مقدمة:

لم تعد الأرشيفات في الزمن الحاضر تمثل ركاماً من الوثائق المنتهية الوظيفة والصلوحية، بما يعطي الانطباع بضرورة التخلص منها؛ فقد تحولت تلك الوثائق في حدّها السلبي إلى مكوِّن رئيس في حياة كثير من الشعوب والدول المعاصرة، المتقدمة منها وحتى المتخلفة، ناهيك بتشكيلها أحد أهم الروافد في تراث تلك الشعوب والدول. من هذا المنطلق، فإن التراث الأرشيفي الوطني ومدى ثرائه بات يمثل عنصر قوة للدولة وللمجتمع، ينظر من خلاله إلى المستقبل عبر استكشاف الماضي وسبر أغواره وفكّ شفرة رموزه وطلاسمه.

تقدم هذه الورقة نموذجاً ملموساً مستمداً من تجربة الأرشيف الوطني التونسي في كيفية إعادة إنتاج الحياة بأبعادها المختلفة من صلب الوثيقة الأرشيفية التي اعتقد بعضنا أنها أدت وظيفتها في الماضي وأدرجت في عداد الأموات.

تنطلق الورقة كذلك من فرضية قابلة للاختبار، مفادها أن أرشيفات السلالات الحاكمة يمكن أن تصبح مخزوناً ينبني من خلاله تراث شعوب بأكملها. والأرشيف الذي نختبر من خلاله فرضيتنا البحثية، هو ما تركته السلالة الحسينية من وثائق وتقارير إدارية؛ وهي الأسرة التي حكمت تونس من سنة 1705 إلى سنة 1957. وقد كان ذلك تحت سلطة الدولة العثمانية في البداية، قبل أن ينتقل الأمر إلى الهيمنة الاستعمارية الفرنسية.

أولاً: في دلالات التراث

 

1 – التراث من السلالة إلى الشعب

التراث بمعناه العام والمجازي يحيل على المعتقدات والعادات التي تميز حضارة ما‏[1]. وفي اللغة العربية التراث هو ما يخلفه الرجل لورثته‏[2]. وهذا المعنى نجده في اللغتين الفرنسية والإنكليزية حيث تقابل كلمتي «Héritage» و«Patrimoine» الموروث والتراث، ولا يتعدى معناهما التركة أو ما يتركه الميت لأبنائه من ميراث‏[3]، وهو المعنى نفسه الذي سكن اللغة العربية. ولكن كلمة تراث، قد انزاحت عن معناها القديم عندما تحولت من الخاص إلى العام، ومن الفردي إلى الجماعي، على الرغم من المحافظة على مصطلح التركة، ليدل على ما تركه الأسلاف ككل من إنتاج مادي ورمزي.

وفي أوروبا، وُلدت فكرة التراث في زمن لم تعد فيه المعتقدات الدينية الماورائية والغيبية تشكّل المرتكزات الرئيسة للقيم والحياة الاجتماعية والتنظيم السياسي. إنه الزمن الذي باتت الأمة فيه هي المبرر الوحيد لوجود الدولة، أو هو عصر الدولة – الأمة، وذلك بعد أن فُكّ الارتباط مع دولة السلالة ودول رجال الدين التي كانت سائدة في أوروبا الغربية، وفي غيرها من مناطق العالم في عصر ما قبل النهضة الأوروبية. لقد امتازت تجربة هذه الأنماط الأخيرة من الدولة بحفظها تراث الملوك والأمراء وعائلاتهم، متجسداً في قصورهم وقلاعهم والكاتدرائيات الدينية التي أسسوها، أو ساهموا في تأسيسها، فكانت صمّام أمان شرعيتهم.

كانت تلك القصور خزّانات موروثاتهم وتقاليدهم وأنماط عيشهم ومختلف مكونات ثقافتهم السياسية والدينية، حتى إن بعضها قد تحول إلى متحف يحفظ تراثاً بأكمله يحتوي على وسائل وأدوات ويختزل تمثّلات وعلاقات لهذه الأسرة الحاكمة أو تلك، فلا يكاد يستثني أي تفصيل في حياتها، مهما صغُر حجمه أو كبُر.

مع ظهور مفهوم الشعب المرافق لظاهرة الدولة – الأمة، ومبدأ تداول السلطة النابع من الفلسفة السياسية الليبرالية التي انتشرت في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، مع الثورات الكبرى التي عرفها الغرب الأورو – أمريكي، تغير مفهوم التراث من إرث الملوك إلى إرث الشعوب.

ولمّا كان هذا الصنف الثاني شامـلاً ومتعدداً وغزير الثراء، فلا بد من تخصيص وسائل وأمكنة وفضاءات تجمّعه وتحفظه وتصونه من التلف؛ فتحول كثير من القلاع القديمة والقصور من مراكز السلطة إلى مقارّ لحفظ التراث المخطوط المعبّر عن ذاكرة الدولة والمجتمع على حدّ السواء. ولنا في قصر فرساي بفرنسا الذي يحتفظ بالتراث المكتوب الذي تركه جيش البر الفرنسي حول فرنسا ومستعمراتها القديمة خلال مراحل تاريخية ليست بالقصيرة، خير مثال.

عموماً، لا يقتصر التراث بمعناه الذي صاحب ظهور الدولة – الأمة، على شريحة من دون غيرها، أو مكان من دون غيره، أو مدة زمنية من دون أخرى، حتى إنه اشتمل على الآثار والمعالم كافة، بما فيها الطبيعية.

2 – مفهوم التراث الثقافي

ظهر مفهوم التراث الثقافي ليدمج جميع أنواع التراث الأخرى؛ فتعددت أبعاده الرسمية والشعبية؛ وبهذا المعنى يعرّف بأنه «بناء اجتماعي يتضمن مجموع العناصر المادية واللامادية لمجموعة أو جماعة أو تجمع أو شعب أو مجتمع، يتولى تبنيه كإرث من الماضي وتوظيفه في الزمن الحاضر لتيسير الانخراط في المواطنة الحية والنقدية والمسؤولة التي تتم ممارستها انطلاقاً من المعرفة الجيدة لقيمها ومبادئها. فالتراث الثقافي يشتغل كإرث ينتقل إلى الأجيال اللاحقة لتتعلم منه»‏[4]، وينطوي على جملة من القيم يمكن تلخيصها في التالي:

– قيمة الاستعمال التي تحيل على أهمية الشيء.

– قيمة شكلية تتعلق بالجاذبية المتأتية من الخصائص المشاهدة.

– قيمة رمزية، مفادها أن عناصر التراث الثقافي هي شواهد على أفكار وأوضاع الماضي المرتبطة بأشخاص ينتمون إلى أزمنة وعصور مختلفة.

إن المعطيات التاريخية يمكن أن تشكل عناصر من التراث الثقافي لمجتمع ما إذا تم تنشيطها واستعمالها، كأن يستخدمها خطاب الهوية ويحولها إلى عامل حاسم في النقاش والجدل الأيديولوجي. وفي هذه الحال، فإن تلك العناصر التي تم استخدامها تنمي القدرات لدى الأفراد؛ فتشكل الوعي بالعلاقات الثقافية والاجتماعية مع المحيط والبيئة، وتنتج مجموعة من الروابط الرمزية ذات الدلالة مع الأشياء والأمكنة. إن التراث الثقافي يجب أن يكون قابـلاً لأن يُعترف به من جانب جماعة ما، كعنصر مكوّن من مكونات ماضيها وتاريخها وثقافتها‏[5].

3 – التراث المكتوب

يضم التراث المكتوب مجموع الوثائق المكتوبة والمخطوطة، مهما كانت طبيعة المحمل المادي الذي كتبت عليه؛ سواء كان حجرياً أو جبسياً أو طينياً أو ورقياً أو إلكترونياً أو غيره. ولئن حظي التراث المكتوب في مراحل تاريخية معينة بأهمية قصوى من جانب المهتمين بالتراث والتاريخ، وبخاصة بالدراسات العلمية في هذين المجالين، بسبب وفرة المخطوطات وسهولة الوصول إليها، فإن مفهوم التراث الثقافي قد تمكن من دمج أنواع التراث كافة، المكتوب والمخطوط منها، بوصفه تراثاً عالماً، والفولكلوري والشفوي بوصفه تراثاً شعبياً، وذلك في نسق علمي حول التراث يقوم بتحويله من مادة جامدة صُنعت في الماضي، إلى مادة حية تصنع المستقبل.

إن التراث المكتوب لا يستثني أي صنف أو شكل من صنوف وأشكال الكتابة؛ فالمخطوطات والوثائق ومحامل الكتابة كافة، بما فيها الإلكترونية الحديثة، تمثل الوسيلة الرئيسة للاتصال المخترق للمكان، وأداة انتقال عبر الأزمنة. أما المكتوب فيسجل ويؤوّل ويحلل وييسّر فهم الوقائع والأحداث والأعراف والمعتقدات والقوانين وتطور الذهنيات والرمزيات والمؤسسات والمعارف والتقنيات والعلوم والفنون. ومن ثم فإن حفظ التراث المكتوب ودراسته لا ينفصلان عن الأفكار والمعارف وعن الثقافة بمعناها الأنثروبولوجي الواسع.

لقد كان التراث المكتوب ولا يزال سبب وجود المكتبات والأرشيفات العامة والخاصة؛ فهي الحافظة لمغامرات الفكر والتفكير والضامنة للعهود والمواثيق ولكنوز اللغة وذاكرة الشعوب‏[6]. إن المشتغلين بالمكتبات الوطنية والعامة ومراكز حفظ المعلومات والأرشيفات يدركون وحدهم أهمية الحجم الكبير للتراث المكتوب وكثافته، ودوره في تشكيل حياة الأفراد والمجتمعات، وإعادة بنائها بكاملها.

تجدر الإشارة هنا إلى أن المكتبة الوطنية والمكتبات البلدية في فرنسا تحتوي على أربعين مليون كتاب ومخطوط تعود إلى ما قبل القرن العشرين، والأرشيفات القومية الفرنسية تتضمن ثلاثة مليارات وثيقة، تعود إلى ما قبل الثورة الفرنسية سنة 1789، وأكثر من 11 مليون كتاب، وعشرات الملايين من الدوريات.

وفي المستوى العالمي توجد مئات الآلاف من المخطوطات القديمة التي تعود إلى ما قبل ظهور المطبعة، وملايين المطبوعات التي ظهرت منذ خمسة قرون في مجالات التفكير والثقافة كافة، ومليارات الوثائق الأرشيفية التاريخية والسياسية والإدارية، فضلاً عن ملايين الوثائق الحاملة لكتابة ما أو علامة أو رمز أو خريطة أو مثال أو نقش أو رسم.

وكثيراً ما تُزوَّد المكتبات والأرشيفات المركزية للدول بمثل تلك الكتب والمخطوطات والوثائق بوساطة نظام الهبات والتبادل الذي تلتزمه تلك المؤسسات، وبموجب ذلك النظام تحولت الملكية الفكرية لمراسلات المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر مع سيمون دي بوفوار 1930 – 1963 إلى المكتبة الوطنية الفرنسية التي تستقبل سنوياً، في السياق نفسه، 40 ألف كتاب و10 آلاف وثيقة مختلفة و450 ألف مطبوعة دورية‏[7].

4 – الأرشيف أو التراث الذي يعيد إنتاج الحياة

أ – تعريف الأرشيف

يعرف الأرشيف بأنه «مجموع الوثائق التي أنشأها أو تحصل عليها أثناء ممارسة مهامه، كلُّ شخص طبيعي أو معنوي، وكل مرفق عمومي أو هيئة عامة أو خاصة، مهما كان تاريخ هذه الوثائق وشكلها ووعاؤها»‏[8].

يتم تنظيم تلك الوثائق والحفاظ عليها في إطار المصلحة العمومية، وذلك لضرورات التصرف وتبرير حقوق الأشخاص الماديين والمعنويين، العموميين والخواص، ولتيسير التوثيق التاريخي والبحث والمعرفة التاريخية بجينالوجيا الأفراد والمجموعات وأصولهم الإثنية والقومية، فتكون الأرشيفات نتاجاً لأنشطة الأفراد والتنظيمات ومصالحهم ‏[9].

وقد حدّد أحد القوانين الحديثة المنظمة للأرشيف أهداف الأرشيف الوطني بـ «تجميع الوثائق والإشراف على حفظها وأرشفتها وفقاً للأصول العلمية في الأرشفة، بقصد الاستفادة منها بما يحقق المصلحة العامة ويساهم في نشر الوعي الثقافي والتاريخي، إضافة إلى إتاحة مجالات البحث للباحثين الراغبين في الاستفادة من المادة المعلوماتية التي يقتنيها الأرشيف الوطني»‏[10].

من هذا المنظور، فإن علم المعلومات الذي يضع تصنيفية تقوم على وجود أرشيفات مستعملة، وتالياً حية، وأخرى محفوظة، وتالياً ميتة، قد صيغ بطريقة وظيفية لا تاريخية، فهو لا يلامس حقيقة التراث الأرشيفي من أنه يعيد صناعة حياة الأفراد والجماعات بوجه أو بآخر، مهما طالت المرحلة التاريخية التي تمر على الوثيقة الأرشيفية، وهي محفوظة بهذا الأرشيف أو ذاك. لا وجود لوثيقة حية وأخرى ميتة، وإنما واحدة قيد الاستعمال، وأخرى تنتظر إعادة التوظيف والاستثمار.

ب – الأرشيفات: وثائق الماضي التي تصنع المستقبل

إن عالم الوثيقة الأرشيفية هو عالم سحري بالنسبة إلى الشغوفين بعالم المخطوط والوثائق‏[11]. هو عالم مشحون بالمعنى الخاص بكل وثيقة أو بها مجتمعة، عندما يتعلق بتأريخها لنسق سياسي أو حقبة زمنية بحالها، مثل أرشيف الحزب الشيوعي السوفياتي الذي تهافتت مراكز الدراسات والاستخبارات الأمريكية على اقتناء نسخة منه مهما غلا ثمنه.

ينطبق الأمر نفسه على الوثائق المتعلقة بالحركات الوطنية المحفوظة بأرشيفات جيش البر الفرنسي بقصر فنسان. وكذلك أرشيفات ما وراء البحار والاستخبارات الفرنسية المحفوظة بمدينة آكس آن بروفنس، حيث يسعى الأفراد والمنظمات والدول من المستعمرات الفرنسية القديمة في أفريقيا وآسيا للحصول على نسخ منه تتعلق بتاريخها ومخططات مدنها وكل ما له علاقة بمصالحها، وحياتها. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الأرشيف العثماني، حيث كانت الدولة العثمانية تمتد على حيّز مهم من الكرة الأرضية.

لقد تجلى هذا الدور وتلك الأهمية في كيفية التعامل مع أرشيف البوليس السياسي التونسي الذي كان محل جدل كبير‏[12]. وكذلك الأرشيف الرئاسي التونسي الذي أسال حبراً كثيراً على خلفية علاقته بموضوع العدالة الانتقالية‏[13].

تبين النقاشات الدائرة اليوم حول اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد سنة 1952 والمعطيات الجديدة – القديمة التي أفرجت عنها السلطات الفرنسية بعد مرور ستين سنة على حادث الاغتيال، الدور المستمر في صناعة الصيرورة السياسية الذي يؤديه التراث الأرشيفي السياسي، وإنفاق بعض وسائل الإعلام الحديثة من أموال طائلة بغرض الحصول على وثائق ذلك الحدث الجلل، لإعادة إنتاجها وتوظيفها في العملية الإعلامية. وهو الأمر الذي ينسحب على الزعيم الوطني التونسي صالح بن يوسف، الذي تعرض بدوره إلى عملية اغتيال سنة 1961 في فرانكفورت بألمانيا في ظروف غامضة‏[14].

لقد تحولت بعض مراكز الأرشيف العالمية اليوم، مثل الأرشيف الأمريكي أو البريطاني أو الفرنسي أو العثماني، إلى ما يشبه مراكز السيادة بالنسبة إلى كل دولة، وبات توظيفها التجاري والثقافي والسياحي مستحكماً.

هذه المراكز اليوم، هي بمنزلة معابد للورق بالنسبة إلى الباحثين والإعلاميين والساسة وبعض الخواص، وهي لا تقل أهمية عن المكتبات الوطنية الكبرى، فخصصت لها الدول مباني كبيرة شاسعة وشاهقة الطول أحياناً، بعد إخراج وثائقها من الكهوف التي دفنت فيها تحت الأرض سلفاً، بما تليق بمكانتها وبما تحظى به من احترام يصل إلى درجة التقديس لدى بعضهم. هي منبع حياتهم المهنية والعلمية، وهذه المباني لا تعوزها الجمالية ودقة التخطيط والوظيفية في العمل، فهي مراكز صيانة الذاكرة الوطنية للأمة والشعب بأنظمتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وهي حافظة مسودات الدساتير والقوانين والمشاريع الكبرى وتقارير الاستخبارات والوزارات والحكومات والمؤسسات المالية العملاقة، ومختلف أجهزة الدولة، حول قضايا المجتمع وتحولاته وأزماته الكبرى والحقبات كافة التي يمر بها.

إن الأرشيف، إضافة إلى كل ذلك، يحمل رمزية بعث الحياة لدى أُسر بكاملها؛ فطواقم الإدارة والتسيير وإسداء الخدمات تتنامى في مثل تلك المؤسسات، وهي بذلك تنبض بالحياة مثلما كانت تنبض بها يوم كانت وثائقها تصنع أحداث الحياة العامة المباشرة.

هذا البعد تنبه إليه المجلس الدولي للأرشيف، الذي يرى أن «الأرشيف يعدّ مصدراً فريداً من نوعه، فهو الأثر الوثائقي للنشاط البشري. وبذلك فإنه الشاهد الذي لا يمكن الاستغناء عنه في سرد أحداث الماضي، ودعم الديمقراطية وهوية الأفراد والجماعات، وكذا حقوق الإنسان. ولكن الأرشيف يبقى مادة هشة معرضة لمختلف المخاطر». لذلك، فإن هذا المجلس «يبذل قصارى جهوده لحمايته وضمان الوصول إليه، وهذا من خلال الدفاع عن المهنة، ووضع المعايير، وتنمية القدرات المهنية، وتمكين الحوار بين الأرشيفيين وصانعي القرار ومنتجي ومستعملي الأرشيف»‏[15].

والأرشيفات وفق هذه المقاربة، لا يقتصر دورها على الجانب التراثي وحمايته فقط، وإنما تساعد على «الحكم الراشد» كذلك؛ فهو الأداة التي تمكن الحكومات من تحمل مسؤولياتها عند المحاسبة وإثبات قدراتها على إرساء الديمقراطية، لأن الأرشيف المحكم التسيير يتيح للمجتمع إمكانية التحصل على جواب حول «من ومتى وأين ولماذا» وكل ما تعلق بالأداء الحكومي. كما أنه يجعل من احترام حقوق الإنسان واقعاً ملموساً، ويساعد الحكومات على شرح نشاطها والدفاع عنه. وإحكام تسييره، ويضمن أيضاً حكومة فعالة وسديدة»‏[16].

لقد استفادت الدول المعاصرة من التجارب العالمية في تنظيم الأرشيفات، فأصدرت أنظمة قانونية صارمة ودقيقة تساعد على الحفاظ على الوثيقة الأرشيفية وحمايتها من الإتلاف. في هذا الإطار، نجد تعريفاً دقيقاً لمعنى الوثيقة التي تعرّف بأنها «كلّ تسجيل بالكتابة أو الطباعة أو الصورة أو الرسم أو التخطيط أو الصوت أو غيره، سواء على الورق أو الأشرطة الممغنطة أو الوسائط الإلكترونية، أو غير ذلك من الوسائل، وتشمل الوثائق العامة والتاريخية والوطنية والخاصة»‏[17].

ثانياً: الأرشيف الوطني التونسي

 

1 – ظهور الأرشيف التونسي وتحوله إلى مؤسسة

يبرر افتقار الأرشيف الوطني التونسي إلى الوثائق التي تعود إلى مراحل سابقة عن العهد الحديث على الرغم من انتشار سلطة الدولة على أراضيها ومجالاتها، ولا سيَّما أثناء الحكم الحفصي، بكثرة الحروب وعدم الاستقرار السياسي وفي تونس، وكذلك لعدم الوعي بأهمية الوثائق الأرشيفية. وتالياً، فالأرصدة المتوافرة بالأرشيف الوطني التونسي اليوم تهم أساساً المرحلتين الحديثة والمعاصرة. وإذا استثنينا الدفاتر الإدارية والجبائية التي يرجع بعضها إلى القرن السابع عشر، فإن الوثائق المحفوظة تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر في ارتباط بتنامي واستقرار سلطة السلالة الحسينية ودولة البايات، ويتوقف المسموح بالاطلاع عليه منها سنة 1957، وهو التاريخ الذي عرف نهاية حكم تلك السلالة.

وفي سياق محاولات الإصلاح التي عرفتها تونس في تلك المرحلة من القرن التاسع عشر، والتي شملت التنظيم السياسي (عهد الأمان سنة 1857 ودستور سنة 1861)، والتنظيم الإداري (ضبط مهمات الوزارات وطرائق تنظيمها سنة 1860)، تم في سنة 1874، أي في خلال تولي خير الدين الوزارة الكبرى، إحداث هيكل بالوزارة الكبرى سمي خزينة مكاتيب الدولة. وقد قام هذا الهيكل بنقل وثائق الدولة من قصر باردو ومن مختلف مصالح الدولة وكبار مسؤوليها إلى «دار الباي» بالقصبة التي تشكل مركز الحكومة التونسية حالياً، وذلك قبل أن يُنقل نهائياً إلى مقرّه الجديد بشارع 9 أبريل في تونس العاصمة، وذلك سنة 1999‏[18]. وقد تم آنذاك ضبط الآلاف من الوثائق وحفظها من التلف، ووقع تنظيمها بإحكام بحسب طرائق فنية متطورة، شملت كيفية الإطلاع على الوثائق واسترجاعها. وتعدّ تونس ثاني دولة عربية بعد مصر‏[19] في اهتمامها بتنظيم الأرشيف، وذلك قبل انتصاب الحماية الفرنسية بتونس.

عرفت مؤسسة الأرشيف الوطني عدة تسميات:

– خزانة مكاتيب الدولة؛

– خزينة عموم مكاتيب الدولة؛

– الأرشيف العام للحكومة التونسية؛

– الأرشيف الوطني التونسي.

2 – مكونات الأرشيف الوطني التونسي

السلسلة التاريخية

تضم هذه السلسلة 4410 ملفات، تهم التاريخ الحديث للبلاد التونسية (من القرن 16 إلى القرن 19). وهي زاخرة بالمعلومات والمعطيات المفصلة حول جوانب متعددة من تاريخ البلاد التونسية في العصر الحديث[20].‏

يعود تاريخ التكوين الفعلي لرصيد السلسلة التاريخية إلى سنة 1887 على يد محمد القروي‏[21]. فقد جمع كثيراً من الوثائق الموجودة بقصر باردو ورتبها بحسب الإدارات التي أنشأتها، محترماً بذلك قاعدة من أهم قواعد الأرشيف، وهي قاعدة «احترام المصدر». تعكس وثائق السلسلة التاريخية نشاط مختلف المؤسسات الإدارية للدولة التونسية ومصالحها، وعلاقتها بعضها ببعض من جهة، وعلاقة السكان بالسلطة المركزية وممثليها من جهة أخرى.

تتنوع الوثائق بتنوع الموضوعات، وبتنوع الجهة المنشئة لها:

– «الأوامر العلية» الصادرة عن البايات الحسينيين.

– المراسلات الإدارية المختلفة.

– نصوص المعاهدات والاتفاقيات بين البلاد التونسية والبلدان العربية والأوروبية.

– المراسلات الرسمية بين الباب العالي بالأستانة، وولاية تونس العثمانية، كالفرمانات وغيرها من الوثائق الرسمية والإدارية.

من أهم الملفات التي تتضمنها هذه السلسلة: مراسلات القياد من مختلف جهات البلاد وتحتوي على معلومات وإشارات عن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية على الصعيدين الجهوي والمحلي. وأقدم تلك المراسلات مع قايد الساحل، إذ تعود إلى سنة 1196 هجري، الموافق لسنة 1782 ميلادي. وتغطي مراسلات القياد في مختلف مناطق البلاد والقيادات (المحافظات) المهمة، مثل الساحل والقيروان وصفاقس والأعراض والوطن القبلي والفراشيش وجلاص ونفات والجريد وورغمة، وأخرى أقل أهمية وصولاً إلى قياد العروش الرقاق ‏[22].

– السلسلة A: تتعلق وثائقها بشؤون الإدارة الجهوية والمحلية وبالتقسيم الإداري لتراب البلاد ومراقبة السكان والحدود والهجرة أثناء المرحلة الاستعمارية، وقد اعتمد تنظيمها أساساً على المقياس الجغرافي، فجمعت الملفات بحسب «المراقبات المدنية»، وهو تقسيم إداري يمكن أن يضم عدة «قيادات»، أي المنطقة التي تتبع لنظر «قايد» أو «عامل». ميزة هذه السلسلة أنها احتوت ملفات متعلقة بضبط الحدود بين القبائل والعروش والحدود مع الجزائر وليبيا. كما احتوت على مجموعة كبيرة من الملفات المتعلقة بالأشخاص الذين شاركوا في الثورة على المستعمر الفرنسي بالجنوب التونسي سنة 1915. وكذلك الأشخاص الذين وضعوا تحت المراقبة الإدارية، أو الذين تم إبعادهم خارج حدود البلاد، وتطلق عليهم تسمية المشبوه فيهم.

– السلسلة B: تكونت هذه السلسلة نتيجة نشاط قسمين تابعين للإدارة التونسية أو «قسم الدولة»، وهما القسم الاقتصادي والفلاحي والقسم الإداري. نشأت الوثائق المتعلقة بأمناء الفلاحة بالقسم الاقتصادي والفلاحي. أما الوثائق المتعلقة بأمناء سائر الحرف، فهي من إنشاء القسم الإداري. تحتوي الملفات على وثائق متنوعة كتبت باللغتين العربية والفرنسية، مثل مطالب ترشح لخطة أمين وبطاقة إرشادات وأوامر تسمية ومراسلات ذات موضوعات مختلفة، تعكس بعامة الوضع القانوني والمهني للأمناء في جميع جهات البلاد، وفي القطاعات الاقتصادية المختلفة في عهد الحماية.

– السلسلة B1: هي تهتم بمجال العدالة التي أنشأ ملفاتها قسم الشرع التابع لقسم الدولة إلى حدود سنة 1921 (تاريخ إحداث وزارة العدل)، ثم أنشأت بقية الملفات مصالح وزارة العدل، ولا سيما قسم الأمور الشرعية، وتحديداً دائرة الموظفين والعدول. وقد تم، سنة 1923، نقل جميع وثائق الأرشيف التابعة للعدلية والمنتجة بعد عام 1881 من دار الباي إلى مقر وزارة العدل، حيث أسند إليها نظام تصنيف جديد يتمثل بتوزيع الملفات على ثلاث سلاسل فرعية هي «B» وتشمل كل الملفات الراجعة إلى ما قبل عام 1923 و«BII» وتشمل ملفات العدول و«BIII» التي تخص ملفات الوكلاء. وتحتوي على ملفات إدارية للقضاة والمفتين والعدول والوكلاء (المحامين) وعن هيئة القضاء الشرعي بالبلاد التونسية بـين 1881 و1945، حيث نجد معلومات وفيرة ودقيقة عن تعيين القضاة في المحاكم الشرعية في أغلب جهات البلاد، وعن أدائهم ومهماتهم، وملفات إدارية للعدول وأوامر تعيينهم أو عزلهم، إضافة إلى ملفات شخصية للوكلاء، وهم سلك يعمل باتصال مع المحاكم الشرعية على غرار سلك المحامين العاملين في المحاكم الفرنسية بتونس. هذا، واحتوت السلسلة «B1» على عدد قليل من الملفات المتعلقة ببعض القضايا التي هي من اختصاص الشرع، كقضايا الزواج والطلاق والتركات والميراث والأحباس.

– السلسلة C: هي من إنتاج قسم الأحباس، وتضم الوثائق المتعلقة بالأحباس العامة والعلاقة مع جمعية الأوقاف (التي ظهرت سنة 1874 وتم حلّها بالتوازي مع حلّ الأوقاف سنة 1957). يشمل هذا الرصيد ثلاثة موضوعات رئيسة: أولها، الوثائق المتعلقة بسير العمل الإداري للجمعية وبوضعها المالي وبموظفيها ووكلائها أو نوابها بالجهات. وثانيها، له صلة بمسائل عقارية، ولا سيما ما يتعلق باستغلال الأحباس العامة، من عقارات فلاحية ورباع موقوفة على المؤسسات الدينية، كالمساجد والزوايا والمؤسسات الخيرية التي تعنى بالفقراء والمساكين، ويحصل ذلك من طريق الإنزال (كراء مؤبد) أو المعارضة. وثالثها، أحباس الحرمين الشريفين، وتعتبر من أهم الأحباس من حيث الثروة والمكانة التي تحتلها من بين الأحباس العامة. وقد أسفر حل الأحباس وتصفيتها سنة 1957 عن نشأة رصيد مهم من وثائق الأحباس ومن وثائق جمعية الأوقاف توجد بأرشيف مراكز الولايات، وكذلك بأرشيف وزارة أملاك الدولـة حالياً، يمكن أن تكمل وثائق السلسلة «C» التي أنتجها قسم الأحباس.

– السلسلة D: تتعلق وثائقها بالشؤون الدينية بوجه عام بالبلاد التونسية بين عامي 1881 و1956. تم ترتيب الوثائق وفق المقياس الجغرافي (المراقبة المدنية) وباعتبار الموضوعات الرئيسة بالنسبة إلى كل مراقبة مدنية. تقدم معلومات دقيقة ومهمة حول عدة موضوعات، من أهمها شؤون الأئمة والمدرسين بأغلب جوامع البلاد ومساجدها. كما نجد ملفات خاصة بالمؤسسات الدينية، ولا سيّما بالزوايا. وكذلك حول أهم الطرائق الصوفية المنتشرة بالبلاد، كالطريقة القادرية والطريقة الرحمانية وغيرهما. هذا إلى جانب ملفات مهمة حول ممارسة اليهود شعائرهم ومختلف المؤسسات الدينية التابعة لهذه الأقلية الدينية، وبعض الملفات حول الديانة المسيحية. وتضم هذه السلسلة أيضاً ملفات المعتنقين دين الإسلام.

– السلسلة E: تتضمن وثائق تتعلق بجميع ميادين نشاط المؤسسات والهياكل الإدارية والوزارات التي عملت خلال عهد الحماية الفرنسية على تونس. تم ترتيب الملفات الراجعة إلى السلسلة «E» بحسب الوزارات والإدارات التابعة لها؛ بداية بالكتابة العامة للحكومة، ثم الإدارة المالية، ثم العدلية التونسية، فوزارة الداخلية، فوزارة الإسكان والتعمير، ثم وزارة الفلاحة والتجارة الصناعة ووزارة الصحة، ثم إدارة التعليم العمومي، وتليها بقية الإدارات، ولا سيَّما إدارة البريد والبرق والهاتف، وإدارة الأشغال العمومية. وقد أحدث أغلبها الاستعمار الفرنسي.

– السلسلة F: القسم الأول منها يحتوي على الملفات التي تتعلق بشؤون البايات الحسينيين، وكذلك بشؤون أمراء وأميرات العائلة المالكة. فنجد وثائق متنوعة عن ممتلكاتهم وعن مصاريفهم الخاصة وديونهم وعن بعض القضايا التي تعلقت بهم أو بالعاملين لديهم أو بوكلائهم. كما نجد بعض الملفات التي تعكس علاقة البلاط الحسيني بالأهالي وبالإقامة العامة الفرنسية. أما القسم الثاني، فيحتوي على الملفات والوثائق المتعلقة بالشؤون الدبلوماسية والقنصلية، ولا سيَّما نصوص بعض الاتفاقيات والمعاهدات المبرمة بين سلطة الحماية الفرنسية وبعض الدول والهيئات العالمية، أو بين فرنسا ودول كثيرة. كما نجد عدة ملفات حول الموظفين العاملين بالقنصليات الأوروبية بتونس، ولا سيّما المترجمين منهم. فضـلاً عن ذلك، نجد ملفات حول أوضاع التونسيين المهاجرين والمقيمين في بلدان عربية وأوروبية، وغير ذلك من الموضوعات المتعلقة ببعض الأحداث العالمية والتظاهرات كالمعارض.

السلسلة SG: مثّل تركيز الكتابة العامة للحكومة نقطة تحول في تاريخ الإدارة التونسية في عهد الحماية. أوكلت لهذا الجهاز مهمة المراقبة والتصرف والتنسيق بالنسبة إلى مجمل عمل تلك الإدارة. وفي هذا الإطار، تم وضع كثير من المصالح تحت إشرافها، كمصلحة «الشؤون الأهلية» ومصلحة الأمن العمومي ومصلحة التفقدية العامة للمصالح الإدارية ومصلحة الموظفين والإدارات المدنية للإيالة ومصلحة مراقبة المصاريف ومصلحة القانون والتشريع.

وقد أدى عمل هذه المصالح، إضافة إلى عمل ديوان الكاتب العام للحكومة، إلى إنشاء رصيد «الكتابة العامة»، وهو يتكون من أنواع متعددة من الوثائق، كالنصوص التشريعية والمراسلات الإدارية ونشريات وشكاوى وتقارير‏[23].

ثالثاً: في وظائف التراث الأرشيفي

 

1 – الوظيفة العلمية

لا تكاد تخلو أطروحة أو رسالة أو مذكرة بحث متعلقة بتاريخ البلاد التونسية الحديث والمعاصر، بقطع النظر عن أهميتها في سلم التقييم العلمي، من توظيف للتراث الأرشيفي ووثائقه المخزونة في الأرشيف الوطني التونسي بوصفه الأرشيف المركزي أو في غيره من الأرشيفات المتعلقة بتونس، ولا سيّما الفرنسية منها. ولعل المتتبّع خطى المؤرخين الأوائل بعد تأسيس الجامعة التونسية في مطلع الستينيات من القرن الماضي، أمثال محمد الهادي الشريف‏[24] وعبد الحميد هنية‏[25] وخليفة شاطر‏[26]، سيجد بصماتهم واضحة على السجلات الأرشيفية وعلى الخلفية التي حكمت الكثير من طلبتهم لاحقاً، وهم يتدربون على عملية البحث التاريخي، وكذلك وهم يسهمون فيه.

ولعل إحدى التجارب المتميزة في التعامل مع الوثيقة الأرشيفية وتحقيقها واستنطاقها وتوظيفها علمياً، كان أسّس لها المؤرخ عبد الجليل التميمي في وسط السبعينيات من القرن المنصرم من خلال بعث دورية مهمة لغرض البحث التاريخي عامة، القائم على العمل الميداني الأرشيفي منه، وهي المجلة التاريخية المغاربية التي لا تزال محافظة على دورية صدورها، ثم أردفها بكل من المجلة العربية التاريخية للدراسات العثمانية التي توظف فيها الدراسات والأبحاث المستخدمة لأرشيفات الدولة العثمانية، بما في ذلك الأرشيف التونسي، وذلك قبل أن يبعث مؤسسته للبحث العلمي والمعلومات التي تعدّ من أبرز مؤسسات البحث في الإنسانيات في تونس والوطن العربي.

فقد نظّمت هذه المؤسسة ونشرت مئات المؤتمرات في القضايا التاريخية والمسائل المعاصرة. تصدر هذه المؤسسة ثلاث دوريات تهتم بالمادة الأرشيفية وتنشرها وتعرّف بها وهي على التوالي المجلة العربية للأرشيف والتوثيق والمعلومات‏[27] والمجلة التاريخية المغاربية‏[28] والمجلة العربية للدراسات العثمانية‏[29]. اختصت هذه الدوريات في البداية في البحث العثماني والموريسكي لتهتم لاحقاً بكل من الذاكرة والحركة الوطنية التونسية والمغاربية، معتمدة الأرشيفات والوثائق التاريخية والذاكرة والسير الذاتية للشخصيات والقادة والفاعلين السياسيين مصادر رئيسة في التدوين والكتابة التاريخية.

ينطبق هذا الأمر كذلك على المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية التونسية، الذي بات يحمل اسم معهد التاريخ المعاصر، وهو المؤسسة التي أنشئت في البداية لتحتضن وتصون الوثائق والأرشيفات التونسية المتعلقة بالحركة الوطنية التونسية، التي تم جلبها في شكل صور وأشرطة مستنسخة من الأرشيفات الفرنسية. وبقدر ما انتشر توظيف الوثيقة الأرشيفية لدى الأجيال اللاحقة من المؤرخين في مختلف مجالات الكتابة التاريخية، وهنا نحيل على أعمال التليلي لعجيلي حول الطرائق الصوفية والاستعمار الفرنسي‏[30]، والشيباني بن بلغيث حول القضاء والقضاة وحول الأوقاف في تونس‏[31]، ومحمد ضيف الله حول الحركة الطلابية الزيتونية‏[32]، وعميرة علية الصغير حول المقاومة الشعبية للاستعمار والصراع البورقيبي – اليوسفي…‏[33]، فإن الوثائق الأرشيفية باتت تشكل مادة لا غنى عنها في الأعمال الأنثروبولوجية والسوسيولوجية. وهنا نحيل على عمل محمد نجيب بوطالب حول القبيلة التونسية بين الاستمرارية والتغير‏[34] وعلى أطروحتنا مجتمع القبيلة: البناء الاجتماعي وتحولاته في تونس‏[35]، ويوظفها بعض الدارسين السوسيولوجيين في دراسة الظاهرة الدينية، ولا سيما الصوفية والطرقية منها.

كما توظف الوثيقة الأرشيفية في خدمة «البحث السياسي» ليكون الأرشيف في خدمة السياسة، وهي المهمة التي أوكلتها مختلف الحكومات المتعاقبة على تونس منذ المرحلة التركية، وحتى اليوم. فهو بمنزلة ذاكرة الدولة التي اتخذت شكـلاً مركزياً، بعد فك الارتباط مع العثمانيين، وتولي شأنها من جانب الاستعمار الفرنسي، الذي رسم حدودها النهائية مع كل من ليبيا والجزائر سنة 1910‏[36]. ولعل توظيف الأرشيف في سياسات الدولة ومصالحها ومؤسساتها يستكشف من قبل الباحثين عندما يختفي أحد الملفات أو صناديق الأرشيف المتعلق بمسألة مهمة وحساسة، مثل الأراضي الجماعية أو إحدى العائلات النافذة في أوساط السياسة أو المال، ولا سيما من هم في هرم السلطة‏[37].

من التاريخ الرسمي إلى تراث الهامشيين

بقدر ما شكلت وثائق الأرشيف الوطني ومخطوطاته وسيلة لكتابة التاريخ الرسمي للدولة والطبقات الحاكمة والأنظمة السائدة من حقبة إلى أخرى، فقد كانت تلك الوثائق مهمة جداً لدى جمهور الباحثين، بسبب ما جمعته المؤسسة السياسية في يوم ما من معلومات غزيرة غايتها الحكم والسيطرة آنذاك، وهو ما وضع الشرائح الاجتماعية الهامشية في مكانة متميِّزة في سياق جديد، هو سياق الكتابة التاريخية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية، وذلك بتناول أصول تلك الشرائح الإثنية والعرقية وانتماءاتها القبلية والدينية والمذهبية والطرقية الصوفية وعلاقات القوة والصراع بينها ومكانة الأرض لديها بمنظومتها القيمية وأنظمة الإنتاج الجماعية، والأنشطة السياسية، الحزبية منها والوطنية، وإدماج العمل النقابي كوسيلة جديدة في الدفاع عن المصالح، وأنماط التعليم السائدة التقليدية منها والعصرية. كل ذلك، كان بمنزلة اللوحة الفنية التي ترتسم عليها مجموعة من العناصر المتفاعلة التي لا يمكن فهمها إلا مجتمعة. إنه تاريخ الحياة اليومية الذي رأى النور في الأبعاد المادية والفكرية لتلك الحياة، مما أكسب الوثائق والمخطوطات قيمة مادية تضاف إلى قيمتها الفكرية بسبب التهافت على اقتنائها من قبل الباحثين القادمين من أباعد المكان وأقاصي الزمان، ويسهم كل ذلك في تحريك العملية الاقتصادية برمتها، فتشتغل شركات الطيران والنزل ووسائل النقل والمطاعم ومصانع الورق والحبر والتكنولوجيات الحديثة. إنه تراث الهامشيين المكتوب الذي ينبلج من جديد ليكون في صدارة الأحداث.

لقد تم استثمار مخطوطات التراث الأرشيفي ووثائقه في بلورة صنف الكتابة السيرية، وهي كتابة أنثروبولوجية في الأصل تعتمد الملفات المحفوظة في الأرشيفات، وما تحمله الذاكرة وكذلك المقابلات المطولة مصدراً لها. يحتوي الأرشيف الوطني التونسي على آلاف الملفات المرتبطة بأشخاص أدَّوا دوراً مهماً في الحياة العامة السياسية والوطنية أو الدينية، حوّلها الباحثون من مجموعة من الوقائع المتناثرة إلى أنساق منهجية من الأفكار والنظريات التي يتم استغلالها علمياً. وقد ساعد التراث الأرشيفي على إبراز الدور المهم لبعض المناطق في الحركة الوطنية، كما تبيِّنه سجلات الشهداء في مناطق الجنوب الغربي التونسي، وبيَّن لنا ذلك التراث كيف استقرت بعض المجموعات بصفة مبكرة من خلال أرشيفات بعض البلديات، حيث توجد شواهد على تقاليد الحياة الحضرية والعيش الجماعي المنظم وعلى أمثلة التهيئة المنظمة للمدينة، وربما يكون ذلك على العكس من مناطق أخرى بقيت وإلى مراحل متأخرة، خارج المنظومة الحضرية والنشاط البلدي.

إن الأرشيف بهذا المعنى، يمثّل نقطة انطلاق لعدة تأويلات وإعادة بناء للجزئي في إطار الكلي، وبخاصة بعد أن بات التراث الأرشيفي المكتوب مادة تنشر في دوريات متخصصة في الوثائق الأرشيفية، مثل مجلة وثائق التي أشرنا إليها سلفاً، والتي يصدرها المعهد الأعلى لتاريخ الحركة الوطنية بتونس، التي تضمنت الكثير من وثائق الأرشيف الوطني، والأرشيفات الفرنسية المتعلقة بتونس وكراسات الأرشيف الحديثة الصدور من قبل مؤسسة الأرشيف الوطني التونسي. وتضمن عددها الأول وثائق مهمة حول نشأة الدولة التونسية الحديثة.

2 – الوظيفة التعليمية

لقد كان الأرشيف الوطني التونسي، ولا يزال، مخبر بحث ومجال دراسة مستمرين، وذلك بسبب التقليد المهم الذي أرساه مديره العام الأسبق، والأستاذ الباحث بالمعهد الأعلى للتوثيق بتونس، المنصف الفخفاخ، حينما جعل من مادة ذلك الأرشيف موضوعات متجددة لمذكرات نهاية الدروس الجامعية التي يعدها طلبة السنوات الرابعة سنوياً، وهو ما شكل رصيداً مهمّاً وغنياً من تلك الرسائل المحفوظة أصولها بالجامعة التونسية والتي تتناول بالدرس والتوثيق والفهرسة كل المجالات التي تمسحها الوثائق الأرشيفية، فيستفيد منها الطلبة والباحثون بخاصة، فيسّرت الاطلاع على كثير من الوثائق بسبب الفهرسة الدقيقة والمبسطة التي احتوتها.

إن التراث الأرشيفي المكتوب هو إحدى الأدوات المستخدمة في تشكيل الهويات الوطنية أو صونها والحفاظ عليها وبنائها لدى الناشئة من طلاب المدارس والجامعات. وهو ما يساعد على بناء المواطنة التي تؤسس إرادة احترام البيئة التاريخية والحفاظ عليها. ومن الضروري تأكيد أهمية التفكير لإيجاد الوسائل التعليمية والطرائق البيداغوجية لاستثمار التراث الأرشيفي في كل من التعليم الأساسي والثانوي، بما يحافظ على الهوية الوطنية واكتشاف الذاتية الفردية والجماعية للأفراد والمجتمعات ومعرفة الآخر، كما كان يتعامل معه ويتمثله الأسلاف.

إن الدور الذي يمكن أن تؤديه المؤسسة التربوية كوسيط في التعريف بالتراث الأرشيفي المكتوب وتوظيفه في الثقافة الوطنية، وجب أن يؤسس لقوة في الشخصية والموقف قادرة على إثبات الذات وتأهيلها للقيام بوظيفتها بطريقة سليمة في الحياة العامة والخاصة. فالتراث الأرشيفي هو قيمة تعليمية مهمة في تجارب كثير من المجتمعات والدول، ولا سيما الغربية منها. هذا ما يساعد على تنمية جملة من المهارات مثل تمثل الفضاء والوعي بالزمن وتحليل المعلومة، وهو بمنزلة الحافز على الاعتزاز بالانتماء الوطني لدى الناشئة. إن التراث الأرشيفي هو ناقل للماضي في اتجاه الحاضر الذي يصله بدوره إلى المستقبل، وهو حامل شحنات رمزية تتضمن سلسلة من الأفكار والقيم والمعتقدات، فلا بد من ضمان جدوى العناصر المنتقاة من التراث الأرشيفي، بما يخدم المستوى العلمي أو الثقافي أو انتماء المتعلم وحسه العاطفي تجاه من يشترك معهم في ذلك الانتماء.

إن تدريس التراث المكتوب والأرشيفي لدى الناشئة ضمن المواد التاريخية والاجتماعية، ينمي الرغبة في الاطلاع على الوثائق الأرشيفية، على أن يتجاوز ذلك مستوى الخدمات الذاتية الخاصة، مثل إثبات حق ملكية معينة أو البحث عن الشجرة العائلية أو القبلية، فهو مشروع يطمح إلى الاهتمام بالقضايا الوطنية والتاريخية للمجتمع الذي ينتمي إليه.

خاتمة

إن الأرشيف الوطني التونسي، الذي تم تنظيمه بطريقة عصرية، ووفق قانون‏[38] يوفر له الحماية والاستمرارية، يُعَدُّ مثالاً يؤكد الاتجاه الذي ذهبنا إليه من أن الأرشيفات الوطنية لا تمثل مجرّد خزائن ورقية متجسدة في مجموعة من الوثائق المتروكة العديمة أو الضعيفة التأثير في ماجريات الأحداث والحياة. وإنما يمكن أن تنبني من خلالها الذاكرة الجماعية والشخصية الوطنية الفردية والأساسية لمجتمع ما. وهذا البحث يبين بكل وضوح كيفية تحوُّل مجموعة من الوثائق الإدارية المتناثرة والمبعثرة لسلالة البايات «ملوك تونس» وحكّامها ما بين سنة 1857 تاريخ إعلان عهد الأمان وسنة 1957 إعلان قيام الجمهورية‏[39]، إلى مصدر رئيس لكتابة تاريخ الشعب التونسي الحديث والمعاصر بوصفه شعباً متجانساً يمتاز بشخصية جماعية وتنظمه دولة وقوانين، وهو يعتز بذلك التاريخ على اختلافه كتابة وتأويلاً. وفي الآن نفسه، فإن ذلك الأرشيف الذي يشكل جزءاً من تراث المجتمع يوفر إمكانيات متعددة وثرية لصيانة حقوق الإفراد والمجموعات، وبناء رمزيتها؛ فهي لم تعد مجرد «مجموعات من الأعراب» الخارجة عن القانون الذي أصدره باي تونس سنة 1931 الذي يعتبرهم من رعيته الجانحة مطلقاً عليهم تسمية الهمج ومانعاً إياهم من دخول حاضرة تونس أو عاصمتها، وإنما باتت تشكل جزءاً من الشعب الذي تعلو كلمته حتى على كلمة حكامه، فهو مصدر شرعيتهم ووجودهم. إن الأرشيف الوطني التونسي يعطي المثال على تحول تراث السلالة إلى تاريخ الشعب بل إلى وجوده.

 

 

قد يهمكم الحصول على كتاب نقد التراث للكاتب عبد الإله بلقزيز… إضغطوا على الرابط للحصول على الكتاب

قد يهمكم قراءة  طه عبد الرحمن والقراءة التداولية للتراث

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #التراث #الأرشيف #التراث_الثقافي #الثقافة #ثقافة #التراث_المكتوب #تونس #الأرشيف_التونسي #دراسات