في ظنّي أن لا حاجة لإقامة الدليل على التحلل والتفكك والدمار الذي لحق ويلحق بمعظم – إن لم يكن جميع – المجتمعات العربية، وكذلك الهزائم التي مني بها بعضها ولا يزال يعيشها.

وبديهي أنّ درء الأخطار ووقف التحلّل الاجتماعي وتجنّب الهزائم تقتضي بداية وعياً لها، ولمسبباتها، ولمضارها، وتقتضي تقديراً دقيقاً للقوى الفاعلة والمسيّرة لها، وفهماً صحيحاً للمصالح التي تحرّك هذه القوى، ولجميع نقاط القوة والضعف لديها، أكانت هذه القوى داخليّة أم خارجية. لكنّ وعي المخاطر وفهم الدوافع والتقدير الدقيق لمخططات وأهداف القوى الفاعلة لا تكتسب أهمّية إلّا بقدر ما توظف هذه الجهود لحشد الطاقات وتنظيمها وتفعيلها بشكل دؤوب لدرء المخاطر ودفع الأضرار وتجنّب الهزائم.

فلو نظرنا إلى حال الإنسان العربي وسلوكه إزاء ما يعاني من تخلّف وتفكّك اجتماعي يتفاقم باطّراد، فضلاً عن الدمار والهزائم التي يعاني آثارها، ولو نظرنا على وجه التحديد إلى تعامل النخب العربية مع ما يجري في مجتمعاتها، لجهة وعيها لمسؤولياتها وفهمها لأهمّية الربط بين الجهد والنتيجة أقلّه لبلوغ أهمّ الأهداف وأكثرها إلحاحاً، أي النزعة الطبيعية في الإنسان للبقاء، لوجدنا صعوبة في إيجاد النعوت والعبارات الملائمة خارج أنها مجتمعات تأبي الحياة. وكأنما لعازر العربي يأبى النهوض لأنّه يعاني شهوة الموت، كما عبّر الشاعر خليل حاوي رحمه الله.

أتعمّد التركيز على النخب لأنّها مقياس الحيوية لدى الشعوب. فهي في الشعوب الحيّة من يضع قواعد السلوك الاجتماعي والسياسي ويشرحها، وهي من يراقب تقيّد الحاكم والمسؤول بهذه القواعد، وهي من عليه اكتشاف العلل التي تعانيها مجتمعاتها واقتراح العلاج الملائم لها. وهي من عليه أن يتولّى توعية الشعب لما يحيق به من أخطار فضلاً عن حشد وتنظيم وتفعيل طاقاته لدرء الأخطار، والعمل على ما فيه مصلحة عامة. فالنخب العربية مغيّبة، وإلى حدٍّ بعيدٍ بإرادتها، عن القيام بدورها الطبيعي. ويظهر هذا الغياب، أو هذه الغيبوبة، بجلاء في الظروف العصيبة التي تمرّ بها المجتمعات العربية والأدلّة على ذلك عديدة.

لا يبدي المجتمع العربي ونخبه ردود فعل طبيعيةً تجاه أكثر الأمور هولاً، كانتشار القتل والتنكيل والعودة إلى السبي والرقّ وتشويه الدين وأغلى المعتقدات، وكذلك حروب العدوان مهما بلغت من التوحش والعنف، حتّى لو طال العنف الأطفال والمرضى والشيوخ وغابت عمّا يرتكب الفاعل جميع قواعد السلوك الإنساني وما تأمر به قوانين السماء والأرض.

والغيبوبة العربية قائمة أيّاً كان الفاعل، عدوّاً خارجياً كما في حال الجرائم التي ارتكبتها وترتكبها إسرائيل بحق شعب غزّة، أو كان بقيادة عربية كالفظائع التي ترتكب بحق الشعب اليمني، أو جرائم ترتكبها منظمات إرهابية تكفيرية هجينة تدّعي التغيير والتحرير، وتستظلّ الدين مبرراً لسلوك وحشي لا يقرّه مجتمع بشري. وهو سلوك خالٍ من كل قيمة تحملها عادة الثورات وقوى التغيير كمبرّر آني للّجوء إلى العنف والخروج عن المألوف في السلوك الإنساني في الحفاظ على الحياة والكرامة البشريّة. فالثورات وقوى التغيير لها عادة أدبيّاتها وأثرها في الحياة الفكريّة والفنّية ومجالات الجمال المختلفة وتكون محور النشاط الفكري لدى النخب المثقّفة.

تعتبر المجتمعات العربية ونخبها أنّ الدين هو من مكوّناتها الثقافية الأساسيّة ومصدر أعزّ قيمها ومعتقداتها، ولكنّها تراه يُشوّه ويُسخّر لتنمية غرائز بدائية تتحدَّى العقل، وتُفعّل لتمزيق النسيج الاجتماعي فيها. وتقابل ذلك كلّه إمّا بالصمت المطبق أو بتصريحات خجولة معتبرة أنّ ما يجري لا يمثّل الإسلام على حقيقته، لكنّها تترك لأدوات التشويه والتدمير الحريّة في رسم صورة للإسلام لا يستطيع المؤرّخ وعالم الاجتماع والمراقب الموضوعي تجاهلها في تكوين قناعة عن ماهيّة الإسلام وعن نضج وحيويّة معتقديه.

ولعلّ من أكثر الأدلّة إيلاماً على غيبوبة الإنسان العربي هو موت حسّه بالجمال وبالحرص على التراث والحفاظ على الذات التاريخيّة وما هو من أهمّ مكوّنات الموروث الحضاري. فلا نراه يعير اهتماماً لتدمير المدن الأثريّة وما تضمّنته المتاحف من تحف جماليّة ولا يبدي حراكاً يدلّ على شعوره بضرورة الدفاع عن هذه الذات التاريخية، وكأنّه قد فكّ كل ارتباط له بالحسّ السليم وبالقيم والمبادئ التي هي أساس تماسك مجتمعه ومقوّمات تطوّره، فأصبح يراقب ببلادة أو حتّى يغمض عينيه عن أدوات الهدم والدمار التي تدمّر مجتمعه وتفتك بقيمه وحريّته وتراثه وكل ما يضمن استمراره أو تطوّره بين المجتمعات الحيّة.

ويبدو أنّ النخب العربية، إن على الصعيد القومي أو على الصعيد الإقليمي أو المحلّي، تأبى مجرّد التفكير بأنّ عليها أن تقوم، أو تسعى إلى، ما يمكن وصفه بأنّه عملية دفاع عن وحدة المجتمع وسلامته. فالمنتديات والمؤتمرات حاملة الخطاب القومي مثلاً، تصرّ على أنّ دورها لا يعدو كونه إطاراً لتبادل الآراء مهما تناقضت وكانت سبباً في التضليل والابتعاد عن الحلول العملية والتغلّب على الصعوبات التي يعيشها المجتمع. فأهمّية الربط بين الجهد والنتيجة لتحقيق أيّ هدف تبقى غائبة عن إدراك النخب العربية كما هي غائبة عن الثقافة السياسية للإنسان العربي على وجه العموم، ولعلّها من أهمّ سمات التخلّف في المجتمع العربي. وتبقى نشاطات النخب «المناضلة» في منأى عن أيّ تقييم جدّي لنجاحها أو فشلها في بلوغ أهدافها، هذا إذا ادّعت أن لها أهدافاً واضحة.

القدرات الفكريّة المتوافرة، والتي تبدي اهتماماً بالشأن العام قد نرى عملها في دراسات أو كتب، تظهر بين الحين والآخر، وتتناول توصيفاً دقيقاً لواقع الوطن العربي والأزمات التي تحلّ ببعض أقطاره. وقد نقرأ أو نسمع شرحاً مقنعاً لوجود أزمات ومخاطر تتهدّد المجتمع بأسره، بما فيه الكاتب أو المتحدّث، لكنّ الجهد يتوقّف عند هذا الحدّ. فتعاظم المخاطر والتهديدات، عوض أن يدفع إلى العمل الفوري على درئها، يحمل النخب العربية على توصيف وتحليل مصالح القوى الفاعلة، وتسترسل في شرح مخططاتها وتقييم مدى نجاح هذه القوى في بلوغ أهدافها، وذلك ليس بهدف وضع الخطط ورصّ الصفوف وتفعيل الطاقات لدرء هذه المخاطر وتفشيل خطط الأعداء وكل من يعمل لغير مصلحة المجتمع، في الداخل أو من الخارج، بل على العكس من ذلك، فهي تجهد في تعظيم العقبات وخلق المبررّات لتجنّب المسؤولية عن أيّ نشاط أو عمل من شأنه أن يدفع عنها الأخطار المحدقة.

ففي العلل التي ينسبها إلى قوى خارجيّة، نرى المثقّف العربي يسترسل ويبدي ما استطاع من براعة وبيان في شرح الأدلّة على دورها، ويجهد في تحليل الصراع والمصالح والخطط التي تعتمدها هذه القوى. وتتوقّف جهوده عند هذا الحدّ معتبراً أنّه حقّق من النضال ما يمكن تحقيقه وكأنّ مشيئة القوى الخارجية فينا قدر لا يمكن ردّه.

أمّا المخاطر والأضرار التي مصدرها داخلي، والتي تستغلّ ببراعة من قبل القوى الخارجيّة لتنمية وتفعيل الهويّات والانتماءات الفرعية، كالطائفية والمذهبيّة والقبليّة وسواها, مّما يضمن تفكّك النسيج الاجتماعي ويذهب بوحدة المجتمع ومناعته، ومهما كانت المخاطر والأضرار الناتجة منها، فتبقى بمنأى عن أي ّ جهد جدّي في مقاومتها والقضاء عليها. وتتوقف الجهود عند محاولة فهم أسباب ظهورها دون التطرّق إلى بذل الجهود وحشد الطاقات وتنظيم وتحفيز القدرات لتقييم مخاطرها والعمل الدؤوب على إضعافها والقضاء على مخاطرها على المجتمع.

وقوى الدمار التي تدفع إلى التفكك المجتمعي وتلحق بالمجتمعات العربية الوهن والهزائم في الزمن الذي نعيش، لم تعد في الغالب قوىً وجيوشاً خارجية تصعب أو تسهل مواجهتها أو مقاومتها، إنّما هي قوى وغرائز كامنة في الذات العربية تدفع بالمجتمع نحو التدمير الذاتي، وكأنّما العدوّ قد نجح في عمليّة تنويم مغناطيسي تام ومحكم بحيث أصبح المجتمع بلا وعي ولا إرادة ولا قدرة حتّى على مقاومة عمليّة التدمير الذاتي.

صحيح أنّ هناك قوى خارجيّة تبذل جهوداً وتنفق أموالاً طائلة في دراسة صناعة الفتن في المجتمعات العربية وتعمل على التعمّق في فهم الغرائز والدوافع وفعالية الأضاليل الإعلامية التي تحرّك الإنسان العربي، إلّا أن هذه القوى أضحت تعيش حالة دهشة وذهول لفعالية السلاح الذي اكتشفته في دفع العربي إلى التدمير الذاتي وعجزه عن إبطال فعالية هذا السلاح.

والواقع أنّ انعدام مظاهر الحيوية، لا بل الحياة، لدى العربي في وعيه للمخاطر التي تتهدّد وجوده، وسلوكه إزاء هذه المخاطر تدعو إلى الذهول. فبالنظر إلى ما نعلم من مصالح ومطامع لقوى خارجيّة، وفي مقدّمتها إسرائيل، في القضاء على القدرات العربية وإخضاعها لمشيئتها، من الطبيعي أن يكون هناك من يرغب في تفكيك الروابط وتمزيق النسيج الاجتماعي العربي والذهاب بكلّ قوّة ومناعة لديه. لكن أين الطبيعي في الانقياد الأعمى والعمل الدؤوب لتحقيق مشيئة الأعداء في دمارنا.

إزاء هذا الدمار المتفاقم، والتحلّل الاجتماعي، وحالة الإحباط والبلادة الفكرية التي يعيشها الشعب، وبخاصة النخب، في معظم – إن لم يكن جميع – المجتمعات العربية، السؤال الذي يَفرض طرحه، هو ما العمل وما الوسيلة للخروج من حالة الشلل واليأس التي ترافق حالة الدمار والفوضى الأمنية والسياسية التي يعيشها الوطن العربي؟ إن العلاج الفعّال يفترض تشخيصاً دقيقاً للعلّة وأسبابها، ومعرفة يقينية بفعالية العلاج في حالات مماثلة سابقة.

في اعتقادي أنّ مكمن العلّة وأهمّ أسباب التخلّف والتفكك الاجتماعي والهزائم، وبالتالي حالة الإحباط التي يعيشها الوطن العربي، هي جهل لقيمة أساسية غائبة عن الثقافة السياسية العربية، أي اقتناع المواطن، وبخاصة النخب العربية، بأنّ عليها يقع، وبشكل أساسي، عبء حلّ الإشكاليّات، ومواجهة التحدّيات التي تعترضها والتغلّب عليها وأن يترسّخ لديها وعي عميق لأهمّية الربط بين الجهد والنتيجة لتحقيق أي هدف تسعى إليه.

ليس باستطاعتي التشديد ما فيه الكفاية على أهمّية إدخال هذه القيمة كجزء أساسي من مادة التربية المدنية وسواها من وسائل النشر الثقافي، لتصبح في صلب الثقاقة السياسية العربية. فهي من أهمّ المعايير التي تميّز المجتمعات المتطوّرة من المجتمعات المتخلّفة.

الجهود الفاعلة على الساحة العربية تكاد تنحصر بالقوى الحاكمة التي يقتصر جهدها على ما من شأنه الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها، متوسلة في ذلك الفساد والقمع في معظم الأحيان. كذلك بمنظمات تستظلّ الدين والتي في غالبيّتها تعمل، عن وعي أو بدونه، على تفكيك الروابط الاجتماعية وذلك على الصعيد الوطني المحلّي وعلى القضاء على الخطاب والروابط القوميّة.

بينما ليس هناك نشاط فكري أو تنظيمي للنخب العربية له تأثير يذكر في الحياة العامة وبخاصة مواجهة العواصف السياسية والأمنية التي تجتاح المجتمعات العربية وتعمل على تدمير الحجر والبشر فيها. وما نقرأ ونسمع ونشاهد من عمل هذه النخب لا يعدو كونه شكوى من الأمر الواقع واسترسالاً في تضخيم طاقات القوى الفاعلة والعقبات التي تعترضها، ومؤدّى ذلك كلّه، بوعي أو بغير وعي، إيجاد المبررّات لعدم التصدّي لها. ولنتناول بعض المثلة من حقائق على الأرض.

فلو أخذنا مثالاً أمّ التحدّيات العربية، وهي مسألة احتلال إسرائيل لفلسطين وتشريد وقمع وارتكاب أبشع الجرائم بحق شعبها. أضف إلى ذلك أنّها تمكّنت من هزيمة وإذلال جيوش عربيّة للدول المحيطة بها، ولا تزال تجهد لخلق الظروف التي تمكّنها من بسط سيطرتها على معظم الشرق الأوسط، وبخاصة البلدان العربية فيه.

أنا لا أجهل القدرات الهائلة التي تتمتّع بها إسرائيل، إن على الصعيد المحلّي أو الدولي. لكنّ جميع هذه القدرات هي نتيجة الجهود واستغلال الطاقات المادية والفكرية التي كانت في حوزة أصحاب الحلم الصهيوني ومن سار في خطاهم. وقد تمكّنوا بفضل هذه الجهود من تحويل الحلم الصهيوني إلى واقع، ومن تحويل الواقع العربي إلى كابوس يتعاظم، وذلك أيضاً بفضل الخمول والجهل وعدم ثقة الإنسان العربي بنفسه وعدم وعيه لمسؤوليته في الدفاع عن حقوقه، وبشكل خاص لغياب الربط بين الجهد والنتيجة لتحقيق كلِّ هدف عن ثقافته السياسية والاجتماعية.

ولنلق نظرة إلى جهود نخب وقيادات الشعب الفلسطيني الذي كان ولا يزال مركز المعاناة والمعني بالدرجة الأولى بما فعلت إسرائيل وتفعل في فلسطين. فهل من هدف لشعب احتُلّت أرضه ويعاني التشريد والاحتلال والظلم، ولعقود طويلة، يفوق بأهمّيته إنهاء الاحتلال ورفع الظلم والمعاناة؟ وهل من باستطاعته الحديث عن خطّة معتمدة لتحرير فلسطين وعن مدى نجاحها في بلوغ أهدافها؟ يعبّر بعض الأصدقاء من الفلسطينيين عن كبتهم وغضبهم من الخيبات والفشل في تحقيق أيّ من اهداف وآمال الشعب الفلسطيني بأنّ القيادات خائنة وتتعاون مع العدوّ.

لن نذهب مذهب الشعوب الحيّة في تعاملها مع الخونة من مسؤوليها ومواطنيها، ولكن إذا أثبتت هذه القيادات فشلها في استعادة حقوق شعبها وتحقيق أمانيه، فأضعف الإيمان إبعادها عن مواقع المسؤولية. فأين هي ثمار الجهود المبذولة لتحقيق ذلك؟ وإذا كان لإسرائيل مصلحة في خلق انقسام وشلل في أوساط الشعب الفلسطيني، والأمر كذلك، بهدف إضعافه وتشتيت قدراته والذهاب بمناعته، فأين هي ثمار الجهود المبذولة أقلّه لتفشيل إسرائيل في بلوغ أهدافها.

ولنتناول التحدّي الأكبر وربّما الخطر الأعظم الذي يتهدّد المجتمعات العربية، وهو الفاعل الأساسي في تمزيق النسيج الاجتماعي فيها، ألا وهو نموّ وتفعيل الهويّات والانتماءات الطائفية والمذهبيّة. الآفة التي هي أساس تقويض مؤسسات الدولة والذهاب بوحدة المجتمع وأمنه ومناعته في وجه التحدّيات الخارجيّة. وهي في آن الطريق لتشويه الدين وانتشار جرائم الإرهاب التكفيري فضلاً عن دورها الأساسي في تذكية الحروب الأهلية. ولننظر إلى كيفية مواجهة هذه العلّة، التي انتشرت كالنار في الهشيم في السنوات الأخيرة، من قبل أحد المجتمعات العربية الأكثر معاناة منها.

ربّما كان المجتمع اللبناني هو المثال الأفضل الذي يمكن اعتماده لتقييم الحيويّة والفعاليّة المجتمعات والنخب العربية في تعاطيها مع هذه الآفة التي لا ينفكّ خطرها يتفاقم. فلبنان اعتمد منذ استقلاله نظاماً سياسياً قائماً على المحاصصة الطائفية يغذّي الانتماءات والهويات الطائفية والمذهبيّة. وقد عايش لبنان مآسي الطائفية لعقود وذاق شعبه أهوال الحروب الأهلية الطائفية المنشأ وآخرها دام خمسة عشر عاماً. ولبنان لم يعد دولة محتلّة، كما الحال بالنسبة إلى الشعب الفلسطيني، وشعبه ونخبه لا ترزح تحت حكم فردي قمعي استبدادي. وحظ أبنائه من الحصول على العلم والتخرّج من الجامعات ودور التعليم العالي يَفْضُلُ وضع وحظوظ العديد من الذين يعيشون في مجتمعات عربية أخرى. ويتمتّع اللبنانيون بحدّ لا بأس به من حرّية التعبير والتواصل الاجتماعي والسياسي وما يحلو لهم وصفه بالمناخ الديمقراطي. وبالرغم من ذلك كلّه فقد غاب عن وعي اللبنانيين، وقدراتهم الفكرية، وهممهم، ضرورة بذل الجهود اللّازمة للتخلّص من النظام الطائفي وتأثيره المدمّر. فلم يتمكّنوا من إنهاء المجازر والمآسي التي عانوها إبّان الحرب الأهلية سوى باستعادة النظام الطائفي، السبب الأساسي في حروبهم الأهلية ومآسيهم، ولكن بحلّة جديدة تضمن تفكّك المجتمع وشلّ مؤسسات الدولة، وتسلُب الوطن مناعة الوحدة والقدرة على ممارسة السيادة والاستقلال.

النخب اللبنانية تعلم جيّداً، وتشكو كثيراً من مخاطر وأضرار الطائفية. وتعلم أنّها العقبة الأساس لوحدة المجتمع، أقلّه في ما يتعلّق بالأمور والقرارات المصيرية، ولكنّها تقف عاجزة شاكية. فلبنان الآن تجتمع فيه جميع عناصر الدولة الفاشلة. مؤسساته الدستورية معطلة. السلطة التشريعية، التي هي أقرب السلطات الممثلة للإرادة الشعبية، لا تستطيع التوافق على إصدار قانون لانتخاب أعضائها، فتلجأ إلى تمديد مدّة ولايتها دون موافقة شعبية، أي مدّة استمرار شللها. وهي لا تستطيع القيام بانتخاب رأس السلطة التنفيذية. فمركز رئاسة الجمهوريّة شاغر منذ ما يزيد على أربعة عشر شهراً. ومراكز موظفين كبار في الدولة بلغوا سنّ التقاعد تبقى شاغرة أو تُمدّد مدّة خدمتهم بشكل يثير تساؤلات قانونية عدّة. ولعلّ من أخطر مظاهر التفكّك الاجتماعي والدولة الفاشلة أنّ خلافاً تافهاً على حق المرور يدفع بمواطن لأن يستمرّ في طعن مواطن آخر بمدية حتّى يلفظ أنفاسه، في ساحة من أشهر ساحات العاصمة على مرأى من جموع المشاهدين، وعلى مقربة من مقرّ للشرطة، ولا يتدخّل أحد لوقف هذه الجريمة. وتعيش بيروت الآن أزمة تراكم تلال النفايات بشوارعها، ويعلم الله متى سوف يصل اللبنانيون إلى اتفاق لحلّ مسألة النفايات في العاصمة اللبنانية.

من يا ترى يتوقّع اللبنانيون أنّ عليه القيام باختيار نظام سياسيّ بديل للنظام الطائفي الذي أثبت فشله، نظامٍ يضمن وحدة المجتمع، ومصلحته في الأمن والاستقرار، ومحاربة الفساد والتغلّب على الصعاب التي تفرزها الحياة اليومية؟ يشكو اللبنانيون، جميع اللبنانيين، وبمرارة من الأوضاع القائمة. ولكنّ شكواهم لا تولِّد أهدافاً واضحة تنتظم لتحقيقها الجهود، وتُفعِّل القدرات الوطنية، الفكرية والماديّة، لتجاوز الصعوبات والقيام بما هو مصلحة الوطن والمواطن.

تحدٍّ أخير أودّ الإشارة إليه وهو واسع الانتشار وعظيم الضرر، وربما كان وراء معظم العلل التي يشكو منها الوطن العربي، ألا وهو استشراء الفساد. فالفساد يعطّل كلّ جسم أو مؤسسة يطالُها ويحرفُها عن الهدف الذي من أجله وجدت. فإذا فسد الطعام لم يعد صالحاً للأكل، وإذا فسد القضاء ذهبت العدالة؛ وكذلك بالنسبة إلى الأمن إذ طاول الفساد المؤسسات الأمنية. والفساد يقضي على الثقة بين الحاكم والمحكوم والثقة بمؤسسات الدولة. وهناك دراسات تثبت أنّ استشراء الفساد في مجتمع ما، يقضي حتى على الثقة بين المواطنين. والفساد ينمو في المجتمعات حيث يغيب حكم القانون والمساءلة الشعبية للحاكم والمسؤول. وللاقتصاد الريعي دور هام في نمو الفساد. من هنا نرى استشراء الفساد وإساءة استعمال الثروة الوطنية في الدول الخليجية التي أساس اقتصادها النفط، والتي لا تعتمد المشاركة الشعبية في الحكم ومساءلة الحاكم والمسؤول. وهنا أودّ التوقّفَ قليلاً عند الفساد وتعطيل دور الإعلام في الوطن العربي.

يقول توماس جفرسون، أحد كبار مفكّري ومؤسسي الولايات المتحدة الأميركية، «لو خيّرت بين أن يكون لنا حكومة أو صحيفة مستقلّة، لاخترت الثانية دون تردد». ذلك أنّ الإعلام هو مركز التفاعل بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والشعب. فهو الناقل لأصحاب السلطة الرغبات والأماني والمعاناة الشعبية، وهو الرقيب والناقل للشعب ما يقوم به الحاكم والمسؤول. والإعلام هو من أهمّ مظاهر حيوية النخب في المجتمع. إذ إنّ اعتماد الصدق والمهنية في نقل المعلومة أساس في بناء المجتمع الديمقراطي، وفي تكوين الرأي العام المطّلع والواثق ممّا يكوّن من قناعات وأفكار. فلو نظرنا إلى الإعلام العربي عموماً، والإمبراطوريات الإعلامية التي تمولها بلدان الخليج على وجه التحديد، ودور هذا الإعلام في إطلاع وتثقيف المجتمعات العربية ومساعدتها في تحقيق مصالحها السياسية والأمنية والاقتصادية ومحاربة الفساد واعتماد وتطبيق قوانين تضمن حقوق الإنسان والمواطن، لتكوّنت لدينا قناعة بأنّ الإعلام في معظمه، يكاد يكون وسيلة فاعلة في عملية تعطيل بلوغ ما هو أمنيات ومصالح عربية.

فلو نظرنا إلى نشاط ومدى استقلال وسائط الإعلام والفضائيات الأوسع انتشاراً في الوطن العربي، كالجزيرة والعربية وسواهما، والمدينة بتمويلها وتوجيهها إلى دول خليجية هي أحوج الدول، ربما في الوطن، إلى الإصلاح لجهة المشاركة الشعبية في الحكم، ومراعاة حقوق الإنسان والمواطن، وانتشار حكم القانون، ومحاربة الفساد وسواها من ضرورات الحكم الرشيد. فهل باستطاعة أيّ من هذه الفضائيات ووسائط الإعلام الواسعة الانتشار والسيطرة الإعلامية مجرّد البحث في هذه المواضيع في المجتمعات والدول الممولة والراعية لها والأكثر حاجة لفاعلية عملها؟ ثم إنّ الدور الذي أدّته وتؤدّيه وسائط الإعلام هذه، في تشويه الواقع، وتزوير الحقائق، وزرع الأحقاد، وإثارة المشاعر المذهبية والطائفية، وأثر كل ذلك في ما جرى ويجري من تمزيق للنسيج الاجتماعي، والفوضى الأمنية في معظم المجتمعات العربية، يعطي فكرة واضحة عن مآثر الإعلام في ما عانى الوطن العربي ويعاني، وكيف توظف الثروة العربية لتطوير المجتمعات العربية وصيانة مصالحها. وربّما كان من أخطر الأدوار التي يقوم بها إعلام يتعمّد تشويه الواقع وتزوير الحقائق أو نشر الضبابية حولها، بالنسبة إلى ما نحن بصدده، هو أنّ المواطن المتلقّي للمعلومة لا يستطيع الاطمئنان لصحّتها، فيتردّد في بناء قناعة تدفع إلى العمل، فتنتشر ثقافة الخمول والغربة عن المجتمع، ويعيش المجتمع العربي ما يعانيه من صعاب وتحدّيات تقابل بالخمول والإحباط الذي نشهد.

يواجه العرب تحدّيات كبرى وصعوبات جمّة لا خيار لنا سوى في مواجهتها. وعلينا التعاطي معها بشكل عقلانيّ هادف، وتنظيم وحشد جميع الجهود والقدرات المتاحة، فكريّة ومادّية. وكذلك علينا تحفيز وتفعيل الخبرات العلمية والكفاءات الفنّية والعمل الدؤوب لبلوغ أهداف واضحة، تضمن مصلحة الإنسان العربي في الأمن والاستقرار والحياة الكريمة، وتساعد على الخروج من حالة الإحباط والتردّي التي تكتسح الوطن العربي. لكنّ ذلك يتطلّب تغييراً جذريّاً في النهج المتّبع. علينا الاقتناع بأنْ لا جدوى في الاستمرار بالشكوى ولوم الآخرين، والتوقّع أنّ أحداً سوانا سوف يستعيد حقّاً لنا، أو يقوم بالتغيير الملائم لمصالحنا والمحقق لأمنياتنا. وعلينا كذلك ترسيخ الثقة بأنفسنا، وأنّ فينا طاقات لو انتظمت وفعلت لغيّرت الواقع وربّما وجه التاريخ في المنطقة. ولكن علينا بالدرجة الأولى أن نعي حقيقة لا مناص منها، وهي أنّ كلّ نجاح نحققه هو نتيجة الجهود التي نبذلها في سبيل ذلك ولا خيار سوى ذلك للخروج ممّا نحن فيه.

 

قد يهمكم أيضاً  الوطن العربي ومواجهة الفقر: من الإرث الاستعماري إلى تحديات العولمة الاقتصادية

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #الفقر #الفساد # حال_الأمة #التفكك_الاجتماعي #النخب_العربية #التخلف_في_البلدان_العربية #الهزائم_العربية #وجهة_نظر

المصادر:

(*) نُشرت هذه المقالة في مجلة المستقبل العربي العدد 439 في أيلول/سبتمبر 2015.

(**) داود خير الله: أستاذ محاضر في القانون، جامعة جورجتاون.

 


داود خير الله

أستاذ محاضر في القانون، جامعة جورجتاون.

مقالات الكاتب
Avatar
بدعمكم نستمر

إدعم مركز دراسات الوحدة العربية

ينتظر المركز من أصدقائه وقرائه ومحبِّيه في هذه المرحلة الوقوف إلى جانبه من خلال طلب منشوراته وتسديد ثمنها بالعملة الصعبة نقداً، أو حتى تقديم بعض التبرعات النقدية لتعزيز قدرته على الصمود والاستمرار في مسيرته العلمية والبحثية المستقلة والموضوعية والملتزمة بقضايا الأرض والإنسان في مختلف أرجاء الوطن العربي.

إدعم المركز

Privacy Preference Center