ينطلق هذا البحث من فرضية أساسية هي: إن تسييس القبلية يشكل أحد أهم أسباب تصاعد النزاع القبلي في السودان. ويناقش سؤالاً محورياً هـو: مَـن المسؤول عن النـزاعات القبلية في السـودان؟

تمهيــد:

كما هي الحال في معظم الدول العربية ودول العالم الثالث تقريباً تشكل البنية القبلية حقيقة أنثروبولوجية وخاصية سوسيولوجية في السودان. ورغم مظاهر التطور والحداثة في مناطق كثيرة في السودان – المدن الكبرى والمناطق الحضرية – إلا أن القبيلة والبنية القبلية في السودان ما زالت تحافظ على كيانها كبنية نفسية وثقافية تؤطر أنماط السلوك – بما في ذلك السلوك السياسي – ولها نفوذ على الثقافة السياسية وعلى العملية السياسية في السودان. وقد زاد ذلك في العقود الثلاثة الأخيرة – فترة حكم الحركة الإسلامية في السودان – بصورة كبيرة بسبب تسييس القبيلة وأثننة السياسة، كما يكشف ذلك هذا البحث بالأرقام والتحليل.

من ناحية عامة يجب التمييز بين «القبيلة» و«القبلية». فالأولى تشير إلى كيان اجتماعي حامل للقيم ورابط بين الجماعة يوفر لها الحماية والمصالح. أما القبلية فهي تنطوي على عصبية. حيث يصبح لها مدلول هُـويوي – أي يعطي عضو القبيلة احساساً وإدراكاً بأنها تشكل له هوية تطغى على الهويات الأخرى بما فيها الهوية الوطنية. وتصبح هي نزعة وتشكل لأعضائها تصوراً بوجود حدود اجتماعية وحدتها الأساسية هي القبيلة. وبما أنها ترتكز على تقاليد وقيم وأخلاق ونظام وهيكل فيه توزيع للسلطة (مثل زعيم القبيلة والناظر والشيخ والعمدة)، فهي إذاً تأخذ طابع المؤسسة السياسية. هذا يعني النظر للقبيلة بمثابة أنها وحدة سياسية أو كيان سياسي (polity).

تنطوي القبلية على هوية ثقافية وإثنية قوية تميز أعضاء جماعة ما من أعضاء جماعة أخرى. ومع وجود علاقات جوار وقرابة قوية، يتوافر لأعضاء القبيلة إحساس قوي بالهوية. ومن ناحية موضوعية لكي يتشكل المجتمع القبلي التقليدي يجب توافر تنظيم عُرفي مستمر ونظام للتبادل. وهناك بُعد عاطفي يتمثل في وجود إحساس قوي بالهوية المشتركة يمكن أن يقود الناس للشعور بأنهم مرتبطون قبلياً (to Feel Tribally Connected…)»‏[1].

لا تسع المساحة هنا لتناول مفهوم القبيلة وتعريفها لغوياً واصطلاحياً أو تأصيـلاً إسلامياً/دينياً.‏[2] لكن في حالة السودان ترتبط القبلية – كنزعة ونعرة/عصبية – بأزمة الهوية والتي بدورها نتاج لسوء إدارة التنوع وسوء إدارة الموارد وتوزيعها بما يحقق التنمية الشاملة العادلة حيث إن غياب التنمية يؤجج الصراع القبلي حول الموارد مصحوباً بالجهل وبالولاءات الضيقة والانتماء للهويات دون الوطنية (الصغرى أو الفرعية).

أولاً: أسباب النزاع القبلي في السودان

يرتبط النزاع (Dispute) – وما يتبعه من الصراع القبلي (Conflict) – في السودان ببنية الدولة ونظامها السياسي وبالخطاب السياسي. كما أن الظروف الموضوعية هي التي تنقل النزاع الاجتماعي إلى صراع سياسي. فالنزاعات الاجتماعية موجودة في كل المجتمعات، وكذلك الصراعات القبلية خاصة في المجتمعات المتخلفة. لكن تحولها إلى عنف وتصاعد حدة التوتر وزيادة الصراع خاصة المسلح يصبح ظاهرة ومعضلة تتجاوز طبيعة النزاع القبلي التقليدي. حيث إن المجتمعات التقليدية التي قوامها نظام قبلي تندلع فيها هذه النزاعات والصراعات من حين إلى آخر بسبب النزاع حول المرعى أو عمليات ثأر قبلي، ولكنها عادة تكون محدودة ويتم احتواؤها بالأعراف القبلية. أما زيادة المعدلات عبر فترة زمن قصيرة مع الاختلاف في التردد (تكرار عدد الحروب) وفي عدد الضحايا وفي حجم الخسائر فهذا يصبح ظاهرة تؤثر في التماسك الاجتماعي والاستقرار السياسي. وبمثلما هي تستحق الدراسة هي أيضاً تعكس فشل السياسات.

باستقراء الصراعات القبلية في السودان يتضح أنه ظهرت بوصفها تنافساً أو نـزاعاً قبلياً على الموارد الزراعية والحيوانية ومصادر المياه الشحيحة والكوارث الطبيعية (مثل الجفاف والتصحر)، ويتعقد بسبب التمسك بالمفهوم التقليدي لـ «الحاكورة»، إلا أنه ينطوي على اعتراض كثير من القبائل على شكل التنظيم الحديث وآليات الدولة الحديثة التي بدأت تؤثر في آلية البنية التقليدية للمجتمع القبلي وهي «الإدارة الأهلية». كما أن غياب «الدولة المحايدة» في التعامل مع القبائل والتعاطي مع النزاعات الإثنية، وعسكرة القبائل، وظهور «المحاصصة السياسية» بدلاً من الحزبية في العملية السياسية، أدى كل ذلك إلى تصاعد الصراعات القبلية وتسييسها وتعقيد أزمة الدولة في السودان. وقد تجلى ذلك في أزمة دارفور. لذلك تستند هذه الورقة إلى دارفور كحالة دراسة لهذا الموضوع.

ترتبط النزاعات القبلية في السودان بأسباب وعوامل متعددة: مثل النزاع حول الأرض، مصادر المياه، ومسارات الرعي التي تتقاطع مع الأراضي المزروعة وتعدي الحيوانات على المزارع، التدهور البيئي والجفاف والتصحر، السرقة والتارات (الثأر)، تدفق السلاح من دول الجوار – مع توافر أسلحة حديثة، ثم إثارة النعرات القبلية والعصبية الإثنية (عرب مقابل غير عرب/أفارقة).

من أكبر أسباب زيادة النـزاعات القبلية في اتجاه معاكس لسير الحداثة والعولمة في السودان هو غياب التعليم والوعي من ناحية، ثم الحضور الضعيف للسلطة الرسمية في الريف بعد حل الإدارة الأهلية، وهو ما أدى إلى إزكاء روح العصبية القبلية. ثم إعادة الإدارة الأهلية بصورة مسيَّسة وليست كنظام اجتماعي تنتجه ميكانيزمات المجتمع التقليدي في تطوره الطبيعي. حيث أدى التدخل السياسي إلى إضعاف ميكانيزمات المجتمع مما أدى إلى انهيار عناصر الضبط الاجتماعي. فكانت النتيجة حصول فراغ إداري وأمني أدى إلى حدوث التوتر والنزاعات بين القبائل. ومع المناخ السياسي المضطرب وانتشار السلاح أدى ذلك إلى انتقال الصراع القبلي إلى صراع مسلح. وزادت كثافته وتضاعف عدد الضحايا وزادت وتيرته ومعدلاته (انظر الجدول الرقم (1)).

كذلك من أسباب تفاقم هذا الصراع أن الحكومة السودانية تدخلت بصورة اعتبرتها بعض الإثنيات أنها غير محايدة من ناحية، كما أن غياب الإدارة الأهلية في صورتها القديمة من حيث المشروعية والقبول والكفاءة في هذا المناخ مع تدهور الأوضاع الاقتصادية أدى إلى ظهور مجموعات أصبحت تستثمر في النزاعات إما لكسب سياسي حزبي أو انتخابي أو من خلال بيع السلاح. وبالتالي فهي تسعى بالفتنة بين القبائل لاستمرار الصراع لتستمر مصالحها.

نتج من هذا التدخل السياسي الخاطئ تسييس للقبيلة في المناطق الريفية، كما أن تصاعد الصراع القبلي المسلح وتقاطعه مع الحرب بين الحركات المسلحة والحكومة السودانية في دارفور – منذ 2003 – زاد من تعقيد الأزمة. حيث حدث استقطاب سياسي عمل على توظيف الصراع القبلي في مختلف الاتجاهات.

هناك مَن يرى أن غياب الديمقراطية هو أحد أسباب تصاعد القبلية والصراع القبلي. فانقلاب الجبهة الإسلامية القومية في حزيران/يونيو 1989 «غيَّب الديمقراطية في السودان ومن ضمنها دارفور والتي كانت تمارس الديمقراطية عبر الأحزاب وهي مؤسسات حديثة لا يشترط للدخول إليها القبيلة بل البرنامج. هذا لا ينفي أن الأحزاب الموجودة في دارفور كان يغلب عليها الطابع القبلي، ولكن كانت الممارسة كفيلة بترجيح كفة البرنامج على القبيلة. وكانت القبلية متجذِّرة في الريف أكثر من المدينة‏[3]. وعند انتقال المواطن القروي إلى المدينة كانت المدينة قادرة بعلاقاتها الاجتماعية والسياسية والنقابية والثقافية أن تتيح له قنوات متعددة للانتماء حيث تتم عملية استيعابه في منظمات المجتمع المدني المختلفة (أحزاب، اتحادات، روابط، جمعيات، أندية وما شابه ذلك)، وبالتالي يضعف ولاؤه القبلي.

أما في عهد حكومة الإنقاذ الوطني (حكومة البشير الإسلامية) «فقد أصبح للقبائل أحياء خاصة بها في المدينة، وبالتالي فبدلاً من تحضير أو تمدين القروي تريَّـفت المدينة. بغياب الديمقراطية في دارفور تحوَّل الصراع إلى صراع قبلي بحت؛ فأصبحت انتخابات المحليات وأي انتخابات أخرى تتم على أساس قبلي. وأصبح محرماً على أفراد القبائل الأخرى الفوز في (حاكورة)»‏[4] القبيلة صاحبة الأرض. بل وصل الاستقطاب القبلي لتقسيم حتى وظائف الحكومة المحلية من مديرين للمؤسسات والشركات الحكومية، وصولاً لتوزيع (كوتات) السكر على التجار تراعى فيه القبلية»‏[5]. وسارت الجبهة الإسلامية القومية (برئاسة الترابي) في نهج استقطاب بعض القبائل ودعمها بالسلاح والعتاد في مقابل الأخرى. واستخدمت الإدارة الأهلية كوظائف حكومية تعطى للقبائل الموالية للنظام، وتحجب عن الأخرى التي ترفض الإذعان. واستحدثت الحكومة نُظَارات في حاكورة بعض القبائل التي رفضت الإذعان لأخرى رضيت أن تكون واجهة سياسية عبر قيادتها الأهلية. وبالتالي عندما غُيِّبت الديمقراطية أصبحت القبلية اللاعب الأوحد في الساحة‏[6].

ثانياً: النزاع القبلي في دارفور

ظلت دارفور طوال الفترة 1916 – 1956 جزءاً لا يتجزأ من السودان الحديث كمنطقة متخلفة يحكمها موظفون بريطانيون باعتماد كبير على نظام الإدارة الأهلية. وعندما استقل السودان تحولت السلطة السياسية والاقتصادية إلى أيدي الشماليين العرب، المسلمين في غالبهم، أو ما يُسمى بالمجموعة النيلية العربية المسلمة المسيطرة‏[7]. كانت هناك نزاعات في الإقليم في الفترة 1956 – 1980 – أي منذ الاستقلال وحتى إدخال نظام الحكم الإقليمي كانت هناك نزاعات بين مجموعات قبلية محلية واستخدمت فيها أسلحة تقليدية. وفي الفترة من 1983 – 1993 تحولت طبيعة النزاعات إلى حرب بين تجمعات إثنية قبلية ومجموعات شادية، والحكومة المركزية مع استخدام الأسلحة الحديثة. وفي الفترة 1992 – 2002 كان هناك استقطاب إثني: عرب ضد غير العرب ومع تدخل الحكومة أصبح مستوى الصراع قومياً.

يتفق الباحثون على تعدد مصادر وعوامل النزاع القبلي في السودان، وهي عوامل تتداخل وتتكامل في تأثير واعتماد متبادل وتؤدي إلى تعقيد النزاع الناتج عنها. لكن يرى العديد من أبناء دارفور أن الشرارة الأولى لهذا الصراع الذي اندلع في 200 تعود جذورها إلى العام 1982. ثم أخذت بعداً جديداً في عام 1986 في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي حينما تجمعت بعض القبائل العربية تحت مسمى «التجمع العربي» بدعم حزب الأمة في مواجهة قبيلة الفور (غير عربية) التي يدعمها الحزب الاتحادي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي آنذاك. بينما يرى آخرون أن هذه المرحلة الأخيرة (حكومة الإنقاذ الوطني/الحركة الإسلامية) شهدت تفاعل الإسلام السياسي مع الاستقطاب الإثني. فعندما جاءت حكومة الإنقاذ الإسلامية إلى الحكم في 30 حزيران/يونيو 1989 تصاعدت عملية تسييس وأثننة (Ethnicization) النزاعات بسرعة متزايدة، حيث كان للحكومة الإنقاذية الإسلامية الجديدة «تأثير مباشر وقوي في تغذية النزاع بأبعاد أيديولوجية وعرقية وسط الأطراف التي تسمى عرب وزُرقة»‏[8]. وعندما شعر الفور بأن ما يجري قد تجاوز الحدود قاموا في بداية 2003 بتكوين جيش تحرير دارفور. وفي وقت قصير انضم إليهم الزغاوة. وتحول اسم الحركة إلى حركة/جيش تحرير السودان. ثم برزت لاحقاً حركة أخرى تسمى «العدل والمساواة».

فقد أشار أكثر من 23 زعيماً وقيادياً من المجموعات العربية، يمثلون خليطاً من المثقفين والقيادات القبلية وكبار الموظفين، أشار هؤلاء في مذكرتهم لرئيس الوزراء آنذاك (الصادق المهدي) إلى أن «الجنس العربي» هو الذي «نشـر الحضارة في هذا الإقليم… وذلك في مجالات الحكم والدين واللغة». وقد أشار التجمع العربي في مذكرته إلى أن العرب يشكلون نحو (70 بالمئة) من سكان دارفور، ويعيشون في نحو 55 بالمئة من إجمالي مساحتها ويساهمون بنحو 15 بالمئة من إجمالي الدخل القومي للسودان ككل. وأن المتعلمين من أبنائهم يشكلون نحو 40 بالمئة من الصفوة المتعلمة في الإقليم. ومع كل ذلك يُمَـثَّلون بـ (14 بالمئة) عضواً فقط في البرلمان القومي. «إننا نخاف إذا ما استمر تجاهل تمثيل الجنس العربي، أن تفلت الأمور من أيدي الحكماء إلى أيدي الجهلاء، وبالتالي دفع الأوضاع إلى نتائج خطيرة»‏[9].

غير أن حكومة البشير لم تتدخل في الوقت المناسب، كما أنها لم تتدخل بحياد، وعملت على استقطاب بعض النخب إلى جانبها. هذا الاستقطاب السياسي الحاد تلازم مع استقطاب إثني وتمايزت الهويات العربية مقابل الأفريقية (حُمْرة مقابل زُرْقة). ومع ظهور الحركات المسلحة حدثت تقاطعات بين ما هو سياسي وما هو قبلي فكانت النتيجة تصاعد أزمة دارفور وتعقيدها وتدويلها.

بيد أن الملاحظة المهمة في النزاعات في دارفور وعلى مدى عشرات السنين لم تكن دائماً إثنية أو مسيّسة. حيث كانت هناك نزاعات داخل المجموعات العربية نفسها وداخل الزنجية فيما بينها أيضاً. ويُـعد الصراع بين المزارعين والرعاة والتنافس حول موارد المياه الشحيحة والأرض الصالحة للزراعة، أحد الصراعات التقليدية على وجه العموم في القارة الأفريقية. وقد اكتسب صفة خاصة في السودان، وعلى الخصوص في دارفور، بعد التغيرات المناخية والتحولات البيئية المطرية خلال العقدين الماضيين‏[10]، الذي حدث فيه انحسار نطاق المراعي والموارد المائية إضافة إلى قلة الرقعة الزراعية نتيجة لانجراف التربة الخصبة بواسطة عوامل التعرية ومن ثم الضغط على الموارد الشحيحة، والتنافس الحاد بين المزارعين والرعاة‏[11].

كان التعايش السلمي بين قبائل دارفور يسود المنطقة وكانت العلاقات تحكمها الأعراف والعادات والتقاليد، بجانب تعاليم الإسلام السمحة. وكانت دارفور ترتبط ارتباطاً وثيقاً من الناحية الاجتماعية والاقتصادية والتنموية بمجتمع السودان الكبير. كل ذلك ساهم في ترابط وتماسك النسيج الاجتماعي بدارفور. إلا أن الوضع تعقد منذ التسعينيات من القرن العشرين (حيث ظهر الكتاب الأسود الذي عكست فيه نخبة دارفور المتعلمة بالأرقام الظلم الذي وقع على إقليمهم منذ الاستقلال)، وأصبحت ملكية الأرض والحواكير وديار القبائل من أهم أسباب الصراع القبلي في السودان، ولا سيما في دارفور، إذا ما أخذنا في الحسبان أن هذه الحواكير وديار القبائل أصبحت جزءاً أصيـلاً من الموروثات والتركيبة الاجتماعية والثقافية لأهل دارفور؛ وصارت حقوقاً مكتسبة منذ القدم وأصبحت ذات أبعاد سياسية خطيرة فلا يمكن تجاوزها أو حلها بسهولة‏[12].

هنالك عدة أسباب تداخلت وأثرت في خلخلة البنية الاجتماعية والقبلية في ما يتعلق بحواكير وديار القبائل بدارفور، وتطورت هذه المشاكل لتصبح أساسية في أزمة دارفور لاحقاً. إن المشكلة الحقيقية في ما يتعلق بنظام الحواكير بمفهومه السائد في دارفور قد أفقد الحكومة (المركزية والولائية) هيبة الدولة وسلطانها على بسط نفوذها بإقرار الأمن والطمأنينة بالنسبة إلى المواطن‏[13].

ثالثاً: التعصب القبلي (نماذج من العنف الدموي)

أصبح النزاع القبلي المسلح يتفجر بدارفور في دورات متلاحقة وعنيفة حتى أضحى خلو مجتمع دارفور من التناحر القبلي هو الاستثناء وليس القاعدة. في العقود الثلاثه الماضية شمل هذا النزاع جل قبائل دارفور، ولإعطاء صورة عن هذا الأمر هنا أمثلة لبعض النزاعات القبلية في دارفـور (الجدول الرقم (1)).

من هذا الجدول (الرقم (1)، بكل أجزائه) يمكن ملاحظة أن فترات الصراع القبلي في دارفور كانت متباعدة جداً في الماضي. فمثـلاً منذ نـزاع عام 1932 لم يحدث نزاع إلا في عام 1956 – أي بعد 24 سنة. مع ملاحظة أن تلك كانت فترة الاستعمار البريطاني حيث تركت الإدارة البريطانية آليات المجتمع تعمل في حفظ الأمن وحل المشكلات دون التدخل المباشر منها. ثم حدث نزاع 1957 بين قبائل عربية (الميدوب، الزيادية، والكبابيش) وكان هذا في عهد الحكومة الديمقراطية/الحزبية الأولى (1956 – 1958). في عهد حكومة الفريق إبراهيم عبود العسكرية (ست سنوات: 1958 – 1964) كان هناك نزاعان فقط. وفي الفترة الانتقالية (عام واحد: 1965 – 1966) أيضاً كان هناك نزاعان فقط. وفي عهد الحكومة الديمقراطية الثانية ( 3 سنوات: 1966 – 1969) كان هناك 4 نزاعات. وفي عهد الرئيس جعفر نميري العسكري/حكومة أيار/مايو (16 سنة: 1969 – 1985) كان هناك 12 نزاعاً – وهو عدد صغير نسبياً مقارنة بفترة الحكم (بواقع نزاع ونصف سنوياً). أما في عهد حكومة عمر البشير الإسلامية ( 1989 – … التي ظلت تحكم حتى كتابة هذا البحث) فقد شملت الإحصاءات حتى العام 2015 – أي 26 سنة فقد بلغت النزاعات القبلية 66 نزاعاً (بواقع 4 نزاعات في العام الواحد)، مع الأخذ في الاعتبار العدد الكبير للضحايا والخسائر المادية الكبيرة في هذا العهد بسبب استخدام الأسلحة الحديثة.

الجدول الرقم (1)

النزاعات القبلية في دارفـور من ثلاثينيات القرن العشرين إلى أيار/مايو 2015

الجدول الرقم (1 – أ): النزاعات القبلية في عهد الاستعمار (1898 – 1955)

الرقمالقبائـل المتنازعةالتــاريـخالولايـة
1الكبابيش – الكواهلة – البرتي/الزيادية – الميدوب1932شمال دارفـور

 

الجدول الرقم (1 – ب) عهد الحكومة الديمقراطية/الحزبية الأولى (1956 – 1958)

2البرتي – الزيادية1956شمال دارفـور

 

الجدول الرقم (1 – ج) عهد حكومة عبود العسكرية (1958 – 1964)

3الميدوب – الزيادية – الكبابيش1957شمال دارفـور
4المعاليا – الرزيقــــات1964جنـوب دارفـور

 

الجدول الرقم (1 – د) عهد حكومة سر الختم الانتقالية (حزيران/يونيو 1965 – 1966)

5الزيادية – البرتي1965شمال دارفــور
6الميدوب – كبابيش1965شمال دارفـور

 

الجدول الرقم (1 – هـ) عهد الحكومة الديمقراطية/الحزبية الثانية (1966 – 1969)

7المعاليا – الرزيقات (قرية أبوكارنكا)1966شرق دارفـور
8الرزيقات – المعاليا1968جنوب دارفـور
9الرزيقات – الزغاوة1968شمال دارفـور
10الزغاوة – الماهـريـــة1968شمال دارفـور

 

الجدول الرقم (1 – و) عهد حكومة جعفر نميري العسكرية (أيار/مايو 1969 – نيسان/أبريل 1985)

11الزغاوة – البـرقــو1974شمال دارفور
12البني هلبة – الرزيقات1975جنـوب دارفـور
13زغـاوة – زغــاوة1976شمال دارفـور
14البني هلبة – الماهريــة1976جنوب دارفـور
15البني هلبة – الرزيقات الشمالية1976جنوب دارفـور
16الرزيقات – الداجــــو1976جنوب دارفـور
17الرزيقات – البرقــــو1977غرب دارفـور
18التعايشة – السلامات1980جنوب دارفـور
19الرزيقات – البني هلبة1982جنوب دارفور
20الفلاتـة – القِمِـر1983جنوب دارفور
21الرزيقات – المسيــريـة1983جنوب دارفـور
22الكبابيش – البرتي – الزيادية1984شمال دارفـور

 

الجدول الرقم (1 – ز) عهد الحكومة الديمقراطية (1986 – 1989)

23القمـر – الفلاتــــــة1987شمال دارفـور

 

الجدول الرقم (1 – ح) عهد حكومة البشير الإسلامية (1986 – ): (الإحصائية هنا حتى عام 2015)

24الفـور – البديات1989شمال دارفـور
25العرب – الفور1989شمال دارفور
26فـور ضد (27) قبيلة عربيــــة1989ش د (تحامل عنصري)
27الزغاوة – القمـر1989شمال دارفور
29فـور (كبكابية) ضد الزغـاوة1990شمال دارفور
30التعايشة – القمـــر1990جنوب دارفور
31الزغاوة – المراريت1991شمال دارفـور
32الزغاوة – بني حسين1991شمال دارفور
30الزغاوة – الميما1991شمال دارفور
33الزغاوة – البرقـــد1991شمال دارفور
34الزغاوة والبرقد (للمرة الثانية)1991شمال دارفـور
35الفـور – الترجـــم1991شمال دارفور
36الزغاوة – العــرب الـرُحّـل1994شمال دارفور (كُتُم)
37الزغاوة السودانيون – الزغاوة الشاديون1996شمال دارفور
38المساليت – ضد بعض القبائل العربية1996غرب دارفـور
39الزغاوة – الرزيقات1996 – 1997جنوب دارفور (حاليا شرق دارفور)
40العـرب – المساليت1997غرب دارفور (الجنينة)
41الداجـو – الرزيقات1998جنوب دارفور
42العرب – المساليت (للمرة الثانية)1998غرب دارفور
43الفـور – الرزيقات1999جنوب دارفور
44الميدوب – البرتي1999شمال دارفـور
45الهبانية – أبودرق2000جنوب دارفـــور
46الزغاوة – القمـــر2000شمال دارفـور
47المعاليا – الرزيقات2000جنوب دارفـور
48الرزيقات – التنجـــر2000جنوب دارفور
49الرزيقات – المسيرية (كردفان)2000جنوب دارفور/غرب كردفان
50الهبانية – السلامات2000جنوب دارفـــور
51الزيادية – البرتي2000شمال دارفـور
52الرزيقات – المساليت2000غرب دارفـور
53الرزيقات – أولاد منصور (عرب)2001جنوب دارفور
54القمر – الزغاوة2001غرب دارفـور
55الداجــو – المسيريةشباط/فبراير 2005جنوب دارفـور
56الفلاتة – المساليت2005جنوب دارفـور(سعدون)
57الهبانيــة – المساليت2005جنوب دارفـور
58برقد – مسيرية – مسبعات – داجــوكانون الأول/ديسمبر 2005جنوب دارفور
59برقـد – رزيقات – تُرجـمكانون الثاني/يناير 2006
60الهبانية – الرزيقات2006جنوب دارفـور
61الهبانية – السلامات2006جنوب دارفـور (سرقلية)
62الهبانية – الفلاتة2006جنوب دارفـور
63القمـر – الفلاتة2006جنوب دارفـور
64الترجــم – الرزيقات2007جنوب دارفـور
65الفلاتة – الهبانية2007جنوب دارفـور
66القِمِـر – الفلاتــة2007جنوب دارفـور
67الفلاتة – الهبانية2008جنوب دارفور (عفونة)
68الرزيقات – الهبانية2008جنوب دارفـور (قريضة)
69القمر – الفلاتة2008جنوب دارفـور(سانبوا)
70البني هلبة – الترجـم2008جنوب دارفـور
71الرزيقات – الهبانية2009جنوب دارفور
72البرتي – الزيادية (مليط)2011شمال دارفور
73السلامات – التعايشة (محلية رهيد البردي)2011جنوب دارفور
74السلامات – المسيرية (أم دخـن)2012وسط دارفور
75القِمـر – البني هلبة (كتيلا: محلية عد الفرسان)2012جنوب دارفور
76المساليت – الفلاتا (قريضـــة)2012جنوب دارفور
77البني هلبة – القِمِـركانون الثاني/يناير 2013 – أيار/مايو 2013 (15 هجوم من البني هلبة على القمر بسبب ملكية الأرض)جنوب دارفور (بلغ جملة القتلى في هذه الهجمات 190 قتيـلاً ومئات الجرحى؛ إحراق 14 قرية؛ 1200 منزل؛ تدمير 5 محطات مياه؛ نهب ممتلكات مواطنين تُقدر قيمتها بـ 15 مليار جنيه سوداني).
78الفلاتة – المساليت2013جنوب دارفور (قريضة/أم سعدون: 7 قتلى و20 جريحاً)
79الرزيقات (الأبَّالة) – بني حسينحزيران/يونيو 2013شمال دارفور: جبل أبو عامر (التنافس حول آبار البترول: 17 قتيلاً،
20 جريحاً).
80الرزيقات – المعاليا12 آب/أغسطس 2013شرق دارفـور (110 قتلى، ومئات الجرحى).
81الرزيقات – المعاليا18 أيلول/سبتمبر 2013شرق دارفور (37 قتيلاً، 47 جريحاً).
82المسيرية – السلاماتشباط/فبراير 2014وسط دارفور (أم دخن): عشرات القتلى والجرحى، اضطر السلامات للفرار إلى تشاد
83المعاليا – الرزيقاتأيلول/سبتمبر 2014ش دارفور: (500 بين قتيل وجريح)
84المعاليا – الرزيقاتكانون الثاني/يناير 2015شرق دارفور (10 قتلى وعشرات الجرحى).
85الرزيقات – المسيرية27 كانون الثاني/يناير 2015شرق دارفـور
86الفلاتة – المساليتشباط/فبراير 2015غرب دارفور (7 قتلى، 20 جريحاً).
87الزيادية – البرتي21 آذار/مارس 2015شمال دارفور (30 قتيلاً وعشرات الجرحى).
88السلامات – المسيريــة22 آذار/مارس 2015جنوب دارفور (21 قتيل، و24 جريحاً وسرقة أبقار)
89الرزيقات – الهبانية (محليتي السنطة والفردوس)23 آذار/مارسجنوب وشرق دارفور (مقتل 10 وجرح 10).
90المعاليا – الرزيقات10 أيار/مايو 2015شرق دارفور (مئات القتلى والجرحى)

المصدر: (للجدول الرقم (1) بكل أجزائه): تجميع الباحث من عدة مصادر منها صحيفة سودان تربيون (30/5/2013، و7/8/2013، و21/2/2014) والمركز السوداني للخدمات الإعلامية (SMC)، ومركز دراسات السلام بجامعة نيالا (ولاية جنوب دارفور)؛ ومتابعة الكاتب للصحف اليومية الصادرة في الخرطوم.

وعلى الرغم من زيادة الصراعات القبلية من منتصف السبعينيات وحتى النصف الثاني من الثمانينيات من القرن العشرين إلا أن النقلة في المنحنى حدثت في العام 1989 الذي شهد أربعة نزاعات قبلية ثم توالت النزاعات في التسعينيات من القرن العشرين بوتيرة أعلى مقارنة بالعقدين السابقين (ستة نزاعات في عام 1991 مثـلاً). فإذا أخذنا في الاعتبار عام الاستقلال (1965) هو عام الأساس يمكن ملاحظة أن المعدل بدأ يرتفع كل عقـد من الزمان:

الجدول الرقم (2)

عدد النزاعات في كل عقد منذ الاستقلال

العقـد (الفتـــرة)عدد النزاعات (الصراعات)
الستينيات (من القرن العشرين)6
السبعينيات – – –7
الثمانينيات – – –9
التسعينيات – – –17
العشرية الأولى من الألفية الثانية (2000 – 2009)25
النصف الأول من العشرية الثانية للألفية الثالثة (2010 – 2015)31
الجملــة95

 

الملاحظ أنه في العقد الأول (العشرية الأولى) لفترة حكم الإنقاذ (1989 – 1999) كان هناك 21 صراعاً قبلياً (انظر الجدول الرقم (2)). وهذا يعني أكثر من ثلاثة أضعاف عقد الثمانينيات (6 نزاعات/صراعات فقط). كذلك الملاحظ أنه في عام 2000 مثـلاً وقعت 8 حروب قبلية في دارفور؛ و5 في 2006 و4 في 2005، ومثلها في 2008. لكن الملاحظة الأهم هو وقوع نحو 20 حالة صراع دموي في عام واحد هو عام 2013 – منها 15 بين كانون الثاني/يناير وأيار/مايو من العام ذاته عبارة عن هجمات متكررة من قبيلة البني هلبة على القِمـر.

فإذا كانت النزاعات القبلية قد زادت في فترة حكم نظام أيار/مايو (النميري) في السبعينيات بسبب حل الإدارة الأهلية فقد تضاعف عدد الصراعات في عهد الإنقاذ بسبب تسييس الإدارة الأهلية، بعـد إعادتها. فإذا أخذنا الأعوام الستة عشر – إجمالي حكم النميري (1969 – 1985) مقارنة مع ست عشرة سنة من حكم الإنقاذ (1989 – 2005) نجد أن إجمالي الصراعات في فترة النميري كانت (12) بينما في ست عشرة عاماً للإنقاذ كانت (36) حالة/حادث صراع – أي ثلاثة أضعاف تقريباً. لكن المفارقة الكبرى هي أنه من جملة 85 عاماً – فترة رصد الصراعات القبلية في السودان (1930 – 2015) – نجد أن فترة حكومة الإنقاذ الـ (25 عاماً: 1989 – 2015) – تفوقت على جملة الحقب السابقة، حيث شهدت فترة الإنقاذ (75) صراعاً (عنفاً دموياً) قبلياً مقارنة بـ (23) خلال (60) عاماً – سابقة لحكومة الإنقاذ.

معظم هذه الصراعات هي من الحجم الكبير حيث يصل عدد الضحايا أحيانا إلى المئات من القتلى. بمعنى أنه هناك ربما يكون الكثير من الأحداث القبلية الصغيرة التي لم يتم رصدها أو تسجيلها. كما أن الباحث يجد صعوبة في الحصول على الأرقام الدقيقة أو الكاملة. فمثلاً لم تتوافر للباحث أية إحصاءات للأعوام 2009 وحتى 2012 وتظل هذه مجرد أمثلة لكنها تكفي لمؤشرات تفيد التحليل للوصول إلى مدى تصاعدية النزاعات وزيادة تعقيداتها من عهد إلى آخر – خاصة فترة حكومة البشير الإسلامية (الإنقاذ الوطني).

الملاحظ أن الصراع القبلي انفجر بدرجة أكبر في العقد الأول ونصف العقد الثاني من الألفية الثالثة مقارنة بالعقود الماضية. وقد زاد من حدة الصراع القبلي ظهور الحركات المسلحة على مسرح الأحداث ونشاط ميليشيات «الجنجويد». وقـد أصبحت تمثل هذه الحركات واجهات قبلية؛ وكذلك أصبحت تعبر ميلشيات الجنجويد عن قبائل معينة كل ذلك أشعل الحرب القبلية في دارفور عامة بينما كانت في الماضي منحصره في نطاق ضيق‏[14].

صراع بهذا الحجم ويضم جل قبائل دارفور يؤكد حقيقة واحدة بأن الصراع القبلي تجذر في دارفور، ويصعب حله وتدراكه بسهولة ويسر كما كان في السابق (بواسطة الحلول المحلية للمجتمع الأجاويد – أو الرواكيب – مؤتمرات الصلح) ويرجع ذلك إلى أن عوامل كثيرة استجدت زادت الأزمة تعقيداً‏[15].

وعلى رأس هذه العوامل (كما تمت الإشارة إليها سابقاً):

1 – تسييس الصراعات: حيث تدخلت الحكومة المركزية – وخاصة في فترة الإنقاذ – بصورة غير محايدة مما دفع الطرف الآخر إلى الاحتماء بالأجنبي وبذلك حدث تصعيد وتدويل للأزمة فأصبحت دولية؛

2 – إلغاء الإدارة الأهلية ثم إعادتها مع تسييسها، وهو ما أفقدها الاحترام والهيبة وأصبحت عاجزة عن حل المشكلات القبلية كما كان في السابق.

3 – تدفق السلاح من دول الجوار (ليبيا وتشاد).

بالنسبة إلى العوامل السياسية (تسييس الصراعات)، يرى البعض أن جذور هذا النزاع الأخير يرجع إلى عام 1986 في عهد حكومة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي (كما سبقت الإشارة) حينما تجمعت بعض القبائل العربية تحت مسمى التجمع العربي بدعم حزب الأمة في مواجهة قبيلة الفور التي يدعمها الحزب الاتحادي الديمقراطي الشريك في الائتلاف الحكومي آنذاك‏[16]. هذا يشير إلى أن هناك تكتُّـلاً واضحاً للقبائل – على أساس عنصري – لممارسة ضغط سياسي‏[17]. فقد تبلور اصطفاف إثني غير عربي ضـد العرب (كتلة الفور وكتلة الزغاوة، وقبائل أخرى غير عربية مقابل تكتل القبائل العربية) وهذا بلا شك يؤثـر في السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي ويعيق التنمية وبالتالي يؤدي إلى استدامة الجهل والتخلف.

الملاحظ أنه قبل عام 1989 كانت السمة الغالبة المشتركة لأسباب الصراع القبلي تتمثل بالمرعى، والماء والأراضي (بين الرعاة والمزارعين). لكن بعد عام 1989 (عهد الإنقاذ/الحركة الإسلامية) دخلت عوامل جديدة في أسباب الصراع القبلي في دارفور هي: التحامل العنصري، الإخضاع السياسي، والتمرد. أبرز ذلك هو الصراع بين قبيلة الفـور ضد عشرات القبائل العربية مجتمعة. هذا يعني أن الصراع القبلي في عهد حكومة الإنقاذ قد أخذ منحىً عنصرياً وعرقياً (إثنياً) مع التسييس. ويُلاحظ من هذا الجدول أن الصراعات بين القبائل تنشأ لأسباب مختلفة وبين قبائل مختلفة ليست بالضرورة أفريقية وعربية.

الملاحظة العامة هنا هي أن الصراع القبلي ليس جديداً، كما أن أسبابه (التقليدية) قديمة متجددة. غير أن وتيرة أو معدل الصراع وحجمه قد ازداد في فترة حكومة الإنقاذ (المؤتمر الوطني/الحركة الإسلامية).

تشكل المراعي 25 بالمئة وكذلك كل من المياه والسرقة من أسباب الصراع القبلي في دارفور. بينما يشكل الصراع حول الأرض والتحامل العنصري 12.5 بالمئة. لكن مع ملاحظة أن هذا العامل (التحامل العنصري) قد ظهر مؤخراً.

غير أن مشكلة المياه والمراعي ترتبط بمشكلة التنمية. وترتبط مشكلة الأراضي والسرقة بالقوانين والأمن والسلطة والإدارة. وهذا كله – في التحليل النهائي – يرتبط بالسياسات والتشريعات – أي بالنخبة الحاكمة.

 

 

الشكل الرقم (2)

تصاعد الصراعات القبلية

يوضح الشكل الرقم (2) الاتجاه التصاعدي لحجم الصراع القبلي في دارفور في خلال أكثر من خمسين سنة.

بصورة عامة يمكن التعبير، في الشكل أعلاه، عن دور النخبة السياسية الحاكمة في تصاعد الصراع القبلي، وذلك من خلال سياسات هذه النخبة بدءاً من حل الإدارة الأهلية فجأة – دون تدرج أو سد الفراغ أمنياً وإدارياً بمؤسسات الدولة – ثم تسييسها للإثنية والتدخل بصورة غير محايدة في الصراع وما تبع ذلك من استقطاب سياسي/إثني حاد لمكونات مجتمع دارفور بين الحكومة المركزية والحراكات المسلحة أدى إلى تعقيد المشكلة واستدعاء التدخل الأجنبي وتحويلها إلى أزمة إنسانية ودولية.

هنا تتقاطع الصراعات القبلية (حول الموارد)، مع غياب التنمية العادلة الشاملة، مع التسييس، ظهور الحركات المسلحة، تدخل الحكومة لصالح طرف، الصراعات في دول الجوار وتدفق السلاح إلى دارفور، مع عسكرة القبائل وظهور الميليشيات القبلية واختراق الحكومة لها من جانب والحركات المسلحة المختلفة من جانب آخر. تداخل هذه العوامل واللاعبين أدى إلى وضع سياسي/اجتماعي/أمني مأزوم ومعقد سوف يضع بصماته على اتجاهات تشكيل مستقبل السودان السياسي والاجتماعي إذا لم تتم معالجته بصورة جذرية شاملة.

في سياق «عسكرة القبائل» تكفي الإشارة هنا إلى أن أحد الولاة (حاكم ولاية) تم تعيينه حديثاً ذهب لزيارة وتفقد إحدى القبائل المتصارعة بولايته لتهدئة القتال ووقف العنف. فوجد أن تلك القبيلة لديها قوة قوامها أكثر من (50) سيارة دفع رباعي (لاندكروزر) بكامل تسليحها وعتادها. وعندما تساءل عن هوية القوة وتبعيتها قالوا له أن هذه القوة لحماية القبيلة‏[18]. هذه الوضع ليس استثناء في قبيلة واحدة بل أصبح ظاهرة في دارفور. «ومن المؤسف انتساب معظم منسوبي القبائل من متعلمين وموظفين وسياسيين وتجار وقادة إدارة أهلية، للمشاركة في تكوينها… وأصبح للصراعات القبلية المسلحة والحرب في دارفور أمراء يحركونها من أجل الكسب. وهؤلاء «الأمراء» يطلقون عليهم (العقداء)، و«العقيد هو قائد المجموعة المقاتلة ولديه مجلس يضم فرسان القبيلة. وهؤلاء يتسمون بالشراسة والشجاعة والاستبسال في أحلك الظروف»‏[19]. كان نتاج ذلك المناخ أن تكونت قوات لكل قبيلة لحمايتها؛ وهناك أكثر من 10 قبائل لديها مجموعات مسلحة نشأت بعد اشتداد الصراع المسلح بدارفور ولا سيما المكونات العربية وهو صراع أدى إلى مقتل أكثر من 1000 قتيل عام 2010 كما جاء في تقرير «مسح الأسلحة الصغيرة للباحثة (جولي فيلنت عن الصراع القبلي في دارفور)‏[20].

يتضح من الجدول الرقم (1) بجلاء كيف تصاعد العنف القبلي في مجتمع دارفور، وقد أثّـر ذلك في تماسك النسيج الاجتماعي وعلى السلام الاجتماعي وعلى التعايش السلمي والاستقرار بصورة عامة. وربما تستمر هذه الظاهرة لسنوات بل لعقود قادمة إذا لم تتبنَّ الدولة حلولاً جذرية لهذه المشكلة حيث ما زالت هناك مناطق توتر قابلة للانفجار في أي وقت.

إذاً ما زال للقبيلة حضور كثيف في بنية العقل السياسي السوداني، وهي حاضرة بثقافتها وقيمها وأخلاقها في الواقع السياسي السوداني. وهذا يضعف حصيلة البناء السياسي للمجتمع المدني في السودان حيث تم – كما سبقت الإشارة – تسييس القبيلة في الريف وقبلنة السياسة في الحضر وزاد نفوذها في المحاصصة السياسية وتأثيرها على العملية السياسية. والخطورة أنه على أساس هذا التسييس تمت عسكرة للقبائل وتحول بعضها لميليشيات فعززت بنيتها العسكرية والسياسية والاقتصادية، وأصبحت القبيلة قوية في كثير من المناطق وذلك خصماً على هيبة السلطة الرسمية. وتكمن الخطورة الأكبر هنا في نمو «الهويات دون الوطنية» على حساب الهوية الوطنية الجامعة في دولة كالسودان ما زال البعض يعتبرها في حالة التكوين والصيرورة. وربما تتحول القبيلة في السودان إلى كيان أقوى من الدولة كما هو الحال في بعض دول الربيع العربي مثل اليمن وليبيا، وبالتالي من المتوقع أن تؤثر في عملية بناء المجتمع المدني المتماسك والدولة الوطنية المستقرة.

تبدو هذه الخطورة واضحة من خلال إعادة بعث القبلية حتى على المستوى القومي والاستقطاب الجهوي والعرقي وقد ظهرت في هذا السياق مفاهيم جديدة تعبر عن هذا الواقع المشوه والمنقسم جهوياً والمستقطب إثنياً ومن هذه المفاهيم «أولاد البحر» (الجلّابة) مقابل «أولاد الغرب والزرقة» مما خلق فجوة عميقة في نسيج المجتمع السوداني ككل. وأثّـر ذلك في علاقة أبناء الغرب في نظرتهم وتعاملهم وموافقهم إزاء أبناء «الوسط النيلي» ونخبته التي تسيطر على الدائرة الداخلية لصنع السياسة واتخاذ القرار. وزاد من تعزيز هذا التصور لأبناء الغرب وقبائل مناطق الهامش الأخرى (جنوب النيل الأزرق وجنوب كردفان/جبال النوبة) أن التوظيف يتم على هذا الأساس؛ وقد تم التعبير عن ذلك رسمياً بتضمين اسم القبيلة في الأرانيك (الاستمارات) الخاصة بالتقديم للوظائف في الدولة أو الحصول على الخدمات من الأجهزة الرسمية (مثل الأوراق الثبوتية/الهوية).

رابعاً: تسييس وإضعاف الإدارة الأهلية

يتميز السودان بتعدد عرقي قوامه نظام قبلي يشكل عصب البناء الاجتماعي خاصة لكثير من المناطق ولا سيما الريف ومناطق الرحل حتى الآن. وقد شهد السودان عبر التاريخ صراعات قبلية حول الماء والمراعي. فلعبت الإدارة الأهلية دوراً فاعـلاً في فض النزاع والمصالحة وتعزيز التعايش السملي بين مختلف هذه المكونات الاجتماعية المتباينة. وعلى الرغم من انحسار الإدارة الأهلية خاصة في المراكز الحضرية إلا أنها ظلت تقوم بدور «أصيل في تعزيز المصالحات، وهو دور مقبول اجتماعيا وسياسياً. فالإدارة الأهلية حكم محلي تقليدي وطبيعي حيث إن الانتماء للقبيلة ليس أمراً اختيارياً لأن الإنسان يجد نفسه فيها بحكم الانتماء الطبيعي لأواصر القرابة والدم والعشيرة»‏[21].

بصورة عامة تم وصف الإدارة الأهلية (Native Administration) بأنها «تنظيم شعبي يقوم بأداء أعماله الإدارية والاجتماعية بصورة طبيعية وبتكلفة إدارية قليلة وغير بيروقراطية جامدة. فهو يقوم على الأسرة الممتدة ذات الجذور التاريخية السابقة لقيام الدولة الحديثة. وتنبع أهميته في السودان لتعدد وضخامة مكونات نسيجه الاجتماعي. فالقبيلة كيان اجتماعي أصيل في المجتمع السوداني له أسلوب حياته وروابطه الأسروية على مدى تاريخ السودان القديم والحديث»‏[22]. لذلك اعترف الإنكليز بأن القبيلة مؤسسة اجتماعية ذات أهداف لترقية حياة أفرادها؛ واعتمد الأتراك والبريطانيون على نظام «الإدارة الأهلية» كحكم محلي تقليدي فعال لإدارة أرياف السودان وبعض مدنه الصغيرة بصورة فعالة وبتكلفة إدارية رخيصة.

هناك ملاحظة خاصة بالإدارة الأهلية، وهي أنها كانت تتولى عملية فض النزاعات لوحدها منذ عهد الاستعمار وحتى حلها في مطلع السبعينيات من القرن العشرين بواسطة حكومة نميري التي اعتبرتها من المؤسسات الرجعية أو المتخلفة دونما قراءة صحيحة لطبيعة المجتمع السوداني وآليات ضبطه الاجتماعي. فمن عام 1932 وحتى مطلع التسعينيات كان هناك نحو 36 نزاعاً كانت فيها آلية فض النزاع هي الإدارة الأهلية في 13 مرة وفيها 4 مرات جهد مشترك بين الحكومة والإدارة الأهلية من خلال مؤتمرات الصلح. مع ملاحظة أن الإدارة الأهلية تدخلت لوحدها لحل النزاعات الأهلية من عام 1932 وحتى العام 1975 بالكامل 8 مرات، ثم تدخلت الحكومة في عام 1976 و1978. ثم زاد تدخل الحكومة بالاشتراك مع الإدارة الأهلية في الثمانينيات من القرن العشرين. لكن زادت معدلات النزاع القبلي في الثمانينيات، ثم زادت أكثر فأكثر في التسعينيات وفي الألفية الثالثة حيث غابت الإدارة الأهلية أو أصبح دورها ثانوي أو ضعيف. كانت هناك مؤتمرات الصلح التي ترعاها الحكومة بحضور زعامات الإدارة الأهلية الذين تعيِّنهم الحكومة. إذاً الآلية هي – في التحليل النهائي – حكومية فقط. وهنا نلاحظ زيادة تدخل وزيادة الصراع القبلي أيضاً. فبالإضافة لأسباب أخرى أصبحت الحكومة تتدخل لدفع الديات مما شجع الاقتتال القبلي والتارات، حيث يشعر أطراف الصراع بأنه يقتل (ليأخذ ثأره) وتتولى الحكومة الصلح والدفع.

خاتمــــة

وعلى الرغم من أن المجتمع السوداني في معظم مناطقه أصبح أقرب إلى المجتمعات الانتقالية إلا أن بعض أجزائه ما زالت تحكمها الأعراف والقبيلة مما يزيد من أهمية الإدارة الأهلية ومن الحكمة أن تدعم الحكومة الإدارة الأهلية في مناطق دارفور وكذلك أرياف كردفان والشرق. وأن تترك لميكانيزمات المجتمع أن تؤدي دورها الطبيعي في التخلص من النظم التقليدية القديمة وفق قانون التطور الطبيعي للمجتمع. ويمكن بالمزيد من التعليم – رافعة للتوعية – أن تنحسر وتتلاشى الإدارة الأهلية تدريجياً كما حدث في المراكز الحضرية الأخرى في السودان.

ويمكن تلخيص أسباب الصراع القبلي في السودان في:

أ. الصراع حول الأرض: فالأرض هي السبب الرئيسي للصراع – في بدايته عندما كان محدوداً على المستوى المحلي (الحواكير، المراعي، الزراعة: الرُّحل ضد المزارعين).

ب. غياب التنمية الشاملة العادلة مما جعل القبائل تتصارع حول موارد محدودة – مع غياب توظيف هذه الموارد لخدمة الإنسان والحيوان.

ج. إلغاء الإدارة الأهلية، ثم إعادتها مع إضعافها وتسييسها مما نتج منه فراغ إداري وفراغ أمني أدى إلى تصعيد الصراع القبلي والذي تقاطع مع ظهور الحركات المسلحة فاتسع وأصبح أكثر دموية.

د. أداء الميليشيات القبلية لأدوار أمنية هي من صميم عمل الأجهزة الشرطية والقضائية (استعادة مسروقات، تَتبُّـع المجرمين والسارقين، وربما حتى القصاص منه).

هـ. انتشار السلاح بسبب الصراعات في دول الجوار.

و. بعد ظهور الحركات المسلحة أصبح هناك استقطاب حاد للقبائل بين الحكومة والحركات نقل الصراعات القبلية إلى مراحل متقدمة وأكثـر تعقيداً.

وقد توصل البحث إلى ما يلي:

أولاً: الصراعات القبلية أضعفت سلطة الدولة، وسوف تواصل الإضعاف بمساعدة عوامل أخرى، فكثير من مناطق دارفور حالياً تقع تحت سلطة الحركات وتطلق عليها مناطق محررة، أو تحت سيطرة ميليشيات القبائل صاحبة الحواكير التي تفرض سلطتها عند حدوث أي صراع مع قبيلة أخرى منافسة.

ثانياً: بسبب تعرضها للتسييس أصبحت الإدارة الأهلية غير قادرة على إدارة الصراع أو احتواء النزاع كما كان في الماضي. وأصبحت تقف عاجزة أمام إقناع الميليشيات المسلحة بدارفور.

ثالثاً: استمرار الحكومة في دفع الديات في حالات القتل بين القبائل شجع على استمرار الجرائم والعنف..

رابعاً: من الملاحظ أن الصراعات القبلية أصبحت تدار في داخل الخرطوم من قبل نافذين في الدولة، حيث لا مانع لديهم في للوصول إلى السلطة على حساب مصالح أهلهم. إذاً جزء كبير من أسباب الصراعات القبلية هو التطلع للسلطة. وقـد أصبح الانتماء القبلي صاحب الصوت الأعلى نتيجة للمحاصصة في توزيع فرص العمل. وهذه المحاصصة القبلية في الحكم أنتجت طبقة مستثمرة في الصراعات القبلية لذلك يسعون باستمرار لاستمرار النزاع القبلي بإثارة الفتن وبغيرها من الوسائل.

ويوصي هذا البحث المختصر بما يلي:

  1. على الدولة إعادة فرض هيبتها ومراجعة الحكم الفيدرالي بحيث تطبَّق الفدرالية الحقيقية مع الديمقراطية التوافقية والتمثيل النسبي.
  2. إعادة النظر في عملية دفع الديات الذي أصبح يشكل هاجساً لأهل دارفور بسبب أنها تشجع على تفشي الصراع بجانب أنها تمثل حافزاً على استمرار القتل في دارفور.
  3. إعادة الإدارة الأهلية لسابق عهدها بسلطاتها وهيبتها وحيدتها. وأن تترك الحكومة للمجتمع ميكانيزماته وسيرورته الطبيعية بحيث تنحسر ثم تنتهي الإدارة الأهلية تدريجياً بزحف عوامل وظروف الحداثة كما حدث في أجزاء أخرى من السودان.
  4. أن تكف الحكومة عن تسييس الإدارة الأهلية.
  5. إعادة النظر في قوانين الأرض وتعديلها بما يحقق العدالة ويضع حداً للصراع حولها.
  6. محاربة التقاليد السالبة مثل المفهوم التقليدي للحاكورة، الذي يوازي نظام الإقطاع في أوروبا، والعمل على تغيير هذه الثقافة بثقافة المواطنة والقانون وسلطة الدولة المركزية والملكية العامة للأرض.
  7. جمع السلاح من المواطنين ومن القبائل ومن الميليشيات المختلفة وتقوية القوات النظامية وتكثيف نشرها في مناطق التوتر والنـزاع.
  8. أن ترتفع النخبة الدارفورية إلى مستوى المسؤولية التاريخية وتضع في أولوية جدول أعمالها بناء السلام؛ بأن تركز في حوارها مع المركز على المشروعات والتنمية وليست على المناصب، وذلك من أجل تحقيق تغيير اجتماعي حقيقي وقيادة حركة وعي شاملة تقضي على الجهل والتخلف وتوسع في مدارك وآفاق المواطن في دارفور بحيث يحدث تحول كبير في رؤية الفرد لدوره وانتمائه ليتجاوز الولاءات الضيقة (دون الوطنية) إلى الانتماءات والولاءات الوطنية وفوق الوطنية.

 

أخيـراً: مع هذه الاختلالات في الداخل والتي أفرزت حروباً وأزمة اقتصادية وعدم استقرار؛ ومع تأثيرات العولمة والهجـرة والحراك الاجتماعي والاستقطاب الإثني/السياسي، يبرز التساؤل المهم: إلى أين يتجه نظامنا الاجتماعي؟.

 

للمزيد من المواضيع حول السودان اليكم  السودان… إلى أين؟