مقدمة:

تعيش إيران أنموذجاً ديمقراطياً له خصوصيته اصطلح على تسميته «الديمقراطية الدينية»، وبالتحديد منذ تأسيس نظام الجمهورية الإسلامية، وهو أنموذج حرص أصحابه على أن يحقق التوافق بين تثبيت الحكم الإسلامي وفق مبادئ لها علاقة مباشرة بالخصوصية الشيعية؛ وبالذات مبدأ ولاية الفقيه الذي يجسد المعاني السياسية للفقه الإمامي الاثني عشري وبخاصة إعطاء الحاكمية للولي الفقيه، وبين مبادئ الحكم الديمقراطي، وفي مقدمها تداول السلطة وتعميق المشاركة السياسية واحترام الحريات السياسية والاجتماعية للمواطنين، وأن تكون الإرادة الشعبية التي تعبر عن نفسها في عمليات الانتخابات والاقتراعات والاستفتاءات هي صاحبة الحاكمية، أي هي التي تحدد الخيارات الوطنية.

لكن المشكلة ظهرت داخل الشريحة الواسعة من الذين قبلوا النظام وعملوا داخله عندما انقسم هؤلاء إلى تيارات وتكتلات وأحزاب بعدد ألوان الطيف، بين منحاز إلى الجانب الديمقراطي في النظام (إصلاحيين) وبين منحاز إلى الجانب الإسلامي في النظام (محافظين)، وهناك من استطاع التوفيق بين الدين والديمقراطية وأصبح يمثل تيار الوسط. إلا أن الخلاف بين المحافظين والإصلاحيين تحوَّل إلى صراع على السلطة بينهما، وكان الصراع تحت السيطرة، وبدا أن الطرفين متوافقان على النظام ويعملان داخله. لذلك تفترض الدراسة أن النزعة الحزبية في إيران تنامت عقب حل الحزب الجمهوري الإسلامي في الأول من حزيران/يونيو 1987، الذي كان مظلة ينضوي تحتها العديد من الحركات والتنظيمات على اختلافها، وقد أشرت إلى بروز الأحزاب والتيارات السياسية بمختلف أشكالها وتوجهاتها. ولغرض الإحاطة بجوانب الموضوع قسمت الدراسة إلى مطلبين هما:

أولاً: الحياة السياسية في إيران بعد الثورة عام 1979

 

1 – المؤسسة الدينية ودورها السياسي

نجحت المؤسسة الدينية الإيرانية في عمليات التعبئة الجماهيرية التي استهدفت فقراء المدن، والقطاعات الأكثر فقراً من الجماهير من سكنة مدن الصفيح. وتنحدر أغلب هذه الجماعات من أصول ريفية هاجرت إلى المدن منذ مطلع خمسينيات القرن الماضي، ودُفِع معظمها إلى ممارسة مختلف المهن البسيطة والعيش في الخيام وبيوت الطين التي ظهرت وكأنها أحزمة تنطق بالبؤس تحيط بتلك المدن الفارهة. لم يكن رجال الدين وحدهم في ميدان المواجهة مع نظام الشاه، إذ أحاطهم بالدعم والتأييد عناصر اجتماعية وحركات سياسية مختلفة في انتماءاتها وتوجهاتها. لكن هذا الاختلاف لم يمنع أغلب الأطراف من الاتفاق على قضية الانضواء تحت مظلة الزعامة الدينية التي أفرزتها المؤسسة الدينية بوجه خاص عشية الثورة الإسلامية عام 1979.

كما أدت الجماعة التقليدية من أفراد الطبقة الوسطى دوراً مهماً في دعم المؤسسة الدينية أثناء الثورة الإسلامية عام 1979، من خلال تعبئة أفرادها وتنظيمهم في عدد من الحركات السياسية والتنظيمات الاجتماعية خدمة لعملية الصراع ضد النظام الملكي. ويمكن تحديدها في اتجاهين رئيسين: الاتجاه الأول ويشمل التنظيمات الأصولية، ويضم الثاني التنظيمات الإسلامية الراديكالية. فقد استند الأول في أغلبه إلى نواة من رجال الدين الصغار الذين يتكوَّن أغلبهم من حجج الإسلام والمدرسين والوعّاظ، وكانوا في المناطق والضواحي الأكثر فقراً من طهران وغيرها من المدن الكبرى، وتميزت هذه التنظيمات بصغر حجمها وشدة معاداتها لكل ما هو غربي‏[1]. وتمثل الثاني بالتنظيمات الإسلامية الراديكالية وتكونت بشكل أساسي من المثقفين والطلاب وحصلت على دعم البازار وبوجه خاص البازاريون المناضلون والمثقفون الراديكاليون، ولا تختلف مطالبهم عن توجهات اليسار العلماني مثل الفدائيين ومنظمة بايكار، في المطالبة بالتأميم ومصادرة الملكيات الكبيرة وإقامة مجالس العمال وتنظيم جيش الشعب، لكنها جاءت بلغة وتعابير إسلامية وتحت حجج وذرائع دينية وأخلاقية مختلفة، وأبرز ممثلي هذا الاتجاه مجاهدو خلق، وحركة المناضلين المسلمين، والحركة الثورية للشعب المسلم، وحركة المجالس الإسلامية‏[2].

2 – تأسيس الحزب الجمهوري الإسلامي ودوره السياسي

دفعت حالة الفوضى بعد الثورة بعض القادة السياسيين إلى التحرك لتشكيل تنظيم سياسي، ويوضح رفسنجاني ظروف تشكيل الحزب الجمهوري الإسلامي بقوله: «قابلت الإمام وعرضت عليه النتيجة التي توصلنا إليها، وأن النقص الأساسي الذي نعاني منه، سببه عدم تشكيلنا حزباً. فقال: «اذهبوا وشكلوا تنظيماً»، وقد أُعلن عن تشكيل الحزب في الأيام الأولى لانتصار الثورة، وكان منتدى التوحيد هو المقر الأصلي الذي يجري فيه تسجيل أسماء المنتسبين، ومن ثم كان ذلك يجري في المساجد والمراكز الدينية الأخرى»‏[3]. تم تأسيس الحزب في 11 شباط/فبراير 1979 بقيادة عدد من رجال الدين الذين أسهموا في الثورة، وتم اختيار د. محمد حسين بهشتي كأول أمين عام للحزب، وضُمِّن النظام الأساسي للحزب وأهدافه في 44 مادة أكدت في مجموعها على البعد العقائدي الإسلامي‏[4]. تألفت القاعدة الاجتماعية للحزب من قوى سياسية – اجتماعية متعددة منها «روحانيان انقلابي» أي رجال الدين الثوريون، والهيئات المؤتلفة الإسلامية، إلى جانب مجموعات عديدة؛ وغاب الانسجام الفكري عن صفوفه، لكن السعي لحفظ الثورة والوفاء لفكر الإمام الخميني هو الذي حافظ عليه في مقابل منافسيه السياسيين. واستطاع الحزب من خلال نفوذه في لجان الثورة أن يحوز أغلبية المقاعد في انتخابات مجلس خبراء الدستور ومجلس الشورى، وكان له شأن كبير في التحولات السياسية التي شهدتها إيران في تلك المرحلة‏[5]. وقد شمل برنامج الحزب المحاور الآتية‏[6]:

أ – رفع مستوى الوعي السياسي والإسلامي للشعب الإيراني، والإسراع في بنائه الثوري من الأبعاد كافة.

ب – تطهير البلد من آثار الدكتاتورية والاستعمار.

ج – تعزيز الحريات الأساسية مثل حرية التعبير والتجمع.

د – تبديل النظام التعليمي بنظام إسلامي أصيل.

هـ – بناء جيش مؤمن مستقل.

و – تنظيم السياسة الخارجية على أساس الولاء والبراء.

إلا أن الحزب تعرض لضربة قوية، ففي 28 حزيران/يونيو 1981 وقع انفجار في مقره، وقتل 74 من قادته وعلى رأسهم الأمين العام محمد بهشتي وعدد من الوزراء وأعضاء مجلس الشورى الإسلامي. لذلك انتخب محمد علي رجائي رئيساً للجمهورية ومحمد جواد باهنر، الأمين العام للحزب، رئيساً للوزراء. ولكن الرئيس ورئيس الوزراء قتلا بعد انفجار قنبلة في مكتب رئيس الوزراء في 30 آب/أغسطس 1981‏[7].

وبحلول عام 1981، واستمرار الحرب مع العراق برز العامل الاقتصادي وأخذت القضايا الاقتصادية وتحديداً الاختلاف حول سيطرة الدولة على التوزيع والاقتصاد وتفسير وتوضيح أربعة وأربعين قانوناً أساسياً، وحول شرعية القانون أو عدم شرعيته في تأميم الصناعات، حيزاً من حالة الانقسام بين الأحزاب السياسية التي قسمت على تيارات إسلامية وقومية. ومن ثم تشكلت التيارات الجديدة اليسار واليمين. ومنذ أوائل عام 1983 ظهرت هذه التصنيفات في الدولة وبعد ذلك في مجلس الشورى الإسلامي‏[8].

كان بروز تيارين داخل الحزب الجمهوري الإسلامي عامـلاً مهماً في الخلاف حول العديد من القضايا داخل الحزب، كالإصلاح الزراعي وقانون العمل وسعة أو ضيق مجال التشريع في الدولة الإسلامية وصلاحيات الولي الفقيه التي كانت الخلاف الأبرز؛ فتيار اليسار رأى شرعية الإصلاح الزراعي وحق الدولة المطلق في تحديد شروط العمل وفرض الشروط على أرباب العمل، وكان يعتقد بولاية الفقيه المطلقة، وعدم حصر ولايته في دائرة الأحكام الأولية وتشخيص الحكم، بل كان يرى تعدي صلاحيته إلى تعطيل الأحكام الأولية، ونظراً إلى الأجواء الحربية، تبنى أصحاب هذا التيار الاقتصاد المنغلق. بينما كان تيار اليمين في الحزب يعتقد بعدم شرعية قانون الإصلاح الزراعي، وعدم شرعية فرض الشروط على أرباب العمل، وعدم صلاحية مجلس الشورى والدولة لتحديد الشروط وإصدار القانون خارج مجال الشريعة، وهو مخالف لها، وكان يدعو إلى تقييد صلاحية الولي الفقيه وضرورة الانفتاح الاقتصادي وتبني الاقتصاد الحر‏[9].

وبتزايد الخلافات أصبح الحزب عامـلاً للتفرقة والتشتت، فضـلاً عن تولي أبرز قادته مسؤوليات تنفيذية وغياب الاهتمام بالحزب، كما أن الإمام الخميني لم يكن راضياً عن الحزب، لذلك تقدم الحزب إلى الإمام بطلب لحله، وبعد موافقته تم حل الحزب في عام 1987، وبقيت صحيفته جمهوري الإسلامي تصدر لليوم‏[10]. وبتقييم تجربة الحزب يقول رفسنجاني: «كنت من طلائع الداعين لتشكيل الحزب الجمهوري بعد الثورة من أجل أن ننظم صفوفنا وتنظيم تحركنا، … وإذا ما اتخذ قرار لإحيائه يوماً أظن أن باستطاعته أن ينسجم في ظرف وقت قصير ويظهر بمثابة أقوى شبكة حزبية في البلاد لها أنصارها ومؤيدوها أكثر من سائر الأحزاب الأخرى»‏[11].

ثانياً: ظهور التيارات السياسية وتأثيرها في الحياة السياسية

يعدّ البعض انتصار الثورة الإسلامية عام 1979 شهادة ميلاد العمل التياري، والهدف من العمل التياري هو أن يكون هناك اختلاف في وجهات النظر في الحكم بشأن القضايا السياسية والثقافية حتى أصبح ذلك باعثاً مع طول الوقت لوجود وجهات النظر ذات الفكر المتقارب. إلا أن التيارات السياسية تفتقد خصائص التيار السياسي الواحد، لأن الأحزاب لها هدف ورؤية أساسية في حين أن بعض التيارات، ليس لديها هدف أو رؤية على الرغم من أن بعض الجماعات أو الأحزاب التي استقرت تحت ظل هذه التيارات لديها الهدف والرؤية. وتفتقد التيارات لبرامج العمل المكتوبة أو الخطط، وتتميز بالمواقف المتباينة، وهي تتغير مع التجارب والمواقف، وليس لدى التيارات شبكات ممتدة في أرجاء الدولة وهي تعمل بشكل مركزي. ولعل الأهم أن التيارات تهتم بالتأثير في بعض السياسات أكثر من اهتمامها بامتلاك القوة والنفوذ، فهي تعمل كنموذج للاتجاه الفكري وليس لها مواقف ثابتة‏[12]. وتتباين رؤيتها لشكل الحكم الذي يجب اعتماده، مع أن هذه التيارات انضوت تحت لواء كل منها أكثر من حزب أو تنظيم‏[13]. وسوف نتناول هذا المطلب في نقطتين، هما:

1 – تعريف التيار السياسي

يعرف التّيار لغة بأنه حركة سطح ماء المحيط متأثراً باتّجاه الرّياح، إذ ينقل الماء البارد إلى المناطق الدّافئة والعكس صحيح. ومفهوم التّيار هو عبارة عن محاكاة لماجريات الأحداث والتطوّرات الواقعة على الحال وعادةً ما يكون التّيار مؤشراً لظهور أمر جديد‏[14]. وينظر إلى التيار أو الفصيل كحلقة أو مرحلة تاريخية وسطية من سلسلة ثلاثية؛ فالحلقة الأولى من تلك السلسلة هي عبارة عن المحافل السياسية، بينما يشكل التيار أو الفصيل الحلقة الثانية، ويعد الحزب الحلقة الثالثة في سلسلة التكامل. إلا أن بعض المحافل الرسمية وغير الرسمية الإيرانية تطرح معاني سلبية لمصطلح التيار أو الفصيل في أنه يعني بوجه عام، الفرقة، والاختلاف، والفساد، والضغط الداخلي، وعدم الفاعلية، وعدم استقرار النظام الحاكم. كما أن المصطلح يطرح استخدامات جديدة إيجابية في معناها وتعبيراتها. ويفهم منه وجود الحرية، والتعايش، والتعددية، والسلم، والاستقرار، والنضج، والتعقيد في النظام. بعبارة أخرى، نجد أن المفهومين المطروحين صحيحان في الوقت نفسه، أي أن قضية التيارات والمجموعات والفصائل يمكن أن تؤدي أحياناً إلى زلزلة نظام سياسي معين وسقوطه، وفي أحيان أخرى تهيئة الأرضية لثباته ورقيِّه. وكلتا الحالتين حدثت في إيران‏[15].

وهناك من يرى أن قضية التيارات السياسية ظهرت منذ عام 1995 تقريباً، وكان منظرو منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية هم الطليعة في ذلك. وقد بدأت مباحثهم على شكل مقالات تحت عنوان الاتجاهات السياسية في صحيفة عصرما (أي عصرنا) نصف الشهرية. أيدها بعضهم بينما ردّها آخرون. وكان طرح المنظمة إبداعاً سياسياً وفكرياً، لأنها طرحت أفكارها مقابل الرأي السائد الذي لا يعترف بوجود تيارات سياسية، فكانت خطوة كبرى في طريق تطور الفكر السياسي في إيران‏[16].

في المقابل هناك من ينكرون أساساً التقسيم السياسي للتيارات، ومن وجهة نظرهم أن هذا التقسيم وتصنيف التيارات هو ناتج من فكر الباحثين عن الفتن حتى ينزلوا الضربات على النظام والثورة بإيجاد التفرقة. لذلك لم نشهد حتى الآن مثل هذه التيارات على مستوى المجتمع الذي يمنع ظهورها. وهناك من يرى أن التيارات والجماعات المتنافسة والمعارضة تبرز خلال مسيرة التنمية الاقتصادية للمجتمعات على نحو لا يمكن تجنبه وتحاشيه، فإقبال الناس على الأحزاب والأنشطة التيارية والمنتظمة خلال العقدين المنصرمين بعد الثورة لم يكن بالقدر الكافي‏[17]. لذلك تتباين الرؤى تجاه العمل التياري ويمكن تصنيفها إلى‏[18]:

أولاً، نفي وجود العمل التياري، وينقسمون إلى اتجاهين، الاتجاه الأول وأكثرهم من داخل النظام، يؤكدون عدم وجود عمل تياري في البلاد، بل إن البحث بشأن العمل التياري شيء مفتعل وهو من صنع الأجانب. وتأكيدهم أنهم أتباع خط الإمام والبناء. وباعتقادهم أن وجود تيارات داخل هيكل النظام يؤدي في النتيجة إلى ضعف النظام الإسلامي ومن ثم انهياره. أما الاتجاه الآخر فكان متوافقاً مع الاتجاه الأول في الرأي لكنه مختلف معه سياسياً، وضم معارضي النظام الإسلامي، ويرون أن البحث في قضية التيارات السياسية مؤامرة حاكها النظام، ولا جدوى لها وغير ضرورية، لأنها مبنية على أساس تصورات باطلة لا فائدة منها. ومصدر الخلافات بين الشخصيات في الدولة هو المصالح الشخصية والتنافس الفردي. وهي رؤية قوى المعارضة في الخارج.

ثانياً، العمل التياري للحكومة، وهي رؤية تؤكد أن التيارات باكورة عمل النظام الإسلامي، فالنظام خلق هذا التوجه السياسي داخل الحكومة والتيارات المختلفة وحتى المعارض منها، وإن رجال الدولة قد خلقوا هذا التصور حتى يظن الناس أن الحرية موجودة بالفعل في المجتمع. وتطرح وجهة النظر بعض الجماعات المعارضة لنظام الجمهورية الإسلامية.

ثالثاً، العمل التياري هو الحقيقة السياسية للنظام، ويرى أنصاره أن العمل التياري داخل نظام الجمهورية الإسلامية هو الحقيقة السياسية للنظام. وللتعرف إلى البناء السياسي للبلاد لا بد من التعرف إلى مواقف هذه التيارات واتجاهاتها في المجال السياسي والاقتصادي والثقافي. ويؤمن بهذا الاتجاه تيار رجال الدين المناضلين وأتباعه.

ثالثاً: تقسيم التيارات السياسية في إيران

هناك تقسيم للتيارات السياسية في إيران، وهو الأبرز والأهم في اعتقادنا، بين تيار المحافظين وتيار الإصلاحيين. إلا أن المصطلح بات يشير إلى وجود مدرستين في العمل السياسي العام في البلاد، الأولى تعتمد الأسس والأساليب التقليدية الجامدة (Static)، التي غالباً ما تكون ذات طابع أيديولوجي صارم، منطلقاً لنضالاتها السياسية والكفاحية ومنهجاً لإدارة شؤون البلاد والعباد، في حين تعتمد الثانية الأسس والأساليب المتحركة (Dynamic)، التي غالباً ما تكون ذات طابع متحرر من القيود الأيديولوجية الصارمة، منطلقاً لنضالاتها ومطالباتها في المجالات المختلفة الخاصة بالشأن العام. ولكل من التيارين وجهة سياسية خاصة، وقراءة مستقلة للمستقبل الذي يريده للدين والمجتمع والسياسة، ولكنهما يلتقيان على الأسس التي قامت عليها الثورة الإسلامية‏[19]. وسوف نتناولهما بشيء من التفصيل كما يأتي:

1 – التيار المحافظ

يتمثل هذا التيار بأحزاب عدة وجمعيات، أبرزها حزب مؤتلفة إسلامي ويعد من أبرز أحزاب التيار المحافظ، ومن قادته حبيب الله عسكر أولادي، وأسد الله بدمجيان منظر الحزب والرجل القوي فيه. ورابطة رجال الدين المناضلين (روحانيت مبارز) وأبرز قادتها الشيخ علي أكبر ناطق نوري، وأنصار حزب الله وهو حزب متشدد‏[20]. وقد تأثر التيار بالأوضاع السياسية التي أعقبت الانتخابات الرئاسية عام 2009 فأدت إلى انشقاقات في صفوفه، وبات مشهد القوى والتيارات السياسية الإيرانية والبلاد مقبلة على الانتخابات الرئاسية في أيار/مايو 2013 أشبه بـ «مجسم سداسي الأضلاع» يشكل أحد أهم أضلاعه التيار الأصولي بانقسامه إلى فرعين: فرع آية الله مهدوي كني، وفرع آية الله مصباح يزدي. أما الضلع الثالث فيضم فصيل الرئيس أحمدي نجاد وهو التيار الذي استُقبل بعداء شديد من المرشد الأعلى والتيار الأصولي كونه يروج لعودة قريبة للإمام المهدي المنتظر ليتولى قيادة الأمة، وهو ما يُنهي وجود الولي الفقيه، من هنا جاءت تسمية المحافظين لهذا التيار بتيار الانحراف العقائدي عن الثورة الإسلامية التي ترتكز على مبدأ ولاية الفقيه. ويمثل الإصلاحيون الضلعين الرابع والخامس بفرعين هما التيار الإصلاحي المعتدل وعلى رأسه محمد خاتمي، والتيار الإصلاحي المتشدد الذي نشأ من عناصر يسارية متشددة عام 1997 كرد فعل على أداء الرئيس خاتمي السيئ، أما الضلع السادس فيضم التيار المستقل الاقرب إلى التيار الأصولي‏[21].

ويمكن تحديد أبرز الأحزاب المحافظة بالتالية‏[22]:

أ – الجبهة الأصولية (المبدئيون)، ويؤكدون في ميثاقهم التأسي بحديث مرشد الجمهورية الإسلامية بشأن معايير الأصولية ومواصلة الحوار بين الأصوليين والحفاظ على الوحدة والانسجام للحؤول دون التفرقة والتشتت. والجبهة اتجاه فكري يناصر ولاية الفقيه بعيداً من التبعية ويتخذ سياسة معتدلة. وتؤمن الجماعات الأصولية بالديمقراطية الدينية ودور الشعب في إدارة المجتمع وتقديم المصالح العامة على المصالح الشخصية. وترى الجماعات الأصولية أن من يؤمن بمبادئ الميثاق يعد من وجهة نظر هذه الجماعات أصولياً.

ب – الرابطة الإسلامية للمهندسين، وقد تأسست في عام 1988 بعد حل الحزب الجمهوري الإسلامي. وتعد الرابطة إحدى جماعات التيار المحافظ، ويعد رئيسها محمد رضا باهنر من أبرز شخصيات هذا التيار، وكان الهدف من تأسيس الرابطة جمع المسؤولين الذين انتهت مهماتهم أو عزلوا من مناصبهم. فضـلاً عن جمع الخبراء خارج إطار الحكم لإبداء وجهات نظرهم حول مختلف القضايا ومنها مشاريع الميزانية، ونقد عمل الحكومة والمسؤولين‏[23].

ج – أنصار حزب الله، تأسست جماعة أنصار الله بعد انتصار الثورة الإسلامية وكانت تدعم الثورة بكل ما أوتيت من قوة، وكان موقفها من الليبراليين والمنظمات اليسارية موقفاً عدائياً. وبعد عام 1989 طرح أنصار حزب الله شعارات تدعو إلى مكافحة الفساد الاجتماعي والاختلاس والرشوة والرأسمالية. وتصدر الجماعة نشرة شهرية بعنوان يا لثارات الحسين.

د – رابطة علماء الدين المناضلين في طهران (جامعة روحانيت مبارز تهران)، وتأسست في طهران عام 1977 وبدأت أنشطتها العلنية عام 1979 عشية انتصار الثورة، من أجل تنظيم التظاهرات والمسيرات ونشر خطابات وبيانات الإمام الخميني الموجهة إلى الشعب الإيراني. وقد دونت الرابطة نظامها التأسيسي عام 1980 وعقدت جمعيتها العمومية عام 1981 واختارت أعضاء المجلس المركزي. وشارك أعضاؤها في مجلس الثورة والحزب الجمهوري الإسلامي والسلطات الثلاث.

وسرعان ما مهدت الجماعة الرئيسة في الحزب – وهي رابطة علماء الدين المناضلين (جامعة روحانيت مبارز) – الطريق لولادة مجمع علماء الدين المناضلين (مجمع روحانيون مبارز). وفي آذار/مارس 1988، أعطى الإمام الخميني موافقته على تأسيس المنظمة الجديدة التي حددت العدالة الاجتماعية مبدأً أساسياً من مبادئ الإسلام وتعاليمه، واعترضت على إصرار المنظمة السابقة على الحاجة إلى إقرار الملكية الخاصة وتبني الرأسمالية‏[24]. وتمكن المجمع من تنظيم صفوفه والفوز بالأغلبية في الانتخابات البرلمانية الثالثة. وبذلك سيطر هذا الاتجاه المعروف بالاتجاه اليساري على السلطات الثلاث لمدة عامين كاملين لأن مير حسين موسوي كان رئيساً للسلطة التنفيذية وآية الله موسوي أردبيلي كان رئيساً للسلطة القضائية. وبعد وفاة الإمام الخميني عام 1989 ضعف مجمع روحانيون مبارز وحل أكبر هاشمي رفسنجاني محل مير حسين موسوي وعين محمد يزدي، وهو من المحافظين، رئيساً للسلطة القضائية. وجاء سقوط أنصار المجمع في الانتخابات البرلمانية الرابعة ليضعف المجمع على نحو تام ويخرجه من الساحة السياسية. وخاض مجمع روحانيون مبارز الانتخابات البرلمانية السابعة عام 1996 بقوة ورشح العديد من أعضائه وفازوا فيها. كما ترشح السيد محمد خاتمي عنها للانتخابات الرئاسية وفاز فيها، ليدخل أعضاء المجمع إلى الحكومة ومنصب مساعد رئيس الجمهورية للشؤون الحقوقية والبرلمانية.

هـ – الجبهة المتحدة للأصوليين (جبهة متحد أصولكرايان)، وهي جبهة ضمت طيفاً كبيراً من شخصيات التيار المحافظ وعملت من أجل ضم الشخصيات المحافظة كافة في جبهة عريضة وتقديم قائمة تضم شخصيات محافظة مقبولة لدى المواطنين لخوض الانتخابات التشريعية في آذار/مارس 2012.

و – جبهة الصمود (جبهة بايداري)، تشكلت هذه الجبهة داخل التيار المحافظ وتأسست في عام 2011 تحضيراً للانتخابات التشريعية في آذار/مارس 2012، وطرحت الجبهة شعار: «المعنوية والعدالة والعقلانية على محور الولاية». وتمثل الجبهة تياراً فكرياً وحوارياً بين الإمام الخميني والقيادة. وتؤكد أن الولي الفقيه حجة، وعلى أبناء الشعب الإيراني أن يدعموا الولاية. وقد اعتمد الولي الفقيه على الشعب في المجالات كافة. ويعد آية الله محمد تقي مصباح يزدي مرشد الجبهة وملهمها، وحجة الإسلام آقا تهراني أمين الجبهة. ويؤيد التيار المحافظ عموماً أتباع نظام الخصخصة للوحدات الاقتصادية والإنتاجية في البلاد، ودعم الاستثمار وتشجيع تأسيس شركات خاصة وسحب الدولة من الأنشطة المالية والاقتصادية إلى حدٍ كبير‏[25]. وفي السياسة الخارجية تأكيده العامل القومي الإيراني لمناهضة التوجهات الأمريكية، وقد عدّت التقنية النووية مطلب وكرامة واستقلال الأمة الإيرانية، وأنها قضية سيادة السياسة الوطنية‏[26].

2 – التيار الإصلاحي

وهو مجموعة من الأحزاب السياسية التي دعمت السيد خاتمي في الانتخابات الرئاسية 1997؛ أو انضوت تحت رايته ورافقته إلى نهاية ولايته الرئاسية الثانية. وهذه الأحزاب مع تعدد هواجسها الفكرية أصبحت تياراً واحداً يجمعها شعار دولة القانون، والمجتمع المدني، والإصلاح السياسي وسيادة الشعب‏[27]. ويضم التيار الإصلاحي نحو 15 حزباً أو جمعية سياسية، أبرزها جمعية رجال الدين المناضلين (روحانيون مبارز) وجبهة المشاركة الإسلامية التي تأسست عام 1997 قبل الانتخابات الرئاسية وأمينها العام محمد رضا خاتمي، ومن قادتها محسن ميرداماد وسعيد حجاريان، ومنظمة تعزيز الوحدة الطلابية (تحكيم وحدة)، ومنظمة مجاهدي إيران الإسلامية (سازمان مجاهدين إسلامي إيران) وأمينها العام محمد سلامتي ومن قادتها بهزاد نبوي ومحسن رضائي ومحسن آرمين، وحزب اعتماد ملي (الثقة الوطنية) بزعامة مهدي كروبي، وحزب كوادر البناء بزعامة غلام حسين كرباستشي ومن قادته فائزة رفسنجاني وعطاء الله مهاجراني‏[28].

وقد مثّل التيار الإصلاحي رموز الدعوة إلى الإصلاح والتغيير في الداخل، والاعتدال في العلاقة بالعالم بعد عقدين من الثورة، وقد أدى السيد خاتمي دور الرمز وليس القائد لها‏[29]. كان الوضع الاقتصادي من أول متطلبات الإصلاح، فقد أصبحت إيران خلال هذه المرحلة مستورداً صافياً للأغذية رغم أهمية قطاع الزراعة فيها، كما أن ميزان التجارة الغذائية كان يتدهور باستمرار ولا سيَّما السلع الغذائية الرئيسة كالحبوب؛ فاستمرار الفجوة الغذائية يعني استمرار عجز القطاع الزراعي وتخلّفه. ولأن إيران دولة نفطية فإنها تمتلك من الموارد ما يمكنها من استيراد متطلباتها الغذائية، وذلك يعتمد على القيمة الإجمالية لصادرات النفط التي تؤلف الأساس في هيكل الصادرات إذ تستحوذ على 83 بالمئة من إجمالي الصادرات عام 1997. والحقيقة أن الاعتماد على الصادرات غير النفطية في تغطية حاجات إيران من السلع الغذائية يمثّل عجزاً في ميزان المدفوعات وهو ما يحد من إمكان الإسراع في تحقيق الأمن الغذائي للبلاد‏[30].

ويمكن تفسير هذه الحالة بضعف نصيب الزراعة من الاستثمارات التي تخصصها خطط التنمية، إذ وصل المبلغ المخصص إلى نحو 5 بالمئة من إجمالي تكوين رأس المال الثابت في البلاد عام 1996، مقارنة بزيادة الاستثمار في القطاع الصناعي الذي مثّل نحو 35 بالمئة من إجمالي تكوين رأس المال الثابت في العام نفسه. وتقترن هذه الحالة بتردي الوضع الاقتصادي والاجتماعي للقوى العاملة في إيران، وضعف نصيب الزراعة من الناتج المحلي الإجمالي الذي وصل إلى نحو 24 بالمئة عام 1996، في حين يعمل في هذا القطاع نحو 6.167 مليون شخص يمثلون نحو 27 بالمئة من إجمالي قوة العمل الإيرانية، ويترافق ذلك مع تدني الأجور، إذ لا يتجاوز أجر العامل الزراعي 39 بالمئة من أجر العامل غير الزراعي، وهو أحد الأسباب المهمة في زيادة معدل الفقر، إذ تجاوزت نسبة السكان ممن هم في فقر مدقع نحو 30 بالمئة من إجمالي السكان عام 1998 معظمهم يعيشون في الريف الإيراني. وتزايدت الفجوة بين أعلى الدخول وأدناها لتصل إلى نحو 20 ضعفاً في عام 1998‏[31].

ويضيف البعض إلى أسباب فشل برنامج الإصلاح في إيران العقوبات الأمريكية على البلاد وعجز المنظمات الدولية، كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بسبب الحظر الأمريكي على تقديم قروض طويلة الأمد، ولم تقدم سوى قروض قصيرة الأمد الأمر الذي أوصل الدَّين الإيراني إلى 23.2 مليار دولار منها 76.1 بالمئة هي قروض قصيرة الأمد، ما أجبر السلطات الإيرانية على العودة إلى اعتماد سياسات الأبواب المغلقة، وتحديد التجارة والسيطرة على العملة‏[32].

وفي الجانب السياسي يعرِّف السيد محمد خاتمي الحركة الإصلاحية بأنها تلك الحركة التي تدافع عن أصل النظام وقيادته، وتتحرك ضمن إطاره الكلي. ويوضح أن خصائص الحركة الإصلاحية هي اتّباع خط الإمام الخميني والثورة والدفاع عن المصالح الإسلامية والتزام الدستور. فالإصلاحات ما هي إلّا قبولنا بالنظام والسعي من خلال إطاره الكلي لتصحيح الخلل وإعادة الحرمة إلى حياة المواطنين، ونحن معترضون على أسلوب البعض في إدارة البلاد، التي يرى أنها مخالفة للديمقراطية، وانقلاب على فكر الإمام الخميني الذي كان منسجماً مع المبادئ الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير وحرية الاجتماعات‏[33]. فقد أسهمت الثورة الإسلامية في تحديث المجتمع في بيئة ثقافية إسلامية، وقامت النخبة المدافعة عن الثورة بتأكيد أهمية الثقافة في تنظيم الحياة الاجتماعية ورسم العلاقة بين الدين والثقافة‏[34]. ويمكن تقسيم هذا التيار إلى ثلاثة اتجاهات أساسية هي‏[35]:

أ – اتجاه إسلامي معتدل، يرغب في تطبيق القانون وتطوير بنى الدولة الإدارية وتخليصها من الفساد، وإقامة علاقات متوازنة بالعالم بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية.

ب – اتجاه أكثر راديكالية، ويلتقي من حيث المبدأ مع الاتجاه الأول في دعوته إلى تطبيق القانون، وإلى توسيع فضاء الحريات الشخصية والإعلامية، لكنه غير متحمس لموقع المرشد‏[36]. وقد برز حزب جبهة مشاركة إيران الإسلامية وأدى دوراً كبيراً في مجلس الشورى الإسلامي من خلال طرح مشاريع قرارات مثيرة للجدل، كالحد من نفوذ المؤسسات التي يهيمن عليها المحافظون مثل مجلس صيانة الدستور، والسلطة القضائية، والعمل على تطبيع العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية‏[37].

ج – اتجاه قومي، وهو اتجاه لا يعتقد بنظام الجمهورية الإسلامية ولا يرغب إلا في استعادة إيران الفارسية السابقة ولا يكترث للعلاقات مع الغرب، أو مع جوار إيران الإسلامي. ويضم التيار الإصلاحي العديد من التنظيمات، أبرزها‏[38]:

(1) منظمة مجاهدي الثورة الإسلامية، وتأسست عام 1980 كإحدى المنظمات السائرة على نهج الإمام الخميني. وتكونت من دمج سبع جماعات، هي: أمت واحدة، وتوحيدي بدر، وتوحيدي صف، وفلاح، وفلق، ومنصورون، وموحدون. وكانت هذه الجماعات قد بدأت الكفاح المسلح في السنوات الأخيرة من حكم الشاه، إلا أن المنظمة جمدت أنشطتها بعد اعتقال زعمائها في حزيران/يونيو 2009.

(2) مكتب تعزيز الوحدة: تأسس اتحاد الجمعيات الإسلامية للطلبة (ومكتب تعزيز الوحدة) عام 1983 ويضم الاتحاد أعضاء في الجامعات الإيرانية ومنها جامعة العلم والصناعة، وجامعة خواجة نصير الدين الطوسي، وجامعة الشهيد بهشتي وكليات أخرى. وعقد الاتحاد أول مؤتمر له في عام 1985. وبرز نشاط الاتحاد في مناصرة الرئيس محمد خاتمي، وحصل على رخصة التجمع والتظاهر بمناسبات مختلفة ولعدة مرات. وكانت مجمل الشعارات المرفوعة من جانب هذا الاتحاد الدفاع عن الرئيس محمد خاتمي والهجوم على التيار المحافظ والسلطة القضائية المعيّنة من قبل المرشد الأعلى وأغلبية أعضاء البرلمان ومجلس صيانة الدستور ومجلس الخبراء. والدعوة إلى تقاسم السلطة بين الإصلاحيين والمحافظين.

(3) حزب الاعتماد الوطني (اعتماد ملي): أسسه حجة الإسلام مهدي كروبي، الرئيس الأسبق للبرلمان، بعد هزيمته في الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2005.

وفي المجال الاقتصادي يشدد التيار الإصلاحي على تدخل الدولة القوي في الحياة الاقتصادية، ويعارض اتِّباع نظام الخصخصة الشاملة، ويؤكد التيار أن ظروف المجتمع الإيراني الاقتصادية والاجتماعية تستوجب تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، فالمجتمع يعاني التخلف وعدم النمو الاقتصادي، ولا يمكن أن يتحقق التقدم إلا بوجود حكومة قوية وذات برامج اقتصادية واسعة. لذلك استمر التيار الإصلاحي في تبني نهج التنمية الاقتصادية وإعطائه الأولوية على التنمية السياسية التي أصبحت لاحقاً أحد الوعود الرئيسة في برنامج الرئيس خاتمي وتأكيده حاجة النظام السياسي إلى تنمية شاملة ومتوازنة ومتماسكة في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والعلمية‏[39].

فالتنمية السياسية هي جزء من المشروع الإصلاحي، وهي ترتكز على دستور يحدد بوضوح الحقوق والواجبات لكل من السلطة والشعب، وأن التنمية السياسية تقوم على أساس الدستور، والهدف منه أن يصبح أساساً للنظام وأداة لتنفيذ الأحكام والقوانين‏[40]. ولذلك فالإصلاحيون هم أميَل إلى إعلاء شأن جمهورية النظام وجعل المصالح الوطنية هي المحدد الأساسي للحكم وتوجهاته وأولوياته على المستويين الداخلي والخارجي. أما المحافظون فهم أميَل إلى إعلاء شأن إسلامية النظام من دون تفريط بالطبع في المصالح الوطنية ومن دون غلوٍّ في المطالب الديمقراطية بما يؤثر في مكانة الولي الفقيه كزعامة سياسية حاكمة‏[41].

وتتميز إيران في الوقت الحاضر، بوجود مجموعتين من التيارات السياسية الشاملة: اليسار الإسلامي واليمين الإسلامي. وضمن تلك المجموعتين هناك أربعة تيارات رئيسة وهم الإصلاحيون والمحافظون البراغماتيون والمحافظون التقليديون والعقائديون. فالإصلاحيون يرتبطون باليسار الإسلامي، بينما التيارات الثلاثة الأخرى يقعون ضمن اليمين الإسلامي. ويبرز هنا المحافظون البراغماتيون والمحافظون التقليديون باتجاه أقل أيديولوجية عن العقائديين، بالرغم من أن الأيديولوجية تؤدي دوراً مكمـلاً في صياغة الرؤية العالمية لكل التيارات. وتشترك التيارات الأربعة في مصلحة استمرار الجمهورية الإسلامية والثورة الإسلامية. فاليمين الإسلامي يرى أن إيران دولة ثورية بقيم اجتماعية محافظة وسياسة خارجية حازمة. فيما، يركز اليسار الإسلامي على الطبيعة الجمهورية للنظام ويتبنون تقييداً أقل، ودولة تيار تكون أكثر تعاوناً مع المجتمع الدولي‏[42]. وفي قضية البرنامج النووي والعلاقة بالمجتمع الدولي يمكن أن نحدد ثلاثة تيارات رئيسة داخل القيادة في إيران هي‏[43]:

التيار الأول، ويقوده المحافظون ويدعو إلى بذل كل الجهود لامتلاك الدورة الكاملة لإنتاج الوقود النووي، والتمسك بحق إيران في تخصيب اليورانيوم وبما يؤمِّن القدرة والإمكانات لإنتاج القنبلة النووية وامتلاكها إذا اتخذ قرار سياسي بذلك. وقد مارس المحافظون دوراً كبيراً في دفع البلاد لامتلاك السلاح النووي، فضـلاً عن الإيمان الثابت بأهمية هذا السلاح وضرورة امتلاكه. وتوظيف القضية لتوحيد الصفوف الداخلية وتخفيف حدة المطالبات الداخلية، بتغيير وتحسين الظروف الاقتصادية والمطالبة بالحريات العامة التي تواجه النظام‏[44].

التيار الثاني، ويضم المتشددين الواقعيين ويرغب في مواصلة الجهود لامتلاك الدورة الكاملة لإنتاج الوقود النووي، والتمسك بحق إيران في تخصيب اليورانيوم على نطاق محدود، وفي إطار الشرعية الدولية ومن دون أزمات ومواجهات مع المجتمع الدولي، والعمل على التوصل إلى صيغة تفاهم مع الدول الفاعلة في المجتمع الدولي.

التيار الثالث، ويضم الإصلاحيين والمعتدلين ويعارضون المواجهة مع الدول الفاعلة في المجتمع الدولي، ويدعون إلى تجميد مؤقت لكل عمليات التخصيب والعمل على تبديد أي مخاوف دولية إزاء خطط إيران في مجال الطاقة النووية، ومن الواضح أن الخلاف بين التيارات ليس في امتلاك الطاقة أو السلاح النووي، بل في الطرق لبلوغ هذا الهدف الاستراتيجي. وقد تحقق الجزء الأكبر من هذا الهدف بعد فوز المرشح الإصلاحي حسن روحاني بالانتخابات الرئاسية في 14 حزيران/يونيو 2013، والذي أعلن في 6 آب/أغسطس من العام نفسه رفض بلاده وقف تخصيب اليورانيوم لكنه أبدى إرادة سياسية جدية لتسوية تفاوضية. واقترن هذا الموقف بموافقة المرشد الأعلى السيد علي خامنئي ودعمه إجراء مفاوضات نووية، مقرونة بالإصرار على الدفاع عن حقوق الشعب الإيراني، وعدم التراجع قيد أنملة. وفي 24 تشرين الثاني/نوفمبر 2013 أبرمت إيران اتفاقاً نووياً مؤقتاً مع مجموعة 5+1 تلتزم فيه بالحد من برنامجها النووي، وتخصيب اليورانيوم، بينما يقوم الغرب برفع جزئي للعقوبات، والتعهد بعدم فرض عقوبات أممية، ومتعددة الأطراف وأحادية.

وكان الإنجاز الأهم في 2 نيسان/ابريل 2015 عندما توصلت إيران والقوى الكبرى في لوزان إلى الاتفاق على المعايير الأساسية لحل القضية النووية، وفي 26 من الشهر نفسه أعلنت إيران أن الدول الست المعنية بملفها النووي وافقت على رفع كل العقوبات المفروضة عليها، ووافق مجلس الأمن بالإجماع على اتفاق فينّا بالقرار 2231، واعترف بسلمية البرنامج النووي، ورفع العقوبات الاقتصادية تدريجاً‏[45]. في حين أن الرئيس الأمريكي الجديد دونالد طرمب، الذي سيبدأ ولايته في 20 كانون الثاني/يناير 2017، يلمح إلى نيته إعادة النظر بالاتفاق النووي مع إيران.

والواقع أن إيران قدمت أنموذجاً مهماً في خبرة تحملها آلية العقوبات الأمريكية، وأثبتت قدرتها على أقلمة المجتمع الإيراني مع تلك العقوبات. فضـلاً عن حساسية الموقفين الروسي والصيني تجاه نوعية العقوبات التي يمكن فرضها على إيران، دفعت الولايات المتحدة إلى حصر هذه العقوبات في فرض حظر على سفر بعض المسؤولين الإيرانيين إلى خارج البلاد وتجميد أرصدة إيرانية، إلى جانب فرض قيود على شراء أسلحة من إيران أو تزويدها بأسلحة ثقيلة، وأن أي عقوبات في المستقبل لن تختلف على الأرجح عن نوعية العقوبات الواردة فيها كثيراً، عما تضمنته تلك القرارات السابقة‏[46].

أخيراً، تبقى العلاقة بالولايات المتحدة محوراً مهماً للخلاف بين التيارات السياسية في إيران، ولهذا الخلاف جذور تاريخية وجغرافية وأيديولوجية، وكلما زاد الطابع الأيديولوجي للسياسة الخارجية الإيرانية كلما زاد الصراع مع الولايات المتحدة وأهدافها الإقليمية. ويتركز الخلاف في عدة نقاط منها: الأرصدة الإيرانية المجمدة بعد الثورة الإسلامية وتقدر بنحو 12 مليار دولار، والحظر التجاري والتكنولوجي والعسكري الشامل المفروض على إيران، من قبل الولايات المتحدة منذ عام 1979، ومن ثم العقوبات الأممية والثنائية العالمية النطاق ضد إيران بعد عام 2006، وسعي الولايات المتحدة منذ عام 1996 إلى فرض عقوبات على الشركات الأجنبية التي تتعامل مع إيران، والتدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الإيرانية، والخلاف حول الموقف من كثير من القضايا الإقليمية التي تهم الدولتين ومن أهمها الموقف من التسوية السلمية للصراع العربي – الإسرائيلي‏[47].

خاتمة

ظلت الساحة السياسية الإيرانية تشهد تداولاً بين القوى السياسية المندرجة ضمن ثوابت نظام الثورة الإسلامية الإيرانية، على مدى الأعوام اللاحقة التي أعقبت نجاح الثورة الإسلامية وإطاحة النظام الملكي. وقد تميز الصراع بين المحافظين والإصلاحيين بأنه يدور حول فكرة مركزية واحدة، هي العقيدة الإسلامية القائمة على المذهب الشيعي، وما أفرزه من اجتهادات، أثرت في بلورة مؤسسات الدولة السياسية، وفي تحديد صلاحياتها ضمن معايير الحلال والحرام. فالتياران ينطلقان من قاعدة فكرية واحدة، ويختلفان على الأولويات والأساليب والحلول. وقد امتد الصراع بينهما بسبب سعي التيار المحافظ للإبقاء على السلطة تحت سيطرته، متذرعاً بالشرعية الثورية وإنجازاتها، واستخدامه المؤسسات القوية وغير الرخوة التي يسيطر عليها كالجيش، والحرس الثوري، والأجهزة الأمنية، ومجلس صيانة الدستور، والقضاء، والمؤسسات الثورية، في تكريس سلطاته وسطوته، ورفع شعار معاداة الإسلام والثورة في وجه العملية الإصلاحية، واعتماد التيار الإصلاحي في المقابل على امتلاكه القوة الناعمة، مثل: الرأي العام، الصحافة، النقابات والاتحادات، ورفع لواء الشرعية الدستورية، وإرادة الشعب في الضغط على التيار المحافظ لتحقيق وعوده الإصلاحية.

ختاماً، استنتجت الدراسة أن التيارات السياسية الأربعة الرئيسة في إيران تشترك في نقاط عدّة مهمة أبرزها: الاخلاص للإمام الخميني والثورة الإسلامية، والالتزام بالنظام الإسلامي للحكومة الذي يبعد الأحزاب غير الثورية والعلمانية، واتفاق الجميع على أن المصالح الأمنية الأساسية للجمهورية الإسلامية هي في استمرار النظام وتقويته.

 

قد يهمكم أيضاً  أثر العلاقات العمانية-الإيرانية في أمن دول مجلس التعاون بعد الربيع العربي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الجمهورية_الإسلامية #إيران #الثورة_الإسلامية #التيار_المحافظ_في_إيران #التيار_الإصلاحي_في_إيران #الأحزاب_الإيرانية #الديمقراطية_الدينية #ولاية_الفقيه #التيارات_السياسية_في_إيران #دراسات