مقدمة:

تبحث هذه الدراسة موضوع سياسة الإهمال الطبي المتعمد من جانب إدارة مصلحة السجون الإسرائيلية بحق الأسرى الفلسطينيين المرضى، كما ستتطرق الدراسة إلى تقويم الدور الفلسطيني الرسمي وغير الرسمي تجاه قضية الأسرى المرضى. ويعتمد الباحث في التحليل أولاً على المقابلات التي أجراها مع بعض قيادات الأسرى ومع وزير الأسرى السابق الأسير وصفي قبها في السجون الإسرائيلية. تمتد الدراسة من سنة 1967 وحتى منتصف سنة 2018 التي شهدت الكثير من الأحداث والاحتجاجات داخل السجون، حيث يتعرض الأسرى لشتى أنواع التعذيب الممنهج، فإدارة مصلحة السجون لا تكتفي بتعذيب الأسرى وإنما تتعمد حرمانهم أبسط الحقوق التي نصت عليها المواثيق الدولية كافة وهي حقهم في العلاج‏[1].

وتنطلق إشكالية الدراسة من الإجابة عن سؤالها المحوري: ما هو هدف إسرائيل من وراء سياسة الإهمال الطبي بحق الأسرى المرضى؟ ويتفرع عن هذه الإشكالية عدد من الأسئلة الفرعية وهي:

  • هل تقوم قيادة الحركة الأسيرة بدورها في التصدي لسياسة الإهمال الطبي المتعمد؟

 

  • إلى أين وصلت حوارات ممثلي الحركة الأسيرة مع إدارة السجون فيما يتعلق بتقديم العلاج المناسب للأسرى المرضى؟

 

  • ما الإدعاءات التي تتحجج بها إدارة مصلحة السجون لامتناعها عن تقديم العلاج المناسب للأسرى المرضى في سجونها؟

 

  • ما الخطوات التي تقوم بها الحركة الأسيرة ضد إدارة السجون عندما يستشهد أسير مريض؟

 

  • هل يُعَدّ مشفى سجن الرملة صالحاً لتقديم العلاج المناسب للأسرى المرضى؟

 

  • ما دور هيئة شؤون الأسرى والمحررين تجاه متابعة ملف الأسرى المرضى؟

 

  • هل تقوم السلطة الفلسطينية بواجبها على المستوى القانوني والدولي تجاه ملف الإهمال الطبي المتعمد الذي أدى إلى زيادة عدد الأسرى الشهداء؟

 

أولاً: سياسة مصلحة السجون الإسرائيلية

يمثِّل موضوع الأسرى بوجه عام، والأسرى المرضى وشهداء الحركة الأسيرة بوجه خاص، منذ احتلال فلسطين، قضية رأي عام عند الشعب الفلسطيني نظراً إلى الحالة الاستثنائية والمأسوية التي يعيشها الأسرى وفي مقدمتهم الأسرى المرضى، الذين يعدُّون مشاريع شهادة بسبب سياسة الاهمال الطبي المتعمدة من قبل مصلحة السجون، ولما يمثله الأسرى من رمز الفداء والتضحية من أجل التحرر من الاحتلال.

1 – الإهمال الطبي

يهدف الاحتلال إلى معاقبة الأسير الفلسطيني على ممارسته حقه المشروع في المقاومة، هذا الحق الذي كفلته الشرائع السماوية والمواثيق الدولية، ونداء الواجب الوطني بضرورة التخلص من نير هذا الاحتلال؛ فالإهمال الطبي هو عقوبة إضافية تفرضها سلطات الاحتلال على الأسرى المرضى ليعيشوا المعاناة المركبة والحقيقية، فالأسير المريض يجتمع عليه ألم القيد، وألم الجسد معاً. وألم القيد أهون كثيراً من ألم الجسد داخل المعتقل الذي سببه الأول والأخير «الإهمال الطبي»‏[2]. وفي هذا الصدد، صرحت النائبة في الكنيست الإسرائيلي حنين زعبي أن معاناة الأسرى من جراء الإهمال الطبي تصل إلى حدود التنكيل‏[3].

إن الرعاية الصحية للأسرى شكلية وشبه معدومة بدليل الشهادات التي يدلي بها الأسرى، وارتقاء الشهداء من بينهم، وازدياد عدد المرضى منهم؛ وهذا يعَدّ خرقاً لمواد اتفاقيتي جنيف الثالثة (المواد 29 و30 و31) والرابعة (المواد 91 و92)، التي أوجبت حق العلاج والرعاية الطبية، وتوفير الأدوية المناسبة للأسرى المرضى، وإجراء الفحوص الطبية الدورية لهم‏[4]، حيث كشفت إحصاءات هيئة شؤون الأسرى والمحررين في نهاية آذار/مارس 2018 أن عدد الأسرى المرضى قد وصل إلى 1800 أسير من أصل 6500 أسير، وأن من بين الأسرى المرضى هناك قرابة 700 أسير بحاجة إلى تدخل علاجي عاجل، من بينهم أسرى مصابون بالسرطان‏[5].

وفي هذا الخصوص، تبين أماني سراحنة، مسؤولة الإعلام في نادي الأسير، أن الإهمال الطبي سياسة متعمدة تنتهجها مصلحة السجون في حق الأسرى المرضى من خلال المماطلة في العلاج، والأخطاء الطبية، وظروف الاحتجاز‏[6]. وتقوم مصلحة إدارة السجون بتحويل الأسرى المرضى إلى إحدى العيادات الطبية التالية‏[7]:

– عيادة الرملة: وهي مقر إدارة السجون، ويطلق عليها المركز الطبي، حيث يتم إحضار الأسرى للمراجعة الطبية فيها، ويوجد في العيادة قسم للأسرى يضم 15 أسيراً يعانون أمراضاً مزمنة معزولين تماماً.

– عيادة سجن السبع أو أيشيل: حيث يتم إخراج الأسرى من سجون الجنوب لعيادة السجن وهناك أطباء مختصون للفحص، وإمكانيات هذه العيادة متواضعة.

– عيادة السجن: توجد في كل سجن عيادة وطبيب عام وآخر للأسنان تقدم خدمات طبية أولية، وتستقبل عدداً محدوداً من الأسرى يومياً، ولا تمتلك سوى الأدوات الطبية الأساسية.

– المشافي الخارجية: وهي مشافٍ مدنية يُحوَّل بعض الأسرى إليها لإجراء العمليات فيها، مثل مشفى سوروكا وغيرها.

إن معدل الانتظار لإجراء عمليات مستعجلة للأسرى يتراوح ما بين سنة وسنتين. وفي ما يخص تلقي العلاج فإن بعض الأسرى ينتظرون أشهراً طويلة لتلقي العلاج أو للخضوع للفحوص الطبية‏[8]؛ فبعض الحالات الصحية تطلبت إجراء بتر للأعضاء نتيجة عدم توافر العلاج أو نتيجة للمماطلة في إجراء العمليات، إضافة إلى أن الأغلبية العظمى من الأسرى تخضع للفحوص بعد تدخل المحاكم، وتجرى العمليات بعد تقديم استئناف للمحكمة العليا؛ فمصلحة السجون لا تلتزم حتى بإجراء الفحوص الروتينية للأسرى والأسيرات، ومن ضمنها فحص سرطان الثدي ‏[9].

في هذا الصدد، كشف الأسير المحرر توفيق أبو نعيم أن الكثير من الأسرى تطورت حالتهم الصحية من متوسطة إلى حرجة بسبب سياسية الإهمال الطبي المتعمد، محذراً من استشهاد أي أسير في أي لحظة‏[10]؛ فالاهمال الطبي لم يقتصر على الأسرى فقط وإنما امتد ليشمل الأسرى الأطفال؛ فالإهمال الطبي المتعمد للطفل حسان التميمي، أدى إلى فقدانه بصره، بعد اعتقاله لأكثر من 15 يوماً حيث لم يقدم الاحتلال إلى الطفل العلاج والغذاء والدواء الطبي الخاص الذي كان يتناوله، على الرغم من طلب المحكمة من إدارة السجن تقديم كل ما هو لازم لحالة الطفل لأنه يحتاج إلى غذاء من نوع خاص، إلا أن إدارة السجن لم تنفذ طلب المحكمة‏[11]. ولا يزال الطفل حسان فاقداً القدرة على الرؤية رغم استقرار وضعه الصحي ونقله من غرفة العناية المكثفة إلى غرف الأقسام العادية في مستشفى شعاري تسيدك الإسرائيلي‏[12].

إضافة إلى ذلك توجد مشكلة مهنية في العلاج المقدَّم؛ فحين يتم تقديم العلاج إلى مريض يعاني مشكلة صحية ما، يعود المريض بمشكلة صحية أكبر. فقد أصيب بعض الأسرى بفيروسات الكبد بعد إجراء فحص اعتيادي عند طبيب الأسنان، نتيجة استخدام أدوات طبية غير معقمة. وهناك من فقد القدرة على الحركة بسبب حقنة غير ملائمة ‏[13]. وفي السياق نفسه تبين الأسيرة المحررة فاطمة الزق أن الاحتلال يتبع سياسة العلاج غير المعروف، والقتل البطيء بحق الأسرى‏[14].

2 – إدارة مصلحة السجون

أُسست مصلحة السجون الإسرائيلية (الشاباص)، سنة 1949، وهي تتبع لوزارة الداخلية الإسرائيلية وتمثل الذراع التنفيذية لإنفاذ القانون في إسرائيل. يقع مقرها الرئيسي في مدينة الرملة المحتلة، وهي مسؤولة عن إدارة كل السجون في إسرائيل‏[15]. تسعى مصلحة السجون الصهيونية لمضاعفة معاناة الأسرى وتحويل حياتهم إلى جحيم داخل الأسر ضمن سياسة العقاب الدائم والمتواصل للأسرى، ولا تنفك عن التخطيط والتفكير في ابتداع أساليب من شأنها قهر الأسرى ومضاعفة معاناتهم، ومن ضمن هذه الأساليب اتباع سياسة الإهمال الطبي المتعمد في حقهم‏[16].

تهدف إدارة مصلحة السجون عبر إجراءاتها كسر إرادة المناضل الفلسطيني، وصولاً إلى تفريغه من مبادئه، وفي هذا السياق تنتهج إدارة السجون سياسة ممنهجة للإهمال الطبي، الذي يعني توفير مبالغ طائلة على دولة الاحتلال. وقد سُجلت عدة حالات مرضية اشترط علاجها بالتعاون مع الاستخبارات الإسرائيلية‏[17].

لم تلتزم إدارة مصلحة السجون باتفاقها مع الأسرى في إضرابهم الأخير عن الطعام سنة 2017، الذي استمر 42 يوماً وكان من أبرز مطالبه تحسين الرعاية الطبية، ووقف سياسة الإهمال الطبي، والإفراج عن الأسرى المرضى، وإنما صعدت من سياسة الإهمال الطبي بحق الأسرى المرضى، ورفضت نقل العديد منهم إلى المستشفيات المدنية‏[18].

كشفت رئيسة الكنيست داليا إيتسك أن إدارة مصلحة السجون تسمح لشركات الأدوية الإسرائيلية بتجربة أدوية خطيرة تحت الاختبار الطبي سنوياً على الأسرى الفلسطينيين. وفي الإطار نفسه أكدت إمي لفتات رئيسة شعبة الأدوية في وزارة الصحة الإسرائيلية في جلسة أمام الكنيست ما كشفت عنه إيتسك، وبينت أن هناك زيادة سنوية في عدد التصريحات التي تصدرها الوزارة للقيام بمزيد من التجارب على الأسرى‏[19]. ويبين الأسير المحرر محمد التاج أنه تعرض أثناء فترة وجوده داخل الأسر لإهمالٍ طبي أدى إلى حدوث تلف في الرئتين وعضلة القلب، حيث صرح التاج أن الأسير يدخل سليماً، وخلال فترة الأسر تُستخدم أدوية مجهولة المصدر في الأسير، بجعل أجساد الأسرى حقل تجارب لشركات الأدوية، وبإشراف مصلحة السجون التي تتقاضى مبالغ طائلة من شركات الأدوية؛ لسماحها بهذه التجارب الخطيرة‏[20].

على هذا المنوال، تناول الأسير المحرر زياد شعيبات علاجاً مجهولاً لآلام الديسك في ظهره خلال وجوده في الأسر، وبعد يوم حذره الممرض من الآثار الجانبية لهذا الدواء بطريقة غير مباشرة. وبعد تحرره من السجن، بدأت الأورام تظهر في أنحاء جسده كافة، وقد عجز الأطباء عن مواصلة علاجه‏[21]. كما تُقدّم أدوية منتهية الصلاحية للأسرى، فقد أعطى أحد الأطباء رئيسَ المجلس التشريعي عزيز دويك، الذي يعاني أمراضاً مزمنة، دواء منتهي الصلاحية‏[22].

يهمنا في هذا السياق أن نشير إلى أن مصلحة السجون الإسرائيلية تتنكر لحقوق الأسرى في الرعاية الصحية والطبية، وبخاصة المواد الواردة في اتفاقية جنيف الرابعة وعلى رأسها المادة 91 والمادة 92 اللتان تنصان على وجوب توفير عيادة مناسبة يشرف عليها طبيب مؤهل في كل معتقل، وأن يحصل الأسرى على حاجتهم من الرعاية الصحية، وذلك وفقاً لما صرّح به الباحث القانوني في مؤسسة الحق ناصر الريس‏[23].

لا تتوقف سياسات الاحتلال وانتهاكاته عند أي خصوصية لأي فلسطيني عند الاعتقال، حتى لو كان من ذوي الحاجات الخاصة. فقد بيَّن الأسير الضرير عز الدين عمارنة أن القيود تكون أشد في يديه وقدميه، ويضع الجنود عصبة على عينيه كي لا يرى، وخلال التفتيش الليلي لا يختلف وضعه عن أي أسير في المعاملة القاسية والسادية‏[24]. ويمكن تلخيص أهم الانتهاكات الصحية التي تمارسها إدارات مصلحة السجون تجاه الأسرى بالآتي‏[25]:

1 – عدم تقديم العلاج المناسب للأسرى المرضى، وتقديم أدوية منتهية الصلاحية لهم.

2 – عدم وجود أطباء مختصين داخل السجن، كأطباء العيون والأنف والأذن والحنجرة، وعدم وجود أطباء مناوبين ليـلاً لمعالجة الحالات الطارئة.

3 – عدم توافر الأجهزة الطبية المساعدة لذوي الحاجات الخاصة، كالأطراف الصناعية لفاقدي الأطراف، والنظارات الطبية، وكذلك أجهزة التنفس والبخاخات لمرضى الربو، والتهابات القصبة الهوائية المزمنة.

4 – عدم تقديم وجبات غذائية صحية مناسبة للأسرى، تتمشى مع الأمراض المزمنة.

5 – عدم وجود غرف عزل للمرضى المصابين بأمراض معدية، كالتهابات الأمعاء الفيروسية الحادة والمعدية، والجرب.

6 – حرمان الأسرى ذوي الأمراض المزمنة من أدويتهم، كنوع من أنواع العقاب داخل السجن.

7 – تعاني الأسيرات عدم وجود اختصاصيين أو اختصاصيات في الأمراض النسائية، إذ لا يوجد سوى طبيب عام، وبخاصة أن من بين الأسيرات من اعتقلن وهن حوامل، وبحاجة إلى متابعة صحية، ولا سيَّما أثناء الحمل وعند الولادة، وإجبارهن على الولادة، وهن مقيَّدات الأيدي، من دون الاكتراث بمعاناتهن لآلام المخاض والولادة.

من جهة أخرى، تتذرع مصلحة السجون أحياناً بعدم وجود ميزانيات لبعض العمليات المكلفة، وفي مرحلة سابقة طلبت تحويل مبالغ مالية عالية من أجل إجراء عملية زراعة كلية للأسير أحمد التميمي الذي كان محكوماً بالمؤبد، وقد أصرت الحركة الأسيرة على رفض مبدأ الدفع حتى لا تكون سابقة وذريعة للاحتلال لتكون علاجات الأسرى المرضى على نفقتهم الخاصة، وعلى مدار أربع سنوات، عانى التميمي خلالها كثيراً قبل أن يتم استصدار أمر قضائي يلزم مصلحة السجون بإجراء العملية على نفقة مصلحة السجون، وبالفعل، تمكن التميمي من زراعة الكلية في آب/أغسطس 2008 بعد أن تبرع له أحد أقاربه بإحدى كليتيه‏[26].

يتوقع عيسى قراقع رئيس هيئة شؤون الأسرى، بسبب استمرار سياسة الإهمال الطبي المتعمَّدة ضد الأسرى، ارتقاء المزيد من الشهداء بصفوف الأسرى‏[27]. وهذا ما يؤكده قول الأسير المريض فؤاد الشوبكي، في 8 تموز/يوليو 2018، أن الاحتلال يريد أن أموت داخل السجن ولا يريد مني أن أرى الحرية‏[28].

3 – مشفى سجن الرملة

لا يختلف مشفى سجن الرملة عن أي سجن آخر، فهو يفتقر إلى وجود أطباء مختصين وإلى وجود علاج حقيقي‏[29] فالأسرى الموجودون فيه هم من أصحاب الأمراض الخطيرة، كأمراض القلب والسرطان والشلل والكلى، ويحتاجون إلى عناية فائقة. لذلك يطلق الأسرى على هذا المشفى اسم مقبرة الأحياء‏[30]. صرح قراقع في 22 آب/أغسطس2015، أن القابعين في مستشفى الرملة، هم أشباه أموات من المشلولين والمصابين والمعاقين‏[31]. وقد بلغ عدد الأسرى المرضى في هذا المشفى في منتصف نيسان/أبريل من ذاك العام نحو 15 أسيراً مريضاً، مر على وجود بعضهم أكثر من 10 سنوات من دون أن يطرأ أي تغيير على سياسات إدارة السجون في حقهم‏[32].

وقد وصف التاج الذي قبع في سجن الرملة مدة طويلة بأنه أشبه بقسم عزل، وهو عبارة عن أربع غرف متقابلة يوجد فيها أكثر من 17 أسيراً مريضاً من ذوي الحالات الصعبة كأمراض السرطان والقلب والرئتين والكبد الوبائي وحالات متعددة من المقعدين وغيرها، وهم لا يتلقون سوى المسكنات لتخفيف آلامهم. وتماطل إدارة مصلحة السجون في نقلهم إلى المشافي الخارجية، وهذا ما يجعلهم ينتظرون تاريخ استشهادهم بصبر وثبات‏[33].

ويتحدث الأسير زيد بسيسي، ممثل أسرى الجهاد الإسلامي، الذي عاش فترات متقطعة ما بين السجن والمشفى، عن أن بعض الأسرَّة المخصصة للمرضى هي من أعطى لهذا المكان اسم مشفى. والطبيب الذي يعمل في المشفى هو ضابط برتبة رائد، وعندما يرتدي اللباس الأبيض الخاص بالطبيب تكون البدلة العسكرية الرسمية معلقة إما في العيادة بوضوح وإما في زنزانة العيادة‏[34]. وعلى المنوال نفسه يبين الوزير الأسير قبها، أن ما يُطلق عليه «مشفى الرملة» لا يمكن تسميته ولا بأيِّ حال من الأحوال «مشفى»، لأنه يفتقد أبسط متطلبات معايير المشفى، بل يمكن اعتباره كأي قسم من أقسام أيِّ سجن، فهو في حقيقة الأمر سجن تنطبق عليه شروط السجن الأمنية والإجراءات والمعاملة القاسية للمرضى مع الاختلاف النسبي بالمتابعة الطبية حيث يمر الطبيب يومياً مرتين ليسأل الأسير المريض القابع في هذا القسم «المراش» عن ما يشعر به ويعطيه الدواء الذي يجب أن يأخذه؛ هنا لا بد من التنويه بأنه لا يوجد قسم مشابه له خاص بالأسيرات‏[35].

4 – البوسطة ومعاناة الأسرى

تزداد معاناة الأسرى، وبالأخص المرضى منهم، عند نقلهم إلى السجون أو المحاكم أو المستشفيات في سيارة البوسطة التي تشرف عليها فرقة القمع «النحشون»، حيث تستمر رحلة النقل هذه نحو 8 ساعات يكون الأسير طول هذه المدة مقيداً على كرسي حديد ولا يسمح له بقضاء حاجته أو تناول الطعام. إضافة إلى أن عدداً من الأسرى يتم الإعتداء عليهم بطريقة وحشية ومهينة خلال عملية النقل‏[36]. فقضية البوسطة هي من أبرز القضايا التي ما زالت عالقة ولم تحسم بين ممثلي الأسرى‏[37]. فالأسير المسن الشوبكي المصاب بمرض السرطان من الشواهد الخطيرة على تعامل مصلحة السجون مع الأسرى المرضى، من خلال التنقل المستمر له في البوسطة بهدف العلاج، حيث يقول إنها في حقيقة الأمر تضر أكثر مما تنفع‏[38].

تصف الأسيرة النائبة خالدة جرار رحلة البوسطة بالتعذيب، وتضيف أن الأمور تزداد خطورة، وبخاصة على الأسرى المرضى عندما ينقلون في البوسطة وليس في سيارات إسعاف. وتبين جرار أن عدداً من الأسيرات بدأن يتنازلن عن جلسات محاكمهن بسبب الظروف القاسية والمهينة خلال عمليات النقل‏[39]. وفي السياق نفسه، بيَّن بهاء المدهون وكيل مساعد وزارة الأسرى أن الأسرى المرضى يضطرون أحياناً إلى عدم الكشف عن أوجاعهم خوفاً من عملية النقل بالبوسطة‏[40].

وعلى الرغم من التزام مصلحة السجون الصهيونية أمام المحكمة العليا في 2008 و2010 بتحسين ظروف نقل الأسرى من السجون إلى المستشفيات والمحاكم، إلا أن الأسرى ما زالوا يعانون ظروف النقل المزرية، وهو ما يدفع البعض منهم إلى التنازل عن العلاج. على سبيل المثال اضطر أسير يعاني البواسير إلى التنازل عن إجراء فحوصه الطبية بسبب العذاب الذي يعانيه خلال النقل‏[41]. فالأسرى يعتبرون البوسطة قبراً متحركاً‏[42]. وقد قام الأسرى المرضى بإرسال رسالة إلى مفوضية الشهداء والأسرى والجرحى بحركة فتح في القطاع جاء فيها أن عملية نقلهم في سيارة البوسطة الحديد هي جريمة أخرى تضاف إلى سلسلة الجرائم الإسرائيلية‏[43].

من المهم في هذا السياق الكشف أن مصلحة سجون الاحتلال توظف بعض مواقف الأسرى لتدعيم موقفها بعدم وجود إهمال طبي؛ فعلى سبيل المثال يتم تحديد موعد للأسير في عيادة خارجية تابعة لسجن الرملة أو سجن جلبوع، ولأن الأسير لديه قناعة بأنه لن يستفيد من الذهاب إلى العيادة المذكورة يرفض الخروج في البوسطة حيث عذابات ومشقة السفر، إذ يحسبها الأسير أنه في حال خروجه سيعود مريضاً وسيكون طريح الفراش لأسبوع، لذلك عندما يعتذر الأسير عن الخروج تدفعه إدارة السجن إلى توقيع ورقة بأنه لا يريد الخروج من تلقاء نفسه وبقراره المسبق. وقد وقع العشرات من الأسرى في هذه المصيدة، حيث تقوم مصلحة السجون بتجميع هذه الأوراق الموقّعة من جانب الأسرى الذين رفضوا الخروج في بوسطة لعيادة خارجية، وتضمِّنها في تقاريرها بأنها تحدد مواعيد للأسرى لمقابلة الأطباء، والأسرى يرفضون‏[44].

5 – القوانين والانتهاكات الإسرائيلية

تصادر سلطات الاحتلال كل حقوق الأسرى التي كفلتها لهم الاتفاقيات والمواثيق الدولية، وتفـرض عليهم داخل السجن حياةً لا تطاق في تحدٍّ صارخ للقانون الدولي‏[45]. فقد شهدت سنة 2017 ومطلع سنة 2018 تصعيداً في تشريع القوانين العنصرية ضد الأسرى من جانب إسرائيل، ومن أبرز تلك القوانين‏[46]:

1 – مشروع قانون إعدام الأسرى.

2 – مشروع قانون منع زيارات أسرى منظمات فلسطينية تحتجز إسرائيليين.

3 – مشروع قانون يسمح باحتجاز جثامين الشهداء.

4 – مشروع قانون يقضي بحظر الإفراج عن الأسرى، مقابل جثث الجنود الإسرائيليين المحتجزين لدى فصائل المقاومة.

5 – قانون إتاحة إطعام الأسرى المضربين عن الطعام قسراً، الذي أقرَّه الكنيست بالقراءة الأولى في 30 تموز/يوليو 2015. وأصدرت نقابة الأطباء العامة الإسرائيلية موقفاً رافضاً لهذا القانون، وقال رئيس النقابة، ليونيد إدلمان، إنه «لا يمكننا أن ندافع في محكمة الجنايات الدولية في لاهاي عن أطباء يقومون بتغذية أسرى مضربين عن الطعام قسراً»‏[47]. وفي نيسان/أبريل 2017 أضرب أكثر من ألف أسير عن الطعام احتجاجاً على أوضاعهم الداخلية. وأرسل الأسرى المضربون بياناً أكدوا فيه أن «كل محاولة لتنفيذ جريمة التغذية القسرية لأي أسير مضرب ستعني بالنسبة لنا مشروعاً لإعدام الأسرى». يُذكر أن ثلاثة أسرى استشهدوا خلال محاولة تغذيتهم قسراً في الثمانينيات‏[48].

6 – قانون خصم مخصصات الشهداء والأسرى من مستحقات السلطة الفلسطينية، حيث صدقت لجنة الخارجية والأمن التابعة للكنيست الإسرائيلي في 11حزيران/يونيو2018 على قانون خصم فاتورة رواتب الأسرى والشهداء من أموال المقاصة‏[49]. وفي 27حزيران/يونيو2018 صدقت بالقراءة الثانية على القانون نفسه‏[50]. وأقرت الهيئة العامة للكنيست الإسرائيلي القانون بصفة نهائية في 2تموز/يوليو2018‏[51].

أدانت الحكومة الفلسطينية هذا القانون وعدَّته تشريعاً علنياً سافراً لسرقة ونهب أموال الشعب الفلسطيني، واستهدافاً لرموز الدفاع عن الحرية والكرامة‏[52]. من جهة أخرى، اتخذت الولايات المتحدة الأمريكية قراراً في 24 حزيران/يونيو 2018 بـتجميد مساعداتها للسلطة بصورة كاملة، وذلك من أجل إجبار السلطة على وقف دفع رواتب الأسرى، وعائلات الشهداء‏[53]. وقد صرح الرئيس محمود عباس في 8 تموز/يوليو 2018 «بأن المال الذي تعترض إسرائيل على دفعه لعائلات الشهداء والأسرى، لن نسمح لأحد بأن يتدخل به، هؤلاء شهداؤنا وجرحانا وأسرانا وسنستمر بالدفع لهم، ونحن بدأنا بهذا عام 1965»‏[54]. في بيان صادر عن الأسرى في 10 تموز/يوليو 2018، اعتبروا فيه أن هذه القوانين تستهدف المساس بشرعية كفاحهم ضد الاحتلال من أجل الحرية والاستقلال، وثمَّن الأسرى موقف الرئيس عباس برفض هذا القانون، وعدم الخضوع لهذا الابتزاز‏[55]. وهذا ما أكده مجدداً محافظ نابلس أكرم رجوب في خطابه الذي ألقاه في محافظة نابلس في 17 تموز/يوليو 2018، قائلاً «إن السلطة ستواصل دفع مخصصات الشهداء والأسرى رغم الضغوط»‏[56].

جاء هذا القانون للضغط على السلطة الفلسطينية وإخضاعها وإهانتها، وإظهارها بأنها عاجزة عن تحمُّل مسؤوليتها تجاه الأسرى، وبالتالي هذه الخطوة هي من أجل تصفية حسابات دولة الاحتلال مع الأسرى، وتحطيم رمزيتهم ومكانتهم. وعليه، هل ستتوقف السلطة عن دفع مخصصات الأسرى، إلى هذا التاريخ أعلنت السلطة أنها لن تتوقف أبداً عن دفع رواتب الأسرى، ولكن هل تستمر السلطة في الصمود بوجه هذا القرار أم سترضخ تحت ضربات الحصار المالي شبه المطبق عليها مع تراجع الدعم المالي العربي والدولي، وقيام كل من أمريكا وأستراليا بتجميد مساعداتهما للسلطة للسبب نفسه مخافة أن تذهب الأموال المرسلة للسلطة إلى الأسرى والشهداء والجرحى.

7 – مشروع تشديد الإجراءات على الأسرى: طلب وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي غلعاد أردان في 13 حزيران/يونيو 2018، بتأليف لجنة لتقديم توصيات حول السبل الكفيلة بتشديد ظروف الاعتقال‏[57].

ومن ضمن الانتهاكات الإسرائيلية التي كشفت عنها صحيفة هآرتس العبرية في 14 آذار/مارس 2010 قيام أطباء إسرائيليين في مستشفى لنيادو بالمشاركة في تعذيب الأسير جهاد مغربي، الذي اعتقل في نيسان/أبريل 2008، حيث تلقى بعض العلاج على أيدي أطباء تلقوا تعليمات من محققي الاستخبارات بعدم إنزاله إلى المستشفى، وعليه، فقد أعادوه إلى الاستخبارات بعد ساعتين رغم حالته الخطرة، في ما يعد انتهاكاً لإعلان طوكيو لاتحاد الأطباء العالمي الذي يحظر على الأطباء المشاركة في التحقيقات والتعذيب‏[58]. فحكومة الاحتلال تتعامل مع الأسرى كمجرمين بلا حقوق من خلال قوانينها الظالمة‏[59].

ثانياً: أعداد السجون والأسرى

1 – السجون والمعتقلات الإسرائيلية

بعد احتلال فلسطين تأسست حركات المقاومة من أجل التحرر، فعمدت إسرائيل إلى ملاحقة المقاومين وزجهم بالسجون من أجل إنهاء المقاومة. ومع ازدياد أعداد المقاومين الفلسطينيين من مختلف الفصائل والحركات وسَّع الاحتلال سجونه، كما أنشأ سجوناً جديدة حتى تستوعب أكبر عدد ممكن من الشباب المقاوم. ومن أهم السجون الإسرائيلية‏[60]:

– سجن بئر السبع: وهو سجن كبير يتضمن أربعة سجون كل واحد منها منفصل عن الآخر.

– سجن عسقلان: أنشئ في عهد الانتداب البريطاني.

– سجن الرملة: أنشئ إبان الانتداب البريطاني على فلسطين، وأنشئ مستشفى داخل السجن تابع لمديرية السجون الإسرائيلية بهدف معالجة الأسرى.

– معتقل المسكوبية: يقع في القدس، وأقيم في عهد سلطات الانتداب البريطاني، وهو مخصص للتوقيف والاعتقال والتحقيق العسكري، يطلق عليه «اسم المسلخ».

– سجن النقب الصحراوي: افتتح سنة 1988 وأُغلق عام 1995، ثم أعيد افتتاحه مع اندلاع أحداث انتفاضة الأقصى سنة 2000، يتكوَّن السجن من ثلاثة أقسام كبيرة جداً.

– سجن عوفر: أنشئ في فترة الانتداب البريطاني في بيتونيا بالضفة، ويطلق عليه الأسرى اسم «غوانتانامو».

– سجن جلبوع: يقع في شمال فلسطين وافتتح سنة 2004، ويوصف بأنه السجن الأشد حراسة، ويحتجز الاحتلال فيه أسرى فلسطينيين متهمين بتنفيذ عمليات استشهادية.

– سجن نفحة: يعد هذا السجن من أشد السجون الإسرائيلية قسوة، وقد استُحدث هذا السجن خصيصاً للقيادات الفلسطينية بغرض عزلهم عن بقية السجون الأخرى.

– سجن أيالون: ويقع في منطقة وسط فلسطين، حيث يُعتقل فيه السجناء الأمنيون والجنائيون.

– معتقل الجلمة: يقع في شمال فلسطين، ويعد من مراكز التوقيف ذات الطبيعة الأمنية المشددة جداً، ويتم احتجاز الأسرى فيه حتى الانتهاء من التحقيق معهم.

– مركز توقيف بتاح تكفا: يستخدم للتحقيق العسكري وفيه محكمة تمديد وتوقيف.

– مركز توقيف معسكر حوارة: وهو معسكر أقيم بالقرب من نابلس ينقل إليه أسرى المنطقة بصورة أولية للتحقيق معهم، قبل أن يتم نقلهم إلى مراكز تحقيق أخرى.

– مركز توقيف معسكر سالم: يقع بالقرب من مدينة أم الفحم، وفيه محكمة عسكرية.

– مركز تحقيق كفار عتصيون: وهو عبارة عن مركز تحقيق لسكان شمال الخليل.

– معتقل مجدو: يقع في منطقة مرج بن عامر.

– السجن السـري 1391 – غوانتانامو الإسرائيلي: مكان السجن مجهول، وتنتهك في داخله القوانين والمواثيق الدولية والإنسانية كافة بفظاعة، ولم يعرف عدد المحتجزين بداخله، ولم يسمح لأحد بزيارته، وأي شخص يدخل هذا السجن يختفي، ومن المحتمل للأبد، وقد يصبح في عداد المفقودين. وهو السجن الوحيد الذي لا يعرف المعتقلون فيه مكان احتجازهم، وخلال انتفاضة الأقصى نقل إليه عدد من الأسرى وتم التحقيق معهم. ترفض إسرائيل السماح لممثلي الصليب الأحمر بزيارته، وحتى أعضاء الكنيست الإسرائيلي لم يقوموا بزيارته مطلقاً ولم يسمح لهم بذلك‏[61].

2 – الأسرى والمعتقلون في السجون الإسرائيلية

بلغ عدد الأسرى في نهاية آذار/مارس 2018 نحو 6500 أسير؛ منهم 350 طفلاً، و62 أسيرة من بينهم ثمانية قاصرات، وستة نواب من المجلس التشريعي، و500 معتقل إداري، ونحو 1800 أسير مريض من بينهم 700 بحاجة إلى علاج عاجل، و48 أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من عقدين، و25 أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من ربع قرن، و12 أسيراً مضى على اعتقالهم أكثر من ثلاثة عقود، و29 أسيراً معتقلين قبل أوسلو سنة 1993، وكان من المفترض إطلاق سراحهم ضمن الدفعة الرابعة في آذار/مارس عام 2014، إلا أن إسرائيل تنصَّلت من الاتفاقيات وأبقتهم رهائن في سجونها‏[62]. وقد ارتفعت أعداد الأسرى المحكومين بالمؤبدات لتصل في 21 تموز/يوليو 2018 إلى 513 أسيراً، وحكم المؤبد هو حكم بالسجن مدى الحياة ويحدده الاحتلال بـ 99 سنة (مؤبد عسكري)‏[63] .

ثالثاً: الدور الفلسطيني الرسمي وغير الرسمي تجاه قضية الأسرى المرضى

لم يكن وضع الأسرى في السجون يوماً أسوأ مما هو هذه الأيام، حيث تستفرد إسرائيل بهم وذلك في ظل الانقسام الفلسطيني، وعدم وجود رد فعل حقيقي من القيادة والفصائل الفلسطينية لانتهاكات الاحتلال تجاه الأسرى‏[64].

1 – دور التنظيمات الفلسطينية

هناك أربع دعائم أساسية اعتمدت عليها السياسة الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية من أجل معالجة قضية الأسرى‏[65]:

الأولى، المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية، حيث تتعامل السلطة مع ملف الأسرى ضمن القضايا المرتبطة بالحل النهائي، مثل الحدود والأمن واللاجئين. وعلى الرغم من أن هذه السياسة أدت إلى الإفراج عن عدد من الأسرى، إلا أن إسرائيل استخدمت هذه السياسة لحمل السلطة على تقديم تنازلات.

الثانية، تبادل الأسرى، حيث أجريت صفقات للتبادل أفرج بموجبها عن الآلاف من الأسرى، ولكنها أجريت وفقاً لشروط معينة فرضها الاحتلال، منها عدم الإفراج عمن شاركوا في عمليات قتل لجنود ومستوطنين، وإبعاد بعض الأسرى المحررين إلى خارج الوطن أو اشتراط إبعاد البعض من الضفة إلى القطاع‏[66]. وفي هذا الإطار، أكد رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في 14حزيران/يونيو 2018، أن الأسرى يمثلون إحدى ركائز المشروع والنضال الوطني، مضيفاً أن الفصائل الفلسطينية مصممة على تحرير الأسرى، وهذا الأمر على رأس أولوية الفصائل‏[67]. وبالمنطق نفسه، قال الناطق باسم حركة حماس، حازم قاسم، «إن الإفراج عن الأسرى أحد الأهداف الاستراتيجية للحركة»‏[68].

الثالثة، الإضراب عن الطعام: وهي وسيلة يلجأ إليها الأسرى لتحصيل حقوقهم ولتوفير حاجاتهم الأساسية. وظهر مؤخراً نمط الإضراب الفردي طويل الأمد في مواجهة انتهاكات الاحتلال لحقوق الأسرى، وبخاصة الاعتقال الإداري.

الرابعة، تدويل قضية الأسرى قانونياً ودبلوماسياً: وذلك من خلال استخدام الآليات الدولية كافة لعزل إسرائيل ومقاطعتها ومحاسبتها. إلا أن هذه الركيزة لم تستخدم كما يجب من جانب القيادة الفلسطينية، وبخاصة في ضوء حصول فلسطين على عضوية الدولة المراقب.

هذه الركائز لم تستطع إنهاء ملف الأسرى، أو حتى إنهاء معاناة المرضى منهم؛ فقد جددت منظمة الجبهة الشعبية في السجون مطالبتها لمنظمة التحرير الفلسطينية بالعمل العاجل على تدويل قضية الأسرى، من خلال التوجه إلى الجهات الدولية والقانونية‏[69]. وفي 17 نيسان/أبريل 2017 أكد أمناء سر الفصائل ضرورة تعرية سياسة دولة الاحتلال في تعاملها مع الأسرى وانتهاكها لحقوقهم المكفولة في القوانين الدولية‏[70].

وفي سنة 2016 كشف تقرير لمركز أحرار لدراسات الأسرى، أن التعامل مع ملف الأسرى أصبح بطريقة موسمية، وليس ضمن خطة وطنية واستراتيجية ثابتة يشارك بها الكل الفلسطيني ترأسها هيئة شؤون الأسرى. فحتى التفاعل الموسمي ليس كما هو مطلوب من حيث الأعداد والمشاركة والحضور، كما غاب عن المشهد أي دور رسمي حقيقي للقيادة الفلسطينية في تفعيل قضية الأسرى، للفت انتباه العالم إلى الانتهاكات الإسرائيلية بحق الأسرى‏[71]. وعلى المنوال نفسه لم يكن للفصائل الفلسطينية دور فعّال في دعم قضية الأسرى وتعزيز صمودهم في وجه مصلحة السجون، كما لم يكن هناك دور لمؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني في تفعيل قضية الأسرى من خلال أي برامج‏[72].

يعد الانقسام الفلسطيني الذي بدأ سنة 2007 أحد أهم الأسباب التي أدت إلى تهميش وإقصاء ملف الأسرى، فحركة فتح في الضفة تمنع حركة حماس من تنظيم فعاليات وطنية، وتقوم حماس في القطاع بتطبيق السياسة نفسها. وقد انعكس ذلك على أسرى الفصائل في السجون، حيث فُصل أسرى حماس عن أسرى حركة فتح، وهو ما سهل على مصلحة السجون الاستفراد بالأسرى. يقول الأسير القائد أحمد سعدات إن أقل شيء يجب أن تقدمه الفصائل لدعم الأسرى وتعزيز صمودهم هو استعادة وحدتها الوطنية‏[73].

دعت لجنة الأسرى للقوى الوطنية والإسلامية والمؤسسات العاملة للأسرى، في بيان لها في3 أيار/مايو 2017، الشعب الفلسطيني إلى التوحد خلف قضية الأسرى ومواصلة كل أوجه الدعم والمساندة الجماهيرية‏[74]. من جهة أخرى، حذر مفوض الشهداء والأسرى الجرحى في غزة، الأسير المحرر تيسير البرديني، من خطورة الأوضاع الصحية للأسرى المرضى، مطالباً بضرورة استنهاض كل الطاقات والجهود الفلسطينية والعربية والإنسانية لخدمة قضية الأسرى وفضح الجرائم الإسرائيلية‏[75].

تعقيباً على ما سبق، المطلوب من التنظيمات الفلسطينية أن تتبنى خطة عملية لتحرير الأسرى، وبالأخص المرضى منهم. وقد أثبتت التجربة تنصل الاحتلال من كل الاتفاقيات، فالاحتلال لا يفهم غير لغة القوة؛ فالتنظيمات أمام سؤال مهم وهو كيف يمكن تحرير الأسرى؟ والإجابة عنه واضحة، فتجربة أسر الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط قد أجبرت الاحتلال على الإفراج عن أكثر من ألف أسير مقابل الإفراج عن شاليط، وغير ذلك يبقى في خانة المطالبة والشجب والاستنكار والدعاء بالفرج.

2 – دور ممثلي الأسرى في السجون

يؤكد وصفي قبها أن الحركة الأسيرة تضطلع بمهمات كثيرة وتقع على عاتقها مسؤوليات تنوء عن حملها الجبال، هذه المهمات والمسؤوليات على درجة عالية من الأهمية والخطورة معاً، بحيث يعتبر الإهمال الطبي أحد الملفات التي يتم التعامل معها في هذا السياق لأن الأمر يتعلق بأرواح الأسرى وحياتهم‏[76].

لقد حققت تضحيات الأسرى المستمرة ونضالاتهم ضد إدارة مصلحة السجون بعض الإنجازات داخل السجون. لكن هذا الأمر ليس كافياً، فالمطلوب من الحركة الأسيرة أن تتوحد على برنامج نضالي، من أجل مواجهة إدارة مصلحة السجون. ففي بيان صادر عن الأسير أحمد سعدات طالب فيه بإعادة بناء وتوحيد جسم الحركة الوطنية الأسيرة ومضاعفة دورها ومغادرة حالة التشرذم والانقسام.‏[77] ومن أهم الخطوات التي تقوم بها الحركة الأسيرة في سبيل تحسين أوضاع الأسرى المعيشية ما يلي‏[78]:

أ – الإضراب عن العمل: كانت قضية إلزام الأسرى بالعمل من أكثر أوجه التعامل القاسي مع الأسرى، وقد أوقف هذا الأمر لرفض الأسرى العمل به، وذلك بعد استشهاد الأسير عمر الشلبي.

ب – الإضرابات عن زيارة الأهل: يضطر الأسرى إلى القيام بهذا النوع من الإضراب نتيجة لما يتعرضون له هم وذووهم من مضايقات خلال الزيارات، وبسبب التفتيشات الاستفزازية التي تُفرض عليهم أثناء دخول الأهالي بوابات السجون وغرف الزيارات وعلى الحواجز.

ج – الإضراب عن الطعام: وهو الخيار الأخير الذي يلجأ الأسرى إليه بعد فشل جميع الحوارات والوسائل مع إدارة مصلحة السجون.

د – وسائل نضالية أخرى: إرجاع وجبات الطعام، ومقاطعة رجالات الإدارة‏[79]، وتهديد رجال الإدارة، والتكبير والطَّرق على الأبواب، ورفض الوقوف على العدد، ورفض التفتيشات والاقتحامات الليلية، وحرق الغرف، والتهديد بحل التنظيم.

يأتي في هذا السياق، تقديم اللجنة الاعتقالية للجبهة الشعبية المشروع الطبي الذي عُرض على كل الفصائل والذي ينص على مواجهة سياسة الإهمال الطبي المتعمَّد. ونص المشروع على نقل المسؤولية عبر الجهاز الطبي لإدارة السجون إلى وزارة الصحة، وقد تم التوافق على المشروع في سجن رامون سنة 2013، فأُلِّفت لجنة عامة لتطبيقه لكن تعطلت هذه الجهود بسبب تراجع القوى الرئيسية عنه‏[80].

وقد علق قبها في هذا الصدد، بأنه لا يمكن القول بأن الحركة الأسيرة قد توصلت إلى حلول جذرية مع إدارة مصلحة السجون حول ملف الإهمال الطبي، حيث تنكر مصلحة السجون أصـلاً وجود إهمال طبي بل تدَّعي أنها تقدم أفضل الخدمات الطبية إلى الأسرى وفق حاجاتهم، وهذا بالطبع تفنده الوقائع والحالات والأمثلة الكثيرة‏[81]. لا يمكن اعتبار حوار ممثلي الحركة الأسيرة مع إدارة مصلحة السجون حواراً حقيقياً في هذا الملف، فهو يقتصر على العمل على توفير النقل في «بوسطة خاصة» لبعض الحالات الصعبة، وتحقيق إنجاز من خلال زيادة عدد العمليات الجراحية في السنة‏[82].

وفي هذا الصدد أيضاً أكد الأسير نائل البرغوثي، الذي أمضى 38 سنة في السجن، أن محاولات الاحتلال لقتل إنسانية الأسرى لن تزيدهم إلا إنسانية، ويجب أن تكون قضية الأسرى هي المفتاح لإتمام أي صفقة تبادل لتحريرهم. فالأسرى يحتاجون إلى دعم حقيقي، ولا سيّما ذوو الأحكام العالية، إضافة إلى مئات الأسرى المرضى‏[83].

3 – دور هيئة شؤون الأسرى والمحررين

تأسست وزارة شؤون الأسرى والمحررين بموجب مرسوم رئاسي صادر عن الشهيد ياسر عرفات عام 1998، وتحولت من وزارة إلى هيئة مستقلة إدارياً ومالياً تابعة لمنظمة التحرير بمرسوم رئاسي صادر عن الرئيس عباس في 29 أيار/مايو 2014. وفي 28 آب/أغسطس 2014 صدر مرسوم رئاسي بتكليف عيسى قراقع برئاسة الهيئة‏[84]. وقد أكدت الهيئة أنها ستوظف كل إمكانياتها وتبذل جهودها على جميع الصعد والمستويات، المحلية والإقليمية والدولية، دفاعاً عن حقوق الأسرى ودعماً لمطالبهم العادلة. كما ستقوم بتدويل قضية الأسرى وحشد الرأي العام العربي والدولي وفضح الإجراءات التعسفية الإسرائيلية بحق الأسرى أمام المحافل واللجان والمؤسسات الدولية‏[85].

وقد قدَّم قراقع في 29 حزيران/يونيو 2018 شهادته حول الوضع الصحي للأسرى، أمام اللجنة المعنية بالتحقيق في الممارسات الإسرائيلية، والمقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بحالة حقوق الإنسان في فلسطين المحتلة مايكل لينك، الذي يعمل على إعداد تقرير عن حالة حقوق الإنسان في فلسطين، سيقدم في الدورة 73 للجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/سبتمبر 2018، حيث طالب قراقع بما يلي‏[86]:

– توفير الحماية الدولية للأسرى وفتح الملف الطبي للأسرى من خلال العمل على الإفراج عن جميع الأسرى المرضى من ذوي الحالات الصحية الخطيرة.

– تأليف لجنة تقصّي حقائق من الدول الأطراف باتفاقية جنيف أو مجلس حقوق الإنسان، لزيارة السجون والاطلاع على معاملة إسرائيل للأسرى، ومدى تطبيقها للمعايير الدولية في تقديم الرعاية الصحية.

– تفعيل دور منظمة الصحة العالمية والصليب الأحمر الدولي في زيارة الأسرى المرضى ومتابعة أوضاعهم الصحية.

– مطالبة المحكمة الجنائية الدولية للإسراع بفتح تحقيق حول استشهاد أسرى بسبب الإهمال الطبي وعدم تقديم العلاجات اللازمة لهم، ومساءلة المسؤولين الإسرائيليين وأطباء السجون عن هذه الجرائم.

وعلى الرغم من الجهود التي تبذلها هيئة الأسرى في متابعة أوضاعهم، فهي لم ترتقِ حتى الآن إلى المستوى المطلوب. فعلى الهيئة أن تتحول إلى لجنة حقيقية لممارسة دورها في خدمة الأسرى وفضح ممارسات الاحتلال، وذلك من خلال مغادرة سياسة السلطة والتخلص من عبء وجودها داخل هذه المنظومة والتقيد بسياستها‏[87].

إن دور هيئة شؤون الأسرى والمحررين لا يتجاوز المتابعة القانونية وتقديم الالتماسات الفردية (لكل أسير على حدة) لدى محاكم الاحتلال للسماح لها بإدخال طبيب مختص على سبيل المثال لمعاينة الأسير المريض وإعداد تقرير طبي قد يساعد في جلسات محاكم تعقد خصيصاً للإفراج المبكر عن الأسير المريض نظراً إلى تردي حالته الصحية، أو السماح بإدخال أدوية محددة، أو أطراف صناعية، أو كراسي متحركة، أو طبيب أسنان وما إلى ذلك. كما أن الهيئة تقوم بإرسال محامين لزيارة الأسرى المرضى والاستماع إليهم وإلى معاناتهم وتوثيقها بكل التفاصيل، وقد تحصل على شهادات مشفوعة بالقسم لبعض الحالات حتى تتمكن هذه الهيئة من متابعة ذلك قانونياً‏[88].

ويهمنا في هذا السياق أن نشير إلى أن وزارة شؤون الأسرى تحولت إلى هيئة بعد تعرض السلطة والرئيس عباس لضغوط أمريكية وإسرائيلية متواصلة. ولأن السلطة تدفع مخصصات الأسرى من موازنتها، قامت أمريكا بتجميد مساعداتها للسلطة، واقتطعت إسرائيل المبالغ التي تدفع للأسرى من عائدات الضرائب، كل هذه الضغوط لحمل السلطة على التخلي عن مسؤوليتها الوطنية تجاه الأسرى وعائلاتهم.

4 – دور السلطة الفلسطينية في تفعيل ملف الأسرى دولياً

لقد دعت الحركة الأسيرة في السجون في بيان صادر عنها في 12 تموز/يوليو 2016 السلطة إلى العمل على نقل ملف الأسرى إلى المحكمة الجنائية الدولية، ومجلس حقوق الإنسان، والأمم المتحدة بهدف تجريم الاحتلال، وفضح ممارساته وانتهاكاته اليومية بحقوق الأسرى‏[89]. وبهذا المعنى أكد قراقع أنه من الأهمية التوجه إلى محكمة العدل الدولية لاستصدار فتوى حول المركز القانوني للأسرى وفق القانون الدولي والإنساني، وذلك لتحصين الصفة القانونية للأسرى كمحميين وفق اتفاقيتي جنيف الثالثة والرابعة‏[90]. وقد دعا قراقع القيادة الفلسطينية إلى الإسراع في التوجه إلى المحكمة الجنائية الدولية وإحالة قضايا جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل بحق الأسرى‏[91].

وقد وصف قبها السلطة الفلسطينية بأنها ظاهرة صوتية فقط حيث لا يوجد هناك تحرك فاعل على المستوى القانوني والدولي، وبخاصة أن ملف «الإهمال الطبي» قضية رابحة في إدانة الاحتلال، فالأصل أن تكون هناك لجان تشريح دولية عند استشهاد أي أسير نتيجة الإهمال الطبي تقف على حقيقة ما يجري. كما أن السلطة لم تقم بالدور المطلوب منها في تفعيل ومتابعة منظمة الصحة العالمية وأطباء بلا حدود، حتى يكون لهذه الجهات الدولية وقفة جادة في حماية الأسرى الفلسطينيين المرضى من جرائم الاحتلال، وإنقاذ حياتهم‏[92]. وفي هذا الصدد، أكد الأسير القيادي المقدسي شادي الشرفا أن نشاطات السلطة هي نشاطات دعائية مبنية على نشر معاناة الأسرى الطبية موسمياً، ولا توجد استراتيجيات توثيق منهجية للإهمال الطبي، ولا استراتيجية نحو التوجه للمحاكم الدولية بهذا الصدد ولا حتى للمحاكم الصهيونية‏[93].

والجدير بالذكر أن الأسرى في السجون الإسرائيلية نفذوا إضراباً سياسياً هو الأول في نوعه في حزيران/يونيو 1995، مطالبين السلطة بالاهتمام بملفهم وعدم نسيانهم، بعدما تم توقيع اتفاق أوسلو سنة 1993، الذي ترك قضية الأسرى لحسن النية الإسرائيلية. واليوم بعد قيام الرئيس عباس بفرض جملة من العقوبات على القطاع في نيسان/أبريل 2017، وكان من جملة العقوبات وقف منظمة التحرير صرف مخصصات الأسرى والشهداء والجرحى‏[94]، بدأ عدد من الأسرى في 18تموز/يوليو 2018 إضراباً عن الطعام رفضاً لقطع رواتب أسرى غزة من جانب السلطة‏[95].

وقد شرع قادة الحركة الأسيرة، في 25 تموز/يوليو 2018، في إضراب عن الطعام تضامناً مع الأسرى المقطوعة رواتبهم، وقالت الحركة الأسيرة، في بيان لها، إنه بعد شهور من الجهود المبذولة من أجل إعادة المستحقات المعتدى عليها لعوائل أسرى القطاع، وبعد أن يئسنا من تلقي إجابة ترفع الظلم الصارخ وتُعيد المستحقات للعوائل؛ فإننا وفي إطار خطواتنا التصاعدية التي كنا أعلناها، ومنها الإضراب المفتوح عن الطعام الذي يخوضه الآن عدد من الأسرى، فإننا اليوم نعلن عن انضمام رؤساء ومسؤولي الحركة الأسيرة إلى الإضراب المفتوح عن الطعام، وهم: ناصر عويس وماجد المصري عن حركة فتح، ومحمد عرمان عن حركة حماس، وزيد بسيسي عن حركة الجهاد، وكميل أبو حنيش عن الجبهة الشعبية، ومحمد الملّح عن الجبهة الديمقراطية‏[96].

بناءً على ما سبق، يتطلب من السلطة تحييد قضية الأسرى ورواتبهم ومخصصات عوائلهم عن الخلافات الفصائلية، فلا يمكن أن يدفع الأسير ثمن كونه من القطاع ومحاسبته على أساس الانقسام؛ فقضيتهم يجب أن تبقى بعيدة من الحسابات الحزبية الضيقة، بل يجب تكريم الأسرى وعائلاتهم وتقديم كل الخدمات لهم بدلاً من عقابهم ومحاسبتهم مرتين، مرة من جانب الاحتلال، ومرة من جانب السلطة الفلسطينية.

5 – دور مؤسسات حقوق الإنسان

يُعد دور المنظمات والمؤسسات الحقوقية والصحية، ومنها الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة أطباء بلا حدود والمؤسسات الحقوقية الدولية كمؤسسة إمنستي انترناشونال وهيومان رايتس ووتش مهماً على صعيد تغيير الظروف الصحية للأسرى، بوصفها مؤسسات ضاغطة باتجاه تحقيق أدنى متطلبات الحياة وفق معايير حقوق الإنسان، حيث يتمثل دورها بالآتي‏[97]:

أ – الضغط على الاحتلال وتذكيره باتفاقية جنيف الرابعة حول توفير الرعاية الصحية الكاملة للأسرى والحفاظ على حياتهم.

ب – ابتعاث مندوبين طبيين لمتابعة الحالات المرضية الصعبة وعمل الإجراءات الطبية اللازمة.

ج – تنظيم بعثات طبية دائمة لتوثيق الحالات المرضية والأمراض بين الأسرى والتوصية بالإفراج عن الأسرى الذين يعانون أمراضاً سريرية ومزمنة.

د – توفير المستلزمات الطبية والعلاجات اللازمة بصورة دائمة وإدخالها للأسرى.

وفي هذا الصدد، ناشد محمد بشارات مدير جمعية نفحة، المؤسسات الدولية كافة التي تهتم بحقوق الإنسان، وعلى رأسها اللجنة الدولية للصليب الأحمر، التدخل العاجل لدى مصلحة السجون لإجبارها على تقديم العلاج إلى الأسرى، كما دعا إلى تشكيل لجنة دولية من الأطباء المتخصصين للكشف عن الحالات المرضية الحرجة، وتقديم العلاج العاجل لهم‏[98]. ووجه البرديني بدوره نداءً شديد اللهجة إلى المنظمات الدولية كافة التي تتغنى بالدفاع عن حقوق الإنسان، وتدعو إلى الرفق بالحيوان للقيام بواجباتهم والتزاماتهم في حماية الأسرى من الجرائم والقوانين الإسرائيلية‏[99]. وفي الإطار نفسه، طالب مركز أسرى فلسطين للدراسات المؤسسات والهيئات الدولية كافة، وبخاصة منظمة الصحة العالمية ومنظمة أطباء بلا حدود، بضرورة إرسال لجان طبية لزيارة السجون والاطلاع على حالات الأسرى المرضى، والتدخل العاجل لإنقاذ حياتهم‏[100] .

ثالثاً: الأسرى الشهداء في السجون الإسرائيلية

لقد استُشهد مئات الأسرى داخل سجون الاحتلال أو بعد الإفراج عنهم بفترة وجيزة بسبب الإهمال الطبي المتعمد، وهذا يؤكد أن الاحتلال جعل من السجون مكاناً لنشر الأمراض التي تلاحق الأسرى بعد تحررهم وتسبب لهم الوفاة؛ فقد ارتقى 216 شهيداً منذ سنة 1967 وحتى أيار/مايو 2018 داخل سجون الاحتلال، إضافة إلى مئات الأسرى المحررين الذين ارتقوا شهداء بعد خروجهم من السجن بفترات وجيزة بسبب أمراض ورثوها من السجون‏[101].

وفي هذا الصدد يرى قبها أن عداد الشهداء لدى الحركة الأسيرة مرهون برد فعل الأسرى والمستوى الرسمي وغير الرسمي، ويضيف أن المشهد سيتكرر مجدداً وسنظل نستقبل أسرانا بأكياس سوداء إذا لم تكن هناك ردود فعل حقيقية ابتداء من الحركة الأسيرة‏[102]. وكانت قد توجهت النائبة زعبي إلى المستشار القانوني الإسرائيلي من أجل فتح تحقيق في قضية استشهاد الأسير عزيز عويسات؛ حيث كشف مدير نادي الأسير، قدورة فارس أن عويسات تعرَّض للضرب والتنكيل على مدى خمسة أيام متتالية مما أدى إلى مشاكل في القلب والرئتين قبل استشهاده‏[103].

كما وثق الباحثون في مؤسسة الضمير في سنة 2012 استشهاد أسيرين عقب الإفراج عنهما نتيجة تعمد مصلحة السجون الإهمال الطبي بحقهما، وهما الشهيدان زكريا داوود وزهير لبادة. وفي سنة 2013 استشهد أربعة أسرى، نتيجة الإهمال الطبي، ففي نيسان/أبريل استشهد الأسير ميسرة أبو حمدية المحكوم مدى الحياة، في مستشفى سوروكا، والأسير أشرف أبو ذريع الذي استشهد في كانون الثاني/يناير وكان قد فقد قدرته على المشي في سنوات اعتقاله الأولى بسبب عدم تقديم العلاج له، وعرفات جردات الذي استشهد في سجن مجدو في 23 شباط/فبراير نتيجة تعرضه للتعذيب الشديد بعد 6 أيام من اعتقاله، والأسير حسن الترابي الذي استشهد في 5 تشرين الثاني/نوفمبر‏[104].

كشفت عائلة الأسير الشهيد معزوز دلال تفاصيل عملية تصفية ابنها من جانب الاحتلال داخل السجن، حيث شكا الشهيد لعائلته الإهمال الطبي الذي عاناه، فقد تلقى حقنة طبية أدت إلى تدهور حالته الصحية وفقدان شهيته بالكامل، والتقيؤ باستمرار، وخلال عدة أشهر فقد صحته بالكامل‏[105]. وفي قضية مماثلة، طالبت وزارة الأسرى المؤسسات الدولية بفتح تحقيق جدي للتحقيق في ظروف وملابسات استشهاد الأسير رائد الصالحي (21 عاماً) الذي استشهد في 3 أيلول/سبتمبر 2017 في مستشفى هداسا من جراء إصابات خطيرة كان قد تعرض لها وبقي ملقى على الأرض لأكثر من ساعة ونصف الساعة قبل أن يُعتقل من جانب الاحتلال‏[106].

هناك عدة خطوات وفعاليات نضالية يقوم بها الأسرى في حال استشهاد أحد الأسرى، فما إن يتم سماع نبأ استشهاد أسير حتى يبدأ الأسرى بالضرب على الأبواب والتكبير، وتقوم مصلحة السجون قبل أن يتسرب نبأ استشهاد الأسير بنشر تعزيزات أمنية مكثفة حول السجن وأقسامه، وتدخل مصلحة السجون في حالة من الاستنفار العام حتى تحول دون سيطرة الأسرى على أبواب السجن. وقد تغض إدارة السجن النظر عمّا يجري داخل الأقسام من ضرب على الأبواب وإطلاق صيحات الله أكبر والهتافات وحرق بعض الفرشات لامتصاص النقمة وتنفيس الاحتقانات لدى الأسرى، ولكن قبل أن تخرج الأمور عن السيطرة تتدخل وحدات القمع الصهيوينة وتبدأ برش الغاز والقنابل الصوتية وإخراج بعض الأسرى إلى زنازين العزل. وقد يتفق الأسرى على وضع برنامج نضالي تصعيدي يبدأ بإرجاع وجبة الطعام، ويتوَّج بإضراب مفتوح عن الطعام‏[107]. وربما يقاطع الأسرى العيادات ويرفضون تناول الدواء وما إلى ذلك من خطوات نضالية الهدف منها الضغط على إدارة السجون لإدخال بعض التحسينات‏[108].

اعتماداً على ما سبق، المطلوب من الجهات الفلسطينية الرسمية القيام بواجبها تجاه الأسرى على جميع الصعد محلياً وإقليمياً ودولياً. وعلى الأجهزة الأمنية الفلسطينية عدم الوقوف في طريق المقاومة التي تؤدي واجبها تجاه تحرير الأسرى. فحكومة حماس في غزة حمت ظهر المقاومة خلال عملية خطف شاليط وما تلاها من عمليات خطف لجنود الاحتلال‏[109]. فالسلطة لغاية الآن لم تصل إلى قناعة بأن إسرائيل لن تفرج عن الأسرى إلا مقابل تبادل مع أسرى إسرائيليين. فإسرائيل غير معنية بحل ملف الأسرى، ولعل تملص إسرائيل من إطلاق سراح الدفعة الرابعة والأخيرة من أسرى ما قبل أوسلو، التي كان من المقرر الإفراج عنهم في 29 آذار/مارس 2014، أكبر دليل على ذلك. وإذا لم تقم المقاومة بتحرير الأسرى بطريقتها، سنفقد الأسرى شهيداً تلو شهيد، ويفقد الأسرى أعمارهم وشبابهم وهم ينتظرون أن يمنَّ عليهم الاحتلال بإطلاق سراحهم‏[110].

خاتمة

الأسرى هم رمز كرامة وعزة الشعب الفلسطيني وعنوان الصمود والتحرر، فقد أمضوا زهرة شبابهم في سجون الاحتلال دفاعاً عن قضيتهم العادلة. لذلك على السلطة الفلسطينية تدويل ملف الأسرى وبالتحديد المرضى منهم، والقيام بأوسع حملة قانونية ودبلوماسية وإعلامية دولية من أجل إطلاق سراحهم. وعلى المستوى المحلي على السلطة ممارسة الضغوط على إسرائيل من أجل تحسين ظروف اعتقال الأسرى وإعطائهم أبسط حقوقهم من خلال عدة طرائق، من ضمنها وقف التنسيق الأمني. والمطلوب من الكل الوطني الرسمي وغير الرسمي إبراز معاناة الأسرى وسياسة الإهمال الطبي المتعمدة التي وصلت إلى حد الجرائم التي تتطلب الملاحقة القانونية الدولية. كما يتوجب على الفصائل الفلسطينية إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية والإسلامية والعمل بكل الوسائل المتاحة، وفي مقدمها أسر جنود إسرائيليين لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين، بعدما أثبتت التجربة أن إطلاق سراح الأسرى لا يأتي من بوابة حسن النية ولا من خلال المفاوضات التي غيَّبت الأسرى وأبقتهم رهن الاعتقال منذ أربعة عقود. أما على المستوى الشعبي، فالمطلوب من كل أبناء الشعب الفلسطيني الوقوف مع قضية الأسرى وإحياء الفعاليات والمناسبات والوقفات الاحتجاجية بالمستوى الذي يليق بتضحيات الأسرى.