مقدمة 

يواجه العالم الكثير من التحديات في ما يتعلق بالموارد المائية في العقود الأخيرة، وأصبحت مسألة ندرة المياه من ألحّ القضايا على الساحة السياسية الدولية، بحيث اكتسبت اهتمامًا متزايدًا من دول وجهات دولية، بسبب عوامل أدت إلى تفاقم الضغوط على موارد المياه العذبة المحدودة، كتزايد معدلات النمو السكاني، وتغير المناخ، والهجرة، وأنماط الاستهلاك المتغيرة، والنزاعات الإقليمية. وقد باتت وطأة عواقب تغير المناخ شديدة بالفعل على الموارد المائية في عدد من المناطق، منها أفريقيا، وهو ما يتبين من انخفاض نسبة هطول الأمطار في مناطق مختلفة من القارة الأفريقية.

فالمياه العذبة هي أهم مورد على الإطلاق بالنسبة إلى البشرية، إذ إنها تقترن بجميع الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية التي يضطلع بها الإنسان، ويمكن أن تكون عاملًا يعزز أو يعرقل التقدم الاجتماعي والتكنولوجي، كما يمكن أن تكون سبباً للتعاون أو للنزاع. من هنا برزت الحاجة إلى تفعيل «الدبلوماسية المائية» مع احتدام الجدل حول قضايا توزيع المياه.

وفي هذا الصدد توقع تقرير للأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية سنة 2020 أن يتزايد الطلب العالمي على المياه بمعدل يبلغ زهاء 1 بالمئة سنويًا، وتزايد الطلب الصناعي والمنزلي على المياه أكثر فأكثر مقارنة بالطلب الزراعي، رغم أن الزراعة ستظل أكبر مستخدم للمياه بوجه عام، وسيتركز معظم الطلب المتزايد على المياه في البلدان ذات الاقتصادات النامية أو الناشئة.

ويضاف إلى التحديات المتعلقة بتغير المناخ ديناميات اجتماعية واقتصادية وسياسية معقدة، تؤثر في المياه على المستويين الوطني والإقليمي، وما فتئ تسييس الموارد المائية وتسليحها يمثل تحديات رئيسية تواجهها البلدان التي تشترك في مورد مائي عابر للحدود، مثل منطقة «حوض النيل»، وذلك في ظل حالة من التفاعلات الهيدروبوليتيكية (The Hydro Politics)[1] المؤثرة في علاقات دول «حوض النيل»،  إذ تحظى منطقة حوض النيل بأهمية بالغة بسبب الموارد المائية التي تزخر بها، وهي تعد بمنزلة شريان الحياة لشعوب الدول المتشاطئة على مياه نهر النيل، الذي يُعد أطول أنهار العالم، بطول يمتد لنحو 6650 كم. ويبلغ الحجم المتوسط السنوي للأمطار على حوض النيل نحو 900 مليار م3 سنويًا، يمثل السريان السطحي منه 137 مليار م3، بينما إيراد النيل لا يتجاوز 84 مليار م3، يأتي 72 مليار م3، أي 87 بالمئة من مياه النيل الأزرق الذي ينبع من بحيرة (تانا) في أثيوبيا، بينما يأتي 13 بالمئة من منطقة البحيرات العظمى أي نحو 12 مليار م3. وبالتالي فإن إيراد نهر النيل ليس هو الأغزر مائيًا من حيث تصرف المياه عند المصب مقارنة بنهر الأمازون أو نهر الكونغو. ويجري نهر النيل داخل حدود 11 دولة (تنزانيا، الكونغو الديمقراطية، بوروندي، رواندا، كينيا، أوغندا، إثيوبيا، إريتريا، جنوب السودان، السودان، ومصر). وتكمن أهمية هذا النهر في أن اقتصادات دول الحوض تعتمد عليه في الزراعة وتربية الأسماك والسياحة وتوليد الطاقة الكهربائية.

ومن أجل تحقيق عدد من الأهداف مثل تنمية المصادر المائية لحوض النيل، وضمان كفاءة إدارة المياه والاستخدام الأمثل لمواردها، وضمان تحقيق التعاون المشترك وتعزيز التكامل الاقتصادي‏، تأسست ‏«‏مبادرة حوض النيل‏» سنة 1999‏ بتنزانيا‏، هادفة إلى تدعيم أواصر التعاون الإقليمي بين دول حوض النيل. لكن بالرغم من هذه المبادرة لا يوجد حتى الآن اتفاقية شاملة بين دول حول حوض النيل تنظم استخدام مياهه، بل فقط اتفاقيات غلب عليها الطابع الثنائي، وبخاصة اتفاقية تقاسم مياه النيل سنة 1959 بين السودان ومصر، التي جاءت مكملة لاتفاقية أبرمتها بريطانيا – بصفتها الاستعمارية – نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا وتنزانيا وكينيا) مع الحكومة المصرية سنة 1929.

تنص اتفاقية 1959 على أحقية مصر والسودان في نسبة تعادل 90 بالمئة من مياه النيل الأزرق والنيل الأبيض، إضافة إلى حق النقض «الفيتو» بالنسبة إلى بناء مشروعات عليهما. وهو ما أدى إلى بروز انقسامات وصراعات مائية ثنائية تارة وجماعية تارة أخرى. وتمركز النزاع في حوض النيل بين دول المنبع وبين دولة الممر (السودان) ودولة المصب (مصر)، وبخاصة بين إثيوبيا من جهة ومصر من جهة أخرى حول تقاسم مياه النيل.

فمنذ بداية الألفية الجديدة، تضاعف نشاط الدبلوماسية الإثيوبية المائية، منادية باعتماد اتفاق جديد يتعلق بتقسيم المياه وتنظيم استخدامها، وقد تبع ذلك النشاط الكثير من الاجتماعات لوزراء مياه دول حوض النيل، وجميعها فشلت نتيجة تمسك مصر والسودان باتفاقية 1959.

وفي خضم ذلك لجأت دول الحوض بقيادة إثيوبيا إلى الانفراد بإبرام «اتفاق إطاري للتعاون في حوض نهر النيل» بمدينة عنتيبي (أوغندا) سنة 2010 (Agreement on the Nile River Basin Cooperative Framework)، لتنظيم مسألة الانتفاع المنصف والمعقول للموارد المائية. وتركزت الخلافات بين دول حوض النيل على ثلاثة بنود رئيسة أصرت مصر والسودان على تضمينها في الاتفاقية، وهي: الاعتراف بحقوق مصر والسودان في استخدامات مياه النهر وفقاً للمعاهدات السابقة المنظمة لها؛ وضرورة الإخطار المسبق بأي مشاريع تُقام على مجرى النهر وفروعه قد تؤثر في تدفق مياهه، وأخيرًا التزام كل دول حوض النيل باحترام قاعدة التصويت بالإجماع عند النظر في تعديل أي من البنود الأساسية للاتفاقية التي تمسّ مصالح دول الحوض وأمنها المائي،‏ أما البنود الأخرى الأقل أهمية فيمكن التصويت عليها وفق قاعدة الأغلبية على أن تكون دولتا المصبّ (مصر والسودان) ضمن هذه الأغلبية.

وكانت دول المنبع قد عارضت الحصول أولًا على إذن من مصر قبل استخدام مياه نهر النيل في أي مشروع تنموي مثل الري أو إنشاء السدود، ووقعت اتفاقية «عنتيبي» في أيار/مايو 2010، وهي إثيوبيا وأوغندا ورواندا وتنزانيا وكينيا، ثم بوروندي في شباط/فبراير 2011، ليتسنى للاتفاقية أن تدخل حيز التنفيذ حسب ما نصت عليه المادة 42 من الاتفاقية.

وكرد فعل، جمدت مصر مشاركتها في الأنشطة والاجتماعات المرتبطة بمبادرة حوض النيل بعد توقيع اتفاقية «عنتيبي»، وتسبب ذلك في امتناع البنك الدولي – الداعم الرئيسي للمبادرة – وبقية المانحين عن تمويل برامج التعاون في مبادرة حوض النيل، نتيجة وجود خلافات بين الدول. وبعد غياب دام لسنوات، عادت مصر لحضور اجتماعات المبادرة سنة 2015.

وتأسيسًا على ما تقدم، يهدف هذا البحث إلى إبراز قضية الأمن المائي الذي يكتسي أهمية كبيرة بالنسبة إلى جميع دول العالم، كون الماء مادة حيوية واستراتيجية لأمن البلدان والمجتمعات، وبخاصة مع تزايد الطلب على هذا المورد من أجل تحقيق التنمية والأمن الغذائي وتوفير الطاقة، وهو ما جعل منه عاملًا للتنافس الدولي، ولا سيما في منطقة حوض النيل، كما يهدف البحث إلى عرض القواعد القانونية التي تحكم استخدام الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية والاتفاقيات الخاصة بتنظيم استغلال مياه النيل، إضافة إلى تسليط الضوء على الأسباب الحقيقية لمشكلة المياه حوض النيل ومسار تطورات أزمة سد النهضة الإثيوبي، وإبراز نقاط الخلاف الأساسية حوله.

يستمد هذا الموضوع أهميته كونه ذا أبعاد إقليمية ودولية لها علاقة بالمساس بالأمن القومي المائي لدول حوض نهر النيل. ولعل ما يؤكد هذه الأهمية هو الخلافات والنزاعات القائمة بين بعض الدول النيلية حول قضايا الانتفاع المشترك، والتقاسم العادل والمنصف لمياه النيل، ومن بين أبرز النزاعات المائية بين الدول النيلية النزاع الإثيوبي – المصري، بحيث لا تخفي أغلب دول المنبع رفضها للاتفاقيات السابقة المنظمة لعملية تقاسم المياه، والمتمثلة أساسًا بالمعاهدات والاتفاقيات الموروثة منذ حقبة الاستعمار، فضلًا عن عدم وجود اتفاقية تنظم العلاقات المائية تشمل جميع دول نهر النيل فيما بينها. فالحكومة المصرية ترفع مبدأ «الحقوق التاريخية المكتسبة»، وتستند إلى اتفاقها مع السودان عام 1959، في حين ترفع إثيوبيا مبدأ الحق في التنمية، وترفض أن تلزمها أي معاهدات ترى فيها تعطيلًا لهذا الحق. كما أن ما زاد من حدة النزاع المائي بين إثيوبيا ومصر هو التدخل غير المباشر لبعض القوى الإقليمية والدولية في مسألة المياه بمنطقة حوض النيل.

على هذا الأساس يطرح موضوع الأزمة المائية بين إثيوبيا ومصر سؤالًا محوريًا، هو: ما مدى تداعيات بناء سد النهضة على الأمن المائي في إثيوبيا ومصر؟ ثم تتفرع من هذا السؤال مجموعة تساؤلات فرعية هي:

– ما المبادئ القانونية التي تحكم استخدام الأنهار الدولية؟

– ما طبيعة النزاع المائي في منطقة حوض النيل، وما أهم الاتفاقيات التي تنظم نهر النيل ؟

– ما نقاط الخلاف الأساسية بين إثيوبيا ومصر؟

– ما الخيارات الممكنة لحل الأزمة؟

وبالنظر إلى طبيعة الموضوع استدعى الأمر الاستعانة بمجموعة من المناهج وهي كالآتي:

المنهج التاريخي: لدراسة مشكلة المياه في حوض النيل عبر التاريخ، وذلك بالرجوع إلى أسباب الأزمة المائية بين إثيوبيا ومصر، فضلًا عن التطرق إلى الاتفاقيات السابقة بين دول حوض النيل.

المنهج الوصفي: من خلال جمع لمجموعة من المعلومات والحقائق وتحليلها، وإبراز تأثير الأمن المائي على العلاقات بين الدول النيلية.

دراسة الحالة: تم الاستناد أيضًا إلى إحدى الأدوات الفرعية للمنهج الوصفي وهو دراسة الحالة من خلال جمع البيانات المتعلقة بالتفاعل الدولي مع النزاع المائي بين مصر وإثيوبيا.

وسعيًا لإيجاد الإجابات المناسبة، ستسلط هذه الورقة الضوء في المبحث الأول على الإطار القانوني في شأن الانتفاع بمياه الأنهار الدولي، حيث تم التركيز على القواعد القانونية التي تحكم استخدام الأنهار الدولية في الأغراض غير الملاحية، والاتفاقيات الخاصة بتنظيم استغلال مياه النيل، في حين سيتطرق المحور الثاني إلى إبراز الوضع المائي لدول حوض النيل، والخلاف القائم حول سد النهضة بين مصر وإثيوبيا، ومستقبل الأمن المائي في حوض النيل والخيارات الممكنة لحل أزمة سد النهضة.

أولًا: الإطار القانوني في شأن الانتفاع بمياه الأنهار الدولية

تقدر المساحة التي تغطيها أحواض الأنهار الدولية بنصف مساحة يابسة الأرض، وهي تؤمن 60 بالمئة من مخزون المياه العذبة في العالم، ويعيش حولها 40 بالمئة تقريبًا من مجموع سكان العالم. وفي ظل تزايد الطلب على الموارد المائية كان من الضروري الاستعانة بصكوك قانونية دولية، لتوضيح القواعد والحقوق والواجبات المتصلة باستخدام الأنهار الدولية لأغراض الملاحة، ففي حالات النزاع، تحتكم البلدان التي تشترك في مورد مائي للاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف والإقليمية، أو إلى المعاهدات والاتفاقيات الدولية لحل النزاع على توزيع المياه وإدارتها، لكن يعيب الاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف القائمة أنها اتفاقيات غير شاملة، كما هو الشأن في منطقة حوض النيل، بمعنى أنها لا تشمل مصالح جميع الدول المتشاطئة. وتتخذ دول المنبع من عدم وجود معاهدات شاملة حجة لإيلاء اهتمام كبير لقضايا السيادة على الأراضي واستخدام الموارد المائية لخدمة مصالحها، إذ غالبًا ما يتكون لديها تصور بأنها تتمتع بسلطة تخولها التحكم بهذه الموارد[2].

1 – القواعد القانونية التي تحكم استخدام المجاري المائية الدولية

عقد في السابق عدد من الاتفاقيات والمؤتمرات الدولية اهتمت بتنظيم استخدام الأنهار الدولية في مجال الملاحة، مثل مؤتمر فيينا سنة 1815، واتفاقية برشلونة عام 1921، التي غيرت من مصطلح الأنهار الدولية واستبدلتها بمصطلح المجاري المائية الدولية، إذ وسعت اتفاقية برشلونة من مفهوم النهر الدولي، وأصبح النهر الدولي أي نهر داخلي يمكن لموقعه الجغرافي أن يؤهله ليصبح نهرًا دوليًا، وبذلك وسعت هذه الاتفاقية مفهوم حرية الملاحة في الأنهار الدولية، لكن هذه الاتفاقيات لم تشر إلى الاستخدامات غير الملاحية، بل نظمت حرية الملاحة في هذه الأنهار فقط. وقد شكلت قواعد هلسنكي الخاصة باستخدامات مياه الأنهار الدولية، التي أقرتها جمعية القانون الدولي في المؤتمر الثاني والخمسين لعام 1966 أول وثيقة شاملة تُعنى باستخدامات الأنهار الدولية. ومع أن هذه القواعد غير ملزمة، إلا أنها كانت الأساس الذي انطلقت منه عملية إعداد اتفاقية 1997.

وبعد انتظار دام سنوات متعددة، أصبحت للمجاري المائية الدولية ذات الأغراض غير الملاحية اتفاقية تحكم استخداماتها وحمايتها وإدارتها، بعد المجهودات الكبيرة التي بذلتها لجان القانون الدولي على مدى 27 عامًا (1970 – 1997)، حيث اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 21 أيار/مايو 1997 الاتفاقية الدولية لاستخدام المجاري المائية الدولية ذات الأغراض غير الملاحية. وانتفت بذلك عنها صفة أنها المورد الطبيعي الرئيسي الوحيد الذي لا تحكمه اتفاقية دولية، وقد اكتمل في 19 أيار/مايو 2014 العدد المطلوب من وثائق التصديق والقبول والموافقة على الاتفاقية والبالغ خمسة وثلاثين. وقد جاءت هذه الاتفاقية بموافقة 104 أصوات، واعتراض ثلاث دول هي الصين وتركيا وبوروندي، وامتناع 27 دولة عن التصويت من بينها مصر وإثيوبيا، وما زال الباب مفتوحًا لتوقيعها من جانب دول العالم.

وكما تمت الإشارة، فإن مسلسل اعتماد هذه الاتفاقية يعود إلى سبعينيات القرن الماضي، بالضبط في كانون الأول/ديسمبر 1970، بحيث اعتمدت الجمعية العامة القرار 2669 (د – 25)، تحت عنوان «التطوير التدريجي لقواعد القانون الدولي المتعلقة بالمجاري المائية الدولية وتدوينها». وفي ذلك القرار، أوصت الجمعية العامة لجنة القانون الدولي بأن تقوم «بدراسة قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية بغية تطويره تدريجيًا وتدوينه». وفي الحقيقة، أظهرت الجمعية العامة أنها أدركت أهمية هذا الميدان قبل أكثر من 10 أعوام، عندما اعتمدت القرار 1401 (د – 14) في تشرين الثاني/نوفمبر 1959، إذ أشارت في ذلك القرار إلى أن «من المرغوب فيه الشروع في إجراء دراسات تمهيدية عن المشاكل القانونية المتعلقة باستخدام الأنهار الدولية والانتفاع بها، لمعرفة مدى ملائمة هذا الموضوع للتدوين»[3].

وتعدّ اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 في شأن قانون استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية هي المعاهدة الوحيدة التي تغطي المياه العذبة المشتركة. وهي اتفاقية إطارية، أي توفر إطاراً للمبادئ والقواعد التي يمكن أن تطبق وتعدّل لتلائم السمات المميزة للمجاري المائية الدولية المعنية. وعلى الرغم من أن اتفاقية 1997 لم تدخل حيز التنفيذ إلا في سنة 2014 فإن أهميتهما أكدتها محكمة العدل الدولية عام 1997، بعد أشهر فقط من تاريخ إجازتها. عندما طلب أول مرة في التاريخ من محكمة العدل الدولية حل نزاع بين دولتَي هنغاريا وتشيكوسلوفاكيا حول مجرى مائي دولي وهو نهر الدانوب

تكتسب هذه الاتفاقية أهمية خاصة كونها كرست في موادها معظم القواعد القانونية الدولية والعرفية في مجال تنظيم استخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، وترد الأحكام الرئيسية في الأبواب الأول والثاني والثالث والرابع. فالباب الأول يتضمن تعريف مصطلح «مجرى مائي دولي»، الذي من الواضح أن له أهمية محورية. ويعرف مصطلح «مجرى مائي» في المادة 2 تعريفاً عاماً بوصفه «شبكة المياه السطحية والمياه الجوفية التي تؤلِّف، بحكم علاقتها الطبيعية بعضها ببعض، كلاً واحداً وتتدفق عادة صوب نقطة وصول مشتركة». وبعد ذلك، يعرف المصطلح «مجرى مائي دولي» بأنه «أي مجرى مائي تقع أجزاؤه في دول مختلفة».

إضافة إلى هذه الاتفاقية، تقدم اتفاقية حماية واستخدام المجاري المائية العابرة للحدود والبحيرات الدولية لعام 1992 إطار عمل أكثر تحديدًا في هذا المجال، وقد بدأت بوصفها اتفاقية إقليمية للدول الأعضاء في لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأوروبا (اللجنة الاقتصادية لأوروبا)، واعتمدت الاتفاقية في هلسنكي، بفنلندا في عام 1992 وأصبحت نافذة في عام 1996، وفي عام 2003، وافقت الأطراف في الاتفاقية على تعديل المعاهدة لتمكين أي دولة عضو في الأمم المتحدة من الانضمام إلى هذا الصك، وفي عام 2016، أصبحت الاتفاقية إطارًا قانونيًا رسميًا لجميع الدول الأعضاء للتعاون في شأن المياه العابرة للحدود[4].

تكمــل الاتفاقيتان المعاهــدات الحاليــة المختصــة بالأحــواض وتهـدف إلـى التشـجيع علـى إدخـال التغييـرات التنظيميـة الضروريـة علـى أنظمـة هـذه المعاهـدات، إضافـة إلـى سـد الفجـوات حيـث لا توجــد معاهــدات محــددة. كما أن الاتفاقيتين تقدمــان إلى الدول المتشــاطئة المعاييــر الأساســية للتشــارك فــي المجــرى المائــي علــى نحــو عـادل ومنصـف، وفـي الوقـت نفسه، تشـددان علـى واجـب هـذه الـدول بالامتنـاع عـن إحـداث أي ضـرر جسـيم، وعليهـا واجـب التعـاون عبـر تبـادل المعلومـات وحمايـة النظـم الإيكولوجية وتسـوية النزاعـات ســلميًا وإدارة مشــتركة للمــوارد المائيــة بيــن الــدول المتشــاطئة[5].

رغم الجهود الدولية فإن المعاهــدات الرئيســة المتعــددة الأطــراف اقتصــرت علــى عــدد ضئيــل فقـط مـن الـدول الأطراف: هنـاك 36 دولـة طرفًـا باتفاقيـة الأمم المتحــدة حــول المجــاري المائيــة 1997 (من بينها المغرب «تاريخ المصادقة 3 نيسان/أبريل2011»)، فــي حيــن يصــل عــدد الــدول الأطراف فـي الاتفاقية حـول حمايـة واسـتخدام المجـاري المائيـة العابـرة للحـدود والبحيـرات الدوليـة اتفاقيـة الميـاه لعـام 1992 إلـى 41 دولـة[6].

وتوضـح المبـادئ والقواعد القانونية التاليـة الطبيعـة الخاصـة بالقانـون الدولـي للميـاه:

أ – السيادة المطلقة

بمعنى أن للدولة حق التصرف بحرية كاملة في مياه النهر بإقليمها، حتى لو أدى ذلك إلى منع تدفق مياه النهر إلى الدول التي تقع بعدها أو تقليل الكمية، أو غير ذلك من الأضرار من دون النظر إلى حقوق الدول الأخرى. فالبلدان الواقعة عند منبع الموارد المائية المشتركة تؤيد عادةً مبدأ السيادة الذي يعطيها هامشاً أكبر من السيطرة على هذه الموارد[7]. ومع أن هذا المبدأ ينسجم مع ميثاق الأمم المتحدة، فالموارد المائية متحركة بعكس الحدود البرية الثابتة، وتوزع منافعها عبر الحدود، لذلك فالسيادة عليها تبقى محدودة. ومن الطبيعي أن تعارض الدول الواقعة في أسفل المجرى إدراج مبدأ السيادة في الصكوك القانونية[8].

ب – مبدأ الاستخدام المنصف والمعقول

يرتكز هذا المبدأ على مفهومي التسوية والإنصاف، وفي غياب تعريف واضح للإنصاف، تعتمد بلدان كثيرة تعريفاً يخدم أهدافها. فقد ترى دولة واقعة عند المنبع مثلاً أنه من الإنصاف تغيير مجرى المياه، في حين تعترض الدول الواقعة باتجاه المصب على هذه الخطوة لأنها غير منصفة بالنسبة إليها. والتوزيع العادل لا يعني المساواة في الحصص. ووفقاً لمبدأ الاستخدام العادل والمعقول للموارد المائية المشتركة، لكل دولة متشاطئة الحق في الانتفاع من حصة معقولة وعادلة من المياه. ولتسهيل هذه العملية، وضعت المادة 6 من اتفاقية 1997 عوامل ذات الصلة بالانتفاع المنصف والمعقول تحدد توزيع الموارد المائية[9].

ج – الالتزام بعدم التسبب بضرر ذي شأن

يعدّ مبدأ الالتزام بعدم التسبب بضرر ذي شأن من المبادئ العامة للقانون الدولي، وترتكز عليه مجموعة من المعاهدات والإعلانات والصكوك القانونية الدولية، وفي إطار إدارة الموارد المائية، يُقصد بالضرر عادةً الضرر الذي قد يؤدي الاستغلال المفرط للموارد المائية المشتركة أو تحويل مياه نهر مشترك إلى إلحاق ضرر جسيم بأراضي دولة أخرى. وبمقتضى المادة 7 من اتفاقية 1997 تتخذ دول المجرى المائي، عند الانتفاع بمجرى مائي دولي داخل أراضيها، كل التدابير المناسبة للحؤول دون التسبب في ضرر ذي شأن لدول المجرى المائي الأخرى.

دمبدأ التعاون

تناولت اتفاقية المجاري المائية مبدأ التعاون كمبدأ قائم بذاته، وترى أن التعاون بين البلدان المتشاطئة يقوم على المساواة المرتكزة على السيادة ووحدة الأراضي وحسن النية والمنفعة المشتركة التي تهدف جميعها إلى الاستخدام الأمثل للموارد المائية المشتركة، وإلى حمايتها وتشجع الاتفاقية على وضع آليات إدارية مشتركة، وتقضي بتبادل البيانات والمعلومات وبإرسال إشعارات مسبقة بالتدابير المقرر اتخاذها[10]، وهي مسائل تتطلب ترتيبات ملائمة على المستوى الوطني، والمزيد من التنسيق على المستوى الثنائي والمتعدد الأطراف وعلى مستوى الحوض. وهذه الخصائص التي تتسم بها الاتفاقية تشير إلى طابعها التعاوني، وهو أمر متوقع نتيجة للبحث الذي خضعت له هذه الاتفاقية بهدف إرضاء الجميع خلال عملية إعدادها المطولة.

هـالمصالح المشتركة

يقضي مبدأ المصالح المشتركة باستخدام المياه المشتركة في حوض النهر كوحدة متكاملة، وتحقيق الفوائد القصوى الممكنة من استخدامها، وتوزيع هذه الفوائد على جميع البلدان المتشاطئة. وهكذا، يذهب مبدأ المصالح المشتركة أبعد من مبدأ الاستخدام المعقول والعادل، إذ يشجع تحقيق أعلى مستوى ممكن من الكفاءة الاقتصادية والاستخدام الأمثل للموارد المائية المشتركة حتى ولو كان ذلك على حساب التوزيع العادل للفوائد بين الدول المعنية. ومع أن نظرية المصلحة المشتركة تُعَد النظرية الأكثر كفاءة في إدارة موارد المياه المشتركة، فتطبيقها يواجه الكثير من العوائق المتصلة بالمعايير التي ينبغي اعتمادها في توزيع المكاسب، أو بالسيادة والأمن القومي. وقد تحول هذه العوائق دون تنفيذها، ولا سيما في ظل ضعف الثقة المتبادلة بين البلدان المتشاطئة[11].

ومبدأ الإخطار المسبق

بمعنى أن الدول المشاطئة لنهر دولي ما عندما تعتزم القيام بمشروع قد يسبب ضررًا لدولة مشاطئة أخرى، فإنه يتعين عليها أن تقوم بإخطار تلك الدولة الأخرى، التي قد تتأثر بالمشروع بالمعلومات والبيانات العلمية والهندسية والفنية والبيئية المتعلقة بذلك المشروع، وأن تمنحها مدة زمنية مناسبة لدراسة المشروع، وإبداء ملاحظاتها واعتراضاتها إن وجدت، مع التزام الدولة المستفيدة بدفع التعويضات اللازمة[12]. وما يؤكد أهمية شرط الإخطار المسبق وعدم التسبب في ضرر ذي شأن في مسألة المجاري المائية والأنهار الدولية، اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 المتعلقة باستخدام المجاري المائية الدولية في الأغراض غير الملاحية، والتي ذهبت بعيدًا في تناول شرط الإخطار المسبق وشرحه بصورة موسعة، من حيث المفهوم والشروط والتوقيت والإجراءات اللازمة عند قيام أي دولة نهرية بمشروع على الحوض، حيث أكدت «التزام جميع الدول النهرية بالإعلان عن التدابير التي يمكن أن تؤثر على حالة المجرى المائي»[13].

يستخلص مما سبق سعي المجتمع الدولي لتبني الحلول التي تعمل على التقليل من أثر الصراعات حول المياه الدولية، وذلك بإبرامه لهذه الوثائق والاتفاقيات تفاديا للنزاعات المائية التي قد تنشأ مستقبلا، والتشجيع على التعاون الثنائي والجماعي بين الدول التي يجمعها مورد مائي مشترك.

2 – الاتفاقيات الخاصة بتنظيم استغلال مياه النيل

شهدت دول حوض النيل أثناء حقبة الاحتلال الأجنبي عقد عدد من الاتفاقيات المتعلقة بتنظيم استخدام مياه نهر النيل، وبعد حقبة الاستقلال، قامت الدول المستقلة إما باستكمال تنظيم استخدام مياه النهر، طبقاً للاتفاقيات الموقعة خلال الحقبة السابقة على استقلالها، وإما بتوقيع اتفاقيات بعد استقلالها مع باقي دول الحوض، لتحقيق أفضل استفادة ممكنة من النهر، أو بغرض إقامة منشآت مائية عليه‏[14].

وفي ما يلي أهم الاتفاقيات التاريخية في حوض النيل:

أ – بروتوكول روما

أُبرم هذا البوتوكول بين بريطانيا ممثِّلة مصرَ والسودان، وإيطاليا عام 1891، من أجل تحديد مناطق النفوذ لكل منهما في شرق أفريقيا، حيث جاء في المادة الثالثة من البروتوكول أن «تتعهد الحكومة الايطالية بألّا تقيم على نهر عطبرة[15] أي مشروعات للري يكون من شأنها أن تؤثر تأثيرًا محسوسًا في كمية مياه النهر التي تصب في نهر النيل»، كما يقضي البروتوكول بضرورة التفاوض والتشاور بين الدولتين قبل القيم بمشروعات استغلال النهر[16].

ب – اتفاقية 1902

أبرمت الاتفاقية بين بريطانيا وإثيوبيا بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا بين بريطانيا والإمبراطورية الإثيوبية، قصد ترسيم الحدود بين السودان وإثيوبيا، وقد تطرقت الاتفاقية إلى مسألة مياه النيل.

ج – اتفاقية 1906

أبرمت هذه الاتفاقية بين بريطانيا والكونغو بالعاصمة لندن، حيث تعهدت الكونغو بألا تقيم أي أشغال على نهر «السمليكي» أو نهر «أوسانجو» أو بجوار أي منهما. وحظرت الاتفاقية إقامة أي مشاريع من شأنها أن تمس بحجم المياه المتدفقة إلى بحيرة ألبرت، وبالتالي يؤثر سلبًا في الإيرادات المائية لكل من مصر والسودان.

د – اتفاقية 1929

عقدت هذه الاتفاقية بين مصر وبريطانيا ممثِّلة كلًا من السودان وأوغندا وكينيا وتنزانيا في شأن استخدام مياه النيل، وأكدت الاتفاقية وجوب مراعاة حاجة السودان من مياه النيل، في ما تعلق بلزوم التوسع الزراعي فيه، بما لا يؤثر في حاجة الزراعة والحياة في مصر، وكذا ضرورة التنسيق الفني في مسائل الري بين مصر والسودان، فضلًا عن تأكيدها حقوق مصر في مياه النيل.

هـ – اتفاقية الانتفاع الكامل بمياه النيل لسنة 1959

أبرمت هذه الاتفاقية بين مصر والسودان عام 1959، فبعد استقلال السودان قدم اعتراضه على اتفاقية 1929 بحجة أنه اتفاق سياسي، لذلك باشرت مصر والسودان المفاوضات إلى غاية توقيع الاتفاق في شأن الانتفاع الكامل بمياه النيل في تشرين الثاني/نوفمبر 1959، بهدف تنظيم استغلال مياه النيل، واستغلالها الأمثل وفقًا لقواعد القانون الدولي للأنهار، واستغلال المياه الناتجة من إقامة السد العالي في أسوان، وخزان الروصيرص في السودان.

وتكتسب اتفاقيتا عام 1929 بين مصر وبريطانيا، وعام 1959 بين مصر والسودان، أهمية خاصة، فقد ألزمت اتفاقية عام 1929 دول منابع النيل عدم القيام بأي مشاريع مياه على مجرى النهر من دون موافقة مصر، ومنحت مصر حق النقض «الفيتو» على أي مشروع من شأنه التأثير على منسوب مياه النيل التي تصل إلى مصر، بوصفها دولة المصب. أما اتفاقية عام 1959 فقد حددت حصة مصر من المياه بـ 55.5 مليار م3 سنوياً، وحصة السودان بـ 18.5 مليار م3.

وانطلاقاً من أهمية هذه الاتفاقيات كونها تضمن حصة محددة لمصر والسودان من مياه النيل، تصر الحكومتان المصرية والسودانية على ضرورة تضمين بنود هذه الاتفاقيات في أي اتفاقية جديدة تنظم استخدامات مياه النهر. غير أن هذا التوجُّه تقابله معظم دول المنبع بالرفض والتحفظ، ولا سيما إثيوبيا، على أساس أن هذه الاتفاقيات تم توقيعها في عهد الاحتلال الأجنبي ولا تمثل إرادة شعوبها، وأنها لم تراع حاجات دول المنبع.

و – اتفاقية عنتيبي سنة 2010 [17]

وقعت هذه الاتفاقية دول حوض النيل بينما اعترضت عليها مصر والسودان، لأنها تنهي ما يسمى الحصص التاريخية لهما في مياه النيل. وقد سعت اتفاقية عنتيبي إلى السماح ببناء السدود على نهر النيل، وإلغاء اتفاقيتي 1929 و1959. وبسبب هذه الاتفاقية جمدت مصر أنشطتها في مبادرة دول حوض النيل[18].

وفي ما يتعلق باتفاقية 1997 فقد اتخذت الدول المتشاطئة لنهر النيل مواقف متباينة أثناء عرض مشروع الاتفاقية، بحيث صوتت السودان وكينيا لمصلحة المشروع، وصوتت بوروندي ضد المشروع وامتنعت كل من مصر ورواندا وإثيوبيا عن التصويت، بينما لم تشارك إريتريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا في التصويت بسبب الغياب، وذهب مندوب إثيوبيا إلى أن المشروع لا يحقق التوازن المطلوب، وبخاصة في ما يتعلق بحماية مصالح دول أعالي المجاري المائية الدولية مثل إثيوبيا. ولغاية الآن لم توقع مصر وأثيوبيا الاتفاقية.

ثانيًا: الوضع المائي لدول حوض النيل

يعَد حوض النيل من أكبر الأحواض في العالم بمساحة تقدر بـ 3 ملايين كم2، وبالنظر إلى النظام الإقليمي لحوض النيل، يلاحظ أن النمو الديمغرافي وموجات الجفاف، التي تتعرض لها مناطق واسعة داخل دول حوض النيل منذ سنوات قد أدت إلى التنافس على مياه النهر، وباتت مسألة تقاسم المياه المشتركة أحد أهم أسباب الصراع بين دول الحوض، لذلك أفرز الوضع المائي في حوض النيل نمط من التفاعل والصراع المائي، وبخاصة بين دول المنبع ومصر والسودان.

تتمسك دول المنبع بعامة بحقها السيادي في استخدام المياه على أراضيها لأغراض إنمائية، أما دولة المصب (مصر) فتشدد على مفهوم التكامل الإقليمي المطلق لحماية حقوقها، ومع ما تشهده معظم بلدان حوض النيل من توسع ونمو اقتصادي واجتماعي سريع في العقود الماضية، ارتفع الطلب على المياه، فازدادت الاستثمارات في المنشآت المائية التي تهدف إلى معالجة المياه وتنظيم الري، وإنشاء محطات توليد الكهرباء وتحسين إدارة المياه.

ترى دول المنبع، وعلى رأسها إثيوبيا، أنها تحتاج إلى دفع عجلة التنمية، وترى أن مياه نهر النيل تمثل لها كنزًا لا يقل عن النفط، وما ينقصها فقط هو الخبرات والتكنولوجيا والدعم المالي، وإذا كانت هناك هيئات دولية وحكومات دولية ستوفر لها هذه العناصر، فإنه لن يمنعها أحد من إحداث هذه التنمية، وهو الأمر الذي سيؤثر حتمًا على كمية تدفق مياه النيل إلى السودان ومصر[19].

تنحصِر الموارد المائية في مصر في مياه نهر النيل، الذي تعتمد عليه بصورة أساسية في تلبية 95 بالمئة من حاجاتها المائية، وهذا ما يفسر اعتراض مصر على بناء سد النهضة الإثيوبي الذي شيد على الروافد الإثيوبية العليا للنيل الأزرق بالقرب من الحدود السودانية، وترى مصر أن السد يهدد تدفق مياه النيل التي ينبع معظمها من الهضبة الإثيوبية وسيؤثر سلبًا في الأمن المائي المصري.

في المقابل ترى إثيوبيا أنها غير مسؤولة عن الحاجات المائية المتزايدة لمصر، بفعل تزايد عدد السكان بها وتوسيع استصلاح الأراضي بغرض الزراعة، وما يتبعه ذلك من استهلاك كبير للمياه. وترى إثيوبيا في مشروع سد النهضة السد أكبر من مجرد كونه مشروعًا تنمويًا، بل فرصة للإقلاع الاقتصادي، بحيث يستهدف المشروع خفض حاجة إثيوبيا من واردات النفط، وفي الوقت نفسه توسيع القطاع الصناعي في البلاد. وتوفير الكهرباء في كل المناطق الإثيوبية التي تعاني صعوبات الوصول لهذه المادة الحيوية ومن حالة انقطاع الكهرباء المتكررة؛ علاوة على ذلك، تخطط الحكومة الإثيوبية لتصدير نحو ألفي ميغاوات من الكهرباء إلى دول الجوار.

وبسبب هذا التجاذب، دخلت الدول الثلاث منذ شروع أثيوبيا في بناء السد سنة 2011، في مفاوضات للاتفاق حول الحد من تأثير السد الأثيوبي في كل من السودان ومصر، اللتين تخشيان تراجع إمداداتهما من مياه النيل.

1- سد النهضة وأثره في النزاع المائي الإثيوبي – المصري 

لطالما استخدمت مياه النيل كمادة للصراع السياسي في اتجاه مصر من جانب إثيوبيا، فهناك قضية السدود الإثيوبية التي تطرح بين الحين والآخر، ومطالب إثيوبيا بسحب امتيازات الحق التاريخي المكتسب الذي تدعيه مصر، ومحاولات الإيحاء بالقدرة على التأثير في حصة مصر من المياه، وموقفها الرافض للاتفاقية الموقعة بين مصر والسودان عام 1959.

وقد برز التوتر في العلاقات المصرية – الإثيوبية، خلال حقبة السبعينيات، بسبب إريتريا بعد دعم السودان لحركة تحرير إريتريا، ومساندة إثيوبيا لحركة جنوب السودان، وهو ما كان له التأثير السلبي في العلاقات المصرية – الإثيوبية بعد إعلان الرئيس المصري الأسبق أنور السادات وقوفه إلى جانب السودان. وفي تلك الحقبة، بدأ ملف المياه يدخل دائرة الخلافات بين مصر وإثيوبيا، حين أعلنت مصر مشروع تحويل جزء من مياه النيل لري 35 ألف فدان في سيناء عام 1979. وقد أثار هذا المشروع رد فعل قويًا في إثيوبيا، حيث عدّت هذا المشروع ضد مصالحها، وتقدمت بشكوى إلى منظمة (الوحدة الأفريقية)، الاتحاد الأفريقي حاليًا، تتهم فيها مصر بإساءة استخدام مياه النيل[20]. وتصاعدت الأمور بتهديد الرئيس الإثيوبي السابق منغستو هيلا مريام بإمكان تحويل مجرى نهر النيل، ومن جانبه وجه الرئيس السادات خطابًا حادًا إلى إثيوبيا، وأعلن أن مياه النيل خط أحمر مرتبط بالأمن القومي المصري[21].

سعت مصر، بعد إعلان إريتريا استقلالها عن أثيوبيا في عام 1993، إلى استغلال إريتريا كوكيل لصراعها مع إثيوبيا، وقد أدى هذا الاستقلال إلى جعل إثيوبيا دولة حبيسة غير ساحلية، وزاد التوتر بين البلدين بعد حادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري السابق حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995، وهو الأمر الذي دفع إثيوبيا إلى المضيّ قدُمًا في تكوين تحالف مضاد لمصر، والرغبة في إعادة توزيع حصص الدول من مياه النيل.

وبالتالي فقد طالبت إثيوبيا بالدخول في مفاوضات لوضع إطار قانوني جديد لمياه النيل، وأصرت إثيوبيا على ذلك وتحقق لها ما أرادت، إذ تم التوصل إلى إطار قانوني سنة 2010 (اتفاقية عنتيبي)، ولكن لم يتم الاتفاق حول جميع بنودها، وتركز الخلاف بين دول المنابع، وفي مقدمتها إثيوبيا من جهة، ودولتي المجرى والمصبّ (السودان ومصر) من جهة أخرى حول المادة 14 الخاصة بالأمن المائي لدول الحوض، وتحديًدا الفقرة (ب) من هذه المادة[22]، حيث ترى إثيوبيا وغيرها من دول المنابع أن تصاغ هذه الفقرة في شأن استخدام مياه النيل على النحو التالي:

«أن لا يؤثر تأثيرًا ذا شأن على الأمن المائي لأي دولة أخرى من دول حوض النيل».

بينما ترى مصر والسودان أن تكون الصياغة على النحو التالي:

«أن لا تؤثر سلبًا في الأمن المائي والحقوق والاستخدامات الحالية لأي دولة أخرى من دول حوض النيل»[23].

لقد سعت إثيوبيا، بمقتضى اتفاقية عنتيبي 2010، إلى تجريد مصر من امتيازاتها في مياه النهر، أبرزها حق الفيتو في منع إقامة أي مشروع على النهر خارج أراضيها. ورأت اتفاقية 2010 شرارة أزمة بناء سد النهضة الإثيوبي.

تعود فكرة إنشاء السدود في إثيوبيا إلى عام 1964، بعد دراسة أجريت بواسطة «مكتب الاستصلاح الأمريكي» (US Bureau of Reclamation)، حدد فيها المكتب 26 موقعًا لإنشاء السدود، أهمها أربعة سدود على النيل الأزرق، وحمل سد النهضة في تلك الدراسة اسم سد بوردر (Border)، ثم أطلق عليه  اسم المشروع X Project X ، ثم سد الألفية بعد الإعلان عنه في شباط/فبراير 2011 [24]، وحين وضع حجر الأساس في نيسان/أبريل 2011  تغير اسمه ليصبح سد النهضة الإثيوبي العظيم، وتقدر سعته المائية بـ 74 مليار م³، تم تشييده بالقرب من الحدود السودانية في منطقة «بنشنغول». وتعلق عليه إثيوبيا رهانات كبيرة في تحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال الطاقة الكهربائية، مع إمكان التصدير للدول المجاورة.

ظهر الخلاف بين إثيوبيا ومصر في إثر مباشرة الحكومة الإثيوبية بناء سد النهضة سنة 2011، على نهر النيل الأزرق الذي يؤلف 87 بالمئة من مجموع مياه نهر النيل، وتمحورت الأزمة حول الحقوق المائية لكل من الدولتين، وعدم إخطار إثيوبيا مصر مسبقًا بنيتها في إنشاء السد.

وقد أبدت مصر رفضها لاستكمال بناء السد الإثيوبي إلا بعد قيام لجنة فنية مختصة بدراسة التصميمات وآثار المشروع، وبالفعل تألفت لجنة من خبراء فنيين من الدول الثلاث (إثيوبيا، السودان، مصر) إلى جانب خبراء دوليين سنة 2012. وعقدت هذه اللجنة عددًا من الاجتماعات وأعدت تقارير أولية. والحال أنه منذ اتفاقية إعلان المبادئ حول مشروع سد النهضة الإثيوبي سنة 2015، تجاهلت إثيوبيا تمامًا ما يجري على المسار التفاوضي، ومضت في بناء السد.

يدور الخلاف الحالي في المقام الأول حول الإطار الزمني الذي يجب أن يُملأ فيه السد. ففي وقت تضغط الحكومة المصرية من أجل ملء بطيء يمتد بين 12 و21 سنة لتجنب التراجع الحاد في إمدادات المياه، تسعى الحكومة الإثيوبية لتحقيق ذلك في غضون ست سنوات حتى تتمكن من تشغيل التوربينات لتوليد الطاقة بصورة أسرع. أما السودان، فيشارك في المفاوضات بموقف محايد إلى حد كبير[25].

ولم تنجح في المرحلة الماضية الجهود المصرية لممارسة الضغط على إثيوبيا من خلال حشد الدول المتحالفة معها. حيث تحتفظ الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي، وكذلك دول الخليج والصين، بعلاقات جيدة مع كلا البلدين، ومن الواضح أنهم لا يرغبون في الانحياز إلى أي طرف في مسألة النزاع على مياه النيل.

تتوقع إثيوبيا أن يدفع المردود الاقتصادي لسد النهضة باقتصادها إلى مستوى البلدان المتوسطة الدخل بحلول عام 2025 . وبهذا، فإن تكلفة السد التي تناهز 6 مليارات دولار، تبقى تكلفة مقبولة في نظر الإثيوبيين، بالنظر إلى ما سيدر عليهم من عوائد. ويزيد من رغبة إثيوبيا في الإسراع بإنجاز هذا السد، إقبال الدول المجاورة لها على طلب الكهرباء، وتوقيع عدد منها عقودًا طويلة الأمد منها: كينيا، والسودان، وجيبوتي، وجنوب السودان[26].

وفي سبيل الوصول إلى اتفاق تفصيلي حول استخدام مياه النيل وتحقيق مصالح مشتركة، وقعت مصر والسودان وإثيوبيا في الخرطوم سنة 2015 «اتفاقية إعلان المبادئ» حول مشروع سد النهضة الإثيوبي. وقد أعطت مصر والسودان، بصفة أساسية، من خلال هذا الاتفاق، شهادة ميلاد شرعية لسد النهضة[27]. لكن رغم توقيع هذا الاتفاق، فإنه لم يحسم الخلاف حول مسألة مدة ملء السد الذي تقدر سعته التخزينية بـ 74 مليار م3 وتصل قدرته الإنتاجية من الطاقة الكهربائية عند اكتماله إلى 6 آلاف ميغاوات، ليكون أكبر سد كهرومائي في القارة الأفريقية. كما يتضح أن «اتفاقية إعلان المبادئ»، وبنودها المستلهمة من الاتفاقيات الأممية لا تنص صراحة على الحقوق المصرية المكتسبة.

لقد امتدت المفاوضات والاجتماعات في شأن أزمة سد النهضة بين إثيوبيا ومصر والسودان منذ عام 2011، ومرت عبر محطات متعددة اتسمت بالتعثر والفشل في التوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن، وتعد الوساطة الأمريكية من أبرز هذه المحطات، التي جاءت عبر «وزارة الخزانة الأمريكية»، حين وجهت الدعوة لوزراء خارجية مصر وإثيوبيا والسودان إضافة إلى البنك الدولي في 31 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بعد طلب مصري لوساطة دولية في المفاوضات، وتواصلت جلسات التفاوض، حيث انطلقت في تشرين الثاني/نوفمبر 2019، واستمرت خلال 4 أشهر، من دون أن تسفر عن نتائج ملموسة، وانتهت برفض إثيوبيا التوقيع بالأحرف الأولى على مقترح اتفاق تقدمت به الولايات المتحدة الأمريكية، وتغيبها في الجولة الأخيرة من المفاوضات التي عقدت بواشنطن يومي 27 و28 شباط/فبراير 2020، بينما وقعته مصر ولم توقعه السودان.

وفي حزيران/يونيو 2020 تقدمت مصر بطلب إلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة، في إطار بند جدول الأعمال المعنون «السلم والأمن في أفريقيا»، للنظر في موضوع سد النهضة الإثيوبي، تدعو فيه إلى التدخل من أجل تأكيد أهمية مواصلة التفاوض، من أجل التوصل إلى حل متوازن لقضية سد النهضة الإثيوبي، وعدم اتخاذ أي إجراءات أحادية قد يكون من شأنها التأثير في فرص التوصل إلى اتفاق، ولجأت مصر إلى مجلس الأمن استنادًا إلى الفقرة الأولى من المادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تجيز لكل عضو من الأمم المتحدة أن ينبه مجلس الأمن أو الجمعية العمومية إلى أي نزاع أو موقف من شأنه أن يعرض للخطر حفظ السلم والأمن الدولي[28].

كما اتجهت مصر إلى جامعة الدول العربية واستطاعت الحصول على قرار بالتضامن معها، حيث أصدرت جامعة الدول العربية، في دورتها غير العادية التي عقدت في 2020/06/23 (عبر تقنية الفيديو كونفرنس)، قرارًا في شأن سد النهضة الإثيوبي. وأكدت الجامعة في قرارها أن الأمن المائي لمصر والسودان هو «جزء لا يتجزأ من الأمن القومي العربي»، مشددة على ضرورة امتناع إثيوبيا عن البدء في ملء خزان السد من دون التوصل إلى اتفاق مع دولتي المصب حول قواعد ملء وتشغيل السد لما يمثله هذا الإجراء من خرق صريح لاتفاق إعلان المبادئ المبرم بين الدول الثلاث في الخرطوم بتاريخ 23 آذار/مارس 2015. كما حث القرار على تأليف لجنة لمتابعة تطورات الملف والتنسيق مع مجلس الأمن بالأمم المتحدة حول تطورات الموضوع كافة على أن تتألف عضويتها من كل من الأردن والسعودية والمغرب والعراق والأمانة العامة[29].

وعادت الدول الثلاث في تموز/يوليو 2020 إلى استئناف التفاوض برعاية الاتحاد الأفريقي، وتلخصت النقاط الخلافية حول عملية تشغيل وملء السد في مرحلة الجفاف، والجفاف الممتد، ومسألة الاعتراف بالاتفاقيات السابقة لتوزيع حصص المياه، إضافة إلى إشكالية أمان السد، والآثار البيئية المترتبة عليه. واختتمت الجولة الأولى من المفاوضات هي الأخرى من دون التوصل إلى حل توافقي، وتزامن ذلك مع قيام إثيوبيا بالملء الأولي للسد، تلتها قمة أفريقية مصغرة عقدت يوم 21 تموز/يوليو 2020، دعت إلى مواصلة التفاوض والسعي لبلورة اتفاق قانوني ملزم في شأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة.

وانتهت في 28 آب/أغسطس 2020 جولة أخرى من المفاوضات بين الدول الثلاث حول سد النهضة دون التوافق على مسودة اتفاق، كان من المفترض تقديمها إلى رئاسة الاتحاد الأفريقي، وقررت الدول الثلاث أن ترسل كل دولة تقريرًا منفصلًا إلى رئاسة الاتحاد الأفريقي.

وفي هذا السياق، سعت مصر في المفاوضات إلى تضمين أي اتفاق مع أديس أبابا أكبر قدر ممكن من التفاصيل تغطي جميع الاحتمالات الممكنة في المستقبل، بينما تحاول إثيوبيا إبقاء الاتفاقية مفتوحة قدر الإمكان وعدم توقيع أي بند من شأنه أن يُلزم بحد أدنى من المياه لجيرانه، نظرًا إلى التقلبات المتعلقة بالتغيير المناخي، الذي قد يفسد الحسابات المستقبلية. وعلى خلاف مصر، فإن السودان لا ترى في خفض حجم مياه النيل التي تصله مشكلة كبيرة، بل إن بناء سد النهضة قد ينظم في المستقبل مشكل الفيضانات التي تتعرض لها، إضافة إلى إمكان الحصول على طاقة كهربائية رخيصة من إثيوبيا[30]. ومن بين أسباب التقارب الإثيوبي- السوداني اعتماد إثيوبيا على الموانئ السودانية، واستيرادها بعض المواد الأساسية من السودان.

2 – الخيارات الممكنة لحل النزاع المائي بين إثيوبيا ومصر

عكست المفاوضات السابقة، التي أجريت في الخرطوم والقاهرة وأديس أبابا وواشنطن، استمرار الخلافات على القضايا الرئيسية لقواعد ملء وتشغيل سد النهضة، مع بدء إثيوبيا عملية الملء الأولية للسد، الأمر الذي وضع ضغوطًا على الموقف المصري. وانتقلت بذلك قضية السد من كونها نزاعًا إلى أمر واقع، وذلك بفعل تفاوض عقيم تبنى طرفي التفاوض خلاله استراتيجية تفاوضية مناقضة للآخر، فإثيوبيا اعتمدت استراتيجية «استهلاك الزمن وسياسة فرض الأمر الواقع»، أما مصر فكانت استراتيجيتها «انتهاج الدبلوماسية الناعمة والتفاوض وطلب الوساطة».

لقد كشف النزاع القائم بين إثيوبيا ومصر حول مياه النيل ومشروع سد النهضة أن السياسة الخارجية المصرية تجاه أفريقيا، بوجه عام، لا تملك فاعليةً أو تأثيرًا ملموسًا على المصالح المصرية في أفريقيا[31]، كما أظهر فشل الدبلوماسية المصرية وتراجع دورها في منطقة حوض النيل، ويبرز ذلك من خلال لجوء مصر إلى وساطة الولايات المتحدة الأمريكية وإلى طلب تدخل مجلس الأمن الدولي في قضية سد النهضة، وغض النظر، منذ بداية الأزمة، عن وساطة الاتحاد الأفريقي. وفي المقابل تصاعد الدور الإثيوبي أكثر فأكثر وكسب تأييد دول المنبع. وفي ظل هذا الوضع تبرز أهمية طرح خيارات حل الأزمة، أهمها:

أ – التفاوض

إن الخيارات المصرية أمام إثيوبيا باتت محدودة، فالخيار الدبلوماسي التفاوضي هو الخيار المتاح الآن، وبحسب الرؤية المصرية، فقد بات طويلًا ومملًا ومضيعة متعمدة للوقت[32]. ومن المتوقع أن يطول مسار المفاوضات حول سد النهضة، وهو ما يعني أن أمام مصر وإثيوبيا معركة طويلة وشاقة، وهو ما يجعل إثيوبيا المستفيد الأول.

وعليه، يجب على مصر وإثيوبيا تبني خطاب تصالحي، والابتعاد من أسلوب التصعيد والتهديد، الذي غالبًا ما يحمل معه نتائج عكسية. ولعل الخطاب الأمثل هو الذي يركز على بعد مياه النيل كمصدر من مصادر التعاون والتنمية المستدامة لجميع شعوب الدول المتشاطئة على نهر النيل.

ب – التعاون والتكامل الإقليمي

إن حل النزاع حول مياه النيل الأزرق بين إثيوبيا ومصر إضافة إلى السودان ينطلق من مدخل التعاون والتكامل بينها، فإثيوبيا تطمح إلى أن تكون رائدة في إنتاج الطاقة الكهربائية في المنطقة عبر سد النهضة والسدود الأخرى داخل البلاد، والسودان تمتلك أراضي واسعة وخصبة صالحة للزراعة والرعي يمكن أن تؤمن الغذاء لشعوب الدول المتنازعة، أما مصر فلديها الإمكانات والخبرات الكافية في عدد من المجالات التي ستساعد على سد حاجات إثيوبيا والسودان.

وقد شدد اتفاق إعلان المبادئ حول سد النهضة سنة 2015 على مبدأ التنمية والتكامل الإقليمي والاستدامة من خلال المبدأ الثاني، حيث نص صراحة على أن «الغرض من سد النهضة هو توليد الطاقة؛ المساهمة في التنمية الاقتصادية؛ الترويج للتعاون عبر الحدود والتكامل الإقليمي من خلال توليد طاقة نظيفة ومستدامة يعتمد عليها».

وسوف يؤدي هذا التعاون – إذا توافرت الإرادة السياسية والتمويل الكافي – إلى تلبية الحاجات المائية والتنموية. فالطريق الوحيد للمضي قدمًا هو التعاون، الذي يجب أن يحقق السلام والاستقرار لجميع بلدان حوض النيل[33]. إضافة إلى أن هذا التعاون سيتيح لمصر حضورًا فعّالًا في المشروعات المقترحة في دول المنابع، وهو ما سينعكس إيجابًا بالنسبة إلى المصالح المائية المصرية، بدلًا من غياب مصر وتنفيذ إثيوبيا وغيرها من دول المنابع لهذه المشروعات بصفة أحادية ومنفردة. إلا أن وجود إطار «تعاوني إقليمي» لاستخدام موارد مياه النيل قد يتطلب بعض التنازلات المشتركة من كلا الجانبين، مصر وإثيوبيا.

إضافة إلى ذلك، يمكن القول إن توجيه الاهتمام بالتجارة مع دول حوض النيل، وتشجيع الاستثمار بها، وفقًا لمبدأ المصالح المتبادلة من شأنه تقوية العلاقات المصرية مع دول المنبع بما فيها إثيوبيا[34].

وفي هذا الجانب يمكن لمصر أن تستفيد من تجربة وتوجهات المملكة المغربية تجاه عدد من الدول الأفريقية، ومن بينها إثيوبيا التي وقع معها المغرب سنة 2016 اتفاقيات التعاون الاقتصادي  بهدف تعزيز التعاون جنوب – جنوب.

ج – استغلال الفواقد المائية وترشيد استخدامها

هناك الكثير من المشروعات قامت بها مصر بالمشاركة مع السودان في النيل بهدف السيطرة على فقد مياهه وتدبير موارد إضافيـة، من أهمهـا: مشروع «قنـاة جونغلي» بجنـوب السودان، الذي يدخل ضمن أهداف الاتفاق الذي وقع بين حكومتَي مصر والسودان سنة 1959 في شأن الانتفاع الكامل بمياه النيل، بحيث تضمن هذا الاتفاق في بنده الثالث مشاريع استغلال المياه المفقودة في حوض النيل ما نصه: «تتولى جمهورية السودان بالاتفاق مع مصر إنشاء مشروعات زيادة إيراد النيل بمنع الضائع من مياه حوض النيل، ويكون صافي فائدة هذه المشروعات من نصيب الجمهوريتين بحيث توزع بينهما مُناصفة، ويساهم كل منهما أيضًا بالتساوي في التكاليف»[35].

تقوم فكرة مشروع «قنـاة جونغلي» على شق قناة بطول 360 كلم بين مدينتي بور وملكال في جنوب السودان. وكان من المخطط أن تؤدي القناة إلى توفير المياه التي تضيع في المستنقعات بجنوب السودان، وهو ما سيؤدي إلى تجفيف أراضٍ واسعة بقرب المستنقعات تغدو صالحة للزراعة.

بدأت مصر العمل في مشروع «قناة جونغلي» في سبعينيات القرن الماضي، لتوفيـر نحو 4 مليارات م3 في مرحلتـه الأولى و3 مليار م3 في مرحلته الثانية، يقسمان مناصفـة بين مصـر والسودان. وتم حفر 250 كلم، وتبقى 110 كلم لاستكمال المشروع، لكن العمل توقف عند قرية «الكونقر» نتيجة نشوب الحرب الأهلية عام 1983 بين الحركة الشعبية بقيادة «قرنق» والحكومة المركزية في السودان آنذاك[36]. ومن شأن إعادة إحياء هذا المشروع تعويض نقص الإمدادات المائية المرتقبة، جراء بدء إثيوبيا عملية ملء سد النهضة.

ومن بين أهم البدائل أمام مصر، في حال انتهاء إثيوبيا من بناء السد وحجب الإمدادات المائية عنها، هو ترشيد استهلاك المياه، وذلك بأن يتم إلغاء زراعة ما يقرب من 100 ألف فدان أرزّ، ما سيوفر كميات مهمة من المياه، لأن مصر تستهلك نحو 10 مليارات م3 في زراعة الأرز، إضافة إلى تطوير أجهزة الري، واعتماد أجهزة جديدة لتوفير أكبر قدر من المياه، مع استخدام طريقة الري الليلي لمنع تبخر المياه في النهار[37]. كما يمكن أن تزيد تحلية مياه البحر من إمدادات المياه العذبة.

د – الخيار العسكري

إن الخيار العسكري الذي هددت به مصر سابقًا بضرب موقع سد النهضة يبقى صعب التحقيق في الوقت الحالي، ولا سيما بعد اكتمال إنشاء الأجزاء الأساسية للسد وبدء عملية الملء، وكذلك بسبب تداعيات الضربة العسكرية للسد على المدن السودانية القريبة من مجرى نهر النيل. وقد كان من الممكن أن يكون هذا الخيار متاحًا في المراحل الأولى التي أعقبت إعلان مشروع بناء السد  سنة 2011، لكن كان سينعكس سلبًا على صورة مصر، وسيجلب التعاطف الدولي مع الطموح الإثيوبي المشروع بتحقيق التنمية.

خاتمة

من الواضح أن أزمة سد النهضة تتجاوز الجوانب الفنية والتقنية التي يمكن حسمها، إنها بالأساس تتعلق بمسألة التنافس الإقليمي بين البلدين. فقد  تمكنت إثيوبيا منذ بداية هذا القرن من أن تصبح قوة إقليمية في المنطقة، وهو ما دفعها إلى منافسة النفوذ المصري – السوداني. وبذلك فإن هذا السلوك الإثيوبي المتحدي لمصر يمكن أن يؤثر سلبًا في نفوذ مصر ومكانتها في حوض النيل، ويمكن أن يشجع باقي دول المنابع على القيام بمشروعات أحادية مماثلة. وفي ظل هذا الوضع السياسي تصبح احتمالات التسوية عسيرة، وهو ما يعني أن أمام مصر ومعها السودان مسارًا طويلًا.

وفي هذا الإطار، تفرض المرحلة القادمة ضرورة خلق آليات جديدة لتفعيل التعاون بين الدول النيلية في إطار مبدأ رابح – رابح، لأن السلوك النزاعي من شأنه أن يطيل أزمة الأمن المائي بين دول حوض نهر النيل بوجه عام، لذلك يستوجب الأمر وضع أطر الحوار الثنائي والجماعي بين دول الحوض، قصد التوصل إلى حل توافقي يحقق الانتفاع العام والمنصف والعادل للموارد المائية.