إشراف وتقديم: الشريف زيتوني

مراجعة: محمد مصطفى القباج(**)

الناشر: مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت

سنة النشر: 2017

عدد الصفحات: 238 ص

ISBN: 9789953827759

 

-1-

حرص المشرف على الكتاب، منذ مقدمته، على أن ينبِّه قارئه إلى أن الهدف منه ليست معالجة موضوع إيبيستيمولوجيا العلوم الإنسانية في الفكر العربي والفكر الغربي المعاصر في عمومها، ولكن إلقاء الضوء على بعض الرؤى المتعلقة بهذا الموضوع، من خلال نماذج منتقاة من رقعة جغرافية هي المنطقة المغاربية كواجهة عربية يتم تناولها بما يعززها من الرؤى الغربية من خلال نماذج أوروبية. من ثمة فإن رصد هذه الرؤى المزدوجة وُزع على قسمين: القسم الأول مخصص للفكر العربي المعاصر في فصول ثلاثة تتطرق إلى منظور طه حسين لفلسفة ابن خلدون الاجتماعية، وإلى الموقف الإيبيستيمولوجي من التراث عند محمد عابد الجابري، وإلى إيبيستيمولوجيا العلوم الإنسانية عند سالم يفوت. أما القسم الثاني فمخصص للفكر الغربي المعاصر في فصول ثلاثة تتطرق إلى موضوع الوحدة والتعددية المنهجية من منظور “كارل بوبر”، ولموقف “هانس جورج غادامير”، وللمواجهة المعرفية بين التحليل النفسي والإيبيستيمولوجيا في مبحث خصصه “بول ريكور” لهذه المواجهة.

من خلال هذه الخطاطة يبدو جلياً أن مضامين الكتاب لا تهدف إلى معالجة عامة وشمولية لموضوع إيبيستيمولوجيا العلوم الإنسانية وإنما تناولها عبر عيِّنة محدودة تمثل الرؤى العربية والرؤى الغربية تصدى لتحريرها باحثون من الجامعات الجزائرية. ولعل التركيز على بلدان عربية معينة يدخل في صلب مهام مركز دراسات الوحدة العربية للتعريف بالباحثين المتخصصين في كل رقعة عربية لتفتح أمام الكفاءات العربية فرصة للتعريف بنفسها على نطاق عربي واسع. وهذا أمر يحسب لمركز دراسات الوحدة العربية الذي يبذل ما وسعه من جهد لردم الجسور التي ما فتئت تعمق القطيعة بين مشرق الوطن العربي ومغربه.

-2-

تنطلق مقدمة الكتاب من معطى أساسي وهو أن رؤى الفكر العربي المعاصر ورؤى الفكر الغربي المعاصر تشترك في تناولها للفرد والمجتمع من المقاربة المعرفية بغاية الوقوف على العوامل التي تحكم وتوجِّه الحياة الاجتماعية في أبعادها المختلفة. ونتيجة لتعدد موضوعات العلوم الإنسانية وتعقد طبيعتها تعددت المناهج بين الوضعي والتاريخي والكيفي والظواهري والتفكيكي … إلخ داعية إلى وحدة المنهج بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية كما عند “إيمانويل فالرشتاين” في كتابه علم الاجتماع الغربي: مساءلة ومراجعة، وعند “كارل بوبر” في مجموع مباحثه.

تسجل مقدمة الكتاب أيضاً أن من المؤكد كون العلوم الإنسانية ما انفكت تراجع نفسها وفق التطورات المعرفية في المجتمع الغربي، بينما لا تزال تعاني نقصاً فظيعاً في مجتمعاتنا العربية رغم وجود محاولات جادة تعمل على إنتاج علوم إنسانية تعنى بدراسة المجتمع العربي وتراثه، كالمحاولة التي قام بها محمد عابد الجابري وهو يوظف مختلف المفاهيم والمناهج الفلسفية والعلمية الغربية المعاصرة لحل إشكالية الأصالة والمعاصرة وتطبيقها على التراث العربي الإسلامي باعتباره يشكل هوية وخصوصية المجتمعات العربية. وإلى جانب محاولة الجابري هناك محاولة سالم يفوت بسلك أسلوب منظومي بنيوي لتناول التراث المعرفي والعلمي العربي مطبقاً منهج التحليل النفسي الفرويدي والمنهج البنيوي.

ولتكون الصورة واضحة بخصوص المعالجات العربية تبين مقدمة الكتاب أنه لا بد من القيام بانتقاء مقاربات أصيلة ومعمقة من الفكر الغربي المعاصر، من ثمة وقع الاختيار على ثلاثة نماذج دالة، نموذج “كارل بوبر” مؤسس العقلانية النقدية كأسلوب لتقصي الحقائق الاجتماعية اعتماداً على المنهج الفرضي الاستنباطي. ونموذج “هانس جورج غادامير” الذي يرفض فكرة المنهج في العلوم الإنسانية لأن منطقها هو فلسفة في الفكر. ونموذج “بول ريكور” الذي يولي أهمية بالغة لمكانة التحليل النفسي من مواقع فلسفية. وتنتهي المقدمة إلى التعبير عن أمل يخامر كل عربي وهو التأسيس لإيبيستيمولوجيا العلوم الإنسانية على أساس اعتبار الذات والآخر في تفاعلهما الخلّاق.

-3-

حرر الفصل الأول من الكتاب “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية من منظور طه حسين” أحمد الطيبي أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر. يعتبر هذا الباحث أن الأطروحة التي دافع عنها طه حسين في جامعة السوربون بفرنسا تحت عنوان “فلسفة ابن خلدون الاجتماعية” هي في العمق تشكيك في علم ابن خلدون من حيث يرى أن هذا المفكر لم يتمكن من استخلاص فلسفة جديدة موضوعها المجتمع وتاريخه. لقد أراد ابن خلدون من وجهة نظر طه حسين – أن ينشئ للتاريخ علماً بنفس منهج الفقهاء وعلماء أصول الفقه، فكان رأيه في التاريخ مجرد سرد للحوادث السياسية بمنهج شديد الاختلال مما لا يضعه في صف علماء الاجتماع الحديثين. بعد أن فصل أحمد الطيبي القول في الجوانب التي اعتمدها طه حسين في نقد ابن خلدون، وبخاصة المقاربات الخلدونية لنظريات الأقاليم والدين والعصبية والخلافة والعلم أشار إلى أن أهم النتائج المستخلصة من أطروحة طه حسين هو أنه لا ينبغي أن نعطي لابن خلدون مرتبة أكثر مما يستحق.

تراوحت ردود الباحثين العرب على آراء طه حسين بين مؤيد ومعارض. وإذا كانت الردود المؤيدة لا تضيف جديداً فإن الردود المعارضة كشفت عن جوانب التهافت في أطروحته، وبخاصة ما ورد عند ساطع الحصري في كتابه دراسات عن مقدمة ابن خلدون يرى فيه أن طه حسين حرر أطروحته عندما كان حديث العهد بدراسة علم الاجتماع، ولم يجد متسعاً من الوقت للتعمق في دراسة المقدمة، فجاءت أحكامه على ابن خلدون قاسية. والحقيقة أنه لا مجال للشك في أن ابن خلدون كان أول من حاول أن يجعل من التاريخ علماً ولو كان ذلك في نطاق محدود. فلقد أثبت أن وسيلة دراسة علم العمران هي دراسة المجتمعات، مميزاً بين الظواهر الاجتماعية والظواهر الفردية. لذلك فإن علم العمران مستقل بنفسه، وبالتالي لم يخرج عن المبدأ العام الذي اعتمده كل المفكرين الإسلاميين السابقين الذين قدموا تصنيفات للعلوم لم تذكر التاريخ إلا كعلم من العلوم الشرعية أو كعلم ملحق بها.

يلاحظ محمد عابد الجابري بهذا الصدد أن الهدف من تأليف ابن خلدون لـ المقدمة كان هو رفع الكتابة التاريخية من مستوى الفن إلى مستوى العلم الذي ينبني على النظر والتحقيق والتعليل والتفسير. ومن اللافت أن التحليل الإيبيستيمولوجي الذي قام به ابن خلدون له مكانه الطبيعي والمشروع لأنه يتغيا وضع معيار صحيح يتحرى به المؤرخون طريق الصدق والصواب حتى يكون العلم ممكناً وقابلاً لأن ينتج معارف يقينية. يضيف أحمد الطيبي أن القطيعة الإيبيستيمولوجية التي أراد ابن خلدون إنجازها تمت على مستوى النقد الذي يوجهه إلى الطريقة التقليدية للتاريخ تكريساً لعدم الثقة بالناقل أو الراوي حتى يقع التثبت من صحتهما معاً … والحصيلة العامة أن تأسيس ابن خلدون لعلمه الجديد يمثل تفكيراً مشابهاً للثورة الفكرية الحالية في العلوم الإنسانية؛ فهو محلل معلل مقارن لجميع الظواهر، إضافة إلى أنه يمتاز بالموضوعية واستقراء الأحداث لاستخراج القوانين كما هو الحال عند العلماء في الميادين الطبيعية.

-4-

تولت نعيمة بن صالح، الأستاذة المحاضرة بجامعة الجزائر، تحرير الفصل الثاني “الموقف الإيبيستيمولجي من التراث: نموذج محمد عابد الجابري”. استهلت الباحثة مقاربتها بالإشارة إلى أن المشروع الجابري يدور حول إشكالية المشروع النهضوي العربي بعامة، وإشكالية الأصالة والمعاصرة بخاصة، موظفاً في ذلك مختلف المفاهيم والمناهج الفلسفية والعلمية الغربية المعاصرة، وعلى رأسها مفهوم الإيبيستيمولوجيا، ومطبقاً هذه الأدوات على التراث العربي الإسلامي المكون معرفياً من العلوم البيانية والعرفانية والبرهانية التي ينتجها العقل العربي. ومعلوم أن لكل نظام معرفي قواعده الإيبيستيمولوجية ومحدده المتمثل باللغة العربية. هكذا وبعد أن بينت بن صالح أن الهدف العام الذي كان يصبو إليه الجابري هو تحقيق النهضة العربية في الفكر وفي الواقع العربيين المعاصرين بواسطة قراءة بنيوية سجلت عليه ملاحظة أساسية وهي أنه لم يقرأ التراث قراءة فيها اتصال ووحدة بين النظم المعرفية الثلاثة، بل كانت قراءة مجزأة؛ فكل نظام مستقل عن الآخر، يدخل في تصادم أو في تخالف، مستندة في هذا المأخذ على ما ورد في كتب جورج طرابيشي. وفي الجملة فإن الجابري وقع في تناقض يتجلى في كونه يعتبر البنية المؤسسة للعقل العربي النظرية هي شعورية، والحال أن اللاشعور في هذه العملية التحليلية والنقدية للعقل العربي النظري توصل إلى بعض النتائج المنهجية والمعرفية، منها وجود قطيعة بين الفلسفة في المشرق والأخرى في المغرب، قطيعة من حيث هي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، ليس في مجال تاريخ العلوم بل في مجال تاريخ الفلسفة الإسلامية، ذلك من أجل كشف العوائق التي عرقلت تقدم العقل العربي القديم وامتداداتها إلى عرقلة تقدم العقل العربي المعاصر بما أدى إلى أن هذا العقل لم يضف جديداً إلى ما أبدعه خلال عصر التدوين.

من القضايا التي وقف عندها الجابري – على حد رأي بن صالح – أن اللغة العربية تمثل أهم عائق، إذ هي لغة لاتاريخية وغير واقعية، لم تعبر عن معطيات الاستقراء والتجربة الاجتماعية، لذلك لم تتغير لا في صرفها ولا في معاني ألفاظها وكلماتها ولا في طريقة تداولها الذاتي. لذا فإن دعوة الجابري للعرب في القرن العشرين إلى أن يقتبسوا العقلية النقدية في فلسفة ابن رشد لحل إشكالية الأصالة والمعاصرة التي رفض فيها مواصلة التعامل مع الفلسفة الفيضية القديمة لدى فلاسفة المشرق العربي، بالإضافة إلى رفضه أسلوب علماء الكلام المتهافت والدامج بين العلم والدين والفلسفة، دون تمييز واضح بين مختلف هذه الحقول المعرفية المستقلة بعضها عن بعض، فالعلم على عكس العقيدة والإيمان غير مقيد مهما كان نوعه، وهذا الموقف يمكن استغلاله إيديولوجيا لتحديث الفلسفة في الوطن العربي المعاصر بتوظيفه في بناء علاقة جديدة بين تراثنا الفلسفي والفكر الفلسفي العالمي.

عرجت الباحثة بن صالح على توظيف الإيبيستيمولوجيا في التراث العربي الإسلامي في قسمه العملي، السياسي والأخلاقي، الذي مارس فيه نقده، وبخاصة أن الواقع العربي المعاصر يعيش تخلفاً حيث انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم، وأن السلطة في مجتمعاتنا لا تُستمد من إرادة الشعب، وانعدام العدالة الاجتماعية. في هذا المجال حلل الجابري وانتقد العقل السياسي العربي ليكشف عن الآليات الأيديولوجية والإيبيستيمولوجية التي أنتجته، وتحديد العوائق التي منعته من التقدم. هذا العقل السياسي تحدده بنى لاشعورية ثلاث هي العقيدة والغنيمة والقبيلة؛ بالتالي فإن لتحقيق المشروع النهضوي العربي في طابعه السياسي والاجتماعي لا بد من تجديد العقل السياسي العربي في تلك البنى الثلاث، وإحلال بدائل منها من أجل تحقيق النفي التاريخي لها، والتعامل بعقل اجتماعي نقدي، والأخذ بالمنهج الديمقراطي في الممارسة السياسية للقضاء على الاستبداد السياسي.

تستنتج بن صالح أن موقف محمد عابد الجابري تجلى في عمليته التحليلية والنقدية للعقل العربي النظري والعملي لإبراز العوائق التي منعته من التقدم ؛ كل هذا ينبئ عن موقف فلسفي علمي جديد وأصيل.

-5-

حررت الفصل الثالث (إيبيستيمولوجيا العلوم الإنسانية عند سالم يفوت) غنيمة هارون، الأستاذة المساعدة بقسم الفلسفة بجامعة عليزان الجزائرية. ترى هذه الباحثة أن الفكر الفلسفي المغربي، وابتداءً من سبعينيات القرن الماضي استطاع العمل على محاولة تكييف الجهاز المفاهيمي الغربي مع الاحتفاظ بخصوصيات الفكر المغربي المعاصر بخاصة، والفكر العربي بعامة؛ إلى جانب العمل على توطين وتأصيل المفاهيم والأدوات المستقاة من الحقل الإيبيستيمولوجي الغربي في مجال التراث تحديداً. وتعتبر الأستاذة غنيمة أن سالم يفوت من الذين أرادوا تغيير عقول الناس وأنماط تفكيرهم، والدفاع عن المعرفة الفلسفية وبخاصة فلسفة العلوم، إلى جانب كونه اهتم، شديد الاهتمام، بالترجمة. إلا أن يفوت يرفض مصطلح الفلسفة العلمية إذا اقترنت بإحياء الفلسفة المثالية. ويسجل له أنه كان شديد الاهتمام بإشكالية العلاقة بين الفيزياء والفلسفة التي طرحها في ضوء نظرية “الكوانتوم” مناقشاً التصورات الوضعية واللاوضعية للواقع. أما عن العلوم الإنسانية فهو يشدد على دور الأيديولوجيا في فهم دور فلسفة العلوم لفهم الواقع. من ناحية أخرى فإن من مباحث الفلسفة والإيبيستيمولوجيا الصراع الطبقي على مستوى النظرية وعلى مستوى الأفكار. والمقصود بالفلسفة فلسفة العلوم القائمة على إعمال النقد التحليلي المدعوم بالأيديولوجيا.

جانب آخر لافت للنظر عند يفوت وهو أنه ليس ضليعاً بالإيبيستيمولوجيا وتاريخ العلوم فقط، ولكن له اطلاع واسع بالتراث بحيث مكنته معداته النظرية والمفاهيمية من إعادة الحفر فيه بمعاول جديدة وعديدة من التراث، مدافعاً عن أطروحة فصل الدين عن الفلسفة كإشكالية عامة هيمنت على الفضاء الفكري المغربي الأندلسي. في هذا الإطار اهتم بابن حزم كتمهيد لفهم المشروع الفكري لابن رشد. امتداداً لذلك اهتم يفوت بالاستشراق من منظور الإيبيستيمولوجيا باعتباره قضية معرفية وأسلوباً منهجياً، أما عن قضية غياب مشروع نهضوي معاصر لدى العرب والمسلمين فبسبب عدم تبنيهم البعد التاريخي في مجال العلم والتكنولوجيا، ولكونهم لم يعيدوا قراءة التاريخ بمنهج تحليلي وتفسيري وبرؤية جديدة، وتبين أصل العوائق التي حالت دون الجديد.

رجوعاً إلى العلم يرى يفوت أنه ترعرع وارتقى استجابة للمشكلات التي تثيرها الممارسة الاجتماعية المادية والثقافية. وفي هذا الصدد اهتم بما كتبه “ميشيل فوكو” و”غاستون باشلار” و”كارل بوبر” بوصف هؤلاء يمثلون المرحلة المعاصرة في تطور فلسفة العلوم، كما يمثلون الاتجاه العقلاني الحداثي الراديكالي. وتختتم الباحثة غنيمة بخلاصة عامة ترى فيها أن مباحث سالم يفوت تمتاز بكونها جديدة وجادة تجمع بين التنظير والتطبيق، وتجمع بين حقول معرفية متعددة جعلت أعماله تنتصر للعقلانية وللفكر التنويري، وعمقت العديد من الإشكاليات المتعلقة بالإيبيستيمولوجيا في مجال العلوم الإنسانية بخاصة وفلسفة العلوم بعامة، مؤكداً أن العلم إنتاج بشري شاركت فيه كل الحضارات.

-6-

خصص القسم الثاني من الكتاب لاستعراض رؤى إيبيستيمولوجية العلوم الإنسانية في الفكر الغربي المعاصر من خلال نماذج “كارل بوبر” و”هانس جورج غادامير” و”بول ريكور”. هكذا تولت رشيدة عبة، أستاذة جامعية بكلية العلوم الإنسانية (قسم الفلسفة)، تحرير الفصل الرابع (كارل بوبر والعلوم الإنسانية بين الوحدة والتعددية المنهجية). ترى الباحثة أن الإشكالية الرئيسية التي اهتم بها “بوبر” هي التمييز بين العلم واللاعلم، وأن معيار الفصل بين ما هو علمي وما هو غير علمي هو الدحض أو التكذيب أو النفي بمعنى واحد. فما دامت حقيقة ما لم تدحض فهي غير علمية في جوهرها. هذا المعيار لا يتطابق مع مفهوم “ما له معنى”. عندما يستحيل دحض نظرية ما فإنها تصبح بالفعل نظرية علمية هي عبارات كلية تفسيرية اعتماداً على المنهج الفرضي الاستنباطي بالإمكان التنبؤ بها. وبالتالي يمكن رد الظواهر إلى قانون عام ينطبق عليها أو على غيرها. ومن ثم فإن المنهج هو الذي يجعل مشكلة التمييز بين العلم واللاعلم ترتبط أشد الارتباط بمشكلة تقدم العلم كمفتاح لحل أكبر مشكلات فلسفة العلوم، ومن بينها مشكلة الاستقراء. إن الاستدلال الاستقرائي مرفوض لأن العلم التجريبي لا ينمو بواسطة إجراء استقرائي وإنما من خلال محاولة دحض النظريات باستخدام منهج فرضي استنباطي، أي من خلال قطيعة معرفية.

تأسيساً على هذه المنطلقات يتبنى “كارل بوبر” وحدة المنهج بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية عبر آلية الاستدلال الفرضي الاستنباطي وهذا ما يمثل الوحدة المنهجية بين المجالين، ولكن هناك خصوصيات في تطبيق الآلية بين المجالين الطبيعي والإنساني، وهذا ما يؤسس للتعددية في المقاربات يتجلى فيها الأسلوب العقلاني النقدي الذي يقرر أن العلم يبدأ من مشكلات لا من ملاحظات.

من العلوم الإنسانية التي يطبق فيها “بوبر” مقارباته علم التاريخ. ذلك أن الخطوات المنهجية والمعرفية التي تجعل من التاريخ علماً لتمييزه وفصله عن النظريات التاريخانية الزائفة كون هذه النظريات لا تقبل معيار الدحض لأنها تنطلق من مبادئ غير واقعية وتدعي تفسير كل أحداث مراحل التاريخ. يتجلى التمييز بين مفهوم التاريخ ومفهوم التاريخانية في كون المفهوم الأول نسقاً من المعارف البشرية والمشكلات التي تثار من خلال تطوره. إن التاريخ لا يعلمنا طريقة التنبؤ بالمستقبل، بل الإعجاب بالأحداث الكبرى والأشخاص الرائعين، ويعلم ما يجب أن نخاف منه دون الغوص في إشكالية معنى التاريخ. أما المفهوم الثاني فيتعلق بطريقة في العلوم الإنسانية تفترض أن التنبؤ التاريخي هو غايتها الرئيسية، كما تفترض إمكان الوصول إلى هذه الغاية بالكشف عن القوانين أو الاتجاهات أو الأنماط أو الإيقاعات التي يسير التطور التاريخي وفقا لها. التاريخ بالمفهوم الأول يضعها أمام ثورة غير منتظرة وغير متوقعة مثل ثورة الإلكترونات.

يدافع “كارل بوبر” عن التعددية المنهجية في ميدان فرعي آخر ينتمي إلى العلوم الإنسانية هو الفلسفة، ففي نظره أن الفلسفة ليست علماً تجريبياً ولا منطقاً خالصاً، بل هي الميتودولوجيا المتبعة في دراسة مناهج العلوم. إن مهمتها هي التأمل النقدي في الكون وفي المعرفة بما فيها فيم الخير والشر. إنها إنتاج كلي وعام يشمل كل عقول الناس من دون استثناء، فكل الناس فلاسفة.

-7-

الفصل الخامس “موقف غادامير من العلوم الإنسانية” حررته نادية بويدغادن، الأستاذة المساعدة بكلية العلوم الإنسانية (قسم الفلسفة) بجامعة الجزائر. تستهل الباحثة مقاربتها بالإشارة إلى ما كتبه (غادامير) في كتابه “بداية الفلسفة” من حيث أن ما يميز موقفه في إطار العمل الفلسفي في القرن العشرين هو أنه منشغل بالمجادلة بين العلوم الطبيعية والإنسانية. إن نظرية العلوم الإنسانية ليست منهجية إنما هي فلسفية في عمقها. من هنا فإن تأويلية (هيرمينوطيقا) غادامير ليست منهجية في العلوم الإنسانية بل هي محاولة لفهم ما هي هذه العلوم حقيقة. وهو إذ يشاطر (كارل بوبر) نقد التاريخانية يرى أن تجربة الحقيقة متعالية على حقل المنهج العلمي وتتطلب الكشف عن الاستعداد لفهم إمكان تعدد الآراء. وإذا سلمنا باستحالة إخضاع العلوم الإنسانية لنموذج المعرفة العلمية لعلوم الطبيعة فإنه من غير المجدي أن نعتبر إيضاح طبيعة العلوم الإنسانية مجرد مسألة منهج. لا يتعلق الأمر، إذاً، بتحديد مفهوم خاص فقط وإنما مسألة فكرة أخرى عن المعرفة والحقيقة. هكذا تتجلى خصوصية المعرفة الإنسانية في أنها تفكير عوضاً من استعمال المنهج، وأنها أشبه ما يكون بحدسية الفنان.

إن ما يعكف “غادامير” على تبيانه هو أنه لا يهتم بوضع قواعد للعلوم الإنسانية بل تصحيح التفكير الزائف في ماهيتها وعياً ومفهوماً تاريخيين، مرفد حقيقتها هو التراث لتحقيق بصيرة ومعرفة الحقائق، ما يمثل وعياً نقدياً جديداً. ويترتب على ذلك أن التأويلية هي الفهم والتعبير عن دلالة النصوص حسب الأقوال والتعبيرات الخاصة، بمعنى أنها فن في التأويل ينتقد العقلية المنهجية الوضعانية، وهو متجه جديد نحو التراث القديم للبلاغة وليس مجرد تراث ثقافي.

والخلاصة كما تراها الباحثة نادية بويدغادن أن “غادامير” قام بتصحيح الخطأ المتعلق بوحدة العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، فـ الأولى تتوسل طريقة موضوعية، أما الثانية فتتوسل سبل التشارك والحوار، لذلك فإن أهمية الدور الذي تؤديه الفلسفة هو في تلاشي التعارض القديم بين علوم الطبيعة وعلوم الإنسان، هذا يعني أن الفلسفة هي منطق التأويل في مجال العلوم الإنسانية سعيا  لخوض غمار تجربة الحقيقة.

-8-

الفصل السادس والأخير “ترجمة مقال “بول ريكور” بعنوان “التحليل النفسي في مواجهة الإيبيستيمولوجيا”، والتعليق عليه من تحرير عبد النور بورراش، الأستاذ المساعد في قسم الفلسفة بجامعة الجزائر. صدرت مقالة “ريكور” في عدد خاص سنة 1986 من مجلة (Psychiatrie française entre théorie et pratique-fonction de la pensée) في هذا المقال ما يمكن اعتباره حدثاً في التحليل النفسي وفي نوع العلاقة التي توجد بين النظرية والتجربة التحليلية في طابعها المزدوج لمنهج البحث العلاجي، وما يمكن انتظاره من ميدان التحليل النفسي بالاستفهام عن الحجة فيه، وهو في اعتقاد محرر الفصل ومترجم المقال ما يشهد على هذا الاهتمام الذي لقيته أعمال “سيغموند فرويد” من قبل المفكرين.

لقد وضع “ريكور” ضمن أولوياته مسألة المنهج من خلال قراءة مجموع ما أنتج في العلوم الإنسانية، ببناء حوار بين المعارف ومساءلة اليقينيات الزائفة والتأسيسات الاقتصادوية لميادين معرفية. الغاية من كل ذلك تأسيس نزعة كونية منفتحة بالاعتماد على منظور منهجي ومعرفي ينطلق من حتمية التفاعل بين مختلف فروع المعرفة الإنسانية التي تشكل تحدياً كبيراً للفلسفة ومدافعاً عن أسس إيبيستيمولوجية إقليمية خاصة بكل مقاربة في العلوم الإنسانية. بالتبعية فإن هناك ضرورة قصوى لإيجاد إيبيستيمولوجيا للتحليل النفسي الذي يحمل “هيرمينوطيقا” مضادة لتأويلية موسعة ومنتشرة في قراءة الرموز. وبالنظر إلى هذا التشخيص فإن إيبيستيمولوجيا التحليل النفسي تعرف توثراً خالصاً بين قطب الدوافع والقطب التأويلي مما ينم عن ضعف إيبيستيمي لا بد من معالجته بوضع التحليل النفسي في مواجهة الإيبيستيمولوجيا.

-9-

ينتهي الكتاب بخلاصات عامة يمكن إيجازها فيما يلي:

1- هناك وحدة في عناية الفكر العربي المعاصر والفكر الغربي المعاصر بمسألة تخلف العلوم الإنسانية مقارنة بالعلوم الطبيعية.

2- تجعلنا النظرة المزدوجة بين المجالين نتصور خطاً بيانياً يبدأ من تاريخ علومنا العربية حيث كانت البداية بابن خلدون.

3- الرؤية الفكرية العربية المعاصرة بحاجة إلى أن تتمشى مع ما وصلت إليه العقلانية الغربية المعاصرة.

4- محاولات محمد عابد الجابري وسالم يفوت تبقى متوقفة على مدى أصالتهما وقربهما من العقلانية الغربية المعاصرة.

5- إن طرح الرؤى الإيبيستيمولوجية في الفكر الغربي المعاصر من خلال نماذج “كارل بوبر” و”غادامير” و”بول ريكور” هدفه أن تكون للفكر العربي المعاصر رؤية متنوعة يفرضها واقعه اعتباراً لأن البحث في العلوم الإنسانية ما انفك  يتطور ويتوسع في العالم المعاصر.

من المؤكد أن الكتاب جاء في وقت تعرف فيه العلوم الإنسانية في العالم العربي الإسلامي طفرة كبرى كمّاً وكيفاً؛ لذلك يجب الاطلاع عليها وقراءتها قراءة تأويلية متأنية، وسيبحث المهتمون بالموضوع على توسيع دائرة المقاربة لتشمل العديد مما تزخر به الساحات العربية المعاصرة من فلاسفة وباحثين وأساتذة؛ فالنماذج المنتقاة في الكتاب لا تمثل إلا حيزاً ضيقاً مما يمكن عرضه. من ناحية ثانية كان الأولى أن يعنوَن الكتاب بـ “الرؤية المغاربية المعاصرة” علما بأن ابن خلدون ليس معاصراً لنا، وهذه الملاحظات لا تقلل من أهمية الكتاب وقيمته، يكفي أننا تعرفنا إلى باحثين جادين لم تكن لدينا معرفة بهم وسيكون لهم شأن في مستقبل الدراسات الفلسفية والإيبيستيمولوجية.