ملخّص:

إنّ المقاربة النقدية التي تبنّاها قسطنطين زريق في كتاباته المختلفة وتحديدًا في كتابه نحن والمستقبل أفضت على مشروعه الفكري بعدًا استشرافيًا متميّزا تداخلت فيه الاهتمامات التاريخيّة والحضاريّة، ترابطت فيه الإشكاليات والقضايا ترابطًا محكمًا، واتّخذت فيه المرجعيات الغربيّة منحى أخلاقيًا، منطلقه واقع عربي تعدّدت فيه مظاهر التخلّف وتوالت فيه الأزمات والنكبات، فكان بناء المستقبل الأفضل مطلبه والتحليل المستقبلي منهجه، وذلك بغاية إحداث التغيير الذي تنشده المجتمعات العربيّة. لذلك اتّجهنا إلى إبراز مظاهر هذا الفكر المستقبلي في خطابه وأثر المرجعيات الغربيّة في توجيهه ومن ثمّ تبيّن حدود مشروعه المستقبلي.

الكلمات المفتاحية: قسطنطين زريق ، الفكر المستقبلي، الغرب.

مقدمة:

إنّه من التهافت القول أنّ التأثر والتأثير بين الشعوب ظاهرة طبيعيّة وحتميّة عرفتها الحضارات والثّقافات منذ أقدم العصور بتلقائيّة وعفويّة أحيانًا وبوعي وقصديّة أحيانًا أخرى. كما إنّه لمن مكرور القول أيضًا الإقرار بتأثّر المفكّرين العرب في العصر الحديث بالغرب وأفكاره ومنجزاته. ولا يعني إقرارنا هذا تقليلًا من أهمّية تلك الأفكار وتحجيمًا وتحقيرًا لما بذله أولئك المفكّرون من جهد، ولا إلغاءً لما أدخلوه على ذلك الوافد من الفكر من إضافات هي من صلب واقعهم ومتطلّباته، بل إنّنا أميَل إلى الرّأي القائل: “إنّ نهضة العرب الحديثة قد أفادت ولا مراء من العطاء الغربي كما أفادت في الماضي من التّراث الإغريقي والهندي والفارسي لكنّها أثّرت في نظرنا بما يحمل رحم حضارة العرب من موروث متراكم عبر القرون لم يندثر اندثارًا نهائيًا (…) كما أغنت بما يحمله هذا الرّحم من استعداد للتقبّل والتحوّل”([1]).

إنّ خصوصيّة هذا المقال تكمن في النّقاط التالية:

– إنّه لا يتّجه نحو البحث عن مظاهر التفاعل في معناه التبادلي وإنّما هو مقصور على اتّجاه واحد “تأثير الغرب”، وهو تعبير محيل إلى دلالة مركزيّة: هي المركزيّة الثقافيّة الغربيّة التي تفسّر اتّجاهات الغرب اليوم سياسيًا وثقافيًا واقتصاديًا وعسكريًا واستراتيجيًا.

– إنّ عبارة الغرب نفسها تتجاوز دلالتها في الخطاب النهضوي والخطاب الحضاري الحديث دلالتها المعجمية لتضحى مفهومًا معقّدًا ومتشابكًا.

– إنّ ظهور الفكر المستقبلي أو ما نسمّيه “استشرافي” – وهو فكر له أبجديته الخاصّة به – قد ارتبط ظهوره في الوطن العربي ببعض الرّموز الفكريّة العربيّة الذين انخرطوا في هذا التوجّه المستقبلي، حيث دارت أغلب مجهوداتهم الإصلاحيّة حول سؤال النّهضة على خلفية التحدّي التاريخي والحضاري الذي مثّله الغرب. وقد اتّجه فكرهم النّهضوي نحو تركيز مبادئ الحرّية والعقلانيّة والدّولة المدنيّة وتحقيق العدالة الاجتماعيّة وإعادة تفسير التّراث الدّيني وتأويله بما يتناسب ومبادئ الحداثة.

– إنّه لا يمكن الحديث عن قسطنطين زريق بوصفه مفكّرًا فردًا بقدر ما يمثّل جيلًا كاملًا، بل تيّارًا فكريًا شاملًا، كان أحد روّاده الذين رسموا خطوطه الكبرى وأرسوا دعائمه الأساسيّة في الفكر العربي الحديث والمعاصر والذي لا تزال مشاغله المستقبليّة تحتاج إلى مزيد من التأمّل والتدقيق لعلّها تكون نافذة أمل نحو إرساء منهج علمي جديد للتفكير في المستقبل.

إنّ هذه النقاط جميعًا حدّدت الإشكاليات والقضايا التي سنشتغل عليها في هذا المقال، وذلك بالوقوف عند مصطلح الغرب كما تمثّل مفهومه في الخطاب العربي الحديث، فضلًا عن رصد تجلّيات الغرب في توجيه فكر قسطنطين زريق مستأنسين بما شاع بين الدّارسين من تصنيف له وبناء على المفاهيم التي حاول زريق توظيفها في مشروعه المستقبلي، ثم بحثنا في جملة الآليات التي اعتمدها زريق لتحقيق مشروعه ولتأصيله ولإضفاء البعد الذّاتي ولحماية هذه الذّات من الاجتثاث الحضاري، لننتهي إلى نقد هذه الآليات من خلال تبيّن المنحى التوفيقي الذي ميّز فكره بين ليبراليّة مادّية وليبراليّة مثالية أخلاقيّة، وختمنا بتوضيح الإطار الذي تتنزّل فيه إعادة قراءة زريق.

أوّلًا: مفهوم الغرب

لم يعد الغرب مجرّد تحديد جغرافي أو ديني ولا هو كما يقول إدوارد سعيد في سياق تعريفه للشرق، حقيقة خاملة من حقائق الطبيعة، ليس مجرّد وجود ثمّة وإنّما هو مفهوم معقّد يدلّ على كيان جغرافي وكيان تاريخي وكيان ثقافي من صنع الإنسان. إنّه كالشرق تمامًا فكرة ذات تاريخ وتراث من الصّور والمفردات، وقد مثّل بهذه المعاني وهذه الأبعاد محور اهتمام ونظر الكثير من المفكّرين العرب في العصر الحديث والمعاصر.

وعلى هذا الأساس وُجدت معايير جديدة لتحديد الشرق والغرب، أهمّها الآلة والتكنولوجيا والقدرة على توجيه المستقبل. لقد شكّل الغرب عنصرًا فاعلًا في تحديد مفكّري النّهضة العرب لواقعهم وفي تصوّراتهم لملامح المستقبل في نوع من الجدل بين وعي الذّات ووعي الآخر. وكما أنّ هنالك في أذهان المثقّفين ووعيهم صورًا متعدّدة للواقع العربي المعاصر وللتاريخ والثقافة العربيين، فإنّ هناك – في المقابل – صورًا متعددّة ومختلفة لهذه الإنسانيّة المتقدّمة أي لهذا الغرب الذي يظلّ نموذجًا مقبولًا أو مرفوضًا في كلّه أو جزئه”([2]).

ثانيًا: تجليات الغرب في فكر زريق

أين كان موقع زريق من هذا الغرب؟ كيف نظر إلى حضارته وثقافته؟ هل كان ملمًّا بالمرتكزات الفكريّة والنّظرية التي تقوم عليها ثقافة الغرب؟ هل كان واعيًا بنوايا الغرب ونزعته إلى السيطرة الاقتصاديّة والمعرفيّة والسياسيّة على العالم وما يمكن أن يترتّب عن ذلك من نتائج خطيرة كتوحيد نمطي للثقافة البشريّة وما قد ينتج منها من انفجار للهوّيات الخصوصيّة؟

إنّ الغرب بالنّسبة إلى زريق ليس بلاد أوروبا وأمريكا وشعوبها فحسب، بل كلّ بلد أو شعب قبل هذه الحضارة الحديثة التي نشأت في الغرب وتأثّر بها تأثّرًا عميقًا واسعًا، من هذا المنطلق كانت اليابان الشرقيّة أقرب إلى أوروبا منها إلى أكثر مناطق آسيا([3]). وهو من حيث هو كذلك مضمون اقتصادي ومنحى فكري ومنهاج سياسي لا مجرّد فضاء جغرافي. ولعلّ هذه المقولات الأخيرة تمثّل المقوّمات الأساسيّة لتفوّقه المادّي والعسكري والسياسي. ويحصر زريق هذه المقوّمات في النّظام الاقتصادي أصل الثروة وله بدوره آليات ثلاث هي الإنسان والطبيعة والآلة وهي مقولات من صلب الرأسماليّة.

إنّ انبهار زريق بالغرب في صورته هذه تكشفه أساليب خطابه ومضامينه على حدّ السّواء فهو صنو الحضارة الحديثة وهو رمز التقدّم وصانعه، وهو النموذج الذي يحيل إليه وطرف القياس الذي يحتجّ به تحفيزًا للهمم وتحريضًا للعزائم.

لقد شكّل الغرب رافدًا أساسيًا من روافد ثقافة الرّجل نهل من علومه أثناء التحصيل العلمي الأكاديمي واحتكّ بمناهجه ومنظوماته وهو يباشر أعماله الديبلوماسيّة والمعرفيّة، لذلك نجده حاضرًا بكثافة في متون كتبه وفي هوامشها بأعلامه ومفاهيمه([4]). ولكنّ للغرب وجهًا آخر في فكر زريق المستقبلي، إنّه وجه العدو الكامن والخطر المتربّص وهو ما حوّل خطابه إلى خطاب تعبوي تجيشي، وجعل كتاباته المستقبليّة ضربًا من المقاومة الفكريّة، ذلك أنّ الغرب هو العدو الصهيوني الذي يُقبل على البحوث المتقدّمة والأساليب المتطورة، فيقتبس منها ويشارك فيها ويستخدمها في أجهزته العسكريّة، وفي سواها من منظّماته ومنشآته وليس لنا غنى إذا أردنا أن ندفع شرّه ونتغلّب عليه (…) من أن نجاريه في السّباق الشاقّ([5]).

كما أنّ الغرب هو أمريكا رافعة شعار التنميط العولمي وغيرها من الدّول الغربيّة المتقدّمة التي تبذل الكثير من المال والجهد في محاولات لتحرّي المستقبل، وهي في الحقيقة “محاولات برجوازيّة رأسماليّة ترمي إلى استعمار المستقبل”([6]).

إنّ هذا الوجه المركّب للغرب يثير في زريق مختلف الأحاسيس، من إعجاب واِزدهاء ورهبة وذهول وارتياع، وهو ما يفسّر سعيه لإيجاد آليات تحصّن خصوصيات مجتمعه من الانصهار، وتحصّن مشروعه المستقبلي من التفكّك والانهيار.

إلّا أنّ الدّراسات والبحوث التي أُجريت على أفكاره وكتاباته درج أصحابها على تصنيفه ضمن تيّارات فكريّة معيّنة فهو داعية للعقلانيّة عند هذا المفكّر ورائد الليبراليّة عند ذلك وممثّل للوضعيّة عند الآخر.

1- النّزعة الليبراليّة

إنّ الحديث عن الليبراليّة من حيث هي فلسفة وعقيدة وممارسة يقتضي الانتباه إلى ما عرفته هذه المنظومة من تطوّر وما مرّت به من مراحل متباينة زمانيًا ومضمونيًا وما خضعت له تبعًا لذلك من تصنيفات بين ليبراليّة بريطانيّة وليبراليّة أوروبيّة غربيّة وليبراليّة أمريكيّة. أمّا عبد الله العروي فيتحدث عن أربع مراحل لليبراليّة([7]):

– ليبراليّة التكوين: حيث كانت وجها من وجوه الفلسفة الغربيّة المرتكزة على مفهوم الذّات.

– ليبراليّة الاستقلال: والتي انقطعت عن الاتّجاه الدّيمقراطي.

وأخيرًا ليبراليّة التقوقع وقد أضحت محاطة بالأخطار لاستحالة تحقيقها.

ولعلّنا نضيف إليها ليبراليّة التوحّش مجسّدة في الاقتصاد المعولم وسيطرة الشركات المتعدّدة الجنسيات والبنوك والمؤسّسات العالمية.

إنّ الهدف من هذا التصنيف هو البحث عن نوع الليبراليّة التي أثّرت في أفكار زريق ووجّهت مشروعه المستقبلي.

الحقيقة إنّ زريق وغيره من مفكّري عصره قد تعاملوا مع المنظومة مكتملة في مرحلتها الرابعة بتحديد العروي، تلك المرحلة التي قامت على النّقد والانكفاء على الذّات، لكن دون أن تخلو من أثار سابقاتها. فلا غرابة أن نجد في كتابات زريق توظيفًا لمفاهيم الليبراليّة الأساسيّة في مراحلها المختلفة في سياقات متجاورة ومتداخلة يحيل بعضها على البعض، فالحرّية أساس الديمقراطيّة والديمقراطيّة وجه من وجوه الليبراليّة والمبادرة قوام الإبداع، والإبداع شرط التقدّم وتحقيق المرغوب فيه في المستقبل.

ورغم تعدّد مفاهيم الليبراليّة – التي نجدها مبثوثة في مشروع زريق المستقبلي – فإنّ مفاهيم الحرّية والعلمانيّة والعقلانيّة والدّولة هي الأكثر تداولًا في كتاباته.

أ- الحرّية

يقرّ زريق “أن الحرّية حقّ الإنسان الأساسي ودرعه التي يصون بها كرامته من الامتهان والابتذال”([8])، فالحرّية حقّ مقدّس وواجب الدّولة بل مبرّر وجودها، هو حماية هذا الحقّ ومشروعيّتها تقاس بمدى إسهامها في تحقيقه، وذلك بتحريره من الحواجز التي تحول دونه والفعل، ذلك أنّ الغاية التي يجب أن تنصبّ فيها جميع الغايات هي تحرير الإنسان جسدًا وعقلًا ونفسًا من قيوده الخارجيّة ومن نقائصه الداخليّة وتمكينه من اكتساب كرامته الذاتيّة ورقية الكياني([9]).

وبالنّظر في الحواجز التي تحدّ من حرّية الإنسان الطبيعيّة يتّضح لنا اتّساع مفهوم الحرّية عند زريق وأنّ هذه الحواجز تتمثّل بـ “مختلف أنواع الظلم وأسباب التخلّف([10]) التي تحول دون الإنسان والتمتّع بالعدل والمساواة والتقدّم، وتحول دون الإنسان واستغلال الإمكانات المتاحة له لتحقيق التقدّم، فتتعدّد مستويات الحرّية وفق هذا المنظور، من حرّية اجتماعيّة وحرّية سياسيّة وحرّية اقتصاديّة وحرّية فكريّة ويحاول أن يضبط لها المعايير التي تقدّر حجم حضورها أو غيابها. وما يلفت الانتباه في هذا المستوى هو غياب التأصيل النّظري لحساب التوظيف الذرائعي، فإن زريق لا يضع الحرّية في إطار فلسفي ولا يبحث عن أصلها ومداها، ولكنّه يكتفي بوصفها وتعداد ثمارها والمطالبة بها من حيث هي حقّ بديهي وضرورة من ضروريات الإبداع وشرط من شروط قيام المستقبل المرغوب فيه، ذلك أنّ المواطنين الأحرار والإرادة الحرّة وحدها القادرة على صنع المستقبل.

ثم إنّ هذه الحرّية ستكون وسيلة لكفّ الظلم السياسي فهي “حاجة أساسيّة لمحاسبة ذوي السلطان ولضمان كرامة الإنسان”([11]) وهي وسيلة لكفّ التخلّف طالما هي قرينة التحضّر والإبداع. فإذا كان جوهر التحضّر هو التحرّر فمعنى تخلّفنا هو أنّنا لم نجز ما جازته الشعوب التي سبقتنا في هذا المضمار([12])، على أنّ زريق لا يريد هذه الحرّية مطلقة أو منفلتة وإنّما يريدها حرّية محكومة بعقلانيّة مرتهنة بها لأنّ غياب المسؤوليّة ينشر الفوضى ويجعل من هذه الحرّية مبرّر للعدد من النّزاعات الخطيرة على الدّول وعلى المجموعة البشريّة قاطبة.

ب- العلمانيّة

يتبنّى زريق العلمانيّة تبنّيًا قاطعًا فيرفض أن يكون الدّين عنصرًا محدّدًا للقومية دون أن ينكر أهمّيّة الأديان في جوهرها. إنّ العلمانيّة بالنّسبة إليه ليست نقيضًا أو ضدًّا للدّين وإنّما هي نقيض المذهبيّة الطائفيّة التي تشظّي المجتمع وتشتّت الوعي وتحول دون الاندماج والوحدة. فالعلمانيّة آليّة تحقّق الحقوق المدنيّة وتضمن استقرار المجتمع وتوازنه “فلا يكون لمنتسب لدين أو طائفة أيّ امتياز على مواطن من دين آخر أو طائفة مختلفة”([13]).

لقد حرص زريق كلّ الحرص على تجذير هذا المبدأ حرصه على تجذير الهوّية والانسجام والمضي في صنع الغدّ وهو يدعو إلى جعلها أساسًا للدّولة المنشودة حفظًا لحقوق الأقلّيات ودرءًا للتشتّت والتفاخر، ومعنى هذا السعي هو السير في علمنة الدّولة([14])، ذلك أنّ النّزاعات الطائفيّة والدينيّة وما انجرّ عنها من تناحر، نخر كيان الأمّة وكان عامل تخلّف ومساعد على هدر طاقات المجتمع ومبشّر لدخول المستعمر. وفي هذا الإلحاح على العلمانيّة تحصين للذّات من ناحية، وتجميع للجهود من ناحية ثانية، وحفظ للخصوصيات الثقافيّة للأقليات ووعي بما يمكن أن يوفّره تفاعلها تفاعلًا إيجابيًا من ثراء ثقافي ومعرفي من ناحية ثالثة.

لقد بدا واضحًا أنّ زريق واعٍ بمكوّنات المجتمع العربي ملتقط لما يعيشه من تجاذبات وتفكّك وما يخضع له من ضغوط لذلك ما انفكّ يلحّ على العلمانيّة فكرًا وممارسة شرطًا من شروط القوميّة وصفة من صفات العقلانيّة ومناخا للتفكير العلمي المنشود وآلية من آليات تحرير الفرد والمجتمع وعاملًا من عوامل الإبداع والابتكار والتحضّر.

ج- العقلانية

يجعل زريق هذه العقلانيّة قوام العقليّة المستقبليّة، وهي الآلية التي رشّحها لرسم ملامح الغدّ وتحديد آفاقه بديلًا من العقليّة التي أنجبت السائد بكلّ مساوئه، وعجزت عن تحقيق مطامح الشّعوب. وأساس العقلانيّة التي يدعو إليها زريق العقل بدلًا من أنماط التفكير الأخرى، الخرافة والأسطورة يقول “العقلانيّة إيمان بالعقل اليقظ المتطوّر الفاعل رائدًا وضابطًا وحاكمًا والعمل بوحي هذا الإيمان”([15])، وهي بذلك منافية “للماضوية” ولكنّها في الوقت نفسه تحرص على جوهر التّراث وتحافظ على أصالته، وهي القادرة على إخضاع التّراث لحاجات الغدّ ومطالبه، وللعقلانيّة بهذا المعنى شروط منتقاة ولها وظائف محدّدة. أمّا شروطها فاليقظة والتطوّر والفاعليّة، وأمّا وظائفها فريادة وتخطيط وضبط وحكم، والمعجم يحيل في جوهره على مرجعيات فكريّة غربيّة مختلفة، فيها قبس من عقلانيّة القرن الثامن عشر وبعض من وضعيّة القرن التاسع عشر وشيء من أثار فلسفة باشلار ومايرسون وبصمات جليّة من تطوّرية داروين وسبانسر. وهي بهذه الصيغة التركيبيّة التأليفيّة أداة ضرورية لاستيعاب الحاضر وبناء المستقبل وتقييم الماضي، بها يتمّ الخروج من السائد والتطلّع إلى الغدّ وبها تتمّ المحافظة على ذلك المستقبل المرغوب فيه لذلك فأهمّ ميزاتها، هذا الاتّجاه إلى القادم انسجاما مع حركة الوجود وحركة الفكر في آن، “إنّ العقلانيّة بطبيعتها تقدّمية، مستقبليّة تتعارض إلى حدّ بعيد والنّظرة الرجعيّة”([16]). لكنّ هذه العقلانيّة لا تحقّق المهام المنوطة بها لصنع الغدّ الأفضل إلّا إذا قامت على جملة من الخصائص أهمّها، المساءلة والنّقد الذي يحول دون تحوّل العقلانيّة إلى صنم بال، والشّمول والتعاون الذي ينأى بالعقلانيّة عن التمركز حول رؤية فريدة للمستقبل ويلغي الذّاتية والأنانيّة، والمرونة والتكيّف التي تجعل من العقلانيّة منفتحة على كلّ جديد طيّعة في يد الإنسان وبذلك يتحقّق التّجديد والإبداع علامة الازدهار وعامل التطوّر والترقّي. وتتأسّس عقلانيّة زريق على ثلاثة أركان أساسيّة هما الموضوعيّة والواقعيّة من جهة أولى والانتهاج العلمي من جهة ثانية والالتزام الخلقي من جهة ثالثة.

لقد تحوّلت العقلانيّة مع زريق إلى عقيدة راسخة التزم بها في كتاباته سواء من حيث المضمون النّظري أو من حيث الممارسة التطبيقيّة فسلّط هذه الآلية على واقع المجتمع العربي في نقد جريء كاشفًا عن مواطن الدّاء الكامنة دون أن يلتفت إلى خارجه ويُلقي بالمسؤوليّة على الأطراف والمؤثّرات الخارجيّة، كما نجد عنده إلحاحا دائما على خطورة غياب العقلانيّة وسعيًا مستميتًا إلى نشر مفاهيمها وترويجها.

إنّ خلفية هذا الحرص واضحة في ضوء الأوضاع التاريخيّة والحضاريّة التي كانت عليها المجتمعات العربيّة في منتصف السبعينيات وقد وقف المفكّر يراجع نفسه ويعيد النّظر في أطروحاته ويواجه من جديد السؤال النازف: كيف ينخرط العرب من جديد في مسار الحضارة؟ كيف نبتكر مشروعًا مستقبليًا ناجحًا ننافس به المشروع الغربي للمستقبل؟ فكانت العقلانيّة الحبل الذي اعتصم به أغلب المفكّرين العرب لمجابهة التحدّيات وتبديل أوجه الحياة تبديلًا جذريًا، كما كانت العقلانيّة “خير مرتكز لإشاعة ثقافة عالمة معولمة”([17])، وهو مسار طويل لم تكتمل صوره، فالعقلانيّة “إنّما تصحّ وتكتمل عندما تصبح خلقاً ولا نظنّنا مخطئين عندما نقول إنّ العقلانيّة المكتملة كانت مصدرًا لأفضل الإنجازات والإبداعات في التاريخ وإنّها ستكون في المستقبل لا مصدر الإبداع فحسب بل قوام البقاء والتقدّم([18]).

د- الدّولة

لقد احتلّت المسألة السياسيّة حيّزًا مهمًّا في خطاب وتفكير زريق المستقبلي، بل إنّ معالجته لهذه المسألة لا تحيد عن منحى “الخطاب النّهضوي العام”([19])، فقد كانت مقولة الدّولة ظاهرة كامنة في ثنايا خطابه. ولمّا كانت الدّولة في التصوّر الليبرالي تابعة للفرد مرتبطة به على أساس أنّه المرتكز النّظري الأساسي في المنظومة الليبراليّة وبمبدأ الحرّية ذات صبغة أداتيّة بحتة، واجبها ضمان أمن الفرد وحماية حرّيته من كلّ قيد حتى يفسح أمامه مجال الفعل والمبادرة في مناخ يحدّده شعار “دعه يعمل دعه يمرّ”. وفي ضوء هذه الرّؤية جاء تصوّر زريق للدّولة وفيًا إلى حدّ بعيد لهذه المرجعيّة الليبراليّة، وجاء نقده اللاذع للأنظمة العربيّة السائدة متلوّنًا بهذه الصبغة “ويبقى الواقع الذي لا يمكن إنكاره وهو أنّ النّظم التي نتكلّم عنها والتي تقوم اليوم في أكثر البلدان المتخلّفة تؤدّي إلى تقييد الحرّيات”([20]). ولذلك كانت هذه الأنظمة الاستبداديّة عامل تخلّف وسببًا في تأبيده واستمراره، لهذا دعا زريق إلى إصلاح الأنظمة إصلاحًا يحقّق النّموذج الذي يطمح إليه وترغب فيه المجتمعات العربيّة والذي يكون أداة ناجعة لبلوغ التقدّم “فالمثل الأعلى الذي يصحّ أن يُبتغى في تغيير الأنظمة تعديلًا أو تبديلًا هو الجمع بين الفعاليّة السريعة ما أمكن وبين الحرّية”([21]).

وهو مفهوم بقدر ما يطابق التصوّر الليبرالي – ولا سيما في مرحلتها الأخيرة – بجمعه بين مفهومَي الفعاليّة والحرّية يعبّر عن ضغوط اللحظة التي تثقل كاهل المفكّر العربي وتقضّ مضجعه فهو أحوج ما يمكن لأداة ناجعة تبدّل تبديلًا سريعًا التخلّف بتقدّم والاستبداد بالدّيمقراطية. وباستنطاق النصّ تتبيّن لنا أكثر ملامح هذه الدّولة المنشودة، إنّها دولة تشيع الحرّية والعدالة والمساواة بين أفرادها وتتّبع سياسة علميّة تضمن ازدهار العلم وتقدّم المجتمع وتقوم على مؤسسات وهياكل دقيقة ومنظّمة، فتضمن مواكبة الحضارة وتكون علمانيّة فتضمن حقوق الأقلّيات المدنيّة وتتحقّق العدالة والمساواة وتقوم على اقتصاد متين يحقّق الثروة. وبذلك تترابط الأبعاد الاجتماعيّة والاقتصاديّة في هذا التصوّر ويصبح “لا ضرورة لأن نردّد هنا ما أصبح واضحًا بشأن الديمقراطيّة السياسيّة والعدالة الاقتصاديّة والمساواة بين المواطنين وإقامة الإدارة الصالحة والأجهزة التربويّة المتجدّدة وما إلى ذلك من مقوّمات المجتمع المتحضّر والدّولة المتطوّرة”([22]).

ولئن بدت هذه الدّولة في الغالب ليبراليّة المضمون رأسماليّة الاختيار، فإنّ النّزعة البراغماتيّة الذرائعيّة التي طغت على تفكير زريق جعلته يتجاوز المنظومة الليبراليّة ويعطي للدّولة أهمّية ودورًا أكبر – على حساب الحرّية – في سبيل تحقيق الفعاليّة الأسرع استجابة للظرفيّة الرّاهنة “لا شكّ إنّ متطلّبات التحرّر والتنمية – وهي متطلّبات ضخمة وملحّة – تقتضي سلطة مركزيّة تستطيع اتّخاذ القرارات الناجزة السريعة”([23]).

عمومًا تبدو الدّولة المرغوب فيها في خطاب زريق شرقيّة الرّوح والخلق غربيّة الشّكل والمؤسّسات تحكمها ديمقراطيّة شكليّة كالتي تتعامل بها الدّيمقراطيات البرجوازيّة في الغرب الليبرالي”([24]).

 

2- النّزعة الوضعيّة

مرّت مسيرة الفكر الإنسانيّ حسب أوغست كونت بمراحل ثلاث، أولاها المرحلة اللاهوتية، وثانيتها المرحلة الميتافيزيقيّة، وأخيرًا المرحلة الوضعيّة أو المرحلة العلميّة التي تميّزت بإقصاء كلّ الاعتبارات الدّينيّة والفلسفيّة في محاولة فهم الطبيعة، وبالتّالي فإنّ كلّ محاولة لتكوين معرفة علميّة بالواقع لا يكون إلّا بالانفتاح على تمظهرات الواقع المحسوس أي دون إسقاط لأي اعتبارات ذاتيّة قيميّة كيفيّة تتجاوزه وتتعالى عنه ولا يكون ذلك إلّا باتّباع منهج تجريبي يضمن الرّجوع دومًا إلى الواقع فيتحقّق بذلك موضوعيّة نتائج المعرفة العلميّة.

وبالنّظر في مشروع زريق المستقبلي نلاحظ حضور بعض هذه المفاهيم الوضعيّة في كتاباته.

أ- العلمويّة

اجتهد زريق في كتاباته([25]) في تحديد طبيعة العلم ومقتضياته اجتهادًا ينمّ عن رغبة في تأصيل هذه النّزعة العلمويّة داخل المجتمع العربي؛ يبرّره إيمان راسخ وقناعة أصيلة بأنّ العلم خير سبيل لاستشراف المستقبل وتحديد خصائصه ولاستيعاب الحاضر وحلّ معضلاته ومواجهة تحدّياته المختلفة ملاحظًا أنّ “النمط العلمي الرّيادي التحسّبي” وحده القادر على إعادة التوازن إلى الإنسانيّة “لأنّه يحرص على أن يظلّ ملتصقًا بالواقع ويتّبع أسلوبًا تجريبيًا ويخضع نتائجه وأسلوبه للنّقد والامتحان ويحاول أن يفي بشتّى مقتضيات البحث الاختياري الموضوعي”([26]). وبهذا المعنى يشكّل العلم التجريبي الأساس الأنسب لمستقبل أضمن، ويجعل التطلّع إلى المستقبل بعيدًا من التنبّؤ غير المحسوب والتخيّل الواهي وهو في اعتماده الدّراسات ذات التخصّصات المتنوعة والأبحاث الجادّة أقرب إلى العلوم الدقيقة.

وتعود هذه الأهمّية التي يوليها زريق إلى العلم إلى أكثر من جانب، أهمّها:

– جسامة التحدّيات التي تواجهها الإنسانيّة، فأمام الإنسانيّة تحدّيان رئيسيان، تحدّي البقاء أو الاندثار، وتحدّي الصحّة والكرامة أو الاعتدال والامتهان.

– جسامة الوظائف التي ينيطها بعهدته والتي تتعلّق بالحاضر والمستقبل، فالعلم وهو ينشر المعرفة ينشر الوعي بمعوّقات التقدّم وكسب رهان المستقبل ويحفّز الهمم لتجاوز الواقع الرّاهن “فتتلمس وجوه التحرّر والتقدّم والرّقي”([27]).

وأوّل مظاهر التحرّر تتمثّل بمقاومة التخلّف وذلك بتجديد المناهج والمضامين وإحداث نقلة نوعيّة في المجتمع تنتشله من علله المزمنة بخلق “قدرة عقليّة وخلقيّة مؤهّلة للكشف والابتكار”([28])، ذلك أنّ الإبداع المنتظر يتجاوز كونه علميًا تكنولوجيًا ليصبح الإبداع هو القدرة على صنع الذّات وتحويل الإمكانات المتاحة إلى ثروة وقوّة. ولذلك يغدو العلم مقياسًا لدرجة تقدّم أو تخلّف أي مجتمع. من هذا المنطلق يفترض زريق أن تتبع الدّولة سياسة علميّة وأن يتصدّر العلم مطالب المجتمع وأهداف الدولة، إنّه يريد أن يجعل منه “شغل المجتمع الشاغل ومطلب السلطات والهيئات والأفراد”([29]). لذا “يحسن بنا أن نُقبل على علوم الغرب بقلوب متواضعة ونفوس ظمأى ونروي عقولنا من منابعه النقيّة”([30]).

ويوضّح زريق أنّ هذا الاختيار الذي يفترضه يحتاج من التكاليف الشيء الكثير، وبرغم ذلك يبقى ضروريًا ولا بديل منه موظّفا في ذلك المقارنة ذات البعد الاستفزازي باستحضار النّموذج الغربي ممثّلًا بالنموذج الصهيوني بتخصيصه ميزانية مهمّة للبحث العلمي والتي من شأنها أن تدعم تفوّقه السياسي والعسكري. وينتهي زريق إلى تعميم المسؤوليّة بقوله “غدا العلم ضرورة عامّة وحاجة ملحّة ومهمّة عسيرة التكاليف ملقاة على عاتق الدّولة والمواطنين جميعًا”([31]).

وبقدر ما مثّل الغرب في هذا المستوى المرجعيّة الفكريّة والنّموذج المستلهم بوصفه يجعل العلم أساس تقدّمه ويجعل الالتحاق بركبه مطمح الدّول المتخلّفة، كان الغرب أيضًا مصدر الخطر الذي بتحكّمه بناصية العلم وتوجيهه له يبقى متحكّمًا بالضرورة في الاستراتيجيات المستقبليّة للعالم ولن يسمح بدخول أي بلد من البلدان النامية إلى حلبة المنافسة على أرزاق العالم المتقدّم ومقدّراته، ولعلّ ما يحدث على السّاحة العربيّة اليوم ما يثبت هذا المنحى من خلال معاملة الغرب، العرب وإسرائيل بمكيالين.

من هنا تصبح العلمويّة تفكيرًا وممارسة، وسيلة في ذاتها لتحصين الذّات أمام ذات أخرى توظّف العلم لمزيد من السيادة والتملّك، فالإيمان بالعلم ومقتضياته شرط صنو للإيمان بقومية المعركة المزدوجة مع الصهيونية وكلّ أشكال الاستعمار الجديد وهما معًا شرطا مشروع زريق المستقبلي.

ب- المنهج التجريبي

إنّ الحديث عن المنهج التجريبي في الحقيقة غير مستقلّ عن الحديث عن العلم، ذلك أنّ المنهج من متعلّقات العلم ومقتضياته وهما معًا تجلٍّ للنّزعة العلموية ذاتها، إلّا أنّ أهمّية هذا المنهج بخطواته التي وضعها روّاد الوضعيّة وإلحاح زريق على اعتماده في العلوم بشقّيه التكنولوجي والإنساني جعلنا نهتمّ به معزولًا منهجيًا عن العلم والعلمويّة.

يعرّف زريق العلم بقوله “هو النّهج الذي يعتمد المشاهدة والاستقراء والتثبّت بالتجريب والاختيار والقياس والتنسيق والافتراض والتعليل توصّلًا إلى صوغ النّظريات والقوانين التي تربط الحقائق المكتشفة وتؤلّف بينها”([32]).

إنّه تحديد مطابق تمام المطابقة لخصائص المنهج التجريبي الوضعي كما ظهر وازدهر في الغرب، ويتبنّى زريق هذا المنهج ويحاول أن يؤصّله منهجًا رائدًا أنتجته العقلانيّة الغربيّة في تعليل الظواهر وكشف الحقائق يقول: “أمّا التعليل العقلاني الطبيعي فقد ظهرت بوادره عند اليونان ثم تجلّت تجليًا بطيئًا ومتدرّجًا في تطوّرات العلم الطبيعي الوضعي وانتهت أخيرًا إلى سيادة النّهج الاختباري والتعليل العلمي سيادة كاملة أو شبه كاملة”([33]).

وعلى هذا الأساس جعل زريق من المنهج العلمي أحد أركان العقلانيّة وأسًّا مركزيًا للعقلية المستقبليّة، به يعاين الواقع، تشخّص أعراضه في دقّة وصرامة وتضبط الحلول المناسبة ضبطًا علميًا، وبه أيضًا تتحدّد المعارف ويتّسع نطاقها عبر تعديلها المستمر وإخضاعها الدائم للنّقد والمساءلة فتتكوّن للمجتمع قدرة علمية هي في ذاتها أساس القدرة الذّاتية التي يعوّل عليها زريق في بناء المستقبل والمحافظة عليه من المخاطر التي تهدّده. فالعقلانيّة التي ينشدها زريق هي العقلانيّة الإنسانيّة المنفتحة التي تتجاوز الزّمان والمكان وهي تتنزّل ضمن مشروع نقدي ذاتي ومشروع نقدي عام، يعود إلى المعرفة ليبحث في العلم ويعيد إنتاج معرفة أخرى على أنقاضها قصد تجاوز مظاهر التخلّف العربي. ولمّا كان زريق يرشّح هذا المبدأ بديلًا من المناهج التقليديّة، فإنّه يوضّح منذ البداية ما يتطلّبه هذا المنهج من جهد، ذلك أنّ الالتزام به والانضباط لقواعده مكابدة مسؤولة وواعية وكأنّ زريق يحذّر من الجنوح إلى الاتّكال والخمول في تطبيق هذا المنهج فلا تكون ثماره على قدر الآمال المعلّقة عليه، تحصيل المعرفة بالحقيقة بكلّ أمانة وموضوعيّة.

ولا يتبنّى زريق هذا المنحى التجريبي على المستوى النّظري وحسب ولا يقف حدّ المطالبة به، وإنّما يحاول التزامه في معالجة المواضيع التي يطرحها رغم خصوصيّة المعرفة التي ينتجها، فمنهج زريق في البحث يكاد يكون في كلّ أعماله منهجًا علميًا تجريبيًا، إذ كثيرًا ما ينطلق من ملاحظة الواقع وتحليل أعراضه وعبر ضرب من المقارنة والقياس والافتراض يصل إلى نتائج ذات طابع إطلاقي صارم يجعلها أقرب إلى القانون العلمي منها إلى آراء نظريّة أو مواقف فكريّة، ولهذا تميّزت كتاباته بدرجة عالية من التجريد، كما أنّه كثيرًا ما يستند في استدلالاته إلى حقائق علمية موثّقة أرقامًا وإحصاءات.

ج- الموضوعيّة والواقعيّة

إنّ العلم من حيث هو تعلّق بقيمة أصلية هي طلب الحقيقة لا يمكن له أن يتحقّق في غياب الموضوعيّة والواقعيّة، ولمّا كان مطمح زريق مجتمعًا علميًا بالأساس، فقد جعل العقلانيّة التي تتأسّس عليها العقلية المستقبليّة تقوم على هذا المبدأ ذلك أنّ فهم الواقع والتخلّص من عوامل التخلّف التي تسمه لا يتمّ إلّا متى نظرنا إلى هذا الواقع مجرّدين من رغباتنا وأهوائنا متعالين عن مشاعر الكبر الزائفة متخلّصين من أحاسيس المجد والزّهو القديم، منعتقين من أسر الصّور الوهميّة التي نصنعها لأنفسنا ولكن دون الوقوع أيضًا في جلد الذّات حدّ استصغارها أو رمي الآخر بذنوبنا حدّ العويل على أنفسنا ضحايا لا حول لنا ولا قوّة أو الانجرار وراء مقولة المؤامرة.

تلك هي حدود الموضوعيّة والواقعيّة شرطًا للاستشراف الدّقيق والرّؤية الواضحة يقول فهمي جدعان “إنّ أيّ تحضير أو استشراف للمستقبل لا يمكن أن يكون له من نقطة انطلاق سوى المعطيات الرّاهنة والواقع المباشر”([34]). وبعبارة أخرى، إنّ الواقعيّة تعني نقل الواقع كما هو لا كما يراه المرء أو تريده النّفس أمّا الموضوعيّة فتعني حفظ مسافة بين الذّات العارفة وموضوع المعرفة أي الالتزام بموقف معرفي.

لقد ألحّ زريق على أن يكون هذا المبدأ التزامًا واعيًا في إعداد المستقبل وفي تقييم الحاضر إذ لا يكفي أن يكون تلقائيًا مستجيبًا لعفو البديهة وخالص النيّة فلا يصاحب بالحرص اللازم والجهد المطلوب والوعي الضروري، فالواقع معقّد متشابك متداخل المعطيات وليس صورة مسطّحة جليّة، والأهواء ليست مجرّد ميول طبيعيّة وإنّما هي نتاج تطوّر وسائل الاتصال التي باتت تغيّر الحقيقة بل تصنعها بالصّورة والخبر. ولا يريد زريق من الواقعيّة تكريسًا للسائد واستسلامًا له وإنّما يريدها واقعيّة مسؤولة عن تقديم الحقيقة كي يتّسم كلّ ما سيترتّب عنها بالنّجاعة والفاعليّة.

ويظهر زريق حرصه على الالتزام بهذا المبدأ في تشخيصه للواقع العربي حتّى بدا نقده لاذعًا شمل الجوانب المختلفة لحياة المجتمع العقليّة والمادّية الفرديّة والجماعيّة داعيًا إلى تغييرها وتبديلها وتحويلها تحويلًا جذريًا، فيغادر المجتمع بذلك الفقر والجهل والمرض والاقتصاد الرعوي المفتقد للآلة والأساليب العصريّة والتشتّت الطائفي ويضع حدًّا للثروات المهدرة والمهرّبة في البنوك الأجنبيّة. فالتخلّف صفة أساسيّة في هذا المجتمع ولكنّ الوجه الآخر هو الإمكانات الوفيرة التي تضمن مستقبلًا أجمل لو استغلّت ووظّفت على الوجه الأنسب يقول “إنّ المجتمع العربي غنيّ بإمكانات التقدّم، فقير بإنجازاته الفصلية”([35]). ويؤكّد باستمرار أنّ إمكان التغيّر والتبدّل وارد متى توافرت الإرادة البشريّة الصّادقة “فالحياة الحقيقيّة هي ما نصنع والتاريخ هو ما نفعل ونكون”([36]).

وخلاصة مقالنا ما يتعلّق بتجليات النّزعة الليبرالية والنّزعة الوضعيّة في تفكير زريق المستقبليّة، إنّها تنمّ عن انبهار بمظاهر التقدّم الغربي حدّ الوقوع تحت وطأة بعض مقولات الاستشراق.

كما أنّها تعبّر عن رغبة متلهّفة للانخراط في مشروع الحداثة والمعاصرة استحالت “إيمانًا يقتضي الدّعوة والتبشير والمنافحة التي تستدعي تضخيم فضائل العقيدة وإبراز خصالها والتغاضي عن نقائصها”([37]).

لكن رغم كثافة مفاهيم الليبرالية والوضعيّة والمقولات الرأسماليّة في مشروع زريق المستقبلي ورغم التهليل والتمجيد الذي طبع خطابه عن العلم والانتهاج العلمي، فقد اهتدى إلى عالم التوازن، بين العقلانيّة ومنتهاها المادّي والإنساني وحاجاته البشريّة وذلك بالتنبيه إلى أهمّية الغايات وعدم الاقتصار على الوسائل بمعنى أنّ هذه العقلانيّة مطالبة بالوقوف على علل العلم الحديث وما قد ينجرّ عن تطبيقاته من أذى وأضرار تمسّ الإنسان. فهذا الالتزام الخلقي ضمان إيمان وحارس يرصد أخطار العلم الذي يباركه زريق ويسنده ولكنّه في المقابل لا يغفل عن عوامل الفساد والدّمار فيه لينتهي إلى الإقرار بأنّ العقلانيّة إنّما تصحّ وتكتمل عندما تصبح خلقًا وعقلانية الخلق هي المطلوبة في المستقبل لأنّها مصدر الإبداع وهي قوام البقاء والتقدّم.

ثالثًا: وسائط تغيير أم وسائل تحصين

 

1- الهوّية

تحتل الفكرة القوميّة موقعًا مميّزًا في مشروع زريق المستقبلي وهي عنده واسطة لا غاية، تندرج ضمن مشروع أكبر وتتوسّل من أجل غاية أبعد هي تحرير الإنسان وإسعاده وهي آليّة ضروريّة للتصدّي للمشروع الصهيوني وصدع النّزاع الطائفي الذي ينخر الأقطار العربيّة. ويحرص زريق على ترسيخ هذه الآلية وعلى غرس الوعي بمقوّماتها مشدّدًا على العناصر المشتركة التي تؤلّف وتربط بين الشعوب العربيّة داحضًا المقوّمات التي من شأنها أن تفرّق وتشتّت، فيرفض مثلًا اعتبار الجنس أو الدّين مقوّما للهوّية على اعتبار الأوّل مقولة باتت لاغية بحكم تمازج الأجناس، أمّا الثاني فيدخل في ما يسمّى الخصوصيات التي تثري ولكن لا تفرّق، فبدا زريق في هذا المستوى على وعي دقيق بمكوّنات المجتمع العربي من ناحية وعلى وعي أيضًا بما تشكّله هذه الزاوية من ثغرات. أمّا المقوّمات التي يلحّ عليها فهي اللغة والثقافة والتاريخ المشترك([38]) والجغرافيّة والمصلحيّة([39]).

إنّ خطاب زريق عن الهوّية القوميّة خطاب تحصين إذ يسعى من خلاله إلى إظهار الخصوصيّة من ناحية، وإلى تأصيلها وتعميق الوعي بها عاملًا لتماسك المجتمع وترابطه ووحدته من ناحية ثانية، وهي شعار يردّ بها على مساع استفزازيّة ترمي إلى تذويب الشخصيّة العربيّة وصهرها في غيرها وطمس ملامحها. وبذلك يتّضح البعد النّضالي التعبوي لفكر زريق فهو لا يخرج عن فكر المقاومة والهوّية آلية دفاع بإثبات عمق الشخصيّة العربيّة وتجذّرها وتماسك عناصرها تماسكًا لا يمكن أن تنال منه محاولات التهميش والتشتّت إذا ما توافر الوعي بالوشائح التي تربط مجتمعاته، وإذا تفاعلت هذه العناصر فيما بينها تفاعلًا يحقّق الثّراء والخصوبة والولاء القومي شرط للتقدّم أكيد، “فبقدر ما تسعى المجتمعات المتخلّفة إلى أن تتحدث وبقدر الرّغبة الدافعة إلى هذا السعي تجد نفسها مدعوّة إلى أن تفكر وتنهج وتخطّط قوميًا”([40]).

والغرب في هذا المستوى علاوة على كونه منشأ الفكرة القوميّة وقدوة في مساعي شعوبه إلى التوحّد رغم ما بينها من اختلافات فإنّه “حافز على الوعي القومي مساعد على الالتزام بالهوّية القوميّة لما تمثّله من قوّة مساعدة على تجاوز التخلّف”([41]).

 2- الوعي القومي

يعتبر زريق أن إدخال الحداثة إلى المجتمع العربي لا يتحقّق بمجرّد اقتناء آلات وأجهزة حديثة كما أنّه لا يمكن أن ينغرس الإيمان بالهوّية بمجرّد التلويح بها شعارًا بل لا بدّ من وعي قومي أو شعور قومي متجذّر في نفوس الأفراد والجماعات يلقّن تلقينًا ويشرب إشرابًا عبر النّظم التربويّة والبرامج التعليميّة المدروسة والهادفة حتى يصبح الشّعور بالانتماء والولاء طبعًا والاندفاع لإنتاج ما يفترضه ذلك الولاء والتحفّز لردّ كل اعتداء بديهة.

ويتأسّس الوعي القومي عند زريق على ثقافة واسعة يطّلع الفرد من خلالها على تاريخ أمّته ويتمكّن من فهم العوامل التي أثّرت في تكوين شخصيتها ويدرك المواطن التي تعثّرت فيها ويتبيّن حجم إسهامها في صنع الحضارة الإنسانيّة فيتشكّل لديه وعي بالذّات في دقائقها وفي مواطن قوّتها ومواطن ضعفها. ويمثّل التّراث القومي مرتكزًا مهمًّا لهذا الوعي بما ينضوي عليه من حوافز وتجارب. ولِزريق موقف مميّز في هذا المستوى فهو ينمّط علاقة الشعوب بتراثها حسب نضج العقلانيّة فيها وحسب درجة تقدّمها، فيرى أنّ الشّعوب المتقدّمة تهتم بالمستقبل أكثر من الماضي وأنّ الشعوب المتخلّفة وحدها التي تترك المستقبل مجال المنافسة وتنكفئ على الماضي تجترّ أمجاده. والحقيقة أنّ زريق لا يعني بهذا القطع مع التّراث والتخلّص منه، فهو يرى فيه جانبين، جانبًا سلبيًا خلا من الإبداع وجانبًا إيجابيًا توفّر فيه الإبداع ونشط الفكر يدعو زريق إلى اتّخاذه منطلقًا لبناء المستقبل([42]).

3- مسؤولية النخبة

يبيّن زريق أنّ ترسيخ الهوّية القوميّة عقيدة وترويج الوعي القومي وتفعيل المفاهيم والآليات الليبرالية والوضعيّة وصنع المستقبل المنشود لن يتحقّق إلّا ببزوغ فئة طليعيّة مستنيرة واعية وأصيلة في فكرها وممارستها حريصة على تنشيط وتفعيل وسائط التغيير وبثّ روح التجديد والمعاصرة عند عامّة النّاس. ورغم أنّ زريق يوكل هذه المهمّة إلى الأفراد والجماعات والأنظمة، فإنّه يعوّل على النخبة التي تتكوّن بالنّسبة إليه من رجال الفكر وأهل العلم من جهة وأرباب السلطة من جهة ثانية. كما أنّ هذه الأقليّة المستنيرة مؤهّلة بقدراتها الإبداعيّة وبعمق وعيها وإيمانها بأهداف أمّتها لإنجاح المشروع المستقبلي وكسر طوق التأخّر الذي يحجز مجتمعاتنا خارج أسوار العصر، ومما يزيد هذا الدّور المحوري أهمّية ويضاعف المسؤوليّة تداخل الشروط الموضوعيّة الداخليّة التي تعيشها الأمّة (التخلّف) مع آليات السياسة الامبرياليّة في المنطقة التي تحرص على تأبيد التأخر وعرقلة مشاريع الوحدة بتغيير سياساتها الاستراتيجيّة في المنطقة انسجامًا مع أهدافها المستقبليّة ومطامحها الاستعماريّة الجديدة.

ووحدها النخبة مؤهّلة بما تحمل من منظورات فكريّة ورؤى مستقبليّة أن تعوّض النقص في شروط التطوّر الموضوعي ولا سيما الاستقراء التاريخي يرصد حالة مجتمعات تجاوزت إشكالية التأخّر وكان للنخبة دور وازن في إحداث التغيير والتطوير فيها.

لهذا كلّه إنّ دورًا عظيمًا ينتظر النخبة العربيّة في تفجير البنى التقليديّة للمجتمع وتحقيق شروط النّهضة الحقيقيّة والخروج من الرّاهن والسائد العليل ومواجهة تحدّيات المستقبل.

لكن كيف تبزغ هذه النخبة في ظل البنى التقليدية المتكلّسة وفي ظلّ عدم امتلاكها لسلطة القرار؟

رابعًا: قسطنطين زريق بين الوسطية والحسم الأيديولوجي

لئن كان زريق يدّعي أنّ ما يهمّه من الغرب هو الجوهر لا مظاهر رفاهيته، فإنّه بذلك قد وقع في انتقائيّة عزلت المفاهيم عن سياقاتها ومرجعياتها الثقافيّة وسقط في كثير من الاختزال المشطّ في إطار نزعة نفعيّة آنيّة.

وقد انجرّ عن ذلك كثير من الخلط المفهومي الذي يسم المنظومة كاملة بالهشاشة ويقلّل من فاعليتها ونجاعتها، ذلك أنّ السعي إلى تأصيلها ظلّ سطحيًا يروّج الاستعمال ولا يغرس المفهوم، فظلّت تلك المقولات التي اقترنت بالخطاب العربي النّهضوي غربيّة ومعزولة عن سياقاتها. ولعلّ حرقة الرّاهن هي التي دفعت زريق ومعاصريه إلى تلك الوجهة في التعامل مع الغرب. لذلك يمكن إدراج فكر زريق ضمن “علم النكبات العربية”. فأمام الهزائم المتتالية وأمام التحدّيات والاستفزازات الاستعماريّة الكامنة والمتربّصة وفي ظلّ التخلّف السائد والتداعي والتشتّت الرّاهن وأمام تسارع الزّمن وتواصل الركود العربي كان المفكّر بحاجة إلى حلّ سريع، وكان الغرب بقوّته العسكريّة والسياسيّة يبسط نفوذه على مشارق الأرض ومغاربها، فلم يتردّد زريق في الإشادة بنظامه وفي الدّعوة إلى اعتماده على علّاته “ومهما قال النّاس في أخطاء هذا النّظام ومراكز ضعفه ومهما تذمّروا من تضارب عناصره وتطاحن أجزائه ومما يجرّه على العالم من فوضى وارتباك فإنّه سيبقى في جوهره (…) النّظام السائد في المستقبل”([43]).

وبالرّغم من أنّ هذه النبرة تخفّ قليلًا في كتابه نحن والمستقبل حيث يجتهد زريق في تعديل المفاهيم سعيًا إلى تأصيلها في ثقافتها بإدخال العنصر الخلقي الرّوحي، فإنّه قد وقع في كثير من الخلط وانخرط – بوعي منه أو بدون وعي – في المواقف الوسطيّة التي حرص على تنكبها إلى جانب أنّ الخلط في المفاهيم مجافٍ للدقّة العلميّة، وجاءت الكثير من مواقفه مغرقة في التعميم متّشحة بالمثالية وتحوّلت الكثير من المفاهيم وقد أخرجت من سياقاتها إلى قيم مطلقة كالعقل والإبداع والحرية…

وجاء مشروع زريق المستقبلي محكومًا بالرّؤية الليبرالية ولكنّه لم يخلُ من ملامح اشتراكية توليفية فرضتها اللحظة التاريخيّة والنّزعة النّفعية البراغماتية التي ميّزت الفكر العربي النهضوي.

خاتمة

مضى على ارتطام هذه الأمّة بالحضارة الغربية الحديثة سنون عديدة ولا يزال السؤال النازف كالجرح مطروحًا وبشدّة ويأخذ جيلًا بعد جيل أبعادًا مأسوية. ذلك أنّ إشكالية الاستقلال السياسي والاقتصادي للوطن العربي في إطار العلاقات الدّولية الرّاهنة وتشابك العلاقات الاقتصاديّة والتجاريّة والثقافيّة والإعلاميّة والاتّصالية وبوجه خاص في إطارها الدّولي غير المتكافئ أكثر تعقيدًا فتقلّص إمكان الفعل وفرص المبادرة واتّسعت الهوّة المعرفيّة بين العالم المتقدّم والعالم المتخلّف.

ونحن إذ نعيد قراءة – مشروع زريق المستقبلي – ونبحث عن تأثير الغرب فيه لا نروم التقليل من شأن تلك الرّؤى والأفكار التي نادى بها ولا أن نقلّص من دوره الرائد في تلك الفترة المبكرة من تاريخ اليقظة ولا أن ننكر مساهمته في إيقاظ الوعي القومي ودوره في تحقيق المستقبل المنشود، وإنّما غايتنا تحيين بعض أفكاره التي بدت لنا على غاية من الدقّة والسّلامة والنّجاعة أيضًا، ولمّا كانت القضايا التي طرحها الفكر النّهضوي العربي في القرن الماضي هي نفسها التي يستعيدها اليوم الفكر العربي المعاصر فإنّنا رأينا آراء ورؤى زريق الاستشرافيّة قد حدّدت لنا طبيعة المستقبل المرغوب فيه وسبل تحقيقه، وبالتالي لا تزال صالحة ومستجيبة لهذا الوضع وإن تغيّر الزمان الذي أصبح يقاس بسرعة الضوء، ولكنّنا حاولنا بالكشف عن سياقاتها الوقوف على العوامل التي حالت دون تفعيلها وجعلتها معلّقة.

ونعتقد أنّ التزام زريق المفرط بالمرجعيات الغربيّة قد أوقعته في فخّ “البديل المأزوم” فما يحتاج الخطاب العربي المعاصر اليوم إليه هو ابتكار فلسفة للمستقبل قائمة أساسًا على عقلنة كلّ مستويات الوجود الاجتماعي وهو ما يعني ضمنيًا عقلنة رؤية الغرب للمستقبل.

 

قد يهمكم أيضاً  المنطلقات النظرية الأساسية لمفهوم الاستغراب في فكر حسن حنفي: تحليل ونقد 

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #قسطنطين_زريق #المستقبل #الغرب #ثقافة_الغرب #الفكر_المستقبلي #الخطاب_الاستشرافي #الاستشراف