احتاجت السينما العالمية وكذلك العربية-كما يرى المؤلف- إلى الانتظار سنوات عديدة قبل أن تصل إلى اليوم الذي استساغ فيه الجمهور العريض فكرة أن الأفلام تعرف بمخرجيها قبل نجومها. وقد خاض المخرجون عدة معارك ضد المنتجين والموزعين، ومرات ضد الممثلين النجوم، ليفرضوا أخيراً أن توضع أسماؤهم على ملصقات الأفلام في أماكن بارزة، وأحياناً قبل أسماء النجوم، بصفتهم المسؤولين الأول عند جودة الأفلام أو عن وجودها أصلاً.
وهذا الواقع لا يعني أن تاريخ السينما العربية هو في الدرجة الأولى تأريخ لمخرجي هذه السينما، بل يشير إلى الوضع التاريخي الحقيقي للسينمات العربية، من خلال رسم خطوط أساسية للمخرج الصانع الحقيقي للسينما، رغم أضواء نجوم الفن اللامعة. ولذا يتابع هذ الكتاب تاريخ المخرجين المبدعين من صناع المتن السينمائي العربي الذي صار يشكل التاريخ الفني للسينما العربية الذي نتطلع إلى دراسته، مع استبعاد الصناعة السينمائية ، بالمعنى التجاري والجماهيري للكلمة.

ويوضح الباحث والناقد إبراهيم العريس في مؤلفه هذا أنه في النصف الثاني من أربعينيات القرن العشرين صارت هناك سينما موازية للسينما التجارية الترفيهية السائدة، في مصر وعدد من البلدان العربية تركز أساساً على مبدعين بدؤا يرون في السينما وسيلة تعبير فنية وربما اجتماعية وإنسانية ، وولد مع هؤلاء أيضاً الموضوع السينمائي العربي، أحياناً مقتبساً ومعرباً من روايات عربية وأجنبية، وأحياناً من واقع الحياة. وهكذا صار الفن السينمائي الأكثر جدية، مشروعاً اجتماعياً . وهو ما ساد خلال الخمسينيات في السينما المصرية خاصة، ليرفد العقد الأول من عمر مصر الناصرية بسينما واقعية واخرى اجتماعية تساير الفكر الثوري في تطلعاته القومية ثم الوطنية. وانعكس ذلك في محاولات متزامنة لصنع سينما جدية في الجزائر وسورية والعراق، وكذلك من حول القضية الفلسطينية مع ارهاصات في بعض مناطق المغرب العربي لمحاكاة السينما المصرية وربما منافستها.
ثم كانت مساهمات القطاعات العامة في الدول العربية وخاصة في مصر وسورية والعراق والجزائر في النهوض بالفن السينمائي الجاد في مقابل سينما الترفيه التجارية الخالصة، فنجم عن ذلك إدخال مبدعين جدد في دائرة العمل السينمائي ، إلى أن كان الانتقال الأساسي في سنوات السبعين من السينما الاجتماعية إلى السينما الواقعية وصولاً إلى السينما الاحتجاجية الناقدة ولا سيما بعد هزائم أول الستينيات وهزيمة حزيران. وربما كان هذا الانتقال من أهم ما حدث للسينما العربية ولا سيما بعد أن تحررت السينما من قيود القطاع العام التي تكبلها لتعود مشروعاً فردياً يضم مخرجين مبدعين جدد أفادوا مما سبق من أحداث وتطورات ليكتسبوا وعياً اجتماعياً جديداً.

في ضوء ما تقدم يأتي هذا الكتاب بعد “القاموس النقدي للأفلام ليقدم نوعاً من التحليل لأعمال عدد من السينمائيين العرب الذين قدموا منذ بدايات السينما العربية مجموعة كبيرة من الأفلام، شكلت متناً سينمائيا متكاملاً يمكن ربطه” بتاريخ المخرج في السينما العربية”، بوصفه مؤلفاً وصاحب رؤية وحامل مشروع يتعامل مع “الفن السابع” كفن له سمات اجتماعية واضحة جعلت من هذا المتن السينمائي الذي امتد انتاجه نحو قرن من الزمن، فاعلية إبداعية تمارس تأثيرها الفعال في الذهنيات الاجتماعية لدى أجيال متعددة من المواطنين العرب وغير العرب أحياناً .
وبذلك لا يقدم كما من المعلومات فحسب، بل يضعنا أمام تحليل يجتهد في رسم الصلات التي قامت طوال تاريخ السينما العربية بين المخرج كمبدع فرد ذي هم اجتماعي ، والسينما كفن وفاعلية اجتماعية في آن معاً.