شهد المغرب منذ منتصف تسعينيات القرن الماضي تصاعد عدد الحركات الاحتجاجية التي أحدثت نسبياً، قطيعة مع طبيعة الانتفاض العنيف الذي طالما ميّز التاريخ الاجتماعي للبيئات الحضرية والقروية. وقد رافق هذا التحكم الذاتي والجمعي في الاقتصاد النفسي للعنف، بروز احتجاجات سلمية في أطراف المغرب ومدنه الصغيرة مسجلة بذلك نقلة نوعية على مستوى قدرة المجالات الهامشية على التعبئة ضد الأضرار الناتجة من الانحسار المجالي لسياسات التنمية في بلد مثل المغرب. انطلق هذا المسلسل الاحتجاجي في عدد من المدن المتوسطة التي تفتقر إلى رصيد نضالي رفيع. لقد كانت المطالب على العموم تتمحور حول الشروط الاقتصادية والاجتماعية الضرورية للعيش الكريم، وظلت دوافع الاحتجاج تنهل من السجلات القاعدية ذات الطابع الفيزيولوجي لهرم ماسلو. كان البراديغم التفسيري السائد يطوف، مع استثناءات قليلة، حول نظرية الحرمان النسبي ولا يكاد يبرحها. هكذا كانت توصف – في الغالب – تلك الاحتجاجات المندلعة في المناطق المختلفة من المغرب العميق، كميدلت وسيدي إيفني وصفرو وفكيك وتالسينت وكيكو وتازة وميسور وغيرها. غير أن احتدام الاحتجاجات المرتبطة بما سمي الربيع العربي أو الديمقراطي، ما لبثت تزوِّد الملاحظين بانطباعات مغايرة. فإضافة إلى استعادة المدن الكبرى كالرباط والبيضاء وطنجة وفاس، لدورها المركزي في قيادة تلك الاحتجاجات، برزت على السطح قصدية مطلبية تسائل الثقافة السياسية السائدة وتشير بأصابع الاتهام مباشرة إلى الدوائر الرسمية محمِّلة إياها مسؤولية نهب الثروات واللاعدالة البنيوية، وكذا إرادة تأبيد آليات التسلط السياسي. لقد كانت حركة 20 فبراير في نواتها الديمغرافية مختلفة من زاوية تشكيلاتها النفسية والثقافية، وظلت دوافع الناشطين تنهل من المستويات العليا لتحقيق الذات والرغبة في الحرية والانعتاق. بالطبع، لم يكن جميع المنخرطين في الحراك آنذاك يتقاسمون ملامح الثقافة السياسية عينها بسبب تعدد الانتماءات الاجتماعية والمجالية.

ساهم الخطاب الإعلامي الذي أعقب حادث تفجير مقهى أركانة في مدينة مراكش السياحية، إضافة إلى عوامل أخرى داخلية ودولية، في التشتت التدريجي لحركة 20 فبراير التي بدأت ومضات تنسيقياتها تخبو شيئاً فشيئاً في كل جهات المغرب. وقد ساعدت أحداث العنف في سورية وليبيا على اتخاذ الناشطين مسافة مع ما يجري في البلدان العربية الأخرى. فوضعت الحركة أوزارها وتراجع الجميع إلى الوراء يراقب التحولات الجيوستراتيجية من كثب. استغلت الدولة هذا الوضع لتمرير سياسات اقتصادية قاسية وتدشين تراجعات في مجال الحقوق والحريات. وقد تم ذلك على يد حكومة إسلامية تحمَّس كرادلتها في الدفاع الهستيري عن إجراءات هدَّت القدرة الشرائية للكادحين والطبقة المتوسطة على السواء. كان الإسلاميون يفتخرون بأنهم أخرجوا المغرب من عنق الزجاجة وكانوا يبتغون من وراء ذلك التحول إلى حزب الدولة مقابل خدماتهم الجليلة للقصر، تماماً مثلما كان يفعله الاتحاديون بادّعائهم إنقاد الدولة من السكتة القلبية التي روَّجها الراحل الحسن الثاني. لقد أعمت الاستفادات الشخصية أبصار النخب السياسية، فانفصل سادتها عن الواقع وراحوا غافلين عن الحكمة العميقة التي يدركها أسفل الشعب وهي أن المخزن لاعب كبير. هذا على الأقل ما يمكن أن يستفاد من استبصارات جون واتربوري التي لا زالت ثاقبة رغم مرور أزيَد من50 سنة على إصدارها‏[1].

بالرغم من هذه السياسات القاسية، غابت الهزات الاجتماعية نسبياً لما يقارب ثلاث سنوات، باستثناء أصوات قليلة لم تكن تتمتع بذلك الزخم الجماهيري المنتظر. في هذه المرحلة، وبصرف النظر عن التجمعات الاحتجاجية ضد مافيا العقار هنا وهناك، استيقظت الدولة على احتجاجات بني بوعياش (وهي المنطقة الموجودة على طول الطريق الرئيسي الرقم 2، الرابط بين الحسيمة والناضور، بما يقارب 22 كلم جنوب شرق مدينة الحسيمة). تميزت هذه الأحداث بتصدر هذه المنطقة للمشهد الإعلامي والسياسي بالمغرب من خلال المسيرات والاعتصامات والتظاهرات بين 2011 و2013. كانت هذه الاحتجاجات أكبر دليل على أن الريف ينبئ بانتفاضة متوقعة في الغد القريب.

لم تدرك السلطات المغربية أن الاحتجاجات الاجتماعية لمغرب الألفية الثالثة مؤشر على مسلسل طويل الأمد وإن كان بطيء الاندلاع. كانت تعتقد بأن الأمر لا يتجاوز زوبعة في فنجان من السهل إبطال سحرها بجرة تكتيكات أمنية. لقد بدا واضحاً أن نخب العهد الجديد تفتقد الحنكة الكافية لتدبير الوقائع واستشراف المستقبل. والحقيقة أن عدم كفاءة النخب الذي لا ينفك يكشف عن نفسه من دون مواربة، يشكل أحد العوامل المساهمة في امتعاض فئات عريضة من الشعب وعدم ثقتهم في الدولة؛ هكذا يصرح معظم المواطنين في المغرب. وحينما يُضاف إلى ذلك وعي الناس بوجود تباينات وتفاوتات مقصودة في الاستفادة من الخيرات العمومية، يصبحون مستعدين للإفصاح عن مكنونات صدورهم ضد نخب يعتقدون أنها لا تملك الحس الأخلاقي الذي تفرضه فضيلة العدالة السياسية.

لا تكفي هذه الخطاطة الوجدانية والمعرفية لتفسير حراك الحسيمة ونواحيها وإن كانت تلامسه جزئياً. لقد ظل الريف عبر التاريخ يعيش على صفيح ساخن. ولا شك في أن لهذا التاريخ وفنومنولوجيا الذاكرة الناتجة منه، ما يفسر التلاحم والتعبئة الاحتجاجية في بيئة اجتماعية تجعل من انجراح الذات الجمعية أداة وجدانية ومعرفية لتجاوز معيقات الفعل الجمعي. وإذا كان التاريخ يشتغل في هذا السياق كمسوَّدة كامنة للالتحام الاجتماعي في أوقات الشدة، فإنه يظل غير كاف من دون النظر إلى علاقة الديمغرافيا بالموارد المتاحة وغير المتاحة وكذا في علاقتها بالتحولات الثقافية للريف ودور ذلك كله في نشأة الحركات الاحتجاجية الراهنة. ويفترض بدراسة هذا الحراك أخذ سياسات التنمية في الحسبان وكذا طبيعة روابطها بالنزوع نحو الاحتجاج.

أولاً: جبال الريف وإفلاس التنمية: الحرمان النسبي المفعم بمشاعر اللاعدالة السياسية

لم يعد التمييز الذي كان سائداً في الخطاب السياسي إلى أمد قريب، بين القرية والمدينة على مستوى التنمية المجالية مجدياً وقادراً على إقناع الملاحظين والمواطنين على السواء؛ ليس لأن السياسات الترابية في المغرب ظلت قمينة بالقضاء على التباينات المريعة في تكافؤ الفرص على مستوى الخدمات الأساسية، ولكن لأن انشطارات متعددة الأبعاد في وتيرة النمو لا تنفك تكشف عن نفسها مذكرة بالطابع السنغافوري للتنمية كما رسم ملامحها بدقة الأنثروبولوجي الأمريكي ذائع الصيت كليفورد غيرتز، في دراسة قيِّمة حول الأنظمة السياسية للدول حديثة العهد بالاستقلال. أمام استفحال التباينات المجالية، لم يعد بإمكان السلطات الرسمية الاستمرار في ممارسة الإنكار وتغذية الوعود والتفاؤلية الساذجة، بالمعنى الذي يقصده إريك فروم. فمع انطلاق الحوار الوطني حول إعداد التراب الوطني منذ ما لا يقل عن نصف عقد من الزمن، تم الاعتراف الرسمي بحقيقة الاختلالات والتباينات التي أوردها تقرير الخمسينية سنة 2006 بالصيغة التالية‏[2]:

«إن حكامة المجال بمفهومها الراهن، لم تدرج إلا بشكل متأخر في إطار منطق إعداد التراب: ذلك المنطق الذي يتعين أن يستحضر على الدوام ضرورة ضمان التوازنات المجالية والتنافسية الترابية وتناسق البرامج التنموية الموجهة نحو المجالات الترابية. ولقد كان من نتائج التأخر الذي حصل في إدماج مثل هذا المنطق، هيمنة تدبير يعاني من محدودية الرؤية الاستشرافية لمستقبل المجال، ويرجح تحكيماً قصير المدى، ويفسح المجال لمضاربات وتجاوزات مختلفة. وفضـلاً عن ذلك، فإن التدبير الحضري، المحكوم أساساً بمسألة السكن والمشاكل المترتبة عنها، يقدم دليـلاً قاطعاً عن هاته الوضعية، على صعيد المدن. وفي هذا الصدد، فإن مدينة من الحجم الكبير كالدار البيضاء، وبصفة أشمل، الفضاء الميتروبولي المركزي، تجسد بدقة معادلة تدبير المجال بالمغرب والانعكاسات العميقة للتحكيمات التي يفرضها الاستعجال. إن إعداد التراب الوطني لا يمكن أن يختزل لا في مقاربة ترميمية للتوازنات الترابية، ولا أيضاً في إجراء تقابل تبسيطي بين المناطق الساحلية والداخلية أو بين المجالات الحضرية والقروية، رغم أنه يظل من الضروري التأكيد على كون هذه الاختلالات تبقى مطروحة بحدة في بلادنا: ذلك أن حوالى 40 بالمئة من الثروات الوطنية تتمركز في 1 بالمئة من التراب الوطني، بما في ذلك المناطق القروية. كما أن 77 بالمئة من التراب الوطني لا تسهم سوى بنسبة 10 بالمئة من القيمة المضافة الوطنية».

لكن محرري التقرير استدركوا قليـلاً، محذرين من مغبة إجراء تقابل تبسيطي بين المناطق الساحلية والداخلية. وقد انتبه مبكراً، أحد كبار الباحثين في العلوم الاجتماعية بالمغرب، أحمد أغبال، إلى الاختلالات المترتبة عن هذه الوضعية داعياً الباحثين إلى الانتباه إلى طبيعة التفاعلات الاجتماعية والسياسية التي يمكن أن تنتج من مثل هذه الوضعيات‏[3]. كانت هذه الإشارة تعني بالتحديد إقبال المغرب على موجة من الاضطرابات الاجتماعية، وبخاصة في المناطق التي لم تأخذ قسطها الوافر من التنمية المجالية والاجتماعية، وهو الأمر الذي تأكد بالملموس في المغرب الهامشي في السنوات الموالية.

بالطبع، لا يعكس التقابل الثنائي الذي أورده تقرير الخمسينية حقيقة التفاوتات المجالية، ويبدو أن المعطيات التي تنشرها المندوبية السامية للتخطيط تسمح ببناء تصنيف تنموي رباعي للتراب المغربي ينتظم وفق السلم التالي حسب درجة التنمية: مناطق ساحلية حضرية، مناطق داخلية حضرية، مناطق ساحلية شبه قروية ثم مناطق داخلية شبه قروية.

يتضح بالملموس أن جغرافية الاحتجاجات منذ مطلع القرن الحادي والعشرين قد شملت المناطق الساحلية شبه القروية والمناطق القروية. غير أن ما يثير الانتباه في فنومنولوجيا الاحتجاج هو ذاك الوعي المتنامي في أوساط الناشطين، أن الموارد المحلية تتعرض للنهب من طرف مجموعات للمصالح تفتقد إرادة أخلاقية ووطنية من أجل التغيير والتنمية، بينما تترك الساكنة المحلية عرضة لأشكال من الفقر والحرمان. والحقيقة أن منطقة الريف – وبخاصة إقليم الحسيمة – تنتمي إلى المناطق الساحلية شبه القروية المهمشة. ويساور الناشطين هناك انجراح نرجسي أعمق كثيراً مما هو سائد في المناطق الأخرى الفقيرة أو الغنية بالثروات البحرية والباطنية. غير أن السؤال الذي لا ينفك طرح نفسه، يرتبط بالأسرار التي جعلت هذا الصنو من الحراك، يتجاوز في عنفوانه التعبوي السلمي واستماتته الميدانية، توقعات السلطات والملاحظين على السواء؟

في رحلتها رفقة زوجها إلى قبيلة أيت ورياغل في مطلع ستينيات القرن الماضي، تصف أرسولا كينكسميل هارت‏[4]، بحزن وجودي منقطع النظير فقر الجبال الجافة والأودية المتعطشة إلى المياه؛ ولم تجد سوى قط نحيف ومغبر بارز الأضلاع، لتوضح أن البؤس الذي يتربّص بالإنسان في هذه الجغرافيا الوعرة، يطال أيضاً من دون رحمة أجساد حيواناته الأليفة. هذا المجال غير المضياف من حيث البقاء والاستمرار في الحياة، حسب تعبير المؤلفة، يفرض على الإنسان ودوابه العيش في كبد أبدي.

تلتقي هذه الصورة الحزينة التي رافقت ملامح الريف عبر التاريخ والتي استطاعت أرسولا الإحساس بها على نحوٍ مرهف، مع إحدى روائع الأغنية المغربية التي أطلقتها الفنانة الملتزمة سعيدة فكري في تسعينيات القرن الماضي. تبتدئ هذه الأغنية بمقطع جدير بالاقتباس:

«يا جبال الريف علاش تكذبي وتباني قدّامي فرحانة

لي خالقك قادر يـبنيك، فجنابك حقول ووديان

جبال الريف أنا شفتك تبكي ودموعك ذايقة لمرار

تكتمي همّك ولا تشكي؟

من لونك بان البرهان

يا جبال الريف علاش تكذبي وتباني قدامي فرحانة»

تقدم هذه الأغنية مثالاً حيّاً على أن الفن حمّالة أوجه وأن الفعل السياسي المقاوم لا يخرج فقط من الحناجر التي تجد في الفعالية الجمعية سنداً لا حياد لها عنها. إنها عنوان للمقاومة الخفية التي تقرأ في التضاريس حزناً لا يبدو أنه سيزول في المستقبل القريب. هذا الخطاب ذو النفحة الفنية الذي يتوجه إلى جبال الريف بالأمل، لا يخلو من الاستعانة بالعلي القدير كمصدر لشحذ الهمم من أجل التوجه للمستقبل. لا يغيب هذا الارتداد الميتافيزيقي الحاث على التقدم إلى الأمام، عن دوافع المحتجين بالريف، حيث يتخذ تأويل اللاهوت أبعاداً صراعية وعقلانية تجسدت فعلياً في انتهاك جماعي لطقوس المقدس الرسمي المفعم بخطاب الفتنة.

في الواقع، إذا كانت جبال الريف تخفي حزنها المرير وتستعيض عنه بابتسامة صفراء، فإن التصور المركزي للتنمية المجالية في المغرب لم يفلح في القضاء على البؤس الذي يفرضه جبروت الطبيعة وإرادات الهيمنة على منطقة خضعت تاريخياً لعمليات التأديب. وبصرف النظر عن بعض التنميقات التي همَّت بالتحديد بعض المراكز الحضرية في إقليم الحسيمة، فقد ظلت معظم الجماعات والمداشر في عزلة كبيرة عن الخدمات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية. غير أن ذلك لا يعني أنها أسوأ حالاً من العديد من الأقاليم في المغرب في ما يخص الفقر والهشاشة. فقد ساهمت الهجرة إلى أوروبا في التخفيف من وطأة الأوضاع الاقتصادية الصعبة. وقد كان لتلك التحويلات المالية أثر كبير في تحول المستوى المعيشي للأفراد وبروز خيارات تتعلق بالدراسة والسكن والهجرة الداخلية. ولكن مع انحسار إمكانات الهجرة ومجيء الأزمة الخانقة التي عصفت بالاقتصاد الأوروبي، تضرر التضامن العائلي من جراء تراجعات هذه التحويلات. ومع تضييق الخناق على المستوى الداخلي من خلال محاربة المخدرات وضعف مخططات التنمية، انخفضت القدرة الشرائية لدى الساكنة، وبدأت مشاعر الحرمان النسبي تستبد رويداً رويداً بالفئات الاجتماعية الشغوفة بمقارنة أوضاعها سواء مع السابق أو مع الطبقات الأخرى التي أخذت حظها من موارد الهجرة إلى أوروبا.

في السنة التي شهدت اندلاع احتجاجات 20 فبراير في مناطق مختلفة من المغرب، تم العمل على جمع معطيات متعلقة باتجاه الناشطين نحو الفعل السياسي الاحتجاجي في المستقبل (120 ناشطاً موزعين بين الحسيمة والناظور). وبالرجوع إلى هذه المعطيات وتحليلها وفق ما يجري حالياً في منطقة الريف، يتضح بما لا يدع مجالاً للشك بأن هذه المنطقة ظلت تعرف استعداداً كامناً للانخراط بكثافة في الاحتجاجات المقبلة، على نحوٍ يتجاوز مختلف مناطق المغرب. ويوضح الرسم البياني أسفله وجود فروق إحصائية دالة عند مستوى 0.001 بين ناشطي منطقة الريف والناشطين الآخرين الذين ينتمون إلى مناطق أخرى من المغرب. (T-test= 4.26 ; p<0.001)

الشكل الرقم (1)

الاتجاه نحو الانخراط في الاحتجاجات مستقبـلاً

الشكل الرقم (2)

تأثير الإحساس بالإكراه الاقتصادي على الاستعداد للاحتجاج في المستقبل

تجدر الإشارة إلى أن ما يميز طبيعة هذه المشاعر في الريف، لا يرتبط فقط بالأصل الاقتصادي – المعيشي الصرف، ولكنه ينحدر أيضاً من المعادلات التي تحكم الأبعاد السياسية لتوزيع الثروة في المملكة الشريفة. وهو ما يلمسه الملاحظ من دون عناء حينما يفحص تصورات ساكنة الريف للعدالة السياسية والاقتصادية. وما لا شك فيه أن المغرب السياسي يشكل جزءاً من منظومة الكيانات السياسية التي تؤسس بقاءها على اللاتوازنات الإثنية والطائفية. وهذا ما تؤكده دراسة حديثة العهد لكارين بودناروك جزاييري، حول التداعيات الاجتماعية المتعلقة بهذا النوع من الإقصاء السياسي‏[5]. لذلك، من المتوقع كثيراً أن يسهم الإحساس بالإكراه الاقتصادي المؤسس على مشاعر اللاعدالة السياسية، في تصعيد الاستعداد للاحتجاج في منطقة الريف أكثر من غيرها. فالوعي بأن انتكاسة الأوضاع الاجتماعية المعاشة ترتبط بالسياسات التمييزية المتعلقة بالاستفادة من الموارد الاقتصادية والسياسية والبيروقراطية النفيسة، يعد من أهم العوامل المساهمة في تشكل الاستعداد للفعل السياسي الاحتجاجي‏[6].

يوضح الشكل الرقم (2) صلاحية هذه الفرضية، حيث يتجاوز معامل الانحدار الخاص بتأثير الإكراه الاقتصادي في الاستعداد للاحتجاج في المستقبل لدى ناشطي الريف مماثله عند الناشطين المنتمين إلى مناطق أخرى من المغرب. ويعني ذلك أن مشاعر الحرمان في منطقة الريف تتخذ بعداً هوياتياً يستند إلى تاريخ علاقة العرق بالسلطة. بالطبع لا يعني هذا الكلام بتاتاً أن حراك الريف ينتمي قلباً وقالباً إلى سجلات النوازع الفطرية. على العكس من ذلك تماماً. كما أن المقصود من استعمال مفهوم العرق لا يتجاوز كونه بوتقة قابلة للاستثمار في التعبئة الاحتجاجية. وهذا ما يتعارض مع الفهم الذي تستعمله بعض الأطراف المدنية أو العمومية المناوئة للحراك.

ثانياً: الديمغرافيا كصهوة للثقافة السياسية بالريف

ينتمي الريف من زاوية المنظومة الثقافية إلى الجماعاتية العمودية‏[7] التي تحولت مع مرور الزمن إلى نموذج من العائلية العمودية‏[8]. هذا ما يمكن أن يستشفه المرء من قراءة سيكولوجية – ثقافية لأعمال دايفيد هارت‏[9] ورايمون جاموس‏[10]. ولا تختلف هذه الملامح عن الثقافة المغربية على العموم. فأخلاق العائلية العمودية التي كشفت عنها الأنثروبولوجيا الانقسامية والتأويلية ما زالت تشتغل على نحوٍ مدوٍّ داخل المجتمع المغربي. وهو ما تؤكده معطيات المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية بالروابط الاجتماعية بالمغرب‏[11].

لا شك في أن الطابع العمودي لمنظومة القيم الثقافية لا يساعد على بناء فعل جمعي مستدام خارج منظومة الدين الإسلامي. ويشير الأنثروبولوجيون في هذا الشأن إلى أن التحالفات في المجتمع المغربي التقليدي ظلت ذات طبيعة مؤقتة. ويفسر المؤرخون هذا الارتجاج بالتفاعل بين طبيعة الإيكولوجيا وندرة الموارد وطبيعة الثقافة. يقول إدموند بورك في هذا الشأن:

«الإسلام هو الذي أعطى صيغة قريبة من الوحدة لهذا الجمع غير المتجانس من القبائل والمجموعات القروية، ذلك أن هيمنة الصراع والغيرة وانعدام الثقافة المتبادلة بين القبائل جعلت الاتصال والتعامل صعباً خارج الحدود التي ترسمها روابط القرابة حتى في أحسن الظروف والأوقات. أما التجارة والتواصل العاديين، فقط كانا ممكنين فقط عبر عدد من الوسائل ذات الصبغة الدينية أو المحكومة بضوابط دينية، التي كانت تستغل لتشكيل تحالفات بين الأفراد تتخطى حدودهم وانتماءاتهم القبلية. وقد أقيم معظم هذه الوسائل على صيغة من صيغ العار والقرابين المواكبة له»‏[12].

لم يسلم مخيال الريف من سطوة هذه البنى الثقافية التي تحمل في طيّاتها تقويضاً محتمـلاً للأفعال الجمعية ذات المدى الواسع. فقد ظل الإنسان الريفي يسيء الظن بجيرانه ويحرص على عزل منزله المبني فوق المرتفع من الأرض من تلصّصية الغير. ويشتغل نبات الصبّار الشائك في هذه الجغرافيا الثقافية، بمنزلة الحجاب الذي يحرص على حماية العرض والشرف بغيرة لا مثيل لها. وهناك دوماً وراء هذا النبات – الحاجز، بندقية ترقب كل متهوِّر جموح. وهو ما يعطي لمؤسسة الثأر في منطقة الريف ديناميتها الخاصة. ما لا شك فيه أن تحصينات المجال الحيوي العائلي لا تخلو من اعتبارات أخلاقية تنبئ بموقع الجنس في منظومة الشرف السائدة. ويغذي هذا الموقع معايير اجتماعية حول المرأة أكثر صرامة، ظاهرياً على الأقل، من أخلاقيات الجنسانية التي ميزت العهد الفكتوري.

في خضم هذه الشروط الثقافية، بإمكان الملاحظ أن يتساءل كيف استطاع شباب وشابات الريف أن يتجاوزوا الإرث الثقيل للعوائق المرتبطة بالانقسام الثقافي والحذر المرضي الملازم للحياة اليومية. لا غرو أن بزوغ خطر خارجي في الأفق لن يحول دون صَهر الانقسامات الداخلية وتوحيد الجهود، مثلما لاحظ ذلك صاحبا كتاب الشوكة والوردة حول البنيات السيميائية عند إبقوين‏[13].

تمت دراسة هذه النقطة بالذات من طرف الباحثين رولاند وكورودنشنكو‏[14]. وقد توصلا إلى بناء نموذج رياضي لاحتمال وقوع احتجاجات عارمة داخل الثقافة السياسية الجماعاتية والفردانية. فحينما تسلك السلطة السياسية أساليب السطو على ثروات الشعوب وتفرض اللاعدالة بين المجموعات الاجتماعية، تهب الجموع الغفيرة لتعوض متسلطاً بآخر أكثر عدالة. لا يهم كثيراً في مثل هذا السياق من الثقافة السياسية، مفهوم الحرية. ولكن الأهم هو حمل السلطات على تحقيق التوازن في توزيع الريع أو الظلم على نحوٍ منصف داخل الفسيفساء الاجتماعي.

تؤكد المعطيات الديمغرافية والثقافية الراهنة التي ينبني عليها الحراك في الريف أن هذا الأخير يوجد في منطقة وسطى بين التوق إلى الحرية وتحقيق العدالة والإنصاف الجماعي. فالمطالب التي تصدح بها الحناجر تجعل من الاستفادة من الثروة البحرية مدخـلاً للديمقراطية الحقيقية. فلماذا تصلح مؤسسات منتخبة من دون موارد مادية ولو بصلاحيات كبيرة؟ هكذا يقول الناشطون. فالديمقراطية لا تتحقق خارج مدخل الاقتصاد السياسي في نظرهم.

يمكن تفسير استمامتة الحراك بالطابع الهجين للدوافع والمشاعر السياسية. فالثقافة السياسية للريف لم تتوقف عند النماذج العمودية التي تمت إثارتها مسبقاً، ولكنها عرفت على مدى السنوات الأربعين الماضية تحولات يصعب وصفها بالهيِّنة. لقد ساعد مدخول الهجرة إلى أوروبا، على تقويض الأسس الاقتصادية والاجتماعية لقيم البقاء السائدة إلى أمد قريب، وهو ما نتج منه تحولات ثقافية وتشكيلات اجتماعية مغايرة نسبياً لما كان سائداً في الماضي. غيّرت الهجرة ملامح الريف لكنها سلبت روحه الثقافية التقليدية المرتبطة بنبات الصبّار والأنماط الطقوسية للتمايز والحظوة الاجتماعيين. لقد ساهم ارتفاع دخل الأسر من خلال موارد الهجرة في ضرب الأسس الاقتصادية والثقافية التي ظلت تضع الحدود بين الأكابر والصغار في منطقة الريف. لم تعد التراتبيات الاجتماعية تبنى وتؤول من خلال العلاقة بالأشخاص كما كان عليه الأمر في السابق، ولكن من خلال العلاقة بالأشياء، أي من خلال القدرة على الاستهلاك وتحقيق جودة الحياة‏[15]. هكذا انقسم الريف على نفسه بناء على معيار الاستفادة من موارد الهجرة بين مستفيدين مستهلكين وناقمين على الأوضاع. وهو ما شكّل نقطة البداية في بروز مشاعر الحرمان النسبي المبنية على المقارنة الاجتماعية‏[16]. ولكن بصرف النظر عن هذه المشاعر، انتعش الاقتصاد على نطاق واسع وأخذت الفئات المحرومة حصتها من تداول النقد، فكان لذلك أثر في الاستثمار في التعليم والسكن. وقد شجع تداول المال في المراكز الحضرية للحسيمة والناظور على انتعاش الهجرة الداخلية والمهن التجارية الصغيرة.

موازاة مع ذلك، شهد الريف تحولات ديمغرافية تميزت على الخصوص بصعود جيل الشباب المتعلم الذي استطاعت نسبة مهمة منه الظفر بوظائف في القطاعات العمومية على الخصوص. فقد انعكست إيجاباً على قولبة حياته وتنشئته الاجتماعية، الموارد الاقتصادية المرتبطة بالاستهلاك وتوخّي تحسين ظروف العيش. لقد تبين بالملموس أن الأجيال الجديدة بمنطقة الريف، من خلال طفولتها المعاشة في ظل ظروف اقتصادية مخالفة لتلك التي أحاطت بتنشئة آبائهم كما وصفتها أرسولا، بدأت تميل إلى تبني قيم ثقافية مفعمة بالرغبة في الاستقلالية وتأكيد الذات. وهو ما يتأكد حينما ينظر المرء إلى الوضع الذي أصبحت عليه المرأة الريفية التي ظلت ترزح عبر التاريخ، تحت التعاليم الأخلاقية المتشددة. وتدل مشاركتها المكثفة في الاحتجاجات التي تجتاح الريف حالياً على تحوُّل نوعي في قيم المجتمع المحافظ. لقد لاحظنا عدم وجود فروق دالة في قيم التعبير عن الذات بين الناشطين المنتمين إلى الريف وناشطين من أنحاء أخرى من المغرب. ولكن في المقابل، يُبدي ناشطو الريف حساسية مفرطة تجاه كل ما يرمز إلى الخضوع للسلطة واحترامها. وتُبين الرسوم البيانية في الشكل الرقم (3) والشكل الرقم (4) الفروق والتشابهات المرصودة.

الشكل الرقم (3)

قيم التعبير عن الذات

الشكل الرقم (4)

احترام السلطة في المستقبل

من سخرية القدر أن التحولات الثقافية لا تأتي إلا على صهوة الديمغرافيا، أي أنها ترتبط بتعاقب الأجيال‏[17]؛ وكذلك يفعل التغير السياسي. ليست الديمغرافيا وعاءً فارغاً كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن أول وهلة. إنها من الناحية السوسيولوجية حمالة القيم والاتجاهات والمشاعر. وهي بذلك لن تكون سوى سياسية بالنظر إلى طبيعة الأحكام التي تطلقها تجاه الوضع الاجتماعي – السياسي الراهن. حيث يقال عادة عن الشباب أنهم أحصنة الثورة. ولكن رغم ذلك، من الصعب التحدث في هذا الشأن على طريقة برونكار‏[18]، عن جيل التغيير الثقافي الذي يترك بصمات واضحة في التاريخ الثقافي والسياسي لمنطقة معيَّنة ما لم يتم فحص الوزن الديمغرافي لحاملي التغيير. فمن غير اللائق الجزم بأن الجيل الحالي يشكل قطيعة نهائية مع الإرث الثقافي للأجداد؛ ولكن التحولات الديمغرافية المقبلة ستكون محددة لا محالة على مستوى الحركات الاجتماعية في منطقة الريف، إذا سارت الأمور أكثر مما هو متوقَّع على مستوى التحضر.

يتجه المجتمع الريفي من الناحية الديمغرافية، بحسب معطيات المندوبية السامية للتخطيط، إلى تضخم الفئة العمرية 15 – 44 سنة مقارنة بالفئات الأخرى. وتمثل هذه الفئة ما يقارب نصف المجتمع الريفي (50.1 بالمئة حسب الإحصاء العام لسنة 2014 مقابل 48.8 بالمئة سنة 2004). تجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة هذه الفئة العمرية على المستوى الوطني لا تتجاوز 47 بالمئة. وإذا أخذنا في الحسبان التوجه الحضري للمجتمع الريفي في المستقبل، فستواجه السلطات المغربية مطالب اجتماعية وسياسية على الموارد والحريات، لن يكون من السهل الاستجابة لها، إذا ظل اشتغال الدولة وفق أساليب السرية (ضد العمومية) ساري المفعول. وما لا مراء فيه أن الاتجاه نحو تحضر منطقة الريف في المستقبل المنظور، ستسفر عن مصادر متنوعة للسخط الاجتماعي. والأكيد أن الفئات الشابة سيكون لها رصيد لا يستهان به في إذكاء الاحتجاجات. ويبين المنحنى الوارد في الشكل الرقم (5) توقعات تطور ساكنة إقليمي الحسيمة والناظور في أفق 2030.

 

الشكل الرقم (5)

توقعات تطور ساكنة إقليمي الحسيمة والناظور (قروي + حضري)

يؤكد الباحثون أن نشأة الحركات الاجتماعية ترتبط بطبيعة التفاعل بين العوامل الديمغرافية والأنساق الإيكولوجية‏[19]. فاللاتناسب بين الوزن الديمغرافي للشباب في مجتمع ما مع الموارد المتاحة، قد يدفع الاجتماع السياسي إلى حافة الاضطراب‏[20]. إن التركيز على العوامل البنيوية يسمح بتفسير جزء ليس بالهيِّن من التباين المتعلق بالانخراط في الحراك بالريف. فالملامح الديمغرافية للمجتمع الريفي وتقلص الموارد المرتبطة بالهجرة وإفلاس سياسات التنمية، تشكل الأرض البنيوية العميقة التي يقوم عليها الحراك. تشير الدراسات في علم الاجتماع السياسي إلى أن المجتمعات التي تعرف توسعاً ديمغرافياً لفئة الشباب، تميل إلى التعرض لهزات احتجاجية أكثر من المجتمعات التي يهيمن عليها الكهول‏[21]. وما يثير الانتباه في جغرافية الحراك أن المراكز التي تسجل مستويات متقدمة نسبياً من التنمية البشرية والانخراط الطوعي في المنظمات المدنية، هي التي تعرف احتداماً وتواتراً للاحتجاجات، وهذا هو حال الحسيمة وإمزورن وبني بوعياش وغيرها (راجع في هذا الشأن معطيات المندوبية السامية للتخطيط). يعني ذلك أن تفاعل الموارد المعرفية والثقافية للناشطين مع مشاعر الحرمان النسبي المبنية على إدراك اللاعدالة البنيوية في تدبير الثروة من بين العوامل المساهمة بصورة مباشر في حدة الحراك الاحتجاجي.

إن التشكل الديمغرافي لطبقة من الشباب المتعلم التواق إلى الحرية والاستقلالية، والحاصل على مستويات من التعبئة المعرفية والموارد الثقافية الضرورية لقيادة الحراك ليس بمعزل عن العنفوان المستمر الذي شهده الحراك. تمرَّس هؤلاء في الجامعات ذات التاريخ النضالي العريق كوجدة وفاس والرباط، وانخرطوا في شبكات جمعوية وتنظيمات نقابية أكسبتهم حرفية كبيرة في تدبير الاحتجاجات. وتحدو هؤلاء الشباب رغبة واضحة في التشبث بالانتماء للريف. ويبدو أن جذوة الافتخار هذه، تجعل من الاستعراض الاحتجاجي للجسد متعة مفارقة. فأن ينتشي المرء وهو يحتج يعني أنه يحقق على مستوى الشعور رغبات دفينة‏[22]. وما لا مراء فيه أن تسليط الضوء فنومنولوجياً على ذاكرة الريف سيسمح ولو جزئياً، باستقصاء سر هذا الانتشاء.

ثالثاً: الاستعادة المثالية للتاريخ وتداخل سجلات المقاومة: فنومنولوجيا أولية حول احتجاجات الريف

لا تكفي العوامل الموضوعية لتفسير الانخراط الجماهيري في الحركات الاحتجاجية؛ فالمرء يعيش في عالم اجتماعي تساهم في تشكيله، بلا منازع، عمليات الإدراك والتمثل. إن الثقافة السياسية، كعنصر من بين محمولات الديمغرافيا، لا توفر فقط العناصر الجديدة للديناميات الاحتجاجية، ولكن تزودها أيضاً بذلك المعنى الذي ما فتئ ينتقل من جيل إلى جيل في منطقة الريف. ويدور هذا المعنى حول العلاقة التاريخية بالسلطة المخزنية. وبذلك، ليست الذاكرة التاريخية محايدة تجاه ما يحدث حالياً في هذا الجزء من المغرب. ويبدو أن ما يقبع خلف التعبئة الاجتماعية لفائدة الحراك الاحتجاجي يتجلى، على وجه الخصوص، في إعادة امتلاك دوري لمعنى اضطهادي لهذا التاريخ. وهي الطريقة التي لا تخلو من التسامي في منطقة الريف على الخصوص. فعلى الرغم من انقسامية هذا التاريخ بين رموز مناضلة كمحمد أمزيان في الناظور ومحمد بن عبد الكريم الخطابي في الحسيمة، فإن مساهمته في نشأة الثقافة السياسية عند ساكنة الريف أمر لا جدال فيه، حيث يتجاوز إلى حد كبير مساهمة التاريخ المحلي في المناطق الأمازيغية الأخرى.

لقد ظل الريف منطقة مشاكسة عبر التاريخ، بحيث شكل ذلك مصدر قلق للمخزن والقوى الاستعمارية على السواء‏[23]. وهو ما جلب على ساكنته لعنة آلة القمع سواء في عهد الراحل الحسن الثاني أو من طرف السلطات الفرنسية والإسبانية إبان مرحلة المقاومة. وتُبين مختلف أحداث الريف أن أسلوب استعمال العنف ضد الإنسان الريفي، لا يفلح عادة في إطباق فمه وإخراس لسانه إلا للحظات وجيزة؛ ولكنه يسهم في المقابل في تجذير مقاومته للسلطة وتثبيتها في الأجهزة النفسية التي يتفاعل بها مع الواقع. يقدّم الشكل الرقم (6) المراحل الرئيسية للاحتجاج العلني بمنطقة الريف.

يدل تواتر الاحتجاجات في منطقة الريف على وجود استعداد جمعي متجدد للانخراط في الغضب الاجتماعي ضد السلطات القائمة. ويستمد هذا الاستعداد بعضاً من ديناميته الخاصة من استحضار الريفيين، المعرفي – الوجداني، للأضرار الجسيمة التي تعرضوا لها عبر التاريخ، على الأقل منذ مرحلة الاستعمار إلى سياسات الدولة بالمغرب ابتداءً من الاستقلال حتى مطلع الألفية الثالثة.

الشكل الرقم (6)

المراحل الأساسية للاضطرابات الاجتماعية في منطقة الريف منذ مطلع الاستقلال

ويبدو أن التكثيف النفسي لهذه الأحداث من خلال السرد التاريخي المحلي قد جعل الأجيال الشابة في الريف تحتفظ بسجلات الوقائع الأليمة متوهجة على مستوى العقل الواعي. وهو ما ظل يمنع سقوط (Forclusion) ذكرى هذه الأحداث في قعر النسيان. وقد لمسنا ذلك من خلال الانتباه إلى كون السرد التاريخي المضاد للسلطة لا ينزوي إلى الأركان المعهودة للتنشئة الاجتماعية، وإنما يتخذ لنفسه فضاءات تميل إلى اتخاذ صفة فوق – عائلية وربما هوياتية. وهو ما يعني أن بناء الذاكرة في الريف يتجاوز الشرط الفردي ليضرب بجدوره في الإطار الاجتماعي والإيكولوجي للوعي، كما يقول موريس هولبواتش‏[24]. صحيح أن خبرة الأجيال الشابة بالأحداث الماضية لم تكن مباشرة وعيانية؛ لكن تكريسها في المخيال الهوياتي من خلال فعالية الحكي قد ساعد بما فيه الكفاية على خلق هوام عدواني ذي طابع إسقاطي تجاه مظاهر السلطة.

تميل المعرفة الاجتماعية بالتاريخ لدى المغاربة بحسب أطروحة لورانس راوزن‏[25]، إلى اتباع أسلوب عقلي يركز على الأشخاص ويهمل الربط بين الأحداث وعلاقاتها السببية. بالطبع لا تخلو الاستعادة المثالية لتاريخ الريف من ذكرى أشخاص وضعتهم وقائع الماضي في قمة هرم المخيال الرمزي، ولكن الطابع الرضِّي (Caractère traumatique) للعلاقة التاريخية بين الريف والمخزن تقحم قلقاً فريداً في ادعاءات راوزن. والدليل على ذلك هيمنة تمثل اجتماعي يضع مسؤولية تقهقر الريف على كاهل النخب المخزنية. إن منسوب الوعي باللاعدالة البنيوية يكمن وراء البروز التاريخي في الريف، للسيكولوجيا الجمعية الضرورية للاحتجاج. وقد أوضحت الدراسات في علم السياسة أن اللامساواة المبنية على اللعب السياسي بالنوازع الفطرية تمثِّل العامل الحاسم في التحفيز الهوياتي للمطالب السياسية والاجتماعية. وهو ما يجري بالضبط في الجزائر والبحرين واليمن وغيرها من الأنظمة السلطوية المؤسسة على العناصر اللاعقلانية الموروثة.

يسهم الإحساس بالظلم في اللجوء إلى تبجيل التاريخ لأهداف وغايات سيكولوجية سرعان ما تنشأ عنها ذاكرة جمعية تأبى أن يطويها النسيان بجرة قلم، وتميل إلى الاصطباغ بالمقاومة السياسية الخفية أو العلنية. فماذا يتذكر إنسان الريف حين يتأمل علاقته بالسلطة السياسية؟ وما طبيعة الاتجاه السياسي الذي يتخذه هذا التذكر؟ وكيف تتأتى عملية استعادة الماضي المهووس بالنفور من السلطة؟

يميز بول ريكور، في دراسته الفنومنولوجية للذاكرة بين الإثارة التلقائية والعادية للوقائع والأشخاص والأفكار من جهة، والغوص في الماضي من أجل استعادة الأحداث المنسية سواء على المستوى المعرفي أو على المستوى البرغماتي من جهة أخرى‏[26]. وهو ما يناسب الفصل الذي يقيمه هنري برغسون في مؤلف رفيع المستوى، بين المادة والذاكرة‏[27]. يتجلى الفرق في هذه التمييزات على مستويين، مستوى العمق الزمني للأحداث، ثم مستوى المجهودات المبذولة من طرف الأفراد والجماعات، لاسترجاع مفقودات التاريخ الاجتماعي. يعبر هذان المتغيران عن مفهوم «Anamnésis» الذي تنظر من خلاله الفلسفة الأفلاطونية والأرسطية إلى أحد الأوجه الإيجابية للذاكرة الممارسة، أي ذاك التذكر النشيط والإرادي ضد النسيان‏[28]. وهي ذاكرة تتميز بالبحث المضني عن ذلك الصنو من التاريخ الذي تستمد منه الذات هويتها المفقودة. وتعد هذه الفاعلية النفسية أساس الوظائف السياسية للذاكرة الجمعية، لأنها تكافح ضد النسيان. ففي غياب مصالحة عمومية حقيقية مع الماضي يتخللها الندم والتماس الغفران والصفح من المتضررين، تتطلب هذه الوظيفة إبقاءً وجودياً للحداد كخير تعبير عن الموضوع المفقود. وقد بدا واضحاً أن مسلسلات العدالة التي لا تلبي الشروط الهابرماسية المتعلقة بوضع الكلام، لن تكون انتقالية، سواء بالمعنى الفلسفي أو بالمعنى السياسي‏[29]. فالصراع الرمزي الذي رافق إنشاء متحف بالريف، يؤرخ للذاكرة الجماعية، يبين أن المصالحة المحبوكة ما زالت بعيدة من رغبة الدولة في مأسسة الطوطمية بالمفهوم الأنثروبولوجي للكلمة‏[30]. صحيح أن هذه الذاكرة المجروحة يطغى عليها إكراه التكرار، الذي يفصح عن نفسه من خلال تحليل كيفي أولي لتصريحات النشطاء، لكن ذلك لم يمنعها من تزويد الوعي الجمعي بطاقة وجدانية ومعرفية كفيلة بالتصدي لأدلجة الذاكرة.

لا يلتقي المرء في المناطق الأخرى التي تعرضت أيضاً لمثل هذا الإخصاء الرمزي، بذاكرة حية مماثلة؛ فقد ساهم الاستبطان الجماعي لمقولات السلطة الكرونوفاجية‏[31] في وأد الذاكرة، فصدر الحكم النهائي باستلاب الكينونة الإنسانية في جبال الأطلس على سبيل المثال. ويبدو أن انفصام الوعي عن جذوره التاريخية قد سمح إلى حد كبير للأعراض المرضية المرتبطة بالصدمات المنسية، أن تنجلي في قطاعات من النشاط الإنساني لا يمكن أن يتوقع تمظهرها هناك. فالمنصت للأغنية الأمازيغية الأطلسية لا يستقيم له أن يفهم الأسس اللاشعورية لتلك النبرة الحزينة الممزوجة بطابع مازوشي قلق، من دون استحضار الصدمات العميقة للذاكرة الممنوعة (Mémoire empêchée). إن الحؤول دون انبثاق التاريخ المتسامي يحوِّل الحزن إلى اكتئاب غريب يستبد بالأنا ويقدف به من دون رحمة في دوامة النسيان السياسي. والواقع أن فقدان التاريخ بين الأجيال الناشئة يشكل رديفاً لغياب الذاكرة الممارسة ونفياً منطقياً لها. وهذا هو حال المعرفة والوجدان الاجتماعيين في عدد من مناطق المغرب المهمشة.

حينما يسلط المرء الضوء على الذاكرة الجمعية في الريف، فلا جدال في أنه سيلاحظ ما يشبه تثبيتاً نفسياً لمفهوم معين للتاريخ، بحيث يعطي الانطباع بأنه توقف عن النمو وبقي مرتبطاً بتكرار دائري لا يفتأ يبتعد من الصدمة حتى يرجع إليها بعد حين. وتعد هذه الحركة الارتدادية أهم عنصر في تشكيل الوعي الهوياتي وتثبيته. وما لا شك فيه، أن استدعاء هذا المفهوم المشترك، سواء على نحوٍ شعوري أو لاشعوري، هو ما يشكل حجر الزاوية في آليات التعبئة والتماهي الجماهيري مع الحركة الاحتجاجية التي تمخر عباب الريف. ولعل أفول أشكال متعددة للحراك الاجتماعي في جغرافيات مغربية مشابهة ثقافياً وإيكولوجياً، يعود في الواقع إلى وجود انفصام كبير بين طبقات الوعي واللاوعي حيث ترقد الذاكرة الممنوعة في صمت مريب. وهو ما ينتج منه تجريد الاحتجاج من إطاراته التاريخية الضرورية لوصل الماضي بالحاضر واللاوعي بالوعي. على عكس ذلك، فإن التكثيف النفسي للعلاقة المعرفية والوجدانية بين الماضي والحاضر والمستقبل، يعد العمود الفقري لخطاب الريف حول ذاته. قد تكون الشروط الجغرافية وعزلة المنطقة والهجرة المفروضة مسؤولة عن ثبات هذه الخريطة العلائقية، لكن استحضار الصدمات يشكل في نظرنا العامل الأساس في اشتغال هذا النوع من فنومنولوجيا الذاكرة.

ساهمت سياسات الدولة في الريف منذ مطلع الاستقلال حتى حادث مقتل محسن فكري، في تضخيم منطقة الظل في الثقافة النفسية الموروثة عبر الأجيال. وقد كان لذلك انعكاسات وخيمة على الدولة نفسها؛ حيث انقلب السحر على الساحر في غفلة فريدة منه، فراح يتوسل ضد ما يعتقده شراً، بتعويذات طقوسية مبهمة وغير مجدية (مواقف الأطياف المشكلة للحكومة، انخراط مجموعة من رجال الدين في مهاجمة الحراك، تشكيل وسطاء والدعوة إلى تظاهرات ضد حراك الريف). يشتغل الظل الجمعي في تصور كوستاف يونغ‏[32]، كمستحث أثري بإمكانه إنتاج ديناميات نفسية جماعية لا تخضع بالضرورة لسلطة الأنا الفردية الواعية. وتسهم هذه الديناميات ذات الطابع الدفاعي في تكاثف الإقبال على الفعل الاحتجاجي.

يمكن للتثبيت على الصدمة أن يشتغل في اتجاهين متناقضين حسب موقف رائد التحليل النفسي سيغموند فرويد: الاتجاه السلبي الذي يمنع الذاكرة الممنوعة من الاستيقاظ وذلك من خلال التشغيل المكثف لآليات التفادي والهروب مما ترزح تحته لاشعورياً الذات الفردية والجماعية. أما الاتجاه الإيجابي، فيتجسد في الاستعادة المتوترة والمتواترة للصدمة وآثارها، وهو ما يسهم في تفضيل استراتيجيات المقاومة‏[33].

إن ما يميز منطقة الريف على الخصوص مقابلة بمناطق أخرى هو قدرتها على بناء موقف طبيعي من السلطة، بمعنى ألفريد شوتز، مسنودٍ باستحضار وجداني دؤوب لذكريات العسف السياسي؛ بينما تعجز المعرفة الاجتماعية والوجدان الجمعي لأمازيغ الوسط والجنوب عن إنعاش الوعي من خلال وصله بألغاز الذاكرة الممنوعة التي تنضح بآثار الصدمات السياسية. وإذا كانت الأشياء لا تولد من عدم ولا تنمحي؛ ولكنها تتحول بحسب قانون لافوازييه – لومونوسوف(*)، المستوحى لفظياً من إحدى المقولات الشهيرة للفيلسوف اليوناني أناكساغوراس(**)، فإن ذكرى الانكسارات التاريخية لا تندثر أيضاً ولكنها تتحول في صيغة أعراض سلوكية ومواقفية يطغى عليها وسواس التكرار، حيث يقاوم بشدة انكشاف أصولها النفسية والسياسية‏[34].

إن اضطراب الذاكرة السياسية أقل وطأة عند الإنسان الريفي. وربما يعود ذلك إلى العمق الزمني لخبرة الريف مع العسف. وبالنظر إلى تاريخ المغرب في مرحلة ما بعد الاستقلال، فإن مسافة زمنية بحجم ستين سنة غير كافية لوأد الاقتصاد النفسي للحداد من خلال إسقاط ذكرى الموضوع المفقود من بنيات الوعي.

يميز فرويد بين الحداد وعقدة الكآبة من خلال التشديد على أن الموضوع المفقود يظل حاضراً في الوعي في الحالة الأولى بينما يهوي في أعماق اللاشعور في الحالة الثانية، مخلفاً مشاعر غريبة من احتقار الذات لا يدرك المكتئب أسبابها الحقيقية في غياب ما يسميه ريكور فاعلية التذكر. يتضح هذا الأمر حينما يفحص المرء تداعيات الإنسان الأمازيغي في الأطلس المتوسط أثناء إثارة هويته السياسية والتاريخية. حينذاك يحس الباحث بسطوة آليات دفاعية تكشف انشطار الأنا (Clivage du moi) وتميل إلى الإسقاط والتعويض. يقول سيغموند فرويد:

«نلاحظ كيف يتمكن جزء من الأنا عند المكتئب، من معارضة الجزء الآخر وينظر إليه نظرة تبخيسية من خلال اعتباره كموضوع. هناك أسباب وجيهة تجعل انشطار هذه الطبقة النقدية عن المكونات الأخرى للأنا منطقية. تتجسد هذه الطبقة من الأنا في الوعي الأخلاقي للمريض. ففي الجدول الإكلينيكي، يأتي النفور الأخلاقي للمكتئب من ذاته، في مقدمة الأعراض، وهو ما ينتج عنه عتاب ذاتي يساهم في تفقير أنا المريض بشكل لافت للنظر. والواقع أن ذاك العتاب ليس سوى شكل من أشكال التحسر اللاشعوري عن فقدان الموضوع المحبوب»‏[35].

إن استبداد عصاب التكرار بالكينونة في جبال الأطلس ومناطق أخرى، وشَلّه القدرة على التذكر واستعادة أحداث الماضي الأليمة على مستوى الوعي، إضافة إلى ضعف الفاعلية السياسية الذاتية، يعد خير تعبير عن تعذيب الأنا لنفسه من خلال اعتباره لا شعورياً، مسؤولاً عن الموضوع المفقود. ويرى فرويد في تفقير الأنا هذا، نكوصاً في التماهي إلى المرحلة النرجسية لليبيدو‏[36].

لا تعبر احتجاجات الريف عن شيء من هذا القبيل. على العكس من ذلك تماماً، يمكن النظر إليها كنوع من التسامي بفنومنولوجيا الذاكرة إلى مستوى من التحكم لا يخلو مع ذلك من بعض العناصر العصابية‏[37]. لقد أفلحت جماهير الريف في تحويل الطاقة النفسية الموجهة للحداد إلى موضوع بديل يتحدد في المطالب السياسية والاجتماعية. إنهم بلغة جوديث باتلر‏[38]، قد استعاضوا عن تبخيس الذات بصب جم شحناتهم الوجدانية على رموز السلطة بأطيافها المختلفة.

يعتقد جيمس سكوت بأن أطروحة العبودية الطوعية ومختلف النظريات التي تدور في فلكها حول تماهي الحاكم مع المحكوم غير دقيقة، كما يمكن أن يتبادر إلى الذهن. لأن الانطباع الذي تتركه مسرحة علاقات السلطة على مستوى النص العلني لا تعطي أدنى فكرة عما يدور في خلد المحكومين. والعجيب في الأمر أن الحكام أنفسهم لا تقنعهم فروض الطاعة التي يتفنن الرعايا في إبدائها في ما يتعلق بصدقية الولاء‏[39]، وذلك على عكس مثقفي السلطة الذين ينتجون أوهاماً معرفية حول الاستتباب النفسي النهائي لعلاقات الهيمنة، منخرطين بذلك في ما يسمى في التحليل النفسي، الإرضاء الهلوسي لرغبات لاشعورية‏[40]. لا يفوت ذوي المواقع الرفيعة أن يفترضوا دوماً قدرة المحكومين على إخفاء السوء والنذالة وأن ينظروا إليهم عادة ككتلة من السفلة الجشعين عديمي الضمير، ما لم يكن الحكام الذين يتمثلون تابعيهم كمخادعين، مصابين باضطراب الميغالومانيا (جنون العظمة) ومنفصلين عن إدراك واقعي، مثل مثقفيهم المصابين بأشكال خفيفة من الذهان، للطبيعة التحتية لعلاقات السلطة والهيمنة.

يعني ذلك أن نظرية العنف الرمزي للعلّامة الفرنسي بيير بورديو، لا تصلح أن تكون نبراساً للنص الخفي الذي لا يكشف عن نفسه إلا على هيئة قناع سميك ومتعدد الاستعمالات الماكرة. إن التجاهل كأساس معرفي لهذا العنف كما نظر له مؤسس البنيوية التكوينية، لا يعني الاعتراف اللامشروط، اللاواعي والطوعي، بالسلطة‏[41]. لذلك، يمكن القول إن الريف يكاد يكون المنطقة الوحيدة في المغرب التي ظلت ما يقارب نصف قرن، تزاوج بين سجلات المقاومة العلنية من خلال الاستعمال السياسي للجسد في المجال العام‏[42] وسجلات المقاومة الخفية التي تأخذ أشكالاً صعبة الفهم‏[43]. إن النظائر الثقافية للمثل الإثيوبي المتعلق بانحناء الفقير وذهابه في صمت أثناء مرور السيد العظيم، تعد أكثر حضوراً في الثقافة السياسية للشعوب كلما كانت الذاكرة الممنوعة أشد تضخماً. أما حالة الريف فهي تميل إلى أن تكون مغايرة نسبياً بفضل الربط الجمعي الواعي للتاريخ بالموضوع المفقود، أي بكرامة الريفي وبسالته وتضحياته المبنية ثقافياً كمثال للأنا. وهو ما يحول دون النسيان، مشكـلاً في الآن نفسه عقدة سياسية وثقافية للسلطة المخزنية وساكنة الريف على السواء. وما يثير الانتباه حقاً أن النخب السياسية المتطلعة إلى «التبرجز» لا تسلم من سطوة هذه الذاكرة. ويتجلى ذلك في الارتباك الناتج من الإكراه المزدوج‏[44] الذي تثيره تنمية الريف في خطاب زعمائها السياسيين القابلين بلعبة الدولة.

خاتمة

لا تدعي هذه الدراسة أنها محيطة بالعوامل التي جعلت حراك الريف يحيّر المسؤولين والمراقبين على السواء، ولا تتوق إلى نتائج يمكن اعتبارها نهائية. إن نقص المعطيات الميدانية الكفيلة بتسليط الضوء على حزمة من المتغيرات المشتبه في ضلوعها في تكثيف الاحتجاج، قد ظل يلاحق النتائج المتوصل إليها ليضفي عليها طابعاً من النسبية لا يجوز غض الطرف عنه. يعني ذلك أن العوامل التي تم فحصها من خلال التحليل الإحصائي والفنومنولوجي، كمتغيرات مستقلة، لا تتجاوز قيمتها تلك الوظيفة الاستطلاعية التي يقوم بها سلوقي القنص، والتي تسمح بتصويب البندقية تجاه مخبأ الطريدة. وعلى الرغم من أن هذه الاستعارة تعد مثالاً سيئاً يمكن أن يضربه المرء بخصوص علاقة البحث العلمي بالقنص، فإنهما يتشابهان كثيراً من زاوية اعتمادهما أشكالاً ممزوجة من الحظ وكذا الإحاطة المعرفية العملية بالميدان، ميدان القنص من جهة وميدان التفاعلات الاجتماعية من جهة أخرى. لذلك، يمكن الجزم بأن التفسيرات المقدمة للظاهرة الاحتجاجية بمنطقة الريف في هذا البحث لا يزال يعتريها شيء من تذبذب الصلاحية، ولكنها تكشف في المقابل عن طيف واسع من الأسئلة والتوجهات البحثية ذات الأهمية العميقة مقارنة بطبيعة الأجوبة التي جادت بها قريحة الباحثين الثلاثة.

من جهة أخرى، فالنص الذي صيغ بأقلام باحثين تختلف خلفياتهم الفكرية واتجاهاتهم المعرفية، يميل إلى أن يكون تكاملياً في مقاربته للحراك الاجتماعي بالريف، بحيث جعل مجموعة من الحقول المعرفية تتمتع بنصيب وافر من الحضور، وإن استبد التحليل النفسي والفلسفة الفنومنولوجية والديمغرافيا السياسية بمعظم مفاصل هذه الدراسة. لم يكن ممكناً أن يهمل الباحثون العوامل البنيوية (الديمغرافية والاجتماعية) وتفاعلاتها مع الأسس النفسية والعقلية للحراك في أبعادها التاريخية، وهي العوامل التي تتمتع اليوم برنين رفيع في نظريات الفعل الجمعي الاحتجاجي.

وفي ما يتعلق بالفرق بين فنومنولوجيا الذاكرة والاستعادة المتسامية للتاريخ في الريف والأطلس، فإن الخلاصات المتوصل إليها تنبني على ملاحظات عيانية ومقابلات شفوية منجزة وفق منهج أقرب من طرائق علم النفس العيادي لفهم ما يقال وسبر ما لا يقال، في حين أن الجانب المتعلق بالسلطة والعسف السياسي، فإن البحث قد ظل وفياً في منطوقه لما تحويه المصنّفات التاريخية حول العلاقة بين المجتمع والدولة في بلد مثل المغرب وكذلك على تصريحات النشطاء. غير أن الدراسة التي بين أيدينا قد أهملت أخذ البعد الدولي في الحسبان، وهو عامل لم يعد بالإمكان تجاهله اليوم من طرف المراقبين. فقد بدأت الحركات الاحتجاجية تأخذ أبعاداً دولية يتطلب الاشتغال عليها سياقات أوسع مما تتطلبه إيبيستيمولوجية هذه الدراسة المتواضعة؛ إلا أن ذلك لا ينقص من أهمية التفكير في طبيعة التفاعلات التي يمكن أن تربط بين الديمغرافيا والثقافة السياسية الصاعدة وآثار ذلك في مستوى تقليم أظافر السلطوية في جغرافيا سياسية تمتد من المحيط إلى الخليج، وإن كان ذلك يتطلب معطيات ضخمة ومسوحاً واسعة لا تتوافر الإمكانيات للباحثين الفرادى للقيام بها.

 

قد يهمكم أيضاً  الحراك الاحتجاجي في الريف المغربي : كيف وإلى أين؟

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الريف_المغربي #احتجاجات_الريف_المغربي #الاحتجاج #المغرب_العربي #فنومنولوجيا