليون برميل يومياً في 2014 ليواكب التغير المتوقع (وربما المتعمَد) في الأسواق الدولية‏ .
وقد أدى تزايد مستوى الناتج في كل من الولايات المتحدة والسعودية بالذات، على النحو السابق، إضافة إلى ارتفاع مستوى المخزون في البلدان المستهلكة الأساسية وبخاصة في أوروبا، وذلك مقابل تقلص الطلب الكلي، ولا سيّما من طرف الصين وسائر البلدان الآسيوية الرائدة، إلى انخفاض سعر النفط كما هو معلوم.

ما هو الاتجاه المتوقع للأسعار في الحقبة المقبلة؟
تدل المؤشرات المتوافرة إلى ارتفاع سقوف الإنتاج بفعل دخول إيران بقوة، لترفع مستوى العرض العالمي نسبياً، بعد رفع العقوبات، عقب الصفقة النووية في إطار مجموعة «5+1»، بالإضافة إلى ارتفاع حجم الإنتاج من العراق. وكذلك الحال مع ليبيا إلى حدّ ما، دع عنك «السوق السوداء» للنفط من خلال مبيعات النفط من الحقول السورية باتجاه تركيا، بواسطة تنظيم داعش الإرهابي خلال العامين الأخيرين. إن ذلك يدفع باتجاه انخفاض الأسعار نظراً إلى الوفرة أو تخمة العرض الكلي على المستوى العالمي.
ولكن مقابل هذا الاتجاه النزولي إلى الأسفل ـتتوافر مؤشرات على احتمالات الصعود إلى أعلى من جانبين: أولهما ارتفاع متوقع في مستويات الطلب، وبخاصة بفعل استقرار معدل النمو الاقتصادي في الصين عند 7,4 بالمئة تقريباً، مع مؤشرات على التعافي النسبي في البلدان المتضررة ضمن منطقة اليورو، وبخاصة إسبانيا والبرتغال، علماً باستمرار أجواء الأزمة في اليابان، وتوقعات بانخفاض معدل النمو الإجمالي في بريطانيا في إطار مسيرة الخروج من الاتحاد الأوروبي.
أما الجانب الثاني فهو انخفاض الإمدادات من الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، نظراً إلى أن الاتجاه النزولي للأسعار يدفع بتناقص الاستثمارات في صيانة وتطوير حقول النفط الصخري، وخروج عدد متزايد من آلات الحفر العملاقة من دورة الإنتاج. ويؤدي ذلك الاتجاه النزولي عبر الزمن إلى خفض مستويات الإنتاج الأمريكي، بما يدفع إلى العمل على توازن الأسواق، بارتفاع في الأسعار، من أجل الاستمرار في حفز الاستثمارات النفطية.
من أجل ذلك تتوقع بعض المصادر (مثل بنك باركليز) ارتفاع الأسعار في المدى المتوسط إلى نحو 85 دولاراً للبرميل عام 2019 لتنخفض إلى نحو 78 دولاراً في عام 2021‏ .
هكذا إذاً تميل مؤشرات عديدة إلى عودة التوازن إلى سوق النفط خلال نهاية فترة التوقع (3 – 5 سنوات قادمة)، وهو ما يدفع إلى التساؤل عن أثر ذلك في الاقتصاد المصري. هناك أثر مباشر، وأثر غير مباشر.
أما الأثر المباشر فيتعلق بانخفاض سعر النفط الخام في الأسواق العالمية، ونلاحظ هنا – بخلاف الشائع – أن مصر ليست مستورداً صافياً للنفط الخام، وإنما هي مصدِّر ومستورد في الوقت نفسه، وقد تتفوق صادراتها بفارق طفيف على الواردات. لذلك فهي لم تستفد حتى الآن بصورة ملموسة كثيراً من انخفاض سعر النفط.
ولكن الموقف من النفط الخام يختلف تماماً عن الموقف من منتجات النفط المكرر وشحنات الغاز المسال، حيث تعتمد مصر على الواردات بنسب متفاوتة، وبخاصة من الغاز الطبيعي (حيث توفر واردات الغاز نحو 30 بالمئة من حاجات محطات الطاقة) والغاز المنزلي.
وتسلك أسعار منتجات النفط المكرر والغاز المسال سلوكاً مختلفاً عن النفط الخام، على منحنى خلق «القيمة المضافة»، بما يرفع من تكلفة الواردات من المواد الخام والوقود ومستلزمات الإنتاج والسلع الوسيطة، التي تشكل الشطر الأكبر من تكلفة الواردات المصرية على وجه الإجمال.
ومقابل الأثر الذي يشكله انخفاض أسعار النفط الخام على مصر، أو فلنقل – مع التحفظ – ضآلة التأثير الإيجابي في حالة منتجات النفط، فإن هناك علامة إيجابية في المدى المتوسط، بفعل تعاظم اكتشافات الغاز الطبيعي من حقول البحر المتوسط الشمالية (شروق وظهر، التي تتولاها بصفة أساسية كل من شركة إيني الإيطالية و«بي.بي» البريطانية، وتنمية ما هو مكتشف من الحقول. سوف يؤدي ذلك إلى تزايد الإنتاج المصري من الغاز الطبيعي لتتحول (بعد 5 سنوات تقريباً) إلى منتج إقليمي رئيسي للغاز يحقق الاكتفاء الذاتي ويمثل شريكاً في مجال الغاز المسوق عالمياً، ولا سيّما إلى أوروبا.
سيؤدي ارتفاع الناتج والصادرات الغازية إلى تغير جوهري في الميزان التجاري المصري للطاقة، وهو ما يمكن أن يدفع باتجاه التفاؤل بتحسن في ميزان التجارة السلعية، ومن يدري، ربما تحوله إلى فائض في المدى الزمني الأبعد (7 – 10سنوات) وبخاصة في حال إحداث زيادة ملموسة في الإنتاج من قطاع الصناعة التحويلية، والصادرات من السلع المصنعة، بما فيها السلع متوسطة وعالية التكنولوجيا.
هذا كله عن الأثر المباشر للتغير في أسواق وأسعار النفط والغاز. أما عن الأثر غير المباشر فينحصر في احتمالات تذبذب العون الإنمائي المقدم من بلدان الخليج (السعودية والإمارات والكويت).
ومن المهم أن نلاحظ أنه حتى يحدث الارتفاع النسبي المتوقع – إلى حد معيّن – في أسعار النفط عام 2019 تقريباً، فإن السعودية بالذات (تليها الإمارات، ومن بعدها الكويت)، لن تكون قادرة على تقديم شيء مؤثر من الدعم المالي والاستثماري للاقتصاد المصري.
وفي هذا الإطار، يجيء القرض الأخير من صندوق النقد الدولي عبر ثلاث سنوات (بقيمة 12 مليار دولار) وما يتضمنه من برنامج ذي طابع انكماشي وتقشفي بالضرورة. ومن المهم أن نشير هنا إلى ضرورة التوزيع المنصف والعادل لأعباء البرنامج المذكور، في ما يتعلق بالفئات الاجتماعية محدودة الدخول، وهي كثيرة وكبيرة، تحاصرها موجات التضخم السعري، المنفلت في ما يبدو حتى الآن، في غياب تدخل مؤثر من جهاز الدولة، لعجز في القدرات ولنقص في الإدراك.

إن الاعتماد على «قرض الصندوق» في الأجلين القصير والمتوسط، وعلى تنمية حقول الغاز الطبيعي في المدى الأبعد، كل ذلك ليس كافياً لإحداث دفعة تنموية حقيقية للاقتصاد المصري، وتحقيق «نقلة» نوعية على سلم التراتب الإقليمي والعالمي للبلدان المؤثرة أو ما يسمى «البلدان النامية الكبيرة»، مع ملاحظة وجود عدد من النقاط التي يحسن الإشارة إليها، كما يأتي:
أ – تعثر المفاوضات مع الجانب الأثيوبي في ملف سدّ النهضة، بما يحمله بناء السد من مخاطر محتملة على الطرف المصري، وبخاصة في أوقات الجفاف، من حيث نقص محتمل في إمدادات المياه، وتضاؤل مركز السد العالي التخزيني على النهر، واحتمال زيادة تملّح التربة، إلى غير ذلك مما هو متداول.
ب – تعثر في مسار تنمية محور قناة السويس خصوصاً، وفي المشروعات التي جرى توقيع مذكرات تفاهم مبدئية في شأنها في مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي لعام 2014. وفي رأينا أن ذلك يعود إلى ثلاثة أسباب:
(1) عجز البيروقراطية المصرية عن مواكبة التغير المنتظر، سواء بالتثاقل التاريخي أو بإرث الفساد المتجذَر في الدولاب الحكومي التقليدي. وقد أدى ذلك مثـلاً إلى تراجع في مركز مصر على ترتيب الدول من حيث مؤشر «أداء الأعمال» وإن كنا لا نظن أن كل ما تدبجه وتذيعه الجهات القائمة على إعداد مثل تلك المؤشرات مطابق للحقيقة في جميع الأحوال.
(2) العجز في التجربة الديمقراطية الحزبية والبرلمانية، ومساوئ المنظومة الإعلامية.
(3) تردد الدول الغربية الرئيسية في منح «الإشارة الخضراء» لشركاتها الكبرى متعددة الجنسيات للدخول بقوة في سوق الاستثمار المصري، على غرار ما حدث مع الصين منذ أوائل الثمانينيات. ويرتبط ذلك بحسابات سياسية ذات شأن لدى بعض الأطراف والتحالفات الدولية.
ج – أما وجه النقص الثالث فهو عجز الجهاز الحكومي والتنفيذي، وبخاصة منه المشتغل في الحقل الاقتصادي. ونشير بصفة خاصة إلى عدم قدرة الطاقم الاقتصادي، في أعلى مستوى، على وضع وتنفيذ منظومة للسياسات الاقتصادية والنقدية والمالية، بالتعاون مع البنك المركزي، من أجل تجاوز أعراض الركود من جهة أولى، ومحاصرة التضخم السعري بصورة فعّالة، من جهة أخرى.
وإننا لنعرف أن الخيارات محدودة جداً لإحداث تغيير جذري أو جوهري في بنية وسلوك جهاز الإدارة العامة المدنية، نظراً إلى الإرث التاريخي المشهود، وتآكل النخب السياسية، وتدهور مستوى البيروقراطية – التكنوقراطية عقب التغيرات العاصفة منذ 2011، بفعل «الخروج» السياسي لأطراف منها، و«الخروج» الفيزيقي أو البيولوجي بحكم عامل السن، نظراً إلى التقاعد أو الوفاة أو العجز الصحي. نشير أيضاً، بصفة خاصة، إلى اتباع خيار «الاقتصاد الحر»، على مستوى القيادة السياسية تنفيذياً وتشريعياً، والاستنكاف عن تفعيل أدوات التدخل العام الممثل للوظيفة الإنمائية والعدالية لجهاز الدولة، كما ظهر بصفة خاصة في مجال «التعويم الحر» للعملة المحلية، بدءاً من 3 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 بآثاره الكارثية المتسلسلة غير المحسوبة في الاقتصاد والمجتمع.
وتتجلى بعض الآثار ذات الطابع الكارثي في انخفاض معدل النمو للقطاعات الأساسية المولدة للناتج المحلي الإجمالي، وبخاصة الصناعة التحويلية، مقابل ارتفاع معدل النمو للقطاعات ذات الأهمية «الهامشية» تنموياً كالعقارات والاتصالات، وهذا ما يعمق حالة الركود الإنتاجي المتفاقمة في الوقت الراهن. يحدث ذلك رغم الارتفاع الظاهري في معدل النمو الاقتصادي المحسوب بالأسعار الجارية إلى ما يتجاوز 4 بالمئة خلال النصف الأخير من السنة المالية الحالية (حسب المصادر الرسمية) – وذلك بعيداً من أثر التضخم السعري وبمعزل عن المعدل المرتفع للزيادة السكانية (2,8 بالمئة تقريباً) – وهو ما يخفض معدل النمو لمتوسط نصيب الفرد من الدخل الوطني.
ومن الآثار ذات الطابع «الكارثي» أيضاً، ارتفاع حجم الديون الخارجية إلى حدود منذرة بالخطر (نحو 79 مليار دولار ربما يتجاوز 40 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي) نظراً إلى الاعتماد على الاقتراض الأجنبي كأداة لسد العجز في الموازنة العامة للدولة (وبخاصة من خلال إصدارات السندات في أسواق السندات الدولية).

* * *

إننا لا نعوّل كثيراً على «قرض الصندوق» في الأجلين القصير والمتوسط، وعلى اكتشافات الغاز في المدى الأبعد، وإنما نعوّل على العمل في «الاقتصاد المصري القديم» – إذا صح التعبير، وعلى وجه التحديد في القطاع الصناعي، وهو ما نعالجه في ما يأتي:
يتحدد التقدم الاقتصادي في العالم المعاصر بإحداث تطور جوهري في القطاع الصناعي التحويلي (Manufacturing Industry) من حيث رفع نسبة مساهمته في توليد الناتج المحلي الإجمالي، والتحسين التدريجي الملموس في التكنولوجيا المستخدمة بما يتناسب مع ظروف الاقتصاد والآفاق العلمية الدينامية في هذا المجال. لا بل شرعت البلدان المتقدمة اقتصادياً في الانتقال من العصر الصناعي إلى ما يسمى «العصر ما بعد الصناعي» وهو ما يترجم بالانتقال من الاقتصاد الصناعي إلى الاقتصاد الخدمي. بعبارة أخرى: نقل الاقتصاد من مرحلة الاعتماد على الصناعة كقطاع رائد إلى الاعتماد على الخدمات القائمة على العلم والتكنولوجيا كمصدر لتوليد القيمة المضافة، وتعظيم صادراتها غير الملموسة إلى العالم الخارجي.
هذه هي سنّة التطور الاقتصادي العالمي الآن، ومن بين البلدان التي فهمت ذلك في الآونة الأخيرة مثـلاً: إيران، رغم الحصار والعقوبات.
لذلك ندعو القوى الوطنية، وفي قلبها قوى اليسار الوطني العروبي التقدمي، إلى الدعوة إلى مبادرة كبرى هدفها إحداث ما يشبه ثورة تصنيعية – تكنولوجية من خلال تصنيع بدائل مماثلة لواردات السلع المصنعة – بدءاً بالمكونات والأجزاء التي يكون من المجدي اقتصادياً تصنيعها محلياً.
إن التركيز على تصنيع المكونات السابقة التي يجري استيرادها حالياً سوف تكون له ميزة خفض تكلفة الاستيراد، ومن ثم تقليص فجوة العجز في ميزان التجارة السلعية، وتقليل ضغط الطلب على الدولار، بما يحسن من موقف العملة المحلية ويحول دون الخفض المتواصل لقيمتها كآلية للتعامل مع «سياسة الأمر الواقع»‏ .
أما الأدوات التي نأمل استخدامها لتحقيق «الثورة التصنيعية» فهي تتمثل بالوسائل التالية:
– الاعتماد على الطاقات الصناعية المتاحة لكبرى شركات القطاع العام وقطاع الأعمال العام، وهي كثيرة، عن طريق إطلاق عملية الإحلال والتجديد، بل والتوسعات والصيانة، واستخدام أو تشغيل «الطاقة العاطلة». نشير هنا إلى ضرورة مراجعة فكرة طرح نسبة من الأسهم لعدد من شركات القطاع العام في سوق الأوراق المالية، حتى لا يمثل عودة إلى سياسة «الخصخصة» الكريهة مرة أخرى.
– حفز قطاع الأعمال الخاص من «الرأسمالية الوطنية غير المستغلة» على المساهمة في المشروعات الصناعية التي ينبغي تحديدها وفق سلّم أولويات تنموية مخططة.
ويتطلب ذلك وضع وتفعيل منظومة حوافز إيجابية وسلبية، مرافقة لمنظومة واضحة للأولويات التصنيعية للدولة وفق خطة دقيقة مزمَنة.
– تفعيل التمويل المصرفي الميسر للمشروعات الصغيرة والمتوسطة بإتاحة ائتمان ميسر لرواد الأعمال بسعر فائدة منخفض، وبخاصة في ضوء ارتفاع تكلفة الإقراض الفعلية إلى ما هو أعلى كثيراً من المعلن.
إن إطلاق مبادرة وطنية – من جانب اليسار المصري مدعوماً من اليسار العربي العريض – لتطوير الصناعة والتكنولوجيا، أصبح أمرأ ملحّاً. ولن يقتصر الأمر على إنهاض الاقتصاد المصري وإقالته من عثرته المزمنة منذ أربعين عاماً وزيادة، بواسطة الصناعة، وإنما سيرتب عليها تغييراً نوعياً في مرتبة الاقتصاد المصري، كاقتصاد صناعي حينئذ، ثم «اقتصاد خدمي» من بعده، على المستويين العالمي والإقليمي.