مقدمة:

رصدت الهيئة الأوروبية المختصة بمراقبة حدود الاتحاد الأوروبي (فرونتكس)، في منتصف أيار/مايو 2014، التدفّقَ الأكبر وغير المسبوق في تاريخ القارة الأوروبية للمهاجرين غير الشرعيين صوب أوروبا في الشهور الأربعة الأخيرة فقط. فقد تمّ رصد دخول أكثر من 25 ألف مهاجر غير شرعي إلى إيطاليا ومالطا في الشهور الأربعة الأولى من العام 2014، مقارنة بـ 40 ألف مهاجر دخلوا أوروبا في العام 2013‏[1]. وفي اليوم نفسه، دعت وزيرة الدفاع الإيطالية – روبيرتا بينوتي – إلى تدخّل منظمة الأمم المتحدة في قضية الهجرة غير الشرعية التي تتدفق إلى إيطاليا وتؤدّي إلى سقوط ضحايا، باعتبارها مسألة إنسانية طارئة، وفي الوقت نفسه طالبت باقي الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بتحمّل جزء من المسؤولية في مواجهة هذه القضية[2]. وقبيل ذلك بأربعة أيام فقط، هدّدت ليبيا – على لسان وزير داخليتها المؤقت – أنها قد تُسهّل طريق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا ما لم يُقدّم الاتحاد الأوروبي مساعدات حقيقية وملموسة إلى طرابلس لمواجهة هذه المشكلة[3].

وتُشير تلك المعلومات إلى أن جهود الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء، التي هدفت أساساً إلى تقييد الهجرة غير الشرعية وطلبات اللجوء السياسي، لم تُؤتِ ثمارها على النحو المطلوب. وانطلاقاً من ذلك، تهدف هذه الدراسة إلى الوقوف على ملامح وتوجُّهات السياسات الأوروبية إزاءَ قضايا الهجرة واللجوء السياسي، باعتبارها أصبحت من القضايا المُلحّة في الآونة الأخيرة على جدول الأعمال الأوروبي، بعد ما عُرف بثورات الربيع العربي التي أدت إلى تزايد أعداد المهاجرين إلى أوروبا من دول الشرق الأوسط وأفريقيا على نحو غير مسبوق في التاريخ الأوروبي.

أولاً: الإشكاليات الأوروبية الكبرى
في التعامل مع قضايا الهجرة

يواجه الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء خمس إشكاليات كبرى في ما يتعلق بقضايا الهجرة واللجوء السياسي وكيفية التعامل معها. تدور الإشكالية الأولى حول نُقطتين: تتمثّل النقطة الأولى بتحوّل قضايا الهجرة من كونها قضايا اقتصادية في الماضي إلى قضايا أمنية وسياسية في المقام الأول في الآونة الأخيرة. أما النقطة الثانية فتتمثّل بطابعها عبر الحكومي لطريقة اتخاذ القرار الأوروبي في ما يتعلق بقضايا الهجرة واللجوء السياسي (أي سيطرة حكومات الاتحاد الأوروبي ودوله على عملية اتخاذ القرار). بعبارة أخرى، يتمثل المدخل الأكثر تفسيراً لسياسات الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة واللجوء السياسي في فهم السياسات الداخلية لكل دولة أوروبية تجاه قضايا الهجرة، لأن الدول الأوروبية الأعضاء لا المؤسسات فوق القومية لها الكلمة العليا في ما يتعلق بعملية اتخاذ القرارات المتعلقة بالهجرة.

أما الإشكالية الثانية فتتعلق بحقيقة أن أوروبا هي «قارة المهاجرين»، وأنه بينما معظم الدول الأوروبية تتجه إلى تبنّي إجراءات لتقييد حركة المهاجرين والحدّ من التدفق، فإن اقتصادات هذه الدول، وخاصة الدول الأوروبية جنوب المتوسط، لا يمكن أن تعمل بكفاءة من دون تدفّق الأيدي العاملة الرخيصة من الدول الأخرى، وخاصة دول شمال أفريقيا. فدول الاتحاد الأوروبي تمرّ الآن بتغيّرات جذرية في تركيبتها الديمغرافية (تزايد معدلات الأعمار)، التي تستلزم اتباع سياسات تستهدف سدّ العجز المتوقّع في بعض المجالات الاقتصادية (السماح بمزيد من تدفق الهجرة والعمالة الماهرة). إلا أن هذا التوجه المتوقع، تأثر بشدة نتيجة الأزمة الاقتصادية الأوروبية ونتيجة تزايد معاداة الأجانب والمهاجرين في القارة الأوروبية بصورة جعلت الأحزاب اليمينية المعبرة عن هذا التوجّه في صدارة المشهد السياسي الأوروبي حالياً، وذلك استناداً إلى نتائج انتخابات البرلمان الأوروبي الأخيرة في أيار/مايو 2014‏[4].

في حين تتمثّل الإشكالية الثالثة بعدم وجود اقتراب أوروبي موحّد للتعامل مع قضايا الهجرة واللجوء السياسي في القارة الأوروبية. وتنقسم هذه الإشكالية إلى نقطتين: تتعلق النقطة الأولى بوجود صراع قانوني وسياسي بين معسكرين؛ وهما معسكر الدول الأوروبية جنوب المتوسط، الدول التي على خط المواجهة المباشر مع الهجرة غير الشرعية والأكثر استقبالاً للمهاجرين غير الشرعيين، (إسبانيا، إيطاليا، اليونان، قبرص، ومالطا)، في مقابل معسكر الدول الأوروبية في وسط وشمال أوروبا (فرنسا، بريطانيا، ألمانيا، وغيرها من الدول) حول تحمل أعباء وتكلفة استقبال المهاجرين غير الشرعيين وطلبات اللجوء السياسي. ويطالب معسكر الدول الأوروبية جنوب المتوسط باقي دول الاتحاد الأوروبي أن تتحمل جزءاً أكبر من العبء في طلبات اللجوء السياسي وفي استقبال مزيد من المهاجرين غير الشرعيين. بينما يرى معسكر الدول الأوروبية في وسط أوروبا وشمالها أن ذلك يتعارض مع اتفاق دبلن (The Dublin Agreement) الذي ينص على أن التعامل مع طلبات اللجوء السياسي هو من مسؤولية أول دولة أوروبية تطأُها قدم المهاجر غير الشرعي أو اللاجئ السياسي. أما النقطة الثانية فتتعلق بواقع أن اتجاه معظم الدول الأوروبية ظل لوضع قيود أكبر على الهجرة وعلى حرية الحركة، فإن دول أوروبية أخرى (السويد نموذجاً) تشجّع الهجرة إليها. ففي بريطانيا، أقرّ رئيس الوزراء (ديفيد كاميرون) بأن حكومته كانت قد ارتكبت خطأً فادحاً عندما لم تحدّ من سبل وصول المهاجرين إلى سوق العمل البريطاني في أعقاب دخول دول وسط أوروبا وشرقها في عضوية الاتحاد الأوروبي في عام 2004، وهو ما أدى في نهاية المطاف إلى تزايد عدد المهاجرين إلى بريطانيا على نحو غير مسبوق وغير متوقّع.

وقد اتخذت بريطانيا بالفعل عدداً من الإجراءات التي تهدف إلى الحد من عدد المهاجرين إليها، تمثّل أهمها في إصدارها لقانون جديد في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2013 يضع العديد من القيود على المهاجرين واللاجئين. وقد تضمّن هذا القانون العديد من البنود، منها أنه يجبر مالكي العقارات على التحقُّق من مواقف الهجرة الخاصة بمستأجري عقاراتهم، ويمنع المقيمين بصورة غير شرعية من فتح حسابات مصرفية، ويمنح للسلطات البريطانية حقَّ تسفير المجرمين الأجانب إلى بلدانهم أولاً ثم الاستماع إلى استئنافهم لاحقاً. ويجبر القانون الجديد أيضاً المقيمين الشرعيين المؤقتين، كالطلاب، على دفع مبالغ معينة لنظام التأمين الصحي، وذلك لمنع ما أصبح يُعرف بـ «السياحة الطبية» التي يحصل من خلالها المهاجر غير الشرعي على العناية الطبية في المستشفيات البريطانية، ويفرض قيوداً جديدة على الزيجات الوهمية التي قد يدخل من خلالها بعض المهاجرين من أجل الإقامة في بريطانيا[5].

وبهذا، أصبحت الهجرة قضية ساخنة في بريطانيا، وذلك بالتزامن مع ارتفاع تكاليف المعيشة بسبب الأزمة الاقتصادية الأوروبية وإجراءات الحكومة التقشّفية. واحتدم النقاش والجدل حول أن عدداً كبيراً من المواطنين من خارج الدول الأوروبية يضع قيوداً كبيرة على سوق العمل وعلى المرافق والخدمات العامة في بريطانيا[6].

من ناحية أخرى، صوّت الناخبون السويسريون، في 10 شباط/فبراير 2014، لمصلحة استفتاء يقضي بإعادة نظام تحديد حصص للمهاجرين من دول الاتحاد الأوروبي إلى سويسرا بنسبة تأييد بلغت 50.3 بالمئة. وكان هذا الاستفتاء بمنزلة زلزال جديد في أوروبا من شأنه تهديد أحد المبادئ الأربعة الرئيسة والحاكمة للاتحاد الأوروبي، وهو مبدأ حرية الأفراد في التنقّل[7]. فقد اعتبر وزير الخارجية الفرنسي نتائج هذا الاستفتاء خبراً سيئاً سواء لأوروبا أو لسويسرا لأنه يعني إنهاء اتفاق حرية التنقّل للأفراد الذي كانت سويسرا قد وقّعته مع الاتحاد الأوروبي[8].

وانطلاقاً من ذلك، قام الاتحاد الأوروبي بتهديد سويسرا بإعادة تقييم العلاقة معها بعد موافقة مواطنيها على مبدأ تقييد الهجرة؛ لأن التصويت السويسري مثّلَ تحدياً مباشراً لحرية حركة المواطنين الأوروبيين في القارة الأوروبية، وهي إحدى الدعامات الرئيسة للاتحاد الأوروبي[9]. وبالفعل قام الاتحاد الأوروبي بتأجيل المفاوضات مع سويسرا في شأن أنظمة البحث والتعليم (Multibillion-Euro Research and Educational Schemes)‏[10].

وهناك تخوّفات في أوروبا من أن يمتد تأثير هذا الاستفتاء إلى دول أخرى. فقد دعا أحد الأحزاب الكبرى الحاكمة في النرويج إلى إجراء استفتاءٍ مشابه لاستفتاء سويسرا بهدف الحد من الهجرة داخل دول الاتحاد الأوروبي[11]. وفي فرنسا طالب الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، قبيل انطلاق الانتخابات البرلمانية الأوروبية، بتشديد إجراءات الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي وبإدخال تعديلات في هيكل الاتحاد وبتعليق العمل باتفاقية التي تتيح التنقل الحر بين دول الاتحاد الأوروبي الموقعة عليه، واستبدالها باتفاقية جديدة من شأنها منع المهاجرين الأجانب الذين يدخلون إحدى دول الاتحاد من التنقل بين دوله الأخرى بحثاً عن أفضل إعانات اجتماعية يمكنهم الحصول عليها[12].

وعلى الرغم من اعتراف خوسيه مانويل باروزو (رئيس المفوضية الأوروبية) بحقيقة أن حرية حركة المواطنين في داخل الاتحاد الأوروبي قد فرضت ضغوطاً قوية على المرافق والخدمات الأوروبية العامة، وأنه يتم إساءة استخدامها من قِبل البعض، وذلك في خطوة لتوضيح أن بروكسيل تتفهم المخاوف الحالية لدى بريطانيا وبعض الدول الأوروبية الأخرى، إلا أن باروز أكد أن المفوضية الأوروبية لا يمكنها أن تُساوم على حق وحرية المواطنين في الحركة داخل دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين باعتباره إحدى الدعامات الأربع للاتحاد (العمل، رأس المال، السلع، والخدمات)[13].

وبينما تدرك المؤسسات الأوروبية «حرية حركة العمالة في الاتحاد الأوروبي» على أنها ملمح إيجابي من ملامح السوق الأوروبية المشتركة، فإنها أصبحت قضية جدلية مع توسّع الاتحاد الأوروبي. فقد دفع الرافضون للتوسّع، وعلى رأسهم بريطانيا، إلى أن موجات الهجرة الواسعة من دول وسط أوروبا وشرقها قد تُغرق أسواق العمل الغربية، ما يؤدي إلى ما يسمّى بالسياحة الاجتماعية وزيادة الكراهية للأجانب. وعلى النقيض من ذلك، كانت السويد واحدة من الدول الأوروبية الثلاث التي فتحت أبوابها بشكل تلقائي وآني لمواطني الدول الأوروبية الأعضاء الجدد في 2004 و2007، ودعمت بقوة تحرير سياسة الهجرة الأوروبية. إذاً، بينما اتبعت معظم الدول الأوروبية ذات الدخول المرتفعة سياسة انتقائية في ما يتعلق بشروط من قد يتم قبوله، مع التركيز على العمال ذوي المهارة العالية في مقابل العمال ذوي المهارة المنخفضة، ووضعت شروطاً أكثر صرامةً في ما يتعلق بعدد المهاجرين المقبولين لديها، فإن السويد ذهبت في الاتجاه المعاكس تماماً. ففي تناقض تام مع التشريعات الوطنية في الدول الأوروبية الأخرى التي تحاول تقييد الهجرة، لم تعتمد السويد على سياسة الحصص أو على استقدام عمالة ماهرة ومدربة تدريباً عالياً. فأحد الملامح الرئيسة لسياسة السويد هو تركيزها على جانب الطلب على العمل، سواء أكان بصورة عمالة مؤهلة أم غير مؤهلة[14].

وتتمثّل أحد التفسيرات الهيكلية لزيادة اهتمام السويد في إصلاح سياسات الهجرة لكي تصبح أقل تقييداً بتغيّر الطبيعة الديمغرافية لها مع تزايد معدلات أعمار سكانها بشكلٍ ملحوظ. بالإضافة إلى ذلك، ساهم عدم وجود حزب معادٍ للمهاجرين في السويد في تفسير الاستثناء السويدي، وذلك مقارنةً بدول شمال أوروبا (The Nordic States)، حيث كانت الأحزاب السياسية المعادية للمهاجرين، بسبب قوتها البرلمانية، قادرة على فرض قيود أكبر على الهجرة[15].

أما الإشكالية الرابعة فتجسّدت في تسارع وتيرة الهجرة إلى أوروبا على نحو غير مسبوق – في أعقاب ما عُرف بثورات الربيع العربي – من دول الشرق الأوسط وأفريقيا بشكل دفع معظم قادة دول الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في تحرك استراتيجي يهدف إلى مواجهة هذه الموجه غير المسبوقة من الهجرة إليها. فقد أدت ثورات الربيع العربي إلى تزايد تدفق المهاجرين من دول شمال أفريقيا إلى أوروبا على نحو غير مسبوق في التاريخ الإنساني. فيكفي الإشارة إلى أن إيطاليا وحدها استقبلت ما يزيد على 26 ألف مهاجر من دول شمال أفريقيا في الأشهر الأربعة الأخيرة من العام الحالي، بزيادة قدرها (823 بالمئة) عن نسبة المهاجرين لديها في العام السابق. وقد دفع ذلك إيطاليا إلى التهديد بشكل علني بالسماح لهؤلاء المهاجرين بالمرور إلى الدول الأوروبية الأخرى إذا لم ترفع باقي الدول الأوروبية من مقدار المساعدات المالية والتقنية اللازمة لمواجهة هذه الأزمة[16]. وورد في آخر تقرير عن عدد المهاجرين إلى أوروبا من دول شمال أفريقيا إلى أن العدد وصل إلى 60 ألف مهاجر في الأشهر الأربعة الأخيرة فقط، وهو ما يزيد على معدلات الهجرة التي حدثت في أعقاب العام 2011، عام ثورات الربيع العربي، حيث كان العدد الإجمالي 140 ألف خلال 2011 – 2012. وتنفق إيطاليا نحو 300 ألف يورو يومياً على خفر السواحل الإيطالية بهدف منع الهجرة غير الشرعية[17].

في حين تتمثّل الإشكالية الخامسة والأخيرة في محاولة معظم دول الاتحاد الأوروبي ومؤسساته إيجاد نوع من التوازن ما بين (الرغبة في منع وتقييد الهجرة غير الشرعية وطلبات اللجوء السياسي إليها)، وما بين (احترام قيم حقوق الإنسان وحقوق المهاجرين واللاجئين السياسيين). ففي مجال الهجرة واللجوء السياسي، يمكن التمييز بين نوعين من الأطر النظرية التي تحكم الفكر الأوروبي للتعامل معها: الإطار الواقعي للأمن الداخلي والإطار الليبرالي المتعلق بحقوق الإنسان. يركز الإطار الواقعي على مسألة التحكّم في الحدود وعلى فكرة سيادة الدولة. وفي هذا الصدد لا يوجد تمييز بين التحركات العابرة للحدود سواء أكانت في شكل هجرة غير شرعية أم لجوء سياسي أم لاجئين، فالكل سواء في كونهم مواطنين من دولة ثالثة يجب التحكّم في دخولهم إلى الأراضي الأوروبية، في إطار الحفاظ على الأمن والاستقرار الداخلي. أما الإطار الليبرالي، فعلى النقيض من ذلك، يتبع منظوراً إنسانياً يركز على الأفراد، ويُعلي من قيمة حقوق الإنسان. وبالتالي، يتمحور مركز التفكير في الحفاظ على حقوق الأفراد والإنسان، ويعني ذلك أن يتمتع اللاجئ السياسي بحقه في الحصول على الحماية والدخول في إجراءات حماية اللاجئين. ومن هنا تتمثّل الإشكالية الأوروبية في أن التركيز الشديد على الليبرالية قد يؤدّي إلى تقويض سيادة الدولة، بينما التركيز بشكل كبير على السيطرة والتحكم في الحدود قد يُقوّض حقوق الإنسان العالمية وقيمة ومبدأ حرية الحركة[18]. وما زالت أوروبا منقسمة، في ما يتعلق بالهجرة غير الشرعية، ما بين «الحاجة إلى احترام حقوق الإنسان» وبين «الحاجة إلى تقليل عدد المهاجرين غير الشرعيين الداخلين إليها»[19].

وهناك توجّهان رئيسان في أوروبا لمواجهة تلك الإشكالية: يطالب الاتجاه الأول بضرورة تقوية التحكّم في الحدود الأوروبية، من خلال زيادة دوريات الاستطلاع وتدعيم دور وكالة فرونتكس، بينما يرى الاتجاه الثاني أن وضع قيود أكبر على الحدود الأوروبية سيؤدي فقط إلى تقليل خيارات المهاجرين المتعطشين للهجرة إلى أوروبا، وسيدفعهم على نحو أكبر وأعمق إلى براثن مهرّبي المهاجرين وتجّار الهجرة غير الشرعية. ويرى خالد قصير أن الاتجاه الأخير هو السائد بين معظم صانعي القرار في أوروبا. ففي قمة المجلس الأوروبي في بروكسيل، في أواخر تشرين الأول/أكتوبر 2013، اعترف قادة الدول الأوروبية بالحاجة إلى تقوية دوريات الاستطلاع من خلال وكالة فرونتكس، لكن الخبرة الأوروبية تقول إن الهجرة مثلها مثل صنبور المياه لا يمكن إغلاقه بالكامل من خلال حماية الحدود فقط، بل يجب أن يشتمل ذلك على مواجهة جذور القضية (الصراعات والفقر في العالم النامي وتنظيم سوق العمل)[20]. وعلى خلفية هذه الإشكاليات الخمس الكبرى التي يواجهها الاتحاد الأوروبي، يمكن رصد ملامح السياسات والاستراتيجيات الأوروبية للتعامل مع قضايا الهجرة واللجوء السياسي.

ثانياً: السياسات والاستراتيجيات الأوروبية إزاء قضايا الهجرة واللجوء السياسي

كانت بعض الدول الأوروبية قد أبرمت ما عُرف باتفاقية في عام 1985، خارج نطاق مؤسسات الاتحاد الأوروبي، والتي تسمح نصوصها بإلغاء عمليات المراقبة على الحدود بين البلدان المشاركة، كما تتضمن أحكاماً بشأن سياسة مشتركة بشأن الدخول المؤقت للأشخاص (بما فيها تأشيرة). وكان الهدف الرئيس من وراء هذه الاتفاقية هو ضمان حرية حركة المواطنين داخل دول الاتحاد الأوروبي، إلا أنها لم تدخل حيز النفاذ إلا في العام 1995‏[21]. وبذلك بينما بدأ التعاون الأوروبي في ما يتعلّق باللجوء والهجرة في اتفاقية ماسترخت في العام 1993، فإن التعاون على التحكم في الحدود الخارجية للدول الأعضاء كان قد تطور في سياق مجموعة وخاصة بعد دخول اتفاقية شينغن حيز النفاذ في عام 1995. ولم تدخل اتفاقية شينغن في الإطار المؤسسي للاتحاد الأوروبي إلا مع دخول اتفاقية أمستردام حيز النفاذ في عام 1999، وهي السنة ذاتها التي انطلق فيها التعاون الأوروبي في مجال الهجرة واللجوء السياسي انطلاقة أعمق وأكبر مع تبنّي الدول الأعضاء ما عُرف ببرنامج (تامبر Tampere). وكان هذا البرنامج محدد المدة – خمس سنوات – وهدف بالأساس إلى تطوير السياسات الداخلية للدول الأوروبية وتطوير سياسات أوروبية مشتركة في ما يتعلق بقضايا اللجوء والهجرة غير الشرعية[22].

وتشير تلك المعلومات إلى حقيقة أن قضايا الهجرة أصبحت لها مكانة مركزية في داخل الاتحاد الأوروبي في تسعينيّات القرن العشرين، وأن الهدف الأوروبي تمثّل في تقليل تدفقات الهجرة إلى أوروبا. ومن هذا المنطلق، بدأت الدول الأوروبية في الدخول في شراكات مع الدول الأخرى (الثالثة). فقد كان إبرام اتفاقيات شراكة وتجارة إحدى الدعامات الرئيسة لخلق علاقات تعاقدية مع الدول الأخرى بما يمكّن دول الاتحاد الأوروبي من الحد من الهجرة غير الشرعية[23].

ويمكن في هذا الصدد فهمُ اتفاقيات الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي عُرفت بعملية برشلونة في العام 1995. فقد ركزت معظم المشروعات المشتركة بين الاتحاد الأوروبي وحكومات دول شمال أفريقيا على منع المهاجرين غير الشرعيين، بالقوة، من التسلل إلى أوروبا، سواء عن طريق إنشاء معسكرات احتجاز، أو عن طريق ترحيل المهاجرين غير الشرعيين. كما سعت هذه الجهود إلى تدعيم الاتفاقات الأمنية المشتركة الثنائية أو الجماعية بين الدول الواقعة على ضفتي المتوسط، التي تتيح الدعم المادي واللوجيستي لحكومات شمال أفريقيا، وكذلك اتخاذ إجراءات أمنية جديدة لتشديد الرقابة على الحدود، والرفع من قدرات الحراسة، وتعقّب المهرّبين والمهاجرين أنفسهم. بالإضافة إلى إنشاء بنك معلوماتي أوروبي للإنذار المبكر للسلطات الأمنية بوجود مهاجرين غير شرعيين داخل أوروبا[24]. ويمكننا كذلك فهم خطط العمل (Action Plans) التي تمّ طرحها في إطار سياسة الجوار الأوروبي الجديدة تجاه دول جنوب أوروبا وشرقها. فعلى الرغم من وجود جوانب اقتصادية واجتماعية وسياسية في خطط العمل هذه، فقد كان الهدف الرئيس لها هو خلق بيئة مناسبة اقتصادياً واجتماعياً في تلك الدول بما يقلّل تدفّق الهجرة إلى أوروبا، وفي الوقت نفسه الحصول على التزامات جادة من حكومات هذه الدول بمنع تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلى أوروبا[25].

وفي سياق تحوّل الهجرة إلى قضية أمنية في أوروبا، قررت الدول الأوروبية الأعضاء تأسيس وكالة أوروبية للتعاون وإدارة الحدود الخارجية لدول الاتحاد الأوروبي التي أصبحت تُعرف باسم فرونتكس (FRONTEX) (الوكالة الأوروبية لمراقبة الحدود). وكان قد تمّ تأسيس هذه الوكالة في 26 تشرين الأول/أكتوبر 2004 بهدف رئيس هو دعم التعاون من الناحية العملية بين الدول الأوروبية في ما يتعلق بالحدود الخارجية الأوروبية، وذلك في ضوء تزايد معدلات تدفق المهاجرين غير الشرعيين وتوسع الاتحاد الأوروبي والربط الأوروبي المباشر بين المهاجرين والإرهاب في أعقاب هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر 2001. وبدأت هذه الوكالة العمل بالفعل في تشرين الأول/أكتوبر 2005، وأسست مركزها الرئيس في (وارسو)، وتمثلت مهمتها الأساسية في حراسة الحدود لا سيّما ساحل البحر المتوسط، وتطوير نظام الحراسة على الحدود الخارجية من خلال تنسيق عمليات مشتركة لدولها الأعضاء[26].

وبالتوازي مع تأسيس وكالة فرونتكس، أصدرت الدول الأوروبية ما عُرف باتفاقية دبلن في العام 2003، وذلك بهدف التعامل مع طلبات اللجوء السياسي، وعدم تمكين طالبي اللجوء إلا بالتقدّم إلى دولة واحدة فقط من دول الاتحاد الأوروبي. وتمثّلَ حجر الزاوية في اتفاقية دبلن في تأسيس نظام لإعادة التوزيع بهدف التعامل مع طالبي اللجوء والمهاجرين غير الشرعيين بناءً على قاعدة أو مبدأ «الدولة الأولى التي تستقبل المهاجرين». ويُلقي هذا المبدأ المسؤولية الكاملة على هذه الدولة، أول دولة أوروبية تطأُها قدم المهاجر غير الشرعي أو اللاجئ في فحص طلبات اللجوء السياسي وإعادة المهاجرين غير الشرعيين إلى دولهم الأصلية[27].

وفي 2005، مع تزايد تدفق الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، تبنّى قادة الاتحاد الأوروبي ما عُرف بالاقتراب العالمي للهجرة (Global Approach to Migration). وقد تم تعريف هذا الاقتراب العالمي على أنه البعد الخارجي للسياسة الأوروبية المشتركة للهجرة، وذلك من خلال عدم تركيزه على التعامل الأمني مع قضايا الهجرة فقط، بل عن طريق الدخول في شراكات حقيقية مع الدول الأخرى بهدف الحد من تدفق المهاجرين[28]. وفي سياق هذا الاقتراب الجديد، ظهر ما يُعرف باتفاقيات الحركة (Mobility Partnerships) في الفكر الأوروبي. فقد تم تقديم هذه الاتفاقيات في 2007 وهي اتفاقيات بين الاتحاد الأوروبي وبين «الدول الثالثة غير الأعضاء في الاتحاد» التي لديها استعداد للقبول ببعض الالتزامات، خاصة في مجال منع الهجرة غير الشرعية. وفي المقابل، يقدم الاتحاد الأوروبي عدداً من الوعود والالتزامات تتمثّل في تحسين فرص الهجرة الشرعية لمواطني تلك الدول، وتقديم المساعدات الفنية لهذه الدول بهدف تطوير قدراتها على إدارة ملف الهجرة، وتحسين إجراءات إصدار التأشيرات لمواطني هذه الدول. وتنبغي الإشارة في هذا الصدد أن مشاركة أي دولة في هذه الاتفاقيات هو عمل اختياري وطوعي، وهو ما يعني أن المصلحة الداخلية للدول الأعضاء هي التي تحدد مدى مساهتمها في تلك الاتفاقيات أم لا[29].

ومع ذلك، ظلّ التعامل الأمني هو القاعدة في تناول دول الاتحاد الأوروبي لقضية الهجرة غير الشرعية حتى قيام ثورات الربيع العربي. فقد قامت دول الاتحاد الأوروبي بإنشاء مراكز اعتقال خاصة بالمهاجرين غير الشرعيين، الذين يتم إلقاء القبض عليهم على السواحل الأوروبية، حيث يُحتجزون بها حتى يتم ترحيلهم إلى بلدانهم الأصلية. وقد سمح القانون الجديد، الذي كان قد صدر عن البرلمان الأوروبي في العام 2008، باحتجاز المهاجرين غير الموثّقين، وطالبي اللجوء الذين لم يُوافق على طلباتهم لمدة أقصاها 18 شهراً، مع السماح بحظر دخولهم إلى الاتحاد لمدة خمس سنوات. وبالتزامن مع ذلك، قام المجلس الأوروبي في تشرين الأول/أكتوبر 2008 بتبني اتفاق أوروبي خاص بالهجرة، غير ملزم، أثناء فترة الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي. وفرض الاتفاق غير الملزم رقابة أشد على لمّ شمل أسر المهاجرين، ودعى دول الاتحاد الأوروبي إلى السعي إلى تبني أسلوب الطرد، ودفع النقود للمهاجرين كي يعودوا إلى بلادهم، والعودة إلى الدخول في اتفاقيات ملزمة مع الدول الأصلية للمهاجرين، وخاصة مع ليبيا وتونس، لإبعاد المهاجرين غير الشرعيين[30].

ومع بداية ثورات الربيع العربي، ازداد تدفّق المهاجرين غير الشرعيين وطالبي اللجوء على نحوٍ غير مسبوق، وهو ما دفع بدوره قادة الاتحاد الأوروبي إلى التفكير في إطار استراتيجي شامل للتعامل مع قضايا الهجرة واللجوء. وفي 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2011 تبنّى المجلس الأوروبي استراتيجية جديدة للتعامل مع قضايا الهجرة عُرفت باسم اقتراب الاتحاد الأوروبي العالمي الجديد الخاص بالهجرة والحركة (The New EU Global Approach to Migration and Mobility (GAMM). وأشارت المفوضية الأوروبية إلى أن هذا الاقتراب الأوروبي الجديد، على النقيض من السياسات الأوروبية السابقة الخاصة بالهجرة، لم يعد ينظر إلى المخاوف الأمنية في التعامل مع ملف الهجرة فقط[31].

ويتكوّن هذا الاقتراب من إطارين عمليين (Two Operational Frameworks): يتمثّل الإطار الأول في اتفاقيات الحركة (The Mobility Partnerships) التي سيتم تقديمها إلى الدول التي لديها جوار مباشر مع الاتحاد الأوروبي وإلى تونس والمغرب ومصر[32]. ويندرج هذا الإطار في سياق ما يُعرف بـ The Three Ms: المال (Money)، النفاذ إلى السوق الأوروبي (Market Access)، والقابلية للتنقل بين الدول الأوروبية وبين الدول العربية (Mobility) باعتبارها أفضل الأدوات التي يمكن أن تحدث فرقاً لأوروبا في مرحلة ما بعد الربيع العربي[33]. ويمكن تفسير المنطق وراء هذا الإطار بحقيقة أن قابلية الحركة للعمالة من هذه الدول قد تكون في مصلحة أوروبا: فالقوة العاملة في أوروبا تسير نحو مرحلة من الهرم (ageing) وهو ما يعني أن هناك نقصاً متوقعاً في العمل في بعض المجالات الاقتصادية يمكن تعويضه فقط من خلال استقدام شباب متعلم، وموهوب من هذه الدول. أما الإطار الثاني لهذا الاقتراب فيغطي الدول التي ليست جزءاً من ترتيبات اتفاقيات الحركة ويشمل وضع أجندات مشتركة للتعاون في مجالي الهجرة واللجوء مع هذه الدول[34].

ويهدف هذا الاقتراب أولاً إلى تحقيق أحد طموحات (استراتيجية أوروبا 2020)؛ وهو أن تستمر أوروبا في أن تظل مقصداً جاذباً للمهاجرين الموهوبين من أنحاء العالم كافة. ويعني ذلك زيادة معدلات الهجرة إلى أوروبا بهدف تعويض التغيرات الديمغرافية (نقص القوة العاملة) في أوروبا. في حين يتمثّل الهدف الثاني لهذا الاقتراب في التعامل بدرجة أكثر من الكفاءة مع الهجرة غير الشرعية واللجوء السياسي من خلال الاتفاق مع الدول الأكثر تصديراً للمهاجرين غير الشرعيين على آلية للحد من ذلك. بعبارة أخرى، اتبعت أوروبا منطق خطط العمل (Action Plans) نفسه الذي اعتمدت عليه في سياسة الجوار الأوروبي الجديدة في التعامل مع قضايا الهجرة واللجوء، وذلك من خلال اتفاقيات الشراكة في ما يتعلق بالحركة. ووضع هذا الاقتراب أربع دعامات أساسية للتعامل مع قضايا الهجرة واللجوء السياسي: تتمثل الدعامة الأولى في تنظيم وتسهيل الهجرة الشرعية والقابلية للحركة بين الاتحاد الأوروبي وبين بعض الدول، وخاصة المهاجرين الأكثر مهارةً والأكثر موهبةً من أنحاء العالم كافة. أما الدعامة الثانية فتتجسد في منع وتقليل تدفقات الهجرة غير الشرعية وذلك من خلال تقوية نظام فرونتكس للحدود والاتفاق مع الدول الأخرى ومساعدتها على منع تدفّق المهاجرين. في حين تشمل الدعامة الثالثة تطوير سياسات أكثر كفاءة في التعامل مع طلبات اللجوء السياسي. في حين تتمثّل الدعامة الرابعة في تعظيم العائد من الهجرة، وذلك من خلال مساعدة المهاجرين الشرعيين في العيش في أوضاع أفضل، ما يمكنهم من تحقيق إضافة اقتصادية للدول الأوروبية وللدول الأصلية للمهاجرين على حدٍّ سواء[35].

ووافق المجلس الأوروبي بالفعل، في نيسان/أبريل 2012، على (الدعامات الأربع للاقتراب العالمي) كإطار شامل وجامع لسياسة الاتحاد الأوروبي في مجال الهجرة. وكان هذا الاقتراب موجهاً في الأساس نحو أفريقيا، إلا أنه تم توسعته ليشمل أيضاً جنوب شرق وجنوب غرب أوروبا. فبالرغم من إقرار الاتحاد الأوروبي بأن اقتراب الاتحاد الأوروبي العالمي الجديد الخاص بالهجرة والحركة يجب تطبيقه على المستوى العالمي، إلا أنه أكد في الوقت نفسه ضرورة وضع أولويات جغرافية تأخذ في الاعتبار مسارات الهجرة من دول الموطن الأصلي[36].

ثالثاً: المستجدات في تعامل الاتحاد الأوروبي إزاء قضايا الهجرة واللجوء السياسي

في ضوء الإشكاليات والسياسات والاستراتيجيات الأوروبية سالفة الذكر، يُمكن فهم المستجدات في تعامل الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء مع قضايا الهجرة في 2013 حتى منتصف 2014. فقد أدى غرق ما يقرب من 400 مهاجر، قرب سواحل جزيرة لامبيدوزا في إيطاليا، في أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2013 إلى وضع قضية الهجرة على جدول أعمال الاتحاد الأوروبي من جديد. فقد أدت تلك المأساة إلى حدوث انشقاقات عميقة بين قادة الدول الأوروبية حول كيفية منع تكرار حدوث مأساة مماثلة لها مرة أخرى في المستقبل. ففي قمة المجلس الأوروبي في بروكسيل في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2013، اعترف قادة الاتحاد الأوروبي بالحاجة إلى تقوية دوريات الاستطلاع عبر وكالة فرونتكس. إلا أنهم أكدوا الجانب الذي يجب أن يشتمل على أي حل لقضية الهجرة وعلى مواجهة جذور المشكلة وذلك في إشارة إلى الصراعات والفقر، ومحاربة المهربين، وتنظيم سوق العمل[37].

كما شهدت القمة الأوروبية خلافات عميقة بين الدول التي على خط المواجهة المباشرة مع الهجرة: قبرص، اليونان، إيطاليا، مالطا، وإسبانيا؛ التي طالبت بدورها باقي الدول الأوروبية بالمشاركة في عبء اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين من خلال إعادة توزيع بعضهم بشكل مؤقت في باقي الدول الأوروبية، وبين الدول الأبعد جغرافياً عن نطاق الهجرة من دول شمال أفريقيا: ألمانيا وفرنسا وبريطانيا؛ التي رفضت بدورها ذلك وأعربت عن استعدادها لتقديم مساعدات لهذه الدول فقط، من دون استعدادها لاستقبال مزيد من المهاجرين. وتدفع تلك الدول إلى أن اتفاق دبلن ينظم التعامل مع طلبات اللجوء السياسي، وأن أول دولة أوروبية يمرّ بها اللاجئ السياسي تصبح هي المسؤولة الأولى عن البت في طلبه للجوء وتصبح مشكلة داخلية لتلك الدولة لا مشكلة أوروبية[38].

وكانت الدول التي على خط المواجهة المباشرة مع الهجرة قد أعربت عن عدم رضاها عن اتفاقية دبلن المعدلة في 2013 التي ستدخل حيز النفاذ في عام 2015؛ لأنها لا تحقق عدالة في توزيع أعباء تدفقات الهجرة على الدول الثماني والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي. فقد تساءل وزير خارجية اليونان، إيفانجيلوس فينيزيلوس، بشكل استنكاري «لماذا دولة تعدادها 10 ملايين نسمة عليها أن تتعامل وحدها مع مليون ونصف مليون لاجئ»، وذلك في إشارةٍ منه إلى تنكّر باقي الدول الأوروبية لمشاركتها في عبء هذه المشكلة[39]. وكانت إيطاليا قد قدمت مقترحاً، في قمة المجلس الأوروبي، لجعل التعاون في قضايا الهجرة شرطاً مسبقاً لتعاون دول الاتحاد الأوروبي في مجالات التجارة والسياسة الخارجية، وهو ما تم تجاهله في القمة من باقي الدول الأوروبية. وأجّل القادة الأوروبيون اتخاذ أية قرارات حاسمة تجاه الهجرة، وذلك في محاولة منهم لتجنّب هذه القضية الحساسة، قبيل الانتخابات البرلمانية الأوروبية في منتصف أيار/مايو 2014 خاصة في ضوء ارتفاع معدلات البطالة وزيادة المشاعر المعادية للمهاجرين في أوروبا[40].

ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى الخبرة الإيطالية في التعامل مع ملف الهجرة واللجوء السياسي قبل ثورات الربيع العربي وبعدها لكي نستوعب مدى خطورة هذا الأمر على الاتحاد الأوروبي. فقد اتخذت إيطاليا العديد من التدابير والإجراءات التي حاولت من خلالها تقييد وتقليل معدّلات الهجرة إليها. فقد أصدرت السلطات الإيطالية قانوناً في عام 2009 يسمح لها بمعاقبة أي مهاجر غير شرعي يدخل الأراضي الإيطالية ويرفض المغادرة بالسجن لمدة تترواح ما بين عام وأربعة أعوام، وغرامة تزيد على 10 آلاف يورو وترحيل قسري إلى موطنه الأصلي. إلا أن محكمة العدل الأوروبية أصدرت حكماً في نيسان/أبريل 2011 يرى أن القانون الإيطالي يتعارض مع المبادئ والقوانين الأوروبية التي تعلي من قيم وحقوق الإنسان الأساسية[41].

ومع تزايد أعداد المهاجرين بشكل غير مسبوق بعد ثورات الربيع العربي، اتخذت إيطاليا العديد من الإجراءات، منها سياسة ترحيل المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، وإصدار تصاريح إقامة دائمة تسمح للمهاجرين باستخدام تأشيرة شينغن للنفاذ إلى باقي الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا، وهو الأمر الذي دفع السلطات الفرنسية إلى الرد بعدم السماح بالنفاذ إلى أراضيها إلا لمن يمتلكون جوازات سفر سليمة، وترحيل ذوي الأوراق غير السليمة إلى إيطاليا. وإزاء المطالبات الإيطالية المتكررة من باقي دول الاتحاد الأوروبي ومن المؤسسات الأوروبية بتوزيع عادل لعبء وتكلفة التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين، وشعور إيطاليا بالإحباط بسبب عدم الاستجابة لهذه المطالب، لوّح وزير الداخلية الإيطالي بفكرة الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي[42].

ومع تزايد أعداد المهاجرين إلى إيطاليا، تزايدت أعداد مراكز الاحتجاز الإيطالية وزاد عدد التجاوزات في حقوق المهاجرين واللاجئين السياسيين، وهو الأمر الذي دفع المفوضية الأوروبية إلى التهديد في أواخر عام 2013 بتقليص المساعدات الأوروبية المخصصة لإيطاليا لمواجهة قضية الهجرة غير الشرعية في حال عدم توفيرها لظروف استقبال إنسانية وكريمة للمهاجرين وطالبي حق اللجوء[43]. وجاءت تصريحات رئيس الحكومة الإيطالية، ماتّيو رينزي، في شهر حزيران/يونيو 2014، مخاطباً مؤسسات الاتحاد الأوروبي: «إن كانت دراما رسوّ المهاجرين على الشواطئ الإيطالية ليست من اختصاص الاتحاد الأوروبي، فاحتفظوا بعملتكم النقدية (يورو) واتركوا لنا قيمنا»، لتؤكد تزايد مشاعر الإحباط الإيطالية من تعامل الاتحاد الأوروبي مع قضايا الهجرة واللجوء السياسي في أوروبا. وبالتناغم مع تلك التصريحات، أكد وزير الداخلية الإيطالي أن بلاده لن تتحول إلى سجن للاجئين السياسيين، وذلك في إشارة منه إلى أن الحكومة الإيطالية ستمنحهم حق التوجه إلى أي مكان داخل الاتحاد الأوروبي[44].

وفي مؤسسة أخرى من مؤسسات الاتحاد الأوروبي، طالب رئيس البرلمان الأوروبي (مارتن شولز) بتوزيع أكثر عدالة للاجئين والمهاجرين بين الدول الأوروبية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وذلك عقب مأساة جزيزة لامبيدوزا (وفاة ما يقرب من 400 مهاجر) في أوائل تشرين الأول/أكتوبر 2013، وأن تعترف الدول الأوروبية أن مشكلة المهاجرين واللاجئين هي مشكلة أوروبية وليست مشكلة قومية. وطالب شولز الدول الأوروبية أيضاً بفتح قنوات شرعية أكبر للهجرة إليها من أجل عدم تشجيع السياسات الأوروبية الآخرين على اتخاذ مسار الهجرة غير الشرعية لأوروبا. فالاتحاد الأوروبي لديه وسيلة قانونية واحدة للهجرة إليها تعرف باسم (البطاقة الزرقاء The Blue Card)، وهي للمهاجرين الأكثر كفاءة وتعليماً وتأهيلاً فقط، وقد تم تأسيسها في العام 2009. ومع ذلك، تلقّت هذه الوسيلة العديد من الانتقادات منذ تأسيسها منها: أنه من حق كل دولة عضو أن تحدد المعايير التي على أساسها يمكن أن تقبل المهاجر الشرعي أم لا، كما أن بعض الدول الأعضاء لم تحول القرار الأوروبي إلى قانون وطني، وذلك على الرغم من أن الحد المتفق عليه لتحويل القرار إلى قانون كان في العام 2011. ودفع ذلك بعض المحللين الأوروبيين إلى القول إن أوروبا لا تريد سوى هجرة منتقاة ومختارة أكثر مهارة وأكثر موهبة[45].

وعلى الرغم من أن فرونتكس (الوكالة الأوروبية لإدارة حدود الاتحاد الأوروبي) شهدت مزيداً من الاهتمام الإعلامي، في الآونة الأخيرة، بسبب تدخلها في منطقة البحر المتوسط في أعقاب الأزمة الليبية، ولنشرها لأول مرة فريق تدخل سريع على الحدود التركية – اليونانية، إلا أنها تعرضت لانتقادات شديدة من قبل منظمات حقوق الإنسان الأوروبية[46]. بالإضافة إلى ذلك، علّق العديد من المحللين على محدودية تأثير فرونتكس في الحد من الهجرة غير الشرعية بسبب ضعف ميزانيتها، حيث وصل حجم ميزانيتها 86 مليون يورو فقط في عام 2013. علاوة على ذلك، تعتمد الوكالة على مساهمات ودعم الدول الأوروبية الأعضاء فيها، وهو ما يعني أنها لا تمتلك أدواتها الفنية ولكنها تستعير فقط ما تقدمه الدول الأعضاء الثماني والعشرون في الاتحاد الأوروبي[47].

وعلى خلفية ضعف أداء فرونتكس وزيادة المآسي الإنسانية الناجمة عن غرق المهاجرين غير الشرعيين على شواطئ أوروبا، خاصة الحادثة الأخيرة في تشرين الأول/أكتوبر 2013، تم اتخاذ خطوة أولى نحو سياسة أوروبية أكثر فعالية في مجال الهجرة في 10 تشرين الأول/أكتوبر 2013. فقد وافق النواب في البرلمان الأوروبي على القواعد المشغلة لنظام مراقبة الحدود الأوروبية (European Border Surveillance System) (اليوروسور The Eurosur)، بما يسمح للدول الأعضاء بأن تتشارك في الصور والبيانات عن التطورات على الحدود الخارجية للاتحاد الأوروبي على أرض الواقع. وقد تم تصميم هذا النظام بهدف تحسين أنظمة التفتيش، والمنع والتعامل مع الهجرة غير الشرعية والجريمة المنظمة العابرة للحدود[48]. وكان هذا النظام قد تم الاتفاق عليه في العام 2008، إلا أنه لم يوضع موضع التنفيذ إلا في كانون الأول/ديسمبر 2013. ويشكك بعض المراقبين في أن الهدف الأوروبي من نظام اليوروسور ليس حماية المهاجرين واللاجئين من الموت بقدر ما هو الحد من تدفقات الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا[49].

وجاءت نتيجة الانتخابات البرلمانية الأوروبية لتعبر عن تزايد الرفض الشعبي الأوروبي للمهاجرين ولطالبي اللجوء السياسي في أوروبا. ففي فرنسا حدث زلزال سياسي، وفقاً لتصريحات رئيس الحكومة الفرنسية الحالي مانويل فالس، تمثل في تصدر حزب الجبهة الوطنية، اليمين الفرنسي المتطرف، نتائج الانتخابات الأوروبية بنسبة (25 بالمئة) من الأصوات أمام حزب الاتحاد من أجل حركة شعبية (اليمين الجمهوري) الذي فاز بنسبة (20 بالمئة) من الأصوات، في ما جاء الحزب الاشتراكي الحاكم في المرتبة الثالثة بنسبة (14 بالمئة) من الأصوات. ومن الجدير بالذكر أن حزب الجبهة الوطنية بزعامة مارين لوبان وحزب الاتحاد من أجل حركة شعبية بزعامة نيكولاي ساركوزي يطالبان بضرورة تشديد إجراءات الهجرة إلى دول الاتحاد الأوروبي وتعديل اتفاقية شينغن[50].

وفي بريطانيا احتل حزب الاستقلال البريطاني المعارض للانضمام للاتحاد الأوروبي المركز الأول بنسبة (27 بالمئة)، وتلاه في الترتيب حزب العمال بنسبة (25 بالمئة) ثم الحزب الحاكم (حزب المحافظين) بنسبة (24 بالمئة). وعلق نايجل فاراج، زعيم حزب الاستقلال البريطاني، على فوز حزبه في بريطانيا: «إن حتمية الوحدة الأوروبية تنتهي الليلة»، في إشارةٍ واضحةٍ منه إلى ضرورة خروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي. بينما علّق مارتن شولز، رئيس البرلمان الأوروبي السابق، على فوز حزب الجبهة الوطنية في فرنسا بقوله «إنه يوم سيئ بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي عندما يحصل حزب يقدم برنامجاً يُروِّج للعنصرية وكره الأجانب ومعاداة السامية على 25 بالمئة من الأصوات»[51]. وفي اليونان احتل حزب (سيريزا) – أقصى اليسار والمعارض للوحدة الأوروبية – مقدمة السباق في الانتخابات بنسبة (26 بالمئة). وتتمثل الرسالة الواضحة من نتائج هذه الانتخابات الأوروبية في أن الشعب الأوروبي غير راضٍ عن أداء الأحزاب السياسية الحاكمة وتعاملها مع الأزمة الاقتصادية الأوروبية أو مع قضايا الهجرة واللجوء في أوروبا[52]. وعلى الرغم من أن أحزاب يسار الوسط ويمين الوسط المؤيدة للاتحاد الأوروبي ستشغل نحو (70 بالمئة) من مقاعد البرلمان الأوروبي البالغ عددها 751 مقعداً، فإن أحزاب اليمين واليسار المتطرف حصلت على ما يقرب من ربع مقاعد البرلمان وهو ما يكفي ليعطيها صوتاً أقوى في تحديد مستقبل أوروبا[53].

خاتمة

يتمثل أهم ملمح للسياسات الأوروبية في مجال الهجرة واللجوء السياسي في أنها غير موحدة وتعتمد بشكل كبير على السياسات الوطنية لكل دولة أوروبية على حدة في المقام الأول. ويمكن القول إن أوروبا منقسمة إلى معسكرين: معسكر دول جنوب أوروبا في مقابل معسكر الدول في وسط وشمال أوروبا. يرى معسكر دول جنوب أوروبا أنه على خط المواجهة المباشر مع قضايا الهجرة، وأنه يتحمل العبء الأكبر في التعامل معها، ويطالب بإعادة توزيع أعباء هذه القضية على باقي دول الاتحاد الأوروبي الثماني والعشرين باعتبارها مشكلة أوروبية لا قضية داخلية. في حين يرى معسكر دول وسط أوروبا وشمالها أن قضية الهجرة هي قضية داخلية بالأساس وأنها تستقبل قدراً كبيراً من الهجرة غير الشرعية وطلبات اللجوء السياسي. ومن واقع تعامل الاتحاد الأوروبي مع قضايا الهجرة يمكن القول إن أوروبا بحاجة ماسة إلى الهجرة المنتقاة (مهاجرين مؤهلين ولديهم مهارة وموهبة)، وذلك بهدف سد العجز المتوقع في سوق العمل الأوروبي نتيجة تزايد معدلات أعمار سكان القارة الأوروبية. وعلى الجانب الآخر، تحارب معظم الدول الأوروبية لمنع الهجرة غير الشرعية باعتبارها مصدراً للعديد من المشكلات الاقتصادية والسياسية والأمنية في بلدانهم.

وعلى خلفية ذلك الهدف الاستراتيجي – استقبال مهاجرين مؤهلين ومنع المهاجرين غير الشرعيين – اتبع الاتحاد الأوروبي سياسات متشابهة بدءاً من عملية برشلونة في عام 1995، ومروراً بسياسة الجوار الأوروبي في عام 2004، وبالاتحاد من أجل المتوسط في عام 2008، وانتهاءً بسياسة الجوار الأوروبي الجديدة في عامي 2011 و2012، وما انبثق منها من اقتراب الاتحاد الأوروبي العالمي الجديد الخاص بالهجرة والحركة GAMM. ودارت كل هذه السياسات حول ضرورة خلق نوع من الشراكة التعاقدية بين الاتحاد الأوروبي وبين الدول الأكثر تصديراً للهجرة غير الشرعية بهدف دفع تلك الدول إلى العمل على تقليل غير الشرعية إلى أوروبا وتقييدها في مقابل مساعدات مالية وفنية يقدمها الاتحاد الأوروبي لها، وفتح آفاق جديدة للهجرة الشرعية. ومن هذا المنطلق، تبنّى الاتحاد الأوروبي ما يعرف باتفاقيات أو شراكات حرية الحركة مع بعض الدول لتحقيق هدفها النهائي وهو استقدام المهاجرين الأكثر كفاءة وتقييد طرق الهجرة غير الشرعية القادمة من تلك الدول.

وعلى جانب آخر، حاول الاتحاد الأوروبي استحداث أدوات ومؤسسات أوروبية (فوق قومية) يمكن أن تساهم في التقليل من التأثير السلبي للهجرة غير الشرعية إلى دوله الأعضاء. وفي هذا الإطار، جاء إنشاء وكالة فرونتكس (الوكالة الأوروبية لإدارة حدود الاتحاد الأوروبي) في العام 2004، ودخولها حيز التنفيذ في عام 2005، وتأسيس اليوروسور (نظام مراقبة الحدود الأوروبية) في العام 2008، ودخولها حيز التنفيذ في أواخر العام 2013. ومع ذلك، ظلت هذه المؤسسات غير قادرة على منع تدفّق الهجرة غير الشرعية وطلبات اللجوء السياسي إلى أوروبا، وتظل الكلمة العليا في التعامل مع ملف الهجرة واللجوء في يد الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.

وفي النهاية، تشير دلائل ومؤشرات نتائج الانتخابات البرلمانية الأوروبية الأخيرة، التي عقدت في منتصف أيار/مايو 2014، إلى حقيقة أن ملف الهجرة سيكون هو الملف الأكثر سخونة على أجندة الاتحاد الأوروبي المستقبلية لأنها أقرت بوجود تكتل قوى اليمين المتطرّف بقوة الذي يطالب بمراجعة عملية الاندماج الأوروبي بالكامل وبتشديد إجراءات الهجرة في الاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أن قضية الهجرة لم تعد قضية أمنية فقط بل أصبحت أيضاً قضية انتخابية وسياسية في المقام الأول في الداخل الأوروبي.

 

اقرؤوا أيضاً  الربيع العربي والهجرة غير القانونية في البحر الأبيض المتوسط