أمام الهجمة الإعلامية والاتصالية غير المسبوقة، التي مهّدت للأحداث الكبرى والحروب والصراعات الكارثية التي عصفت بالبلدان العربية منذ عقدين من الزمن ولغاية الآن، أو ترافقت معها، تلك الهجمة التي أمعنت في تفكيك كل ما هو مترابط وفي تفتيت المفتت، وبالتالي أغرقتنا في موجات اللامعنى، وحولتنا إلى بشر مستهلكين لقضاياهم، متلهين بمشاكلهم، مستدرجين الأعداء إلى صحن دارهم[1]، لا بد من وقفة تأمُّل وتفكُّر في ما يجري، كي لا يتم تحويل الإعلام بالمطلق إلى كبش محرقة، وكي لا ترمى التبعة على كاهله جزافًا، وكي نتمكن من الخطو باتجاه العمل على إزالة الأوهام المتغلغلة في أذهان معظم الصحافيين والإعلاميين أنفسهم عن مهنتهم، التي راجت على المدى الطويل في أذهان الجمهور. كذلك لا بد من التساؤل حول جدوى البحوث الإعلامية، بهدف إزالة التشوهات المحيطة بأغلبيتها، بدءًا من تشخيص المشكلة الحقيقية، مرورًا بأشكلتها، وطرح فرضيات جريئة لا مسلّمات باهتة، وانتهاءً باعتماد مقاربات مغايرة، تسائل المفاهيم الرائجة، تأخذ في الحسبان التمايزات والتنوعات داخل العمل الإعلامي، والظروف المحيطة بعمل الإعلاميين، وتشابكات النظام الإعلامي مع النظام السياسي والاقتصادي والثقافي والتربوي بالعلاقة بالسياقات المحيطة والصراعات المحتدمة، والتحولات الحاصلة، والتطورات التكنولوجية والاتصالية المتسارعة، متطلبات الأجهزة الإعلامية، وخصوصية كل منها، وغيرها الكثير.

أولًا: السياقات المحيطة بالأزمة اللبنانية

قبل الخوض في مدى إسهام الإعلام اللبناني في تعميق الأزمات المتلاحقة التي عصفت بلبنان في الحقبة الأخيرة، لا بد من الإشارة إلى أنه لهذا المأزق المعيشي المخيف، والسياسي المفخخ الذي وصلنا إليه في لبنان، سياقات عامة معولمة، وأخرى إقليمية، وثالثة محلية خاصة بلبنان. سوف نورد أبرزها تباعًا:

كان من الملاحظ في السياق المعولم انبثاق حركات اجتماعية جديدة، ترافقت مع تصفية ممنهجة للبدائل، منذ أن أطلقت تاتشر في الثمانينيات من القرن الماضي شعارها الشهير «ليس هناك من خيار بديل». وبالتالي كانت تصفية البدائل من أبرز الميكانيزمات الأساسية للسيطرة الأيديولوجية المعاصرة. ويمكن أن نضع في هذا السياق الانتفاضة التي حصلت في لبنان منذ 17 تشرين الأول/أكتوبر. وتجلى ذلك في عدة أمور منها:

تضاؤل الخيارات أمام المواطنين في مختلف البلدان: مع سقوط الشيوعية، وتطبيع الاشتراكية الديمقراطية، وتراجع الأيديولوجيات، وبهتان برامج الأحزاب، وانتصار الفكر الأوحد، تحجّر العرض السياسي، ووقع بين قطبَي الشعبوية والترويج السياسي. فلم يعد عالم ممتهني السياسة يقتصر على المتنافسين، إنما توسّع ليشمل المعلنين، والمستشارين، واستطلاعات الرأي. بات المواطن حذرًا إزاء الأحزاب، مرتابًا منها، بل ومن المؤسسات أيضًا، يتصور نفسه مستهلكًا سخيفًا. فالمنتجات البديلة لا تنفك تغزوه: الهويات المفرطة الغلوّ، النقمة التي ترتدي رداء كراهية الأجانب، وغدا العنف يجد أرضيته الخصبة[2]. وليس بالمصادفة كان رفع شعار «كلّن يعني كلّن» اثناء انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر، ولا الارتياب من المؤسسات والأحزاب ومختلف الهياكل التنظيمية، ولا ارتفاع منسوب خطاب الكراهية لكل من هو مختلف، ومنتقد، وغير شبيه.

التباعد المتزايد بين الأفعال والأقوال، بين النظرية والممارسة: نتيجة التزاوج بين المال والإعلام والسلطة، صادر الممثلون السياسيون وظيفة العرض السياسي، واستولوا عليه، واحتكروا السجال السياسي مستأثرين بتعريف شروط كل تغيير ممكن وبتحديده. وأصبح الخيار البديل «تناوبًا» بين محترفي السياسة. وجد البعض في هذا التباعد تشجيعًا للمواطن على الانسحاب من الحياة السياسية، أو بأسوأ الأحوال كفرًا بكل ما هو سياسي.

استثمار التكنولوجيا للتعويض من أزمات الفكر السياسي: إن مجرد الافتراض بأن التدفق السريع لموجات المعلومات، المترافقة مع عدد لا متناهٍ من التفاعلية، يحقق التفاهم بين الثقافات والمجتمعات والأفراد بصورة أفضل، يعني أن الأيديولوجيا المسيطرة حاليًا أولت للأدوات تأدية دور سياسي، وحاولت استثمارها بمهمات غير مرتبطة بمنطقها. والدليل أن التقنيات الجديدة أمكنها أن تسرِّع وأن تنمي الطوباويات السياسية والاجتماعية والثقافية، لكنّها لم تتمكن من أن تحل محلّ جوهر السياسة الذي هو من طبيعة مغايرة[3]. لقد تأسست الأيديولوجيا التحررية للـ «البيغ داتا» على الفردانية الكاملة، وعلى التطور التقني بأي ثمن، الذي قاعدته السلوكية الوحيدة «كل لنفسه». هذا النوع من التوتاليتاريا القائمة بلا انقطاع على الاتصال المُحمَّل والمثقل بالمثيرات، أدخلنا في عصر المهمات المتعددة، المتسم بالرقابة الشاملة، بتغييب الصراع، وبقتل أية رغبة في الثورة والاحتجاج[4]. وهذا ما شهدناه في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث ذهبت المجموعات نحو مزيد من التباعد، ومزيد من انكفاء كل مجموعة داخل شرنقتها. وكذلك نحت وسائل الإعلام كل منها نحو محاكاة جمهورها، من دون التمكن من محاورة الآخرين.

تحويل الاقتصاد إلى علم مطلق يعلو على الخيارات السياسية كافة: باتت حدود السياسة هي حدود التصويب والتصحيح التقني. هكذا يحل العلم محل السجال والمناظرة. بهذا، تجد السياسة قيمتها وقد لحق بها الانحطاط والتراجع، ولم تعد تجتذب الشخصيات الأكثر موهبة، والأعظم دافعية، والأشد بعثًا على العمل الجماعي. وغدا التقليل من أهمية الأيديولوجيا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة عملة رائجة، لمصلحة انتصار الفكر الأوحد المتعبد للعلم وللحداثة. يضاف إلى ذلك العمل عبر ما يمكن تسميته «أصولية السوق» العالمية[5]. وهذا ما أكدته الحالة اللبنانية، إذ تركز النقاش على الأسماء والخبرات والاختصاصات والاشخاص والكفاءات والسير الذاتية، ومدى القرب من الحداثة الغربية والتوجهات النيوليبرالية، وعلت المطالبات بحكومة مستقلة، تكنوقراط، اختصاصيين، غير سياسيين، ونادرًا ما تم الالتفات إلى المشروع، الوجهة الاقتصادية، والارتباط الوثيق لهذه الأخيرة بالوجهة السياسية، وبموقع لبنان وبتحديد الخيارات السياسيه المتضاربة من الصراعات المحتدمة في المنطقة.

الدور الحاسم للمجتمعات المدنية: هذه المجتمعات، التي حررتها العولمة وتقدم الاتصالات، وأعتقها فقد السياسيين للمشروعية، قامت بإصلاح الخيارات المدينية. ونحن نشهد في هذا السياق، وفي كل مكان، بما في ذلك في بعض بلدان الجنوب، عملية نزع للمركزية عن الخيارات البديلة، بحيث باتت الجماعات المحلية والمدن والأحياء قيد الصيرورة، مقار جديدة للتعبيرات البديلة[6]، إذ شهدنا في لبنان صعودًا صاروخيًّا لمنظمات المجتمع المدني، كيفما كان، وتشجيعًا دوليًا تمثل بالتواصل المباشر معهم، متخطين الأجهزة الحكومية ومؤسسات الدولة بغض النظر عن فعاليتها وعن المعطيات التي لديها، وبغض النظر عن مدى صدقية وموثوقية وديمقراطية ومدنية بعض هذه المنظمات. في هذا الصدد، يصف مؤلف كتاب نظام التفاهة اهتمام الدول الغربية بمنظمات المجتمع المدني بطريقة تتخطى الحكومات، بأنها أحد أساليب السيطرة الاستعمارية الجديدة[7]، إذ يصف ما حصل في هاييتي التي كان يحكمها نظام لصوصي، بعدما ضربها الزلزال في عام 2010 بالقول: «إن المساعدات الإنسانية تمثل للمستثمرين الأجانب استثمارًا أدنى، يهدفون من خلاله إلى ضمان خضوع واحد من أفقر شعوب العالم لهذا النموذج الاقتصادي الذي يستغله، إذ قامت في اليوم التالي للسادس من كانون الثاني/يناير 2010 اللجنة المؤقتة لإعادة الإعمار بوضع هاييتي تحت وصاية واقعية، محددة مجال عمل الحكومة بدور شكلي فقط… إلخ؛ بالنسبة إلى هؤلاء هاييتي هي فقاعة إنسانية تساوي عشرة مليارات دولار. ما الذي سيفعلونه بكل هذه الأموال في بلاد معتادة على التراخي والفساد وإساءة استعمال السلطة؟… وهكذا تصبح الفوضى مركزًا للسلطة» [8].

أما في خصوص السياقات المحلية، فإنها تمثلت بوقوع لبنان شئنا أم أبينا في قلب الصراع العربي – الإسرائيلي، وبالتالي في خضم الصراعات الإقليمية وما نتج منها من محاور متصارعة، معطوفة على صراعات تاريخية بين القوى السياسية اللبنانية، بامتداداتها العربية والإقليمية والدولية، وما نتج منها من سياسات اقتصادية واجتماعية، وما أحيط بها من فساد وصفقات، كان النظام اللبناني القائم على المحاصصة الطائفية والمذهبية كفيلًا بحمايتها وتحصينها ضد أي مكروه. وكان أن أفرز هذا الواقع اللبناني نتيجة احتلال إسرائيل للجنوب اللبناني واجتياحها لبيروت في عام 1982 تجربة المقاومة التي غذتها الثورة الإسلامية في إيران ورعتها إلى أن تم تحرير جنوب لبنان في عام 2000. تلتها بعد ذلك أحداث كبرى بدءًا من اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، في إثر ذلك تعمق الانقسام السياسي في لبنان بين فريقَي الرابع عشر والثامن من آذار، مرورًا بالحرب الإسرائيلية على لبنان في تموز/ يوليو 2006، وانتهاء بالأحداث السورية، والانقسام السياسي الحاد حولها. باختصار تجربة المقاومة الرائدة التي لم تُعِر الجوانب الاقتصادية، ولا طريقة إدارة الحكم، الاهتمام، سرعان ما انفجرت الأزمات لاحقًا في وجهها، وسعى البعض، ولا سيَّما خصومها، إلى تحميلها وزر فساد السلطات المتعاقبة على لبنان، ووزر الانهيار المالي والاقتصادي، وخصوصًا مع شدة احتدام الصراع الأمريكي مع إيران، واعتبار حزب الله أحد اذرعتها الرئيسية في المنطقة وبالترافق مع ما سمي صفقة القرن بين ترامب ونتنياهو الهادفة إلى القضاء على ما تبقى من حقوق الفلسطينيين، وصدور قانون العقوبات الأمريكي على سورية وعلى حزب الله بهدف محاصرته وخنقه. ولم تكن منظومة الإعلام في لبنان بمنأى لا عن هذه الصراعات ولا عن تلك المحاصصة، ولا عن ذاك الارتباط بالخارج.

ثانيًا: إسهامات الإعلام في تعميق الأزمة

في هذه العجالة، سوف نبين كيف أسهم الإعلام اللبناني في تعميق هذا المأزق.

لا شك في أن الإعلام ما زال محاطًا بعدد من الأوهام والعناوين التي يظهرها من حقبة إلى أخرى ليحمي نفسه تحت عنوان حرية التعبير المصانة في الدستور. وإن المسّ بها يعدّ مسًا بأقدس المقدسات. علمًا أنه تحت هذا العنوان ارتكبت الكثير من الموبقات، قصدًا أو عن غير قصد، بالتكافل والتضامن مع القوى الاقتصادية والسياسية المحلية والإقليمية المتصارعة. تضافرت مع هذا الواقع منظومة الاتصال التي فسحت في المجال لاختلاط الأمور بعضها بالبعض الآخر؛ المرسل بالمتلقي، الكلام النخبوي بالكلام العادي، الإعلان بالإعلام بالاتصال، الحيّز العام بالحيز الخاص، وبهذا اهتزت المعايير والأخلاقيات، واشتعلت حروب المعلومات المتفلتة من كل الضوابط والقيود. ونتيجة ضياع الحدود غدت معالم التراتبية في المؤسسات الإعلامية غائمة وتم الفتك بالزمن الإعلامي وتكرس الزمن اللحظوي المنغلق في المباشر… بحيث بدا الإعلام وكأنه معلق بين عدمين: المستقبل المقلق غير المفكر فيه والماضي المغيَّب المحتقر غير المعترف به. وكان أن نتج من تسريع الوقت الإعلامي لغاية اللحظوية الانغماسُ في الذاتية. وتعمق التباعد الممنهج بين الكلام والأفعال بين الواقعي والافتراضي، ما أدى إلى عنف في الفعل وشلل في التفكير عوضًا من الحرية والإبداع. هذا عدا عن أن الغرق في لجّة المعلومات أفقد القدرة على التفكير المستقل.

ولأن أهل الإعلام أحاطوا مهنتهم عبر التاريخ بالكثير من الأساطير، معتقدين أنه يكفي أن يعلموا ويستعلموا ليكونوا ديمقراطيين، إذ يحيل عدد من الباحثين أزمة الصحافة إلى الأسطرة التي أصابتها، وإلى الحماية الذاتية التي حصنت نفسها فيها، فلا أحد لديه الحق في انتقاد الصحافيين لكونهم غالبًا ما تشكل الفكرة التي يجسدونها غطاء لهم، من خلال عملهم على مماثلة قدر مهنتهم بقدر الحرية في العالم. وبهذا وضع الصحافيون أنفسهم خارج المساءلة، فوق الشبهة، رسل الحقيقة والوقائع الذين لا يمكن المسّ بهم. وإن كان الصحافيون، ما خلا بعض الاستثناءات، يجدون أنفسهم مهددين، نتيجة خضوع هاجس الفضيحة لديهم لمتطلبات السكوب[9]. فعبر التاريخ تمأسس التضليل تحت عناوين الإقناع، فتم استخدام طرائق غير ديمقراطية للدفاع عن الديمقراطية، وحصل خلط بين أخلاقيات الغايات وأخلاقيات الوسائل، وعُدَّت القضية الجيدة تقدس الوسائل المستخدمة وتحولها إلى أدوات جيدة. وحصل عدم تفريق بين المحاججة بما تعنيه من احترام للآخر والتضليل المتمثل بحرمان المتلقي من حريته وإجباره على الأخذ في رأي معين أو تبني سلوك معين. على سبيل المثال، استخدم الليبراليون الديمقراطية وإمكاناتها الرائعة ليُخرجوا الكلام الإقناعي بأهمية القطاع التجاري والتخلص قدر الإمكان من عبء القطاعات العامة[10]. كذلك تم العمل على إقران كل حركات المقاومة في العالم بالإرهاب.

في هذا السياق، سأورد بعض الأضاليل التي سار الإعلام على هديها متسلحًا بعناوين فضفاضة كمثل: الاستقلالية، الموضوعية، الحياد، حرية التعبير، وكان من مفاعيل ذلك أن تم العمل على تجهيل الفاعل، نزع الأمور من سياقاتها، شخصنة القضايا المعقدة، شيطنة الخصم، إغفال الأسباب والانشغال بالنتيجة، التوقف عند سؤال الـ«كيف» وإغفال الـ«لماذا»، والتعميم وتكريس المنمطات والأحكام المسبقة، وبعض المفاهيم التي تجرّ معها دلالات أخرى مراوغة، كمثل طرح عنوان الحياد، أمام هذا المفهوم يُطرح عدد من التساؤلات: في ظل الظروف الصراعية المحتدمة في المنطقة، ماذا تعني كلمة الحياد؟ حياد عن مصير لبنان وأزمته الوجودية؟ عن مصالحه؟ عن موقعه الجغرافي؟ وهل هناك اتفاق بين اللبنانيين أين تكمن مصلحة لبنان؟ وهل بإمكان بلد يعاني انهيارًا اقتصاديًا وماليًا واهتزازًا أمنيًا أن يكون محايدًا؟ هل بإمكان بلد عانى ما عاناه من الاحتلال الإسرائيلي وما زال جزءٌ من أراضيه محتلًا أن يكون محايدًا؟ نفي نظرية المؤامرة، أو العمل الدؤوب على استبعاد كل النوايا المبيتة للأعداء. على سبيل المثال، نادرًا ما تساءل الإعلاميون عن السر الكامن وراء التحرك السريع للدول في إثر كارثة انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/أغسطس، ولماذا هب الجميع للمساعدة دفعة واحدة بعدما بقوا يتفرجون على تخبط اللبنانيين بأزماتهم ومشاكلهم؟ ولماذا تم إخطار رئيس الجمهورية بوجود النيترات في المرفأ في 20 تموز/يوليو 2020، ولماذا في هذا التاريخ، وليس قبل؟ وغيرها الكثير من الأسئلة.

حصلت كل تلك المغالطات، التي أوردنا عيّنة بسيطة منها، من خلال اعتماد الأساليب الآتية:

ملاءمة عمليات الانتقاء مع انتظارات المتلقين، اختيار تراتبية الموضوعات، الإلحاح على بعض الوقائع، والانتقاء للأخبار والتقارير، حتى وإن كانت أحيانًا مصادرها مشبوهة، كمثل بث إحدى محطات التلفزة تقارير صادرة عن الموساد الإسرائيلي وكأنها الحقيقة بعينها، والوقت المعطى لبعض المسائل، إخفاء المعلومات، التشابه في طرح الموضوعات، كسر المحرمات، كمثل تمرير برنامج «باسم الشعب» في إحدى المحطات اللبنانية تشبيه المقاومة التي قدمت شهداء ودماء دفاعًا عن لبنان والتي لها مؤيدون يناهزون نصف الشعب اللبناني بقوات الاحتلال.

كان من الملاحظ في معرض المواكبة الإعلامية للأزمات التي تعصف في بلداننا، الآتي:

استخدام وسائل الإعلام لتعبيرات جاهزة، من دون التوقف أمام مدلولاتها.

  وقوع الإعلام ولا سيّما المتلفز بأسر لعبة الأضداد والثنائيات التي تعيق أي تطور فكري وتولد عنفًا لا ينتهي.

  استخدام صيغ إطلاقية وتعميمية، من دون التوقف أمام تمايزات الظواهر وتعقيداتها.

  إعداد تقارير مبسطة تُحمِّل أطراف الصراع هويات، موزعة بصورة إطلاقية بين الخير والشر.

  تناول الأحداث خارج سياقاتها، والوقوع في فخ تمجيد اللحظة، والمباشر والآني، والانزياح من الأسباب الحقيقية نحو ما يشبه الأسباب، وقياس التجارب والأحداث بعضها على البعض الآخر على نحو مبسط وآلي.

  استخدام تعابير اختزالية، وعدم التمييز بين معاني العناوين المتداولة: النظام، الدولة، الشعب، المقاومة… إلخ.

  التعامل مع التدخلات الأجنبية ذات الطابع الكولونيالي، وكأنها مجرد أعمال خيرية، لا تبغي الربح، وهي مطلوبة من أهل البلد أنفسهم، ولعل ما حصل أثناء زيارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى لبنان، وما يحصل لدى استضافة السفراء الأجانب وطريقة طرح الأسئلة عليهم خير دليل على أزمة الإعلام وبؤسه، وربما العاكسة للذهنية التي تسود في أوساط بعض النخب اللبنانية.

  الاستعجال بحسم الأمور، والهرولة في تعيين الأسباب، وتوقع النتائج، من دون التعمق في تعقيدات الأحداث الجارية، وفي امتداداتها الإقليمية والعالمية.

  الوضوح والمجاهرة في الانتماءات السياسية، ومحاباة طرف أو جهة سياسية على جهة أخرى بطريقة فجة؛ وإبراز جوانب من الوقائع وإخفاء أو تغييب جوانب أخرى، ونقص التوازن في التقارير أو في برامج الحوار التلفزيونية.

تخلي البعض عن الكثير من المعايير الأساسية للعمل الصحافي، والتواني عن القيام بأبسط درجات تقصي الحقائق، والتسرع في تغطية الأحداث قبل اتضاح تفاصيلها، واعتماد البعض على تقارير من متصلين مجهولين ومقاطع فيديو غير مؤكدة.

تضخيم الخلافات الطائفية والمذهبية لدى البعض وطمسها والتغافل عنها لدى البعض الآخر، على سبيل المثال، تكريس مفردات تنم عن فرز طائفي ومذهبي وأحيانًا عنصري. بما معناه تضخيم الخلافات البينية، مقابل تقزيم الصراع العربي – الإسرائيلي، بل أحيانًا تغييبه وطمسه، توخيًا للوصول إلى التطبيع التدريجي معه .

إعطاء الأهمية لتغطية الأحداث الآنية اليومية، وإغفال ما يجري من تطورات إقليمية مهمة.

استخدام الإعلام الفضائي كوسيلة لخوض حروب تضليل بين الأطراف المتصارعة، إذ استخدمت الأخبار، أثناء الأحداث الكبرى، التي تحتاج فيها المعلومة إلى ساعات حتى تخرج أكثر صدقية، كأدلة للتجييش ضد المصادر، ومحاولة كسر صدقيتها.

المبالغة في المراهنة على وسائط الإعلام الجديد في تغيير الواقع السياسي. والخلط بين النشاط السياسي في فضاء الإنترنت الافتراضي والنشاط السياسي الفعلي على أرض الواقع.

على المدى الطويل، كان من الملاحظ كيف حرقت العناوين والملفات بعضها البعض الآخر، وكيف تم العمل على تفتيت المفتت وبالتالي كانت النتيجة غرق الجميع في اللامعنى.

ثالثًا: تشابك المعضلات المطروحة أمام الإعلام

هكذا تشابكت المعضلات المطروحة أمام المعنيين في العمل الإعلامي، التي يمكن إجرائيًا تصنيفها كالآتي:

1 – معضلات مهنية تمثلت بـ: تطفّل الصحافيين على أدوار ليست لهم. على سبيل المثال، ينصِّب بعض الإعلاميين النجوم، الذين لا أحد يسائلهم كيف راكموا ثروتهم، أنفسهم محققين، قضاة، ثوريين، علماء، خبراء في كل شيء… إلخ، فلا يتوانون عن تقييم الشخصيات العامة والأداء العام للوزراء، ولا سيَّما الوزيرات في الحكومة بطريقة تمييزية ومتعالية ومتغطرسة، وبالطريق يحيدون مافيات المال والاقتصاد المتكافلة والمتضافرة مع الرموز السياسية المتحكمة برقاب الناس. هذا عدا عن التكرار والتقليد في طريقة طرح الموضوعات. إضافة إلى ظهور طبقة جديدة من المحللين الذين حلوا ضيوفًا على الفضائيات، من مؤججي الصراعات ومثيري الفتن والأحقاد. وانتقال الفضائيات من لعبة تعميق الهوة بين المواطنين المنتفضين والنظام إلى لعبة تعميق الهوة بين المنتفضين أنفسهم.

2 – معضلات عائدة للتطور التكنولوجي والاتصالي المتسارع حيث أمكن للمواطن العادي أن يتحول إلى إعلامي مستقل يمارس عمله بلا حسيب ولا رقيب ويتصرف بحرية تصل إلى حد الفوضى وأحيانًا العنف.

3 – معضلات أمنية تمثلت بدخول الحروب الاستخبارية بقوة إلى عالم الإعلام والاتصال، وتزايد أعمال الدس وإثارة الفتن وتضخيم أحداث ونشر إشاعات وترويج أكاذيب، وفبركة أفلام. عدا عن حالات التعتيم والمنع والأخطار التي مورست على الصحافيين في مواقع الأحداث.

4 – معضلات اقتصادية ربحية تمثلت باعتماد أساليب تغطية بدت عاجزة عن ملاحقة التسارع الخطير للأحداث في ظل تنافس شرس بين وسائل إعلام تقليدية وجديدة مؤيدة للأطراف المتصارعة. وفي العمل على تحقيق السبق الصحافي بأي ثمن، ما أدى إلى الوقوع في فخ الأخبار الكاذبة والإشاعات.

5 – معضلات أخلاقية تجلت في خسران بعض الوسائل الإعلامية لصدقيتها، نتيجة انحيازها وتماهيها بالأطراف المتصارعة. ما أدى إلى اهتزاز ثقة المشاهدين وانزياحهم نحو مصادر بديلة.

6 – معضلات سياسية، تجلت في تعميق الاصطفاف والخندقة من خلال إعادة تموضع بعض الرموز الإعلامية والمؤسسات الصحافية، وحصول انشقاقات، وإقفال وسائل. في موازاة ذلك برزت وسائل إعلامية ومواقع جديدة غالبًا ما تهيمن عليها رساميل غير معروف مصدرها. وتجلت أيضًا في ضعف الالتزام لدى الإعلاميين، وغياب الرؤية لدى المؤسسات، وهذا ما سهل ركوب الموجة، والانتقال من موقف إلى موقف.

هذا غيض من فيض التعقيدات المتزايدة المحيطة بالعمل الإعلامي؛ تعقيدات تعامل معها معظم الجسم الإعلامي، ولا سيّما المنظور منه، بخفة وبسطحية في أغلب الأحيان، إن لم نقل بخبث غير مدرك. في هذا الصدد، يجد دين ستاركمان (Dean Starkman) أن الصحافي الآن يشبه الفأر هامستر (Hamster) في دولابه، ينشط ويتحرك كثيرًا، إنما لا يذهب إلى مكان. فدولاب «هامستر» ليس السرعة، إنه الحركة لذاتها، إنه الرعب الجديد، النقص في النظام، عدم القدرة على القول لا، وخصوصًا لولي النعمة. المراسل إذًا مثل هامستر في دولابه لا نعرف لماذا يتحرك؟ ماذا يلاحق؟ والذي على الأغلب يركض وراء نفسه، أي وراء أفكاره وآرائه، إذا لم يكن ببساطة وراء «شخصه الذي يظنه رائعًا». فإذا كان الصحافيون لا يثرثرون إلا ليلوّنوا الرمادي بالرمادي، في أسرع وقت ممكن، فإن تسريع الوقت الميديوي لغاية اللحظوية لها نظرتها في الانغماس في الذاتية: الحاضروية تذهب بموازاة إعطاء الذات أهمية كبرى. ما يعني أنّ الموضوعية، التي تبقى بوضوح أحد أعمدة البنية الصحافية، بمعنى أن يحترم المراسل قواعد جمع المعلومات ومعالجتها، ويطبق المعايير في صيغ محايدة واقتباسات موثوقة، غدت تترافق مع انتصار للذاتية[11].

وهذا ما يستدعي من وسائل الإعلام الحريصة على تمايزها، التي بنت رأسمالها الرمزي من خلال صدقيتها وجديتها وموثوقية عملها، لأن تلجأ إلى مزيد من التعمق في الموضوعات وتحليلها، وهذه الأخيرة بالطبع غدت عملة نادرة، وغير مرغوب فيها. فلطالما كان النظام الإعلامي مرآة للنظام السياسي، ويعمل لخدمة النظام الاقتصادي. وفي بلد كلبنان يعاني أزمات سياسية واقتصادية بنيوية حادة، لا عجب أن يكون نظامه الإعلامي على هذه الشاكلة. الإعلام لا يمكن أن يدفع في اتجاه التغيير والثورة ومحاربة الفساد، وغيرها من العناوين البراقة، إلا إذا ثار على نفسه وبدأ بتغيير ذاته، وتعامل مع العاملين لديه، ولا سيّما الشبان والشابات الأكفاء بديمقراطية وبأخلاقية وباحترام لحقوقهم على الأقل، وتخلى عن استدراج عروض للتمويل وبالتالي للتبعية. فاقد الشيء لا يعطيه.

كتب ذات صلة:

الاستثمار في الإعلام وتحديات المسؤولية الاجتماعية (النموذج اللبناني)

نظم وسائل الإعلام العربية