تقديم

إذا كان الأصل في تشكُّل الدولة كظاهرة اجتماعية أن تكون نتيجة للمعطيات الذاتية والعوامل الداخلية بالدرجة الأولى وليس عبر التدخل الخارجي من المستعمر الأوروبي أو غيره، فإن هذا الشرط شبه غائب في تجربة الدولة الأفريقية الحديثة، وهو ما كان موضوع عدد من الأطروحات النظرية التي حاولت تفسير أزمة الدولة الأفريقية، وإخفاقاتها المتوالية بعد خروج الاستعمار.

تعددت الأطروحات التي تناولت إشكالية الدولة في أفريقيا، بين أطروحة التبعية التي تركز على الجانب الاقتصادي، كون دول أفريقيا ضمن دول الهامش أو الجنوب الفقير في مقابل دول المركز أو الشمال الغني، الذي يستفيد من المواد الخام الرخيصة للجنوب، ويصدر المواد المصنعة ذات القيمة المرتفعة، وتعَدّ أطروحة سمير أمين مرجعًا تأسيسيًا في هذا الجانب[1]، إضافة إلى إسهامات عدد من الاقتصاديين وبخاصة رواد أطروحة التبعية من معتنقي المدرسة الماركسية في التحليل[2].

غير أن استحالة النمو بالنسبة إلى دول الجنوب قد دحضه الإقلاع الاقتصادي الذي حققته النمور الآسيوية في الستينيات وفي الصين والهند في الثمانينيات، وهو الأمر الذي أدى إلى سقوط هذه النظرية، وتراجع مقولاتها وأطرها التحليلية. ولا سيما مع المآخذ والانتقادات التي وجهت لها، المرتكزة أساسًا على إهمالها دور النخب والاقتصادات المحلية في التخلف المزمن لهذه البلدان. ويشيرون مثلًا إلى دور الفساد وغياب ثقافة المنافسة. إضافة إلى أن هذه النظرية عامة وأنها غير قادرة على تحليل الفوارق في التنمية بين بلدان الجنوب.

في مقابل هذه الأطروحة تنتصب أطروحة التحديث أو التصنيع، التي تدعي أن البلدان النامية هي في طور أدنى من النمو أو أن هذه البلدان لم تندمج في الاقتصاد الشامل، وبالنسبة إليها فالتنمية والتخلف نتيجة من الظروف الداخلية التي تختلف بين الاقتصادات. وبحسب رواد النظرية فإنه يمكن تحقيق التنمية من خلال اتباع عمليات التنمية التي استخدمتها الدول المتقدمة بوصفها عملية خطيرة على كل بلد من البلدان أن يمارسها[3]. وتعود أصول النظرية إلى أفكار عالِم الاجتماع الألماني ماكس ويبر (1864-1920)، التي وفرت الأساس لنموذج التحديث الذي طوره عالم الاجتماع بجامعة هارفارد تالكوت بارسونز (1902-1979)، حيث يشير التحديث إلى نموذج للانتقال التدريجي من المجتمع «ما قبل الحديث» أو «التقليدي» إلى مجتمع «حديث». تبحث النظرية في العوامل الداخلية لبلد ما مع افتراض أنه بمساعدة الدول «التقليدية» يمكن أن تتطور الدول بنفس الطريقة التي تطورت بها الدول المتقدمة[4].

غير أن واقع الدولة في أفريقيا بعد الاستعمار أنتج نماذج تحدّت القراءات النظرية لإشكالية التخلف والتنمية، سواء وفق مقولات نظرية التبعية أو نظرية التحديث، نماذج ضمن أشكال الحكم الموسوم بالسلطوية، وهي شكل من أشكال الحكومة تتميز بقوة مركزية قوية وحريات سياسية محدودة. حيث تخضع الحريات الفردية للدولة ولا توجد مساءلة دستورية وحكم القانون في ظل نظام استبدادي. يمكن للأنظمة الاستبدادية أن تكون مستبدة حيث تتركز السلطة في شخص واحد أو يمكن أن تكون موزعة بين مسؤولين متعددين في المؤسسات الحكومية.

إن الغرض من هذه الورقة هو مراجعة الحجج المختلفة المتعلقة بنظرية السلطوية واختبار صلاحيتها التفسيرية في نموذج الدولة الأفريقية ما بعد الاستعمار، في علاقتها بإرث الاستعمار ومظاهر التحديث القسري. ولهذا الغرض، تبحث هذه الورقة في المنظورات العامة للأطروحة السلطوية، وصلاحية مقولاتها في تفسير أزمة الدولة في أفريقيا من حيث كونها فتحت منظوراً جديداً لقراءة واقع الدولة في أشكالها التسلطية بما يفسر فشلها في عملية التنمية.

تحاول الورقة الإجابة عن السؤال الإشكالي التالي: ما هي حدود تفسيرات الأطروحة السلطوية لقراءة واقع الدولة في أفريقيا؟ وكيف يمكن قراءة وفهم أسباب وعوامل التخلف بناء على الزخم النظري لتفسير إشكالية التخلف وفق الأدبيات المهتمة أساسًا بقراءة واقع الدولة في أفريقيا؟

وهو ما يمكن الوقوف عنده من خلال إجابتنا عن الأسئلة الفرعية التالية:

ما هي علاقة الأطروحة السلطوية بالخبرة التاريخية للمجتمعات الأفريقية في تدبير السلطة وتحقيق التنمية، بالإرث والتدخل الاستعماريين؟ وهل تجيب الأطروحات السلطوية عن أسئلة أزمة تشكل الدولة وتسلطيتها؟ وكيف نشأت الدولة الأفريقية؟ وما هي خصائصها التسلطية؟

أولًا: السلطوية وأنظمة الحكم السياسي الأفريقية

1 – في التعريف

تتميز السلطوية كشكل من أشكال الحكومة بقوة المركزية ومحدودية الحريات السياسية، حيث تخضع الحريات الفردية للدولة ولا توجد مساءلة دستورية وحكم القانون في ظل نظام سلطوي. وتتركز السلطة في يد شخص واحد أو يمكن أن تكون موزعة بين مسؤولين متعددين داخل المؤسسات الحكومية[5] الذين يؤلفون تحالفًا موضوعيًا للحكم. وتتميز الأنظمة السياسية السلطوية بأربع خصائص[6]:

– محدودية التعددية السياسية، حيث توجد قيود على المؤسسات والجماعات السياسية مثل الهيئات التشريعية والأحزاب السياسية ومجموعات المصالح.

– اعتماد أساسي على الشرعية التقليدية، وبخاصة تحديد النظام بوصفه شرطًا ضروريًا لمكافحة «المشكلات المجتمعية» مثل أعداء الشعب أو الدولة أو التخلف أو التمرد.

– وجود الحد الأدنى من التعبئة الاجتماعية بسبب القيود المفروضة على الجمهور مثل التضييق المعارضين السياسيين والنشاط المناهض للنظام.

– غموض السلطة التنفيذية المعروفة بصورة غير رسمية، ولكنها تتمتع بصلاحيات واسعة[7].

يُستخدم مفهوم السلطوية إذًا لوصف نمط من أنماط ممارسة السلطة الذي يستحوذ فيه فرد أو مجموعة من الأفراد على الحكم، من دون الخضوع للقانون، ومن دون اعتبار لجانب المحكومين. وما يميز هذا النمط من العلاقات بين أداة الحكم والرعية هو تدني درجة المشاركة السياسية وتقييد الحرية الفردية، والتقليص من فعالية المؤسسات التشريعية. ويميز كل من غبرييل ألموند وباويل، بين نماذج الأنظمة التسلطية حيث تم التمييز بين أنظمة تسلطية محافظة، وأنظمة تسلطية تحديثية، وأخرى تسلطية ما قبل تعبوية[8].

كما يتجسد التسلط في الممارسات القسرية للحكومات التي تختلف باختلاف أهدافها وأساليبها، ففي حين يحاول بعضها تغيير الواقع وفقًا لجملة من المبادئ التي يقررها من بيدهم السلطة، فإن البعض الآخر يهتم أساسًا بتركيز السلطة وممارستها بصور استبدادية. وعلى أي حال فإن التسلط أساسه رفض الحوار والنقاش، وعدم تقبل الرأي المعارض، وسيادة علاقات أساسها الرضوخ وتقبّل الأوامر العلوية، والرغبة المتأصلة في ممارسة التسلط والسيطرة على من هم أدنى مرتبة منه[9]. تتصف الكثير من الأنظمة الأفريقية، سواء منها العسكرية أو ذات الحزب الواحد، بسلطويتها (Authoritarianism) أي إخضاع الفرد وحقوقه إخضاعًا تامًّا لسلطة الدولة[10].

2 – نمط الدولة السلطوية في أفريقيا

يمكن القول إن أبرز سمة لهذه الدولة السلطوية تتمثل بأزمة الشرعية السياسية لأنظمتها، واحتكار السلطة والثروة من طرف قائد فرد يتمتع بنوع من الكاريزمية مسنود بفئة اجتماعية عسكرية أو حزبية أو قبلية أو هي جميعها، في غياب التداول السلمي للسلطة في إطار من التعددية والتوزيع العادل للثروة الوطنية.

لقد طورت الدولة الأفريقية بعد الاستقلال، أجهزة حكم ومؤسسات ديمقراطية على نمط نظام وستمنستر في دول أفريقيا الناطقة باللغة الإنكليزية، ونمط الحكم الرئاسي في دول أفريقيا الناطقة باللغة الفرنسية، إلا أنها سرعان ما تخلت عن النمط الغربي وتبنت نموذجًا آخر في الحكم[11]. هذا النمط الجديد اتسم، بحسب حمدي عبد الرحمن، بالخصائص والملامح العامة الآتية: (1) شخصنة السلطة، حيث أضحت تدور حول شخص الحاكم الذي كان بمثابة الزعيم المؤسس ومرشد الأمة والقائد الملهم؛ (2) شبكات من علاقات القائد أو الأتباع؛ (3) الاعتماد على أجهزة القهر والقمع المادي المملوكة للدولة؛ (4) غياب أشكال المعارضة للنظام الحاكم؛ (5) تفشي الفساد على نطاق واسع[12].

وبذلك يستمد النظام شرعيته النهائية في مثل هذا الوضع من احتكار السلطة ذاتها، «وقد تسمح تلك الأنظمة بقدر محدود من التعددية أحيانًا، لكنها لا تسمح بالمعارضة المكشوفة. ولا بقيام سياسة منظمة من خارج إطار الحزب الحاكم، مع أنها قد تسمح، في بعض الأحيان، بقيام منافسة سياسية منظمة من داخل الحزب الحاكم[13].

كما أن من الملامح السائدة للنظام السياسي الأفريقي، الدور البارز للحاكم، ففي الحكم السلطوي، تبقى السلطة النهائية في يد الحاكم نفسه، «وقد جادل روبرت جاكسون وكارل روزبرغ بأن أفضل وصف للأنظمة السياسية الأفريقية المعاصرة هو الحكم الفردي (Personal Rule) وجاء في تحليلاتهم: إن حكم الفرد هو نظام من العلاقات لا يربط الحكام بالجمهور وحتى المحكومين (بشكل غير مباشر على الأقل)، بل بكبار الشخصيات والشركاء، والعملاء، والمؤيدين، والخصوم، الذين يؤلفون «النظام». وإذا ما قيد الحكام الفرديون، فإن ما يقيدهم هو تحديد سلطاتهم وصلاحياتهم الفردية، وسلطة وصلاحية الشخصيات التابعة لهم، وشركائهم وعملائهم، ومؤيديهم – وبالطبع – خصومهم.. ونقطة الضعف الأساسية هي أن الأمر يعتمد في النهاية على أفراد أكثر مما يعتمد على مؤسسات[14].

ومن وحي الاعتبارات السابقة ظهر مذهب الحزب الواحد كمعادلة ضرورية للحكم في أفريقيا. وقد اشتركت جميع الدول في الأهداف الرامية إلى الاستقلال والتطور السريع. وكان المجتمع الأفريقي يفتقر إلى تقسيمات طبقية ظاهرة، كانت أساس الأحزاب السياسية الأوروبية. ومع ضمان الحزب الواحد للوحدة الوطنية والاستقرار السياسي، وجمعه المواطنين كافة معًا، فإن المشاركة الحقة كان يمكن أن تتم بأمان من داخل الحزب، من دون تعريض استمرارية العملية السياسية للخطر[15].

على صعيد آخر، عانت علاقة الدولة بالمجتمع في أفريقيا، إذ إن السياسات التي انتهجها كثير من النظم الحاكمة، إنما كانت تعبر عن مصالح إثنية أو فئوية. ومن ثم لم تكن تعبّر عن آمال وطموحات الجماهير العريضة. وعليه، أضحت الدولة الأفريقية ما بعد الكولونيالية، بعد أن نظر إليها على أنها القوة الدافعة لعملية التنمية، أضحت العقبة الكؤود أمام عملية تحقيق التنمية بأبعادها الشاملة؛ وعليه، نعتها الكثير من الباحثين بأنها دولة هشة وضعيفة وفاسدة ومترهلة ومتسلطة… إلخ[16].

إن الدولة المتسلطة في أفريقيا لم تفلح في تحقيق نظام تنموي كما حدث في مناطق أخرى من العالم مثل تايوان أو كوريا أو الصين. وعوضًا من ذلك كانت بيئة حاضنة للفساد وإهدار الإمكانات الوطنية. ولعل الكونغو كينشاسا في عهد موبوتو تطرح مثالًا واضحًا على ما نقول. لقد كانت الدولة والحالة هذه تعمل على إثراء النخبة الحاكمة التي تسيطر على مقاليد الأمور[17]. وفي كثير من الحالات أنشأ القادة الأفارقة طبقة جديدة من الوسطاء الذين يُدفع لهم لنقل أوامر الحكومة، وكوكلاء للحكم التقليدي في قمة السلطة[18].

وعلى الرغم من التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدتها القارة منذ أواخر القرن الماضي، والتي وصفت في الدوائر الغربية بأنها تسير وفق معايير التحرر السياسي والاقتصادي بالمفهوم الغربي إلا أن هذه التحولات أفضت إلى نمط أفريقي جديد في الحكم، أي «الأفروقراطية» الجديدة (New Afrocracy)، وهو نمط يحافظ على ثروات الحكم الفردي الشمولي، وإن كان في الوقت نفسه يسمح ببعض ملامح الديمقراطية الليبرالية[19].

وإجمالًا، يمكن القول إن الإشكالات التي تعانيها الدولة الأفريقية اليوم يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات: إشكالات اجتماعية تتمثل بالفشل في إدارة التعددية الإثنية والدينية واللغوية؛ وإشكالات اقتصادية تتمثل بالأوضاع الاقتصادية المجمع على تخلفها وبكل مؤشرات التنمية؛ وإشكالات سياسية تتمثل بعدم الاستقرار السياسي الذي تعانيه كل الدول الأفريقية[20].

لنخلص إلى خلاصة مفادها أن «الدولة في أفريقيا ولدت معلولة وظلت معلولة، وقد فشلت إلى حد كبير في القيام بأي من وظائف الدولة[21].

ثانيًا: معالم بناء «الدولة الحديثة» في أفريقيا

1 – السلطة السياسية في أفريقيا قبل الاستعمار

بحسب الباحث المتخصص في قضايا القارة الأفريقية، حمدي عبد الرحمن، فإن شكل الدولة في أفريقيا ليس إلا «نتاج تحديد تعسفي من السلطة الاستعمارية في إطار منظومة توازن القوى التي حكمت عملية تخاطف أفريقيا، ومجتمع الدولة يموج بالعديد من الجماعات المتمايزة في ثقافتها ولغاتها وأديانها، ومن ثم انتفت إرادة التعايش الجماعي في سياق هذه الدولة المصطنعة ولذلك فإن الدولة الأفريقية التي أنشأها الاستعمار: هي تعبير قانوني أكثر من كونها حقيقة واقعية واجتماعية»[22].

تعود أزمة الدولة الحديثة في أفريقيا إلى بداية تشكلها واستنباتها في المجال السياسي والثقافي الأفريقي أثناء مرحلة الاستعمار وما بعده. فمن المعروف أن الدولة الأفريقية الحديثة لم تتأسس بشكل إرادي عبر تطور تاريخي أفضى إلى بناء دولة قومية ووطنية في تفاعل مع تاريخ أفريقيا وثقافتها. بل إن الاستعمار الأوروبي هو الذي صنع ظاهرة الدولة الحديثة عبر إنشاء الهياكل الإدارية والبنى الأساسية اللازمة لتعزيز أسس السلطة الاستعمارية، وبالتالي فالدولة في أفريقيا «مصطنعة» ولا تعبّر عن واقع اجتماعي واقتصادي وسياسي[23].

وهكذا قام المستعمر بنقل تجربته ومفهومه للدولة نقلًا مشوَّهًا وقاصرًا، وكوّن نخبًا سياسية محلية تتبنى مفاهيمه وتعيد إنتاج تجربته من دون تغيير أو تعديل أو تكييف مع الخصوصيات المحلية والتركيبة البشرية للقارة الأفريقية ذات الانتماءات المختلفة والمتناقضة إثنيًا وثقافيًا ودينيًا والولاءات المتعددة والمتداخلة والمتشابكة[24]. وبذلك رأى عدد من الباحثين أن الدولة الحديثة في أفريقيا لم تظهر إلا كنسخة أفريقية للنظام الاستعماري من حيث تسلطيته.

تشير إشكالية بناء الدولة في أفريقيا إذًا إلى خلل بنيوي مرتبط أساسًا بظروف تكوّنها، فمقومات الدولة بمفهومها الغربي غير متوافرة في الدولة الأفريقية، بل صُنعت وأُلحقت بالدولة الأوروبية التي استعمرتها وقضت على المشيخات والممالك القديمة. وفي الوقت نفسه استنسخت صورة مشوهة ومبتورة لنظام الدولة الحديثة التي ولدت في أوروبا لأهداف إمبريالية توسعية تفرض التبعية الدائمة[25]، وذلك من خلال سيطرة نخبة معينة على الحكم وعدم الفصل بين شخص الحاكم والدولة، وهو ما أدى إلى شخصنة السلطة السياسية وانتشار الفساد المرتبط أساسًا بالقادة والطغمة الحاكمة، كما أن الزعماء كانوا يرتبطون غالبًا بمصالح دول أجنبية، ويبررون نظام الحزب الواحد وقمع المعارضة الشعبية بالمحافظة على الاستقرار وتنمية الاقتصاد الوطني معتمدين منظومة فساد داخليًا وخارجيًا لتثبيت مراكزهم.

وقد ساد افتراض أساسي في كتابات التنمية منذ أواخر الستينيات وحتى مطلع الثمانينيات من القرن الماضي هو أن الدولة قد فشلت في الاستجابة لتوقعات الشعوب الأفريقية منذ الاستقلال، وقد عزا أنصار هذا الاتجاه هذا الفشل إلى عدة أسباب نذكر منها: التسيُّب الإداري وانتشار ظاهرة الفساد والمحسوبية، والتدخل الزائد للدولة، وعجز الحاكمين عن السيطرة الفعلية على الجماعات والطبقات الأخرى في المجتمع، وشخصنة السلطة الناتجة من عمليات الأفرقة. وحصيلة ما تقدم أن افتراضات الرشادة (الحكم الرشيد) التي يجب أن تميز الدولة الحديثة غير متوافرة في نسختها الأفريقية.

يمكن إجمالًا تحديد ممارسات نظم الحكم الأفريقية، كما ذهب إلى ذلك إبراهيم أحمد نصر الدين[26]، في ثلاثة أمور: الفشل في تحقيق التنمية الاقتصادية؛ التركيز على المتطلبات الأمنية والدفاعية؛ أصبحت الدولة الأفريقية دولة جباية. كما يمكن تحديد طبيعة الدولة الأفريقية بكونها، في العموم، دولة مركزية ودولة رخوة تفتقر إلى عصب مؤسسي قوي، وإلى قواعد وآليات تسمح لها بالتصرف كدولة؛ وكونها دولة وقف: فجلّ ما فيها موقوف على شخص الحاكم، حيث لا تفرقة بين شخص الحاكم وبين السلطة السياسية. كما أنها دولة نخبة ترتكز على جماعة إثنية.

عرفت أفريقيا منذ قديم الزمان الكيانات السياسية ذات السيادة والسلطة التي تقوم بمهمات الدولة الحديثة، فلم تكن أفريقيا عديمة التجربة والخبرة في مجال التنظيم السياسي، لكن ذلك كان يتم دائمًا بما يتلاءم مع السياق التاريخي والاجتماعي للمجتمعات الأفريقية. ومن هذه المهمات توفير الأمن وفرض النظام وتحقيق العدل وتقديم الخدمات وشق الطرق وإقامة المنشآت الإدارية والتجارية والاقتصادية… ومن هذه الكيانات السياسية: مملكة كانم بورنو، ومملكة الفور ومملكة سوكوتو ومملكة غانا ومملكة مالي ومملكة واداي ومملكة باقرمي… لكن المضامين الثقافية والفكرية والاجتماعية والأيديولوجية لهذه الدول تختلف عن الدول في أوروبا إلى حد كبير[27].

بل إن هناك من الباحثين من يذهب إلى أن «الدولة مؤسسة قديمة لم تختفِ من التاريخ الإنساني حتى اليوم، وهي تعود في بدايتها التاريخية إلى تطور التجمعات السكانية من المستوى البدائي إلى المستوى التقليدي، وكان من مظاهر هذا تطور النظم العشائرية المتفرقة من حالة التشتت إلى الانتظام تحت هيمنة قوة مركزية جامعة في إطار وحدة المكان. ومع هذا فإن التنظيمات الاجتماعية السياسية قبل الدولة لم تتلاشَ بقيامها بل استمرت حتى اليوم»[28].

بناءً على هذا، فإن «الدولة في أفريقيا لم تكن غائبة عن التربة الأفريقية في يوم من الأيام، فبذرتها كانت موجودة لوجود السلطة في المجتمعات الأفريقية، وكان يمكن أن تتلاقى تلك المجتمعات تحت نظرية القوة أو المنفعة أو العقد الاجتماعي، ولكن مجيء الأوروبي قطع ذلك التطور الطبيعي وعجّل بقيام الدولة فقام باختصار مخلٍّ للزمن، ولعل هذا هو سبب المعاناة واستمرار آلام السنين»[29].

وعمومًا، فإن مسألة البحث عن الدولة في أفريقيا ما قبل الاستعمار (Pre-colonial State) كانت محل اهتمام التحليل السياسي الأفريقي، وتكمن أهمية هذا البحث في افتراض أن المشاكل التي واجهت دولة ما بعد الاستعمار وصعوبات توطين النموذج الغربي للدولة تفسر بغياب تقاليد دولتية في التاريخ الأفريقي، الأمر الذي ولد رفضًا للدولة من جانب المجتمع[30].

وفي هذا الصدد قسم كل من إيفانز بريتشارد وماير فورتيز المجتمعات الأفريقية ما قبل الاستعمار إلى نموذجين: مجتمعات الدولة (State Societies)، ومجتمعات اللادولة[31] (Stateless Societies)؛ فبالنسبة إلى النموذج الأول: مجتمعات الدولة أو النمط المركزي، حيث هناك مركز سياسي واضح تتركز فيه السلطة السياسية، وتدين له الجماعات كافة – سواء كانت تجمع بينهم علاقات الدم أم لا – بالولاء. وعلى الرغم من وجود أنماط مختلفة لتركيز السلطة داخل هذا النمط ذاته فإن وجود سلطة مركزية واحدة معترف بها يمثل متغيرًا أساسيًا عند مقارنة هذا النمط بغيره من الأنماط المشتتة[32].

أما النموذج الثاني فهو مجتمعات اللادولة أو النمط المشتت، حيث تنتشر السلطة السياسية بين الجماعات المختلفة داخل المجتمع نفسه، ويلاحظ في هذا النمط وجود رابطة ثقافية واحدة، ولغة واحدة في ذات الوقت الذي تغيب فيه سلطة سياسية مركزية قوية، فليس ثمة هيكل سياسي مركزي أو حتى عملية سياسية للتنسيق بين الأنشطة التي تقوم بها الوحدات المختلفة داخل المجتمع، ومن ثم فإن السلطة السياسية هنا هشة ومشتتة ولا ترتكز على إطار سياسي مركزي[33].

على أنه في المقابل هناك من يذهب إلى أن «ممارسة السياسة ليست مرتبطة بوجود الدولة، فالمجتمعات التي ظهرت فيها سلطة سابقة لقيام الدولة، فالسياسة عرفت قبل أن تعرف الدولة»[34]. وهذا يعني أن أفريقيا شهدت مجتمعات مارست السلطة وبالتالي السياسة قبل الاحتكاك بأوروبا فيما اصطُلح على تسميته الاستعمار، بيد أن قيام الدولة الحديثة بشكلها الماثل الآن مرتبط ارتباطًا مباشرًا بالتجربة الاستعمارية[35].

2 – الإرث الاستعماري ومأزق الدولة

أقدمت الدول الاستعمارية الغربية، بعد إخضاعها للمجتمعات الأفريقية، على هدم الكيانات السياسية والاجتماعية الأفريقية السابقة، مدعية أن مهمتها «الحضارية» تتمثل بإدخال هذه المجتمعات إلى التاريخ. وغير خافٍ أن المقصود بالتاريخ في هذا المتن الاستعماري هو التاريخ الأوروبي الحديث، وكانت «الدولة» أهم مرتكزات هذه السياسية الاستعمارية الغربية.

وهكذا فإن أزمة الدولة في أفريقيا تعود إلى بداية تشكلها على يد القوات الاستعمارية التي احتلت القارة الأفريقية، «فقد أفضت عملية التدافع الأوروبي على احتلال أفريقيا إلى خلق ظاهرة الدولة الحديثة»[36]. وهو ما أدى إلى ظهور دولة مصطنعة وبحدود مصطنعة. لقد رسمت حدود المستعمرات على خرائط في أوروبا بما يتمشى مع المصالح الاستعمارية، من دون أن تراعي الظروف الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الأفريقية[37].

ولجأ المفاوضون الأوروبيون عند رسم الحدود لأقاليمهم الجديدة إلى تحديد خطوط مستقيمة على الخريطة، من دون الأخذ في الحسبان النظم الملكية والمجتمعات الأفريقية الأخرى الموجودة على أرض الواقع، وفي بعض الحالات قسّمت المجتمعات الأفريقية بين أكثر من دولة مثلما حدث في الباكنونغو الذي انقسم إلى الكونغو الفرنسية والكونغو البلجيكية وأنغولا البرتغالية. كما قسّمت الصومال بين بريطانيا وإيطاليا وفرنسا، وفي حالات أخرى أدى وجود الأقاليم الاستعمارية الجديدة لأوروبا إلى تطويق مئات من الجماعات المتنوعة والمستقلة التي لا يربط بينها تاريخ مشترك أو اتفاق أو لغة أو دين. على سبيل المثال نجد أن نيجيريا تضم 250 مجموعة إثنية- لغوية. ومع استمرار المساومات في أوروبا حول أفريقيا أصبحت الأرض والشعوب مثل قطع الشطرنج… ومع مرور الوقت، وبعد انتهاء التزاحم الأوروبي حول أفريقيا، تحولت الدول الأفريقية إلى مستعمرات ومحميات أوروبية، وهنا ولدت الدولة الأفريقية الحديثة[38].

وهكذا لم تتشكل الدولة بمبادرة من الشعوب الأفريقية، ولا نتيجة عوامل داخلية وتطورات قومية جعلت الشعوب الأفريقية تنتقل من التنظيمات التقليدية إلى الدولة، بل هي عبارة عن «كيان» فرضه «الرجل الأبيض» فرضًا وأقامه على أنقاض الممالك الأفريقية التي تم هدمها ومحيت آثارها في الحكم والأنظمة الإدارية، إذ إن استقلال الدول الأفريقية كان مشروطًا بتبني النموذج الغربي للدولة بكل مفرداتها بهدف خلق تبعية دائمة للدول المستعمرة، وهذا ما ساهم في تفاقم الأزمة بإضعاف الدولة الأفريقية وتقليل فعاليتها في التمكين وفي تحقيق مصالحها[39].

وما من شك في أن هذا النظام الجديد قد قوّض دعائم النظم التقليدية في أفريقيا التي أصبحت كالهشيم تذروه الرياح. وعوضًا من الروح الجماعية في تحقيق الأهداف الحياتية المتواضعة أضحت إدارة الموارد في الدولة الكولونيالية مركزية وتعتمد على مفاهيم التنافس والصراع، بل وفي كثير من الأحيان على مبدأ المباراة الصفرية في صراع الهويات المرتكزة على أسس قبلية أو إثنية[40]. وبذلك قامت على أنقاض هذه النظم التقليدية «دولة» مشوهة تكاد تنعدم فيها كل عناصر الدولة بمقوماتها الحيوية كما هو متعارف عليه في الدول الحديثة.

ثالثًا: تقدير الأطروحة السلطوية

يقدم جان فرنسوا بايار[41] في كتابه سياسة ملء البطون أطروحة نظرية لتفسير أزمة الدولة في أفريقا التي حاول من خلالها أن يقدم الاستراتيجيات التي اتبعها القادة الأفارقة من خلال سياسة تراكم الثروة للوصول إلى السلطة وتثبيتها واستدامتها. ولم تقتصر هذه الاستراتيجيات على النخبة السياسية أو المجتمع السياسي فقط بل أصبحت نسقًا اجتماعيًا ونسقًا من السلوك السياسي تتفاعل جميع أطرافه. وهذا النسق يشكل حسب بايار الاستمرار الدقيق للنزاعات الغابرة، إذ إن المسألة تتعلق اليوم، كما كانت بالأمس، بالاستئثار بالثروات التي يتطلع إليها الجميع؛ فالأمر لا يتعلق «بالبطن» فقط ولكن «بالسياسة» أيضًا، وهي ارتبطت بالسعي والحرص على الاستحواذ على الثروة وعلى كعكة الموارد الوطنية.

على أن الاعتراف بالقدرة التفسيرية لأطروحة بايار- وغيرها – على تفسير أزمة الدولة الأفريقية ما بعد الاستعمار، لا يعني التسليم الكامل بالأطر النظرية التي تحكم هذه الأطروحات والتي تنطلق من أن الدولة «الحديثة» كما تشكلت في التجربة الغربية، يمكن من خلالها فقط تحقيق التنمية وتدبير السلطة ورعاية المصلحة العامة للمجتمع. ولذلك فقد ذهبت مجموعة من الباحثين إلى ضرورة الاعتراف بأهمية القيم التقليدية «السابقة على التحديث الغربي» ورفض القول بتداعي دور الدولة كأداة للتنمية، ورفض فهم الدولة كظاهرة عالمية حيث شددوا على ضرورة النظر إليها وتحليلها في سياقها المحلي.

طرح جان فرنسوا بايار مقاربة تفسيرية لأزمة الدولة في أفريقيا وحاول من خلالها أن يقدم الاستراتيجيات التي اتبعها القادة الأفارقة من خلال سياسة تراكم الثروة للوصول إلى السلطة وتثبيتها واستدامتها. مشيرًا إلى أن هذه الاستراتيجيات لم تقتصر فقط على النخبة السياسية أو المجتمع السياسي بل أصبحت نسقًا اجتماعيًا ونسقًا من السلوك السياسي تتفاعل جميع أطرافه.

وقد استعار بيار التعبير الكاميروني «سياسة ملء البطون» للإشارة إلى «هذه الطريقة في الحكم أي كما يقول فوكو «إمكان الحكم» في أفريقيا جنوب الصحراء، أي «طريقة توجيه سلوك الأفراد أو الجماعات»[42].

وهكذا ينطلق جان فرنسوا بايار في تحليل واقع الدولة في أفريقيا من خلال نظرية «سياسة ملء البطون» التي تتمثل بأن النفاذ إلى سلطة الدولة هو بحد ذاته إيجاد مدخل أو النفاذ إلى الموارد المادية والمعنوية لهذه الدولة، وهذه العملية تتطلب احتكارًا قسريًا واستبداديًا للدولة ومواردها الذي يأخذ مصطلح التراكم في هذه النظرية[43].

وهذا التراكم بدوره سيتحول إلى سياسة ملء البطون، ذلك أن جهاز الدولة إن هو إلا قطعة من الكعكة الوطنية، حيث يحاول المحتكرون للسلطة من خلال الإكراه تكوين أو محاولة تكوين طبقة مسيطرة، تمارس أو تبحث عن ممارسة الهيمنة، ومن ثم تسعى هذه الطبقة لابتكار نمط للحكم يقوم على مقومات الثقافة الأصلية للسكان أو تاريخانية الدولة. وتعتمد هذه النظرية على دراسة السياسة من الأعلى وصولًا إلى التحليل من الأسفل[44].

يرى بايار أن مشكلة الحكم في أفريقيا هي طغيان الفساد الذي يتخذ العديد من الأشكال في إطار الصراعات الاجتماعية التي يقوم عليها ويسعى من خلالها الجميع إلى الهيمنة والاستحواذ على السلطة، لأنها السبيل الممتاز للمشاركة في التسابق على الغنيمة والكعكة التي يشارك فيها جميع أعضاء المجتمع؛ فالكبار لا ينفردون وحدهم بالفساد والنهب، إنها سلوكيات سياسية واجتماعية يشترك فيها معظم العناصر الاجتماعية على نطاق تختلف حدوده. ومن الأمثلة التي توضح هذا الاتجاه يمكن الإشارة إلى أن «أطول خط للضغط العالي في العالم» يربط خزانات إنجا في إقليم الشابا بزائير (الكونغو حاليًا) استهدفه الساكنة وانتزعوا منه القضبان الحديد ليصنعوا منها أسرّة ومعاول وأدوات أخرى، وكانت عملية تقطيع أوصاله يومًا بعد يوم هي رد الفعل الشعبي المتواضع إزاء الأرباح الهائلة التي حصل عليها المنفذون الأجانب وصانعو القرار الزائيريون عن طريق هذا المشروع الضخم، وهو «احتجاج شعبي» على احتكار الثروات الوطنية من طرف الرئيس وأعوانه وإقصاء باقي المواطنين من الاستفادة من هذه الثروات، الأمر الذي يدفعهم إلى امتهان «اللصوصية» من أجل […] الحصول على نصيبهم من الكعكة الوطنية. بهذا المعنى تكون سياسة ملء البطون في أفريقيا حسب بايار مسألة حياة أو موت؛ مسألة حياة إذا استطاع المرء أن يقتطع نصيبه من «الكعكة الوطنية» من دون أن يُكتشف أمره، ومسألة موت إذا تعيَّن عليه أن يكتفي بما يفترض أنه أجر ويكفي لسد رمقه[45] .

إن الفساد في أفريقيا أصبح يتم في إطار تواطؤ بين الكبار والصغار، بل تحول إلى أسلوب للصراع الاجتماعي وتعبير عن مدى الوعي السياسي باللامساواة، إلى درجة أن أحد الأحزاب النيجرية اتخذ لنفسه شعار «أنا آكل وأنت تأكل» ولكن الواقع الأفريقي يثبت أن الجميع لا يأكلون على حد سواء[46]، إذ لا يمكن مقارنة ما «يأكله» المقاولون السياسيون بما «يأكله» باقي المواطنين. فالمقاولون السياسيون الذين يتسابقون نحو السلطة خلقوا نظامًا للنهب متفقًا عليه مفتاحه السري كلما زادت سلطتك زادت درجة الاغتناء السريع والفاحش لديك، ولكن في حال إحساس المقاولين بأن هذا النظام تستفيد منه فئة بصورة كبيرة من دون فئة أخرى فإنها تثور وتنفذ الانقلابات العسكرية من أجل إعادة توزيع الثروة وخيرات البلاد بين المقاولين السياسيين كما حدث في غينيا سنة 1975 بعد وفاة سيكوتوري، حيث انقلب العسكريون بعد مدة قصيرة من جنازة الرئيس ووضعوا حدًا لاحتكار عصابة المافيا الممسكة بالسلطة منذ 25 سنة[47].

ويرى بايار أن سياسة ملء البطون تشكل الاستمرار الدقيق للنزاعات الغابرة، فالمسألة تتعلق اليوم كما كانت بالأمس بالاستئثار بالثروات التي يتطلع إليها الجميع. فالأمر لا يتعلق «بالبطن» فقط ولكن «بالسياسة» أيضًا. ويدل الأسلوب السياسي الأفريقي على أننا بصدد أخلاقيات لا تقتصر بالضرورة على الكسب، فإعادة توزيع الموارد التي تم جمعها توفر المكانة لرجل السلطة وتجعل منه رجل شرف، فالثروة من صفات الزعيم الحقيقي في أفريقيا ربما ظنًا منهم أنها ستمنعه عن استغلال منصبه، ومن المناسب كذلك أن تؤكد الثروة البدانة الجسدية[48]،

غير أنه من الخطأ، بحسب بايار، ألّا نرى في التسابق نحو السلطة والثروة سوى فساد الدولة، إنها على العكس لحمة النظام وسداه، وربما كان الكفاح من أجل السلطة كفاحًا في المقام الأول من أجل الثروة[49].

وهي ظاهرة تسهل ملاحظتها سواء في المجتمعات الأفريقية أو في مجتمعات جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط: إذ ترتكز استراتيجية العاهل على تملك المساحة السياسية، ثم ينطلق منها لتملك الموارد الاجتماعية الأساسية التي تحتويها المساحات الاجتماعية الخاصة. وتكون هذه الممارسة فردية في البداية، وسرعان ما تصبح جماعية لكي يستفيد منها أيضًا أهل البطانة المحيطة ومجموعة برجوازية الدولة التي يتوقف بقاؤها أساسًا على قدرتها على الاندماج في هذا المنهج الخاص بإرساء الأبوية الجديدة[50].

رابعًا: مراجعة الأطروحة السلطوية

لا يخفى أن الاتجاهات الفكرية التي سيطرت على دراسة النظم السياسية الأفريقية انطلقت في معظمها من النموذج المعرفي الغربي الذي سيطر على دراسة علم السياسة في مرحلة الحرب العالمية الثانية، إذ هيمن منظور التنمية والتحديث على دراسة المناطق غير الغربية من خلال الترويج لمفهوم النظرية الكبرى (Grand Theory)، والقول بإمكان تحليل جميع الأقاليم والمناطق من خلال استخدام منظور عام ومقارن[51] .

كما تم اختزال واقع التعدد والتنوع الذي ميز الممارسة السياسية الأفريقية منذ ما بعد الاستقلال وفق أنماط عامة ومحددة مثل النظم التسلطية (Authoritarianism) والنظم الأبوية (Patrimonialism) ونظام الحكم الشخصي (Personal Rule) ونظام الوقف (Prebendalism). ويلاحظ أن هذه الدراسات انطلقت من مرجعية واحدة وهي الديمقراطية بمعناها الليبرالي الغربي، ومن ثم فإنها نظرت إلى نظم الحزب الواحد والأوليغارشيات العسكرية بوصفها نظمًا تسلطية غير ديمقراطية[52]، من دون النظر إلى أن شكل الدول وآليات ونظم عملها يختلف من ثقافة إلى أخرى.

على أن النخب الأفريقية كانت قد تبنت أو استبطنت هذا النموذج الحضاري في كيفية بناء الدولة والمجتمع الأفريقيين بعد الاستعمار، فقد عرفت أفريقيا «سيطرة قضية بناء الدولة القومية على الجدل السياسي والفكري في أفريقيا طوال مرحلة ما بعد الاستقلال. وكان التحدي الذي واجه الزعماء الوطنيين هو كيفية تحويل المجتمعات المتعددة الأعراق والإثنيات واللغات والأديان إلى أمة واحدة. على أن المنظور الأفريقي الذي تبنته معظم الحكومات الأفريقية تمثل بإقامة دولة موحدة. ولنتذكر في هذا السياق الأيديولوجيات التي استُخدمت لتحقيق هذه الغاية من جانب كل النظم العسكرية ونظم الحزب الواحد على السواء: اشتراكية الأوجاما (جوليوس نيريري)، والاشتراكية الأفريقية (نكروما وسيكو توري) ودعوة هارمبي (كينياتا)، والإنسانية (كاوندا)[53]. وهكذا فإن الدولة في أفريقيا بعد الاستقلال وجدت نفسها أمام طريقين:

إما السعي لإعادة اكتشاف قيمها ومؤسساتها وتجاربها التي قطعها ودمرها الاستعمار، أو اتباع الطريق الغربي لبناء الدولة[54]. وقد اختارت النخب الأفريقية هذا المسار الأخير، وهو الذي سارت عليه جميع الدول الأفريقية، فيما سماه برتراند بادي الدولة المستوردة، حيث «تتمخض ضخامة الاستيراد لهياكل السلطة بالبداهة عن نتيجة رئيسية هي فقدان المعنى الذي يثقل على العلاقات بين الحكام والمحكومين، بل وعلى مجموع العلاقات السياسية. وسواء تم تعويضه أم لا من طريق عملية الزواج أو المساومة بين الحديث والمأثور، فإن هذا الفقدان يصبح مجازفة هائلة تتنشط تبعًا لها استرتيجيات أصحاب الأدوار السلطوية، واستراتيجيات الأفراد المطالبين بمخصصات.

ويمثل فقدان المعنى عاملًا مهمًا للانسحاب من النظام السياسي الرسمي. فهو يثبط همة الفرد عن بذل الجهود للتوافق مع حياة مؤسسية لا تعنيه. وتبقى هذه الحياة قاصرة على النخبة السياسية المستورِدة التي تقتات منها لكي تغذي تنافسها الداخلي القائم على صيغ خارجية المنشأ[55].

يحصل هذا في الوقت الذي تتضمن المقولات العامة للثقافة الأفريقية نظرة إنسانية، وقيمًا خاصة بالتوافق والانسجام الاجتماعي تجمع بين العوالم المادية وغير المادية، ونظرة إلى المجتمع الحي على أساس أنه جزء لا يتجزأ من سلسلة عظيمة تضم أرواح السلف والأجيال القادمة. وحسبما يقول من درسوا النظرة الأفريقية إلى العالم على أساس أيديولوجي، إنها تتعارض بحدة مع الثقافة الغربية المادية والعقلانية، فقيمة التوافق تتجسد في الأولوية التي تعطيها فلسفة التشريع لحل الخلافات بين الأطراف. وترى الفلسفة السياسية الأفريقية أيضًا أن القيادة تجسد حيوية المجتمع[56]. وهذا يستوجب التفكير في إشكالية الدولة الأفريقية بمنظور آخر يأخذ في الحسبان هذه الخصائص الثقافية والأنثروبولوجية للمجتمعات الأفريقية.

خاتمة

أسفرت الحرب العالمية الثانية (التي انتهت في عام 1945) وما تلاها من تفكك الاتحاد السوفياتي (1991) عن أن الأنظمة الاستبدادية إما استُبدِلت بها الأنظمة الديمقراطية أو الأنظمة التي كانت أقل استبدادية. كما حدث الأمر نفسه في أمريكا الجنوبية، حيث انتقلت الأرجنتين وبوليفيا والبرازيل وباراغواي وتشيلي وأوروغواي من الدكتاتوريات إلى الديمقراطية بين عامي 1982 و1990. ومع سقوط حائط برلين في عام 1989 والاتحاد السوفياتي في عام 1991، انهار «النصف» الاستبدادي/الشمولي لقوات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية. لم يؤد ذلك إلى التمرد على السلطة بوجه عام، بل أدى إلى الاعتقاد بأن الدول الاستبدادية والسلطوية (وسيطرة الدولة على الاقتصادات) قد عفّى عليها الزمن[57]. لقد بدت فكرة أن «الديمقراطية الليبرالية كانت الشكل الأخير الذي تم توجيه جميع الجهود السياسية إليه» كما بشّر بذلك فرانسيس فوكوياما في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير. إلا أن الأمر ليس كما ذهبت هذه الأطروحات، ففي حين وقع الانتقال بالفعل لدى عدد من الدول إلى تبني الليبرالية الاقتصادية والانفتاح السياسي، إلا أن دولًا أخرى احتفظت بطابعها السلطوي، وتعثر فيها الانتقال لأسباب ومبررات مختلفة، فكانت الدول الأفريقية جزءًا من هذا التحول، الذي قسم القارة إلى دول تعيش مرحلة تحول سياسي نحو مزيد من التحديث السياسي، وإرساء الدولة وقواعد السلطة على أسس عقلانية، ودول أخرى ظلت رهينة لنمط تقليدي في الحكم والتدبير، ولا تزال تعاني إشكالات هيكلية في التنمية بمفهومها الشامل.

ولا يعكس الفشل في التنمية في أفريقيا فشلًا لنموذج التنمية الذي تقوده الدولة وتسيطر عليه، بل تشهد أفريقيا أزمة كذلك في نموذج التنمية الذي يتقلص فيه دور الدولة، الذي يتسم بالمحدودية. إن نفرًا غير قليل من الباحثين الأفارقة يرى أن اتهام الدولة في فشل العملية التنموية يعد محوريًا، نظرًا إلى كونها المؤسسة الأبرز في المجتمع. وعليه، فإن فشل جهود التنمية يعزى بشكل أو بآخر في نظر هؤلاء إلى عجز الدولة. فالدولة الأفريقية عاجزة، ولم تستطع إدارة العملية التنموية. كما يشهد المجتمع الأفريقي تراجعًا ملحوظًا عن فكرة بناء الدولة الأمة مقابل السعي لإحلال فكرة بناء الدولة التقليدية محلها[58].

واستنادًا إلى ما سبق فإن الفكر التنموي الجديد في أفريقيا يدعو إلى إحداث تغيرات نوعية في بنية الدولة الأفريقية لكي تصبح دولة وظيفية. أي أن تصبح الدولة الأفريقية فعالة وتمارس سلطة وظيفية في مجتمعها بحيث تصبح في وضعية تؤهلها إلى وضع وتحقيق ومتابعة الغايات المرجوة في سياق مجتمعها. على أن هذه الدولة الوظيفية تختلف تمامًا عن صيغة الدولة الرشيدة التي ترتبط ببرامج التكيف الهيكلي وبفكر المشروطية المصاحب لها[59]، ذلك بأن دولة التكيف الهيكلي ما هي إلا أداة ناجعة لتنفيذ سياسات الإصلاح الليبرالي في أفريقيا. أما الدولة الوظيفية التي نتحدث عنها في هذا السياق فليست معنية بتنفيذ برامج التكيف الهيكلي والإصلاح وإنما هي معنية بالأساس بتحقيق الضبط والسيطرة بما يسمح لها بتحقيق الأهداف المتبناة في سياق مجتمعها.