المؤلف: إيلان بابيه
ترجمة: أدونيس سالم

مراجعة: ياسمين قعيق

الناشر: نوفل/هاشيت أنطوان، بيروت

سنة النشر: 2020

عدد الصفحات: 368

 

في سياق فضح الكيان الإسرائيلي وتعريته من خلال الكشف عن الانتهاكات بحقّ فلسطين وأهل الأرض وممارساته الشنعاء بحق الإنسانية على مرّ السنين.. ومن منطق الدليل القاطع في إدانة الكيان الغاصب، يأتي كتاب أكبر سجن على الأرض، ليغوص في مقاربة شفّافة لأهداف الصهيونية في فلسطين المحتلة والتطهير العُرقي الذي مورس بحق الفلسطينيين خلال أكثر من حقبة تاريخية.

سردية، أكبر سجن على الأرض، من توقيع المؤرّخ الإسرائيلي، إيلان بابيه، حازت – عن جدارة دقيقة – جائزة كتاب فلسطين لعام 2017. تُرجمت موخرًا من اللغة الإنكليزية إلى اللغة العربية من جانب دار نوفل – هاشيت أنطوان.

هي «سرديةٌ جديدةٌ لتاريخ الأراضي الفلسطينية المحتلة»، بامتياز، يُقدّمها مؤرّخ إسرائيلي آيل على نفسه فضح مشاريع الصهيونية وانتهاكاتها بحق فلسطين منذ ما أَطلق عليه دومًا «التطهير العرقي» الذي مورس عام 1948. يهدي الكاتب سرديته إلى «أطفال فلسطين الذين ذاقوا القتل والجرح والتعنيف لأنّهم يعيشون في أكبر سجن على الارض».

-1-

يحتوي كتاب أكبر سجن على الأرض، على تمهيد ومقدمة واثني عشر فصلًا، ضمن 357 صفحة مع قائمة للمراجع وعرض خاص للخرائط المُلحقة. توزعّت فصول «السردية» على النحو التالي:

الحرب: خيار كان ممكنًا تجنّبه. ابتداع السجن الكبير. القدس الكبرى مشروعًا تجريبيًا. الرؤية التي قدّمها آلون. مكافآت اقتصادية وعقوبات انتقامية. التطهير العرقي في حزيران/يونيو 1967. إرث حزب العمل من 1968-1977. بيروقراطية الشرّ. في الطريق نحو الانتفاضة 1977-1987. الانتفاضة الأولى 1987-1993. تمثيلية أوسلو والانتفاضة الثانية. نموذج السجن المشدّد الحراسة: قطاع غزة.

يعرض الكاتب تفاصيلَ تحوّل فلسطين إلى سجن عملاق، أُنشئ ليس بغرض الحفاظ على الاحتلال، بل استجابة عملية للمتطلبات الأيديولوجية للصهيونية، والحاجة إلى السيطرة على أكبر قدر ممكن من فلسطين التاريخية، وخلق مبدأ الأغلبية اليهودية.

هذه المتطلبات، وفق إيلان بابيه، هي التي أدّت إلى التطهير العرقي لفلسطين عام 1948، ووصلت إلى السياسة التي تشكلت في 1967 وأصبحت المغذي الأول للأعمال الإسرائيلية التي تمارس اليوم.

أهمية الكتاب، لا تكمن في تقديم سردِ تاريخٍ سياسيّ دقيقٍ لما جرى ويجري على أرض فلسطين من جانب الصهاينة فحسب، بل إنّ إيلان بابيه – وقوة دلالته – تكمن في كشفه وثائق من أرشيف «إسرائيل» ومقررات اجتماعاتها الحكومية خلال مراحل تاريخية مفصلية، فضلًا عن الاعتماد على وثائق وأرشيف منظمة الأمم المتحدة ذات الصلة، التي تُنشر للمرة الأولى في كتابه.

-2-

صحيحٌ، أنّ السردية التاريخية للكتاب تُركّز على الضفة الغربية وقطاع غزّة منذ عام 1967، إلا أنّ المنهجية التي اتبعها إيلان بابيه في دراساته، لا تُعدّ تاريخًا شاملًا للضفة والقطاع، بل يتوقّف عند لحظات حاسمة من تاريخ المنطقة. وعلى عكس السردية المألوفة، يتعامل الكاتب مع الوقائع بوصفها تعديلات على نموذج «السجن الضخم»، حيث قامت السلطات الإسرائيلية بتطبيقها على وقع تطوّر الأحداث السياسية والميدانية. ووفقًا للكاتب، إيلان بابيه، فإنّ أيًّا من الأحداث التي وقعت منذ حزيران/يونيو 1967 وحتى يومنا هذا لم ينجح في الحدّ من تصميم السلطات الإسرائيلية المشدّدة، وحبس سكان المنطقتين داخل سجن ضخم، وتجاهل أيّ ضغط دولي للحدّ من سياستها الإجرامية. نموذج «سجن»، لا تمانع السلطات الإسرائيلية إن رحل الفلسطينيون عنه إلى غير رجعة، أمّا من كان مصرًّا على البقاء في أرضه أو لم يرغب في الإنضمام إلى ملايين اللاجئين المشرّدين في الشرق الأوسط في القرن الحادي والعشرين، فخياره الوحيد هو «السجن الضخم».

الكتاب، يعدّ تأريخًا لقوى الاحتلال أكثر منه تأريخًا للشعب الخاضع للاحتلال. فهو يسعى لتفسير الآلية التي تمّ استخدامها لحكم ملايين الفلسطينيين، وليس لاستعادة مراحل حياتهم. وعلى الرغم من أنّ الفلسطينيين يظهرون في الكتاب، لكنه في الواقع سردٌ لما تعرّضوا له من قمع، أكثر منه سردًا لتطلّعاتهم، ونسيجهم الاجتماعي، ونتاجهم الثقافي، ولجوانب أخرى من حياتهم تستحق فعلًا أن يذكرها التاريخ الذي يأمل المؤرّخ بابيه أن يُكتب ذات يوم لأنّ مقاومة الفلسطينيين وصمودهم يستحقّان التأريخ وتسليط الضوء عليهما للأجيال المقبلة.

-3-

يولي كتاب أكبر سجن على الأرض، أهمية واضحة للخلفية السياسية التي سادت سنة 1967، كنتيجة للاستراتيجيات التي تبنّتها الصهيونية منذ سنة 1882، ولا سيّما في سنة 1948. الكتاب في جوهره، بمثابة مسح للفترة الممتدة من 1948 إلى 1967، كما للسياسة الإسرائيلية المنتهجة عقب تلك السنوات. إنّها قصة رغبة دائمة لاحتلال الضفة الغربية، وعلى نحو أقلّ قطاع غزة، رغبة لم تتحقق بسبب غياب الفرص الملائمة وليس من باب المماطلة الاستراتيجية. ويُركّز على السياسات الإسرائيلية التي اتُّبِعت بوصفها مراحل في مشروع استعماري مستمر، يهدف إلى تهويد فلسطين ونزع عروبتها.

يعرض الكتاب في فصوله طريقة تنفيذ القرارات المتخذة سنة 1967، ويصف كيف بدأ الأمر بترسيم الحدود الجغرافية والديمغرافية للسجن الضخم، تلته صيغة واضحة للبنية التحتية القانونية الهادفة إلى تنظيم الإدارة البيروقراطية للأراضي المحتلة. ففي مرحلة أولى، حدّدت الحكومة الإسرائيلية مواقع استيطانية لليهود ضمن أسافين دقّتها في الضفة الغربية وقطاع غزة. بعدها، اتخذت الحكومة الإسرائيلية قرارًا واضحًا بشأن النظام القضائي الذي سوف يُعتمد لإدارة شؤون السكان في الأراضي المحتلة، لكنها تركت مسألة تحديد وضعهم القانوني في مهبّ الريح. ويأتي تركيز إيلان بابيه التاريخي على نهاية حرب حزيران/يونيو 1967، ليُسلّط الضوء على عملية القضم التي مارستها «إسرائيل» لأراضي فلسطين لتبلغ، حينها، ثلاثة أضعاف المرحلة السابقة، وأضافت مليون فلسطيني إلى الثلاثمئة ألف الموجودين أساسًا في الدولة منذ 1948. ويناهز هذا العدد تقريبًا عدد الفلسطينيين الذين طردتهم «إسرائيل» من أرضهم سنة 1948، وعلى مرّ السنين ما انفكّ العدد يرتفع. ناقشت الحكومة الإسرائيلية مصير هؤلاء الفلسطينيين والأرض التي كانوا يعيشون عليها في حزيران/يونيو 1967. ونصّ القرار النهائي، حينها، الذي تمّ التوصّل إليه قبل نهاية الشهر ذاته على استثناء الضفة الغربية وقطاع غزة عمليًا من أي مفاوضات «سلام» مستقبلية ممكنة. كان الهدف اتخاذ قرار أحادي الطرف بشأن الاراضي المحتلة، والسعي إلى تأييد دولي لهذه السياسة الجديدة، أيًّا كانت. ويمثّل القرار نقطة الارتكاز التي تتمحور حولها سردية أكبر سجن على الأرض.

-4-

يُفنّد الكتاب، من صفحته الأولى وحتى صفحته الأخيرة، حركةً صهيونية تاريخيةً قامت على مبدأ «التطهير العرقي» و«الإبادة»، ويشرح كيف عملت الحركة بطرائق كثيرة في أواخر القرن التاسع عشر واستمرت في تنفيذ مخطّطها في عام 1948، وهي الآن في مرحلتها الثالثة التي بدأت في عام 1967، وفق الكاتب. وحده الزمن كفيل بإخبارنا إن كانت هذه المرحلة هي الأخيرة، إذ إنّ مقاومة الفلسطينيين وصمودهم، يقول المؤرّخ بابيه، والتأييد الذي يلقونه من المجتمعات المدنية، كلّها أمور منعت حصول ذلك حتى الآن. وبالتالي، فإنّ كتاب أكبر سجن على الأرض، هو بمثابة سجّل للمشروع الصهيوني والإسرائيلي حتى يومنا هذا، مع تركيز خاص يوليها الكاتب على المرحلة التي بدأت مع الاجتماعات الحكومية الإسرائيلية في العام 1967.

وبحسب سردية بابيه التاريخية، فإنّه في نهاية اليوم السادس من حرب حزيران/يونيو 1967، توسّعت «إسرائيل» لتبلغ ثلاثة أضعاف مساحتها الأساسية، وأضافت مليون فلسطيني إلى الثلاثمئة ألف الموجودين أساسًا في الدولة منذ 1948. يناهز هذا العدد تقريبًا عدد الفلسطينيين الذين طردتهم إسرائيل من أرضهم سنة 1948، وعلى مرّ السنين ما انفكّ العدد يرتفع. ناقشت الحكومة الإسرائيلية مصير هؤلاء الفلسطينيين والأرض التي كانوا يعيشون عليها في حزيران/يونيو 1967. ونصّ القرار النهائي الذي تمّ التوصّل اليه قبل نهاية الشهر نفسه على استثناء الضفة الغربية وقطاع غزة عمليًا من أي مفاوضات «سلام» مستقبلية ممكنة. أمّا الهدف، وفق بابيه، فكان اتخاذ قرار أحادي الطرف بشأن الأراضي المحتلة، والسعي إلى تأييد دولي لهذه السياسة الجديدة، أيًّا كانت. ويمثّل القرار نقطة الارتكاز التي تتمحور حولها سردية الكتاب.

تنتهي السردية التاريخية للكتاب، بتسليط الضوء على القرار الإسرائيلي الذي أعاد فرض «السجن المشدّد الحراسة» الثاني على الضفة الغربية وقطاع غزة في القرن الحالي. ووفقًا لاعتقاد بعض المراقبين، فإنّ نسخة جديدة من السجن المفتوح اعتُمدت في 2006، لكن فقط في الضفة الغربية، في حين أصبح قطاع غزة، في السنة نفسها، نسخة أكثر تطرّفًا من السجن المشدّد الحراسة.

-5-

يروي الكاتب ايلان بابيه، بعض تفاصيل ما جرى في إثر انتهاء حرب 1967، حيث كانت الحكومة الإسرائيلية الثالثة عشرة، تجتمع يوميًا تقريبًا للبحث المكثّف في مصير الضفة الغربية وقطاع غزة، ومستقبل الشعب الفلسطيني فيهما. ويتوقف الكتاب مطولًا عند ذكر تفاصيل المداولات وأخطر خباياها التي حصلت آنذاك، وكيف اختتم المجتمعون نقاشاتهم بسلسلة قرارات حكمت جميعها، بصورة أو بأخرى، على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة بالسجن المؤبّد داخل السجن الأكبر والأضخم في التاريخ المعاصر. فالفلسطينيون الذين يعيشون في تينك المنطقتين كانوا مسجونين بسبب جرائم لم يرتكبوها قطّ، وبسبب مخالفات لم يأتوها أو يعترفوا بها أو يحدّدوها قطّ. وفي الوقت الذي كان يُكتب فيه الكتاب، يقول إيلان بابيه، أنّه ثمّة جيل ثالث من هؤلاء السجناء يبدأون حياتهم داخل ذلك السجن الكبير.

تأرجح الجهات الإسرائيلية الرسمية بين طموحاتها المستحيلة، القومية منها والاستعمارية سنة 1967، وفق توصيف بابيه، حوّل مليون ونصف شخص إلى مجرّد سجناء في هذا السجن الضخم الذي كان ولا يزال عبارة عن نظام خبيث تمّ إرساؤه لأحقر الدوافع وأكثر. قدمت الحكومة الإسرائيلية نموذجَي السجن الضخم كليهما إلى سكّان الضفة والقطاع، ويشرح الكاتب نموذجي السجن الضخم. السجن الأول كان سجنًا «بانوبتيكونيًا» مفتوحًا، بينما كان الثاني سجنًا مشدّد الحراسة. وهكذا، إن لم يقبل الفلسطينيون الخيار الأول، وقعوا على الخيار الثاني. سمح «السجن المفتوح» بحيّز بسيط من الاستقلالية تحت السيطرة الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة، بينما سلب «السجن المشدّد الحراسة» كامل استقلالية الفلسطينيين، وأخضعهم لسياسة قاسية من العقوبات والقيود، وفي أسوأ الحالات، الإعدام.

يكشف بابيه كيف تحوّل «السجن المفتوح» إلى خطة «إسرائيل» لما يُسمّى «السلام» التي تبنّتها الولايات المتحدة الأمريكية والدول الاوروبية. ومثّلت قاعدة الجهود الدبلوماسية و«عملية السلام». وبما أنّ عملية تجميل لفظية واسعة النطاق، وفق وصف بابيه، كان لا بُدّ منها، من جانب إسرائيل والغرب، تمّ استخدام تعابير على غرار «الحكم الذاتي» و«تقرير المصير» وأخيرًا «الاستقلال» إلى حدّ الإفراط، لوصف أفضل صيغة من نموذج السجن المفتوح يمكن للإسرائيليين توفيرها للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة.

-6-

يُثير التحليل الذي يعرضه كتاب أكبر سجن على الأرض، شكوكًا ليس فقط حول إمكان انطباق المعاني والتفسيرات القانونية الدولية لمصطلح «الاحتلال» على الواقع الميداني، بل كذلك، وفي ضوء ما جرى حتى اليوم. تلك المعاني والتفسيرات، يؤكّد الكاتب، أنّها سمحت لـ«إسرائيل» بالتملّص من أي شجب أو إدانة دوليين جدّيين.

إيلان بابيه – المؤرخ الإسرائيلي – لا يستسيغ استخدام مصطلح «احتلال»، ولهذا التحفّظ سببان محدّدان، على الرغم من إقراره بأنّه مصطلح شائع جدًا للدلالة على واقع الحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي ذلك ما يدعو حقيقة إلى التأمّل الدقيق في أبعاد استخدام «المصطلحات» ومدى دقّتها.

التحفّظ الأول الذي يضعه الكاتب يكمن في أنّ استخدام مصطلح «احتلال» يوحي بوجود فصل وهمي بين «إسرائيل» والأراضي المحتلة، وهو ما يُشرعن بطريقة غير مباشرة الوجود الإسرائيلي في كل المناطق الأخرى على ما يُعرف بأرض فلسطين الخاضعة للانتداب، كما ويؤسّس للانقسام غير المقبول بين «إسرائيل الديمقراطية» والأراضي المحتلة «غير الديمقراطية».

أمّا التحفّظ الثاني، وفق الكاتب، فيتعلّق بالتداعيات السياسية والقانونية التي غالبًا ما تقترن بمصطلح «الاحتلال». فالاحتلال يُنظر إليه عادة على أنّه تدبير مؤقت لتأمين أرض عقب نزاع مسلّح أو حرب. وتكون لهذا الاحتلال بداية ونهاية، وهو يخضع لأحكام وقواعد دولية تنبع من الطابع المؤقّت لأي احتلال مفترض.

يشرح إيلان بابيه الواقع القائم في الضفة الغربية وقطاع غزة، ويُفند الاختلاف من ناحيتين جوهريتين. الناحية الأولى، والتي تنبثق من هذا الكتاب، هي أنّ هذا «الاحتلال» ليس مؤقتًا. فالسلطات التي تتشبّث بالأراضي المحتلة وتلك التي تؤيّد «المحتل»، تتقبّل أنّ واقع «الاحتلال» سيدوم لسنوات طويلة مقبلة. مع عام 1987، كان هذا الاحتلال دخل التاريخ على أنّه أطول احتلال عسكري قائم ولا يزال مستمرًا. أمّا ناحية الاختلاف الثانية عن حالات الاحتلال العسكري المعروفة، فتكمن في أنّ المحتل يمارس سيطرة كاملة على الضفة والقطاع. فهذا النوع من السيطرة المطلقة يمكن ملاحظته في الأيام الأولى من أي احتلال عسكري، لكنه لا يدوم طويلًا، إلا إذا كان الاحتلال جزءًا من عملية ممنهجة للإقصاء أو الإبادة الجماعية. لذلك، فإنّ الحدّ الذي وصلت إليه ممارسات السيطرة الكاملة على ما صار يُعرف بالأراضي المحتلة يدفعنا إلى البحث عن مصطلح لغوي أفضل، وفق بابيه. وفي ذلك وجهة نظر منطقية، تدعونا إلى مراجعة استخدام المصطلحات.

-7-

مقاربة لافتة للنظر يُجريها المؤرّخ إيلان بابيه في سرديته. المقاربة تتمحور حول الأيديولوجيا الصهيونية، ويُركّز على ركنين أساسيين من تلك الأيديولوجيا حيث ظلّ الساسة الإسرائيليون يلتزمون بهما التزامًا تامًا سنة 1967، تمامًا كما التزم بهما أسلافهم. فصراع البقاء، وفق «بابيه» بالنسبة إلى «الدولة اليهودية» يعتمد من جهة على قدرتها على التحكّم بمعظم أراضي فلسطين التاريخية، ومن جهة أخرى، على قدرتها على تقليص عدد الفلسطينيين الذين يعيشون فيها أكثر فأكثر. أمّا الواقعية السياسية بالمفهوم الصهيوني، وفق بابيه، فكان معناها التكيّف مع عدم القدرة على تحقيق هذين الهدفين بالكامل.

أُتيحت سنة 1948، الفرصة لتحقيق كلا الهدفين الصهيونيين، من التحكّم بمعظم الأراضي الفلسطينية والقدرة على تقليص عدد الفلسطينيين الذين يعيشون فيها على نحو كبير. اجتمعت عدّة ظروف، وسمحت للحركة الصهيونية بالقيام بحملة تطهير عُرقي ضدّ الفلسطينيين في حينها: القرار البريطاني بالانسحاب من فلسطين بعد ثلاثين سنة من الانتداب وتأثير «الهولوكوست» في الرأي العام الغربي وحال الفوضى العارمة في الوطن العربي وفلسطين، وأخيرًا ظهور قيادة صهيونية حازمة. بالنتيجة، يوضح بابيه، تمّ طرد نصف السكان الأصليين، تدمير نصف القرى والبلدات الفلسطينية وتحويل ثمانين في المئة من أرض فلسطين التي كانت خاضعة للانتداب إلى «دولة إسرائيل» اليهودية.

عملية سلب الأراضي شهد عليها – عن كثب – المجتمع الدولي والعالم الغربي لكنهم لم يكونوا مهتمين بالإصغاء. ويوضح المؤرخ بالقول إنّ الرسالة كانت واضحة من أوروبا وأمريكا مفادها: ما يحدث في فلسطين هو الفصل الأخير والحتمي من فصول الحرب العالمية الثانية. كان يجب الإقدام على خطوة ما تسمح لأوروبا بالتكفير عن الجرائم المرتكبة على أرضها ضدّ الشعب اليهودي. وبالتالي، ثمة حاجة إلى عملية ضخمة لتجريد الفلسطينيين من أراضيهم لتمكين الغرب من الانتقال إلى مرحلة السلام والمصالحة بعد الحرب. طبعًا، لم يكن للوضع في فلسطين أي علاقة بحركة الشعوب في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، فما حدث لم يكن حصيلة الحرب في أوروبا، بل نتيجة للاستعمار الصهيوني على أرضها الذي ابتدأ منذ نهاية القرن التاسع عشر، يؤكّد ايلان بابيه.

ما حدث، آنذاك، كان وفق بابيه هو الفصل الأخير من مشروع إنشاء دولة يهودية استيطانية مدنية، في وقت بدا أنّ المجتمع الدولي يَعُد الاستعمار أمرًا مرفوضًا ومثالًا على أيديولوجيا مؤسفة من الماضي. ولكن ذلك، لم ينطبق على فلسطين. فرسالة العالم المتنوّر، يؤكّد بابيه، كانت واضحة ولا لبس فيها، إنّ سلب الفلسطينيين ممتلكاتهم على يد الإسرائيليين والاستيلاء على معظم أرض فلسطين، كانا شرعيين ومقبولين.

-8-

يؤكد إيلان بابيه أنّه عندما سيطرت الحركة الصهيونية على 78 بالمئة من فلسطين، كان الجميع مدركًا تمامًا للامبالاة الدول سنة 1948. ولهذا كانوا مقتنعين، بأنّ المجتمع الدولي سيسمح لهم مرة جديدة بالقيام بخطوات أحادية الجانب، بعدما احتل الجيش الإسرائيلي الـ 22 بالمئة المتبقية من الأرض. ويوضح بابيه، أنّه في عام 1948، بقيت جرائم الصهيونية من دون أي محاسبة، وما من سبب لتوقّع أي توبيخ أو عقبات جدية في وجه سياسة مماثلة للتطهير العرقي في حزيران/يونيو 1967. إلا إنّه كان ثمّة فرق كبير بين 1948 و1967، ففي العام الأول اتُخذت القرارات حول مصير الفلسطينيين قبل الحرب، أمّا في العام الثاني، فتمّ اتخاذ القرارات بعد الحرب، وفق ما يخلص بابيه في مقاربته للتطهير العرقي بين 1948 و1967.

تم استبعاد فكرة التطهير العرقي على نطاق واسع، يقول بابيه، إلا أنّ الشعور السائد في قاعات اجتماعات الحكومة كان أنّ المجتمع الدولي لن يُحرّك ساكنًا ضدّ توسّع «إسرائيل» على الأرض، ليس من باب تأييد السياسة التوسعية في حدّ ذاتها، بل تعبيرًا عن غياب الإرادة لمواجهة ذلك. كان ثمّة تحذير أساسي واحد، لا يمكن أن يكون ضمّ الأراضي قانونيًا، بل أمرًا واقعًا فقط، لسببين وفق ما يؤكّد بابيه. السبب الأول، هو أنّ القانون الدولي يرى أن الضفة الغربية وقطاع غزة أراضٍ محتلة، حيث إنّ الأراضي التي احتلّتها «إسرائيل» عام 1948 هي التي اعترفت بها الأمم المتحدة كجزء من «دولة إسرائيل». والسبب الثاني، إذا كان طرد السكان غير ممكنًا، فإنّ دمجهم في الدولة اليهودية كمواطنين متساوين في الحقوق غير ممكن أيضًا، نظرًا إلى عددهم والنمو الطبيعي المحتمل، ما يمكن أن يُعرّض للخطر الأكثرية اليهودية الواضحة في «إسرائيل»، بحسب بابيه.

في الحاضر، كما في السابق، ثمّة إجماع إسرائيلي ورغبة جامحة في الاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة إلى الأبد. وهو أمر واضح وبديهي لدى القيام بأي مقاربة ممكن أن نُجريها عن الضفة والقطاع وكيفية التعاطي الصهيوني معهما بدليل القمع والاستبداد المتربّص بالضفة والحروب الشعواء المتكررة على القطاع. وفي مقابل الرغبة الجامحة الإسرائيلية في الاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة، يرى بابيه أن ثمّة إقرارًا بأمرين: من جهة، عدم الرغبة في ضمّ تلك الأراضي رسميًا، ومن جهة أخرى، عدم القدرة على طرد السكان منها بصورة جماعية. ومع ذلك، بدا الاحتفاظ بهذه الأراضي مأهولة بسكانها، أمرًا حيويًا بقدر الحاجة إلى الحفاظ على أكثرية يهودية واضحة في دولة يهودية مهما كان شكلها.

– 9 –

أخيرًا، السجن الكبير والمتوحّش الذي فكّرت «إسرائيل» في إنشائه سنة 1963، وأنجزت بناءه سنة 1967، وفق سردية «بابيه»، يبلغ عمره، اليوم، خمسين سنة. يتقدّم عمر السجن الأكبر في التاريخ في فلسطين المحتلة، وما يزال الجيل الثالث من السجناء ينتظرون من العالم أن يعترف بمعاناتهم ويدرك ما هم فيه من اضطهاد مستمر ومتواصل.

والإدراك بأنّ الاستمرار في قمعه يجعل من التعامل مع هذه الظاهرة على نحو بنّاء في المناطق الأخرى من الشرق الأوسط أمرًا مستحيلًا. فالحصانة، بحسب بابيه، التي حظيت بها سلطات الاحتلال في السنوات الخمسين الأخيرة تشجّع الآخرين، سواء كانوا أنظمة أم تيارات معارضة، على الاستهانة بالحقوق الإنسانية والمدنية في الشرق الاوسط حيث لا قيمة لها. ويخلص الكاتب إيلان بابيه إلى القول بأنّ تفكيك هذا السجن الكبير في فلسطين، سوف يبعث برسالة مختلفة، أكثر تفاؤلًا، لكل من يعيش في هذا الجزء المضطرب من العالم.