ملخّص:

بعد التعريف بمفهوم «المقاربة الجندرية للأبحاث في العلوم الاجتماعية» والطرائق المعتمدة في إطارها، ترصد هذه الورقة المقاربات البحثية التي اعتُمدت لدى فئتَين من النسويات اللبنانيات: مجموعة شابة تقدّم تصوّرها للمقاربة البحثية (نموذجًا لمجموعات شبيهة)، وثانية مؤلّفة من منظّمات غير حكومية من التيار الأوسع أنتجت أبحاثًا ميدانية حول مواضيع ذات صلة بنشاطها. وذلك لغاية تعيين أشكال التزام الفئتيَن بتلك المقاربة، وتعيين دوائر اللقاء والتميّز بين البحوث في العلوم الاجتماعية عامة، والبحوث التي نفّذتها المنظمات غير الحكومية النسوية، كما بين المقاربة المعلنة لدى المجموعة النسوية الشابة وتلك المضمرة في أبحاث التيار الأوسع من المنظّمات غير الحكومية.

كلمات مفتاحية: المقاربة الجندرية، الطرائق البحثية في دراسات هادفة، الحساسية الجندرية، الدراسات النوعية، التيار النسوي الأوسع.

Abstract

A definition of the gender approach to sociological studies and methods applied by researchers within its frame are presented by way of laying a background for the examination of the research methodologies adopted by self- proclaimed feminist groups as well as mainstream NGOs in their respective studies: «imagined» by the first and executed by the second.  An attempt is made to explain commonalities between methodological approaches in sociological studies in general and those executed by mainstream feminist NGOs, as well as between declared approaches by the young feminist groups with the implicit ones in studies executed by mainstream feminist NGOs.

Keywords: Applied Research methods, gender sensitivity, qualitative research, mainstream feminist organizations.

تقديم:

تنشط أكثر المنظّمات النسوية في لبنان في مجالات الاهتمام الاثني عشر[2] التي أُقرّت في مؤتمر المرأة العالمي الرابع، وعنْونَت بعض بنود اتفاقية «إلغاء جميع أشكال التمييز ضد المرأة» (سيداو). هذه المنظّمات تنحو إلى العمل باحتراف وتخصّص فرضتهما طبيعة مهامّها المدرجة في هذه المجالات. ويدعمها في اتّجاهها إلى تحقيق ذلك: هذا الاحتراف وذلك التخصص، منظّمات دولية وأخرى عالمية غير حكومية، وأحيانًا حكومية، تقدّم لها العون المادي والمساندة اللوجيستية والخِبْراتية. ويشمل ذلك الدعم إجراء البحوث حول المسائل ذات الصلة بالمجالات المذكورة. وذلك سعيًا إلى توفير معرفة بخصائص الجماعات المستهدفة، وبالظروف المادية والإنسانية والثقافية- الاجتماعية المحيطة بتلك الجماعات؛ الأمر الذي يسمح للناشطات والناشطين في هذه المنظّمات بصوغ استراتيجيات وخطط وبرامج عمل منظّماتهنّ، واختيار شعارات حملاتها، وتنفيذ تدخّلاتها العملية، إلى ما هنالك من أمور يستدعيها ذلك النشاط.

تتناول هذ الورقة المقاربات البحثية التي اعتُمدت في الدراسات الميدانية الهادفة التي نفّذتها المنظّمات النسوية في لبنان؛ وذلك لغاية تعيين أشكال التزامها بالمقاربة الجندرية للبحوث الاجتماعية. إنّ أهمّية البحث عن المقاربات البحثية لدى المنظّمات النسوية عندنا ناجم عن كوْن هذه المنظّمات واحدة من أهمّ المواقع التي تنتج أبحاثًا نسوية عندنا.

تقع هذه الورقة من جزأين؛ الأوّل يتناول تعريفًا بالمقاربة الجندرية للأبحاث في العلوم الاجتماعية، بحسب بعض الأدبيات التي تناولت الموضوع، ويستقصي الثاني المقاربات البحثية التي اعتُمدت في الدراسات الميدانية الهادفة التي نفّذتها منظّمات نسوية غير حكومية ناشطة في لبنان. وذلك لغاية رصد المقاربات البحثية المعتمدة فيها وتعيين دوائر تقاطعها مع «المقاربة الجندرية» للبحوث الاجتماعية.

أوّلًا: المقاربة الجندرية

 

1 – تعريف

تتمثّل المقاربة الجندرية في العلوم الاجتماعية[3] بتبنّي اتّجاه، أو حالة، من التيقّظ المنهجي لمفاعيل الجندر، ولأثره في الوضعيات والأشخاص قيد البحث. وذلك، بتوسّل الأطر المفاهيمية، وباعتماد الأدوات الاستقصائية والتحليلية التي تسمح بإدراك المعنى والقيمة اللذين تسبغهما الثقافات الاجتماعية على الانتماء إلى جنس الإناث، أو إلى جنس الذكور، بحسب الحالة. هذا التيقّظ يكاد أن يكون هجاسًا في لجاجة حضوره في مسار البحث بمجمله بدءًا باختيار موضوعه، وانتهاء باستنتاجاته وتضميناتها العملانية.

تنطلق المقاربة الجندرية من مسلّمة مفادها أنّ إنتاج المعرفة هو فعل ثقافي واجتماعي، ومتموضع في الزمان والمكان، وأنّ القائمين به ذوو مكانات اجتماعية واقتصادية وذوو هويات سياسية. وهو ما يجعل المعرفة، بالضرورة، جزئية ومشروطة صحّتها بمصلحة منتجيها وبالوضعية التي أنتجتها. هذه المعرفة محكومة، إذًا، بالجندر بوصفه واحدًا من أهمّ المركّبات  (Constructs) الناظمة للحياة الاجتماعية في مختلف نواحيها. ولكون الجندر مركّبًا ثقافيًّا اجتماعيًّا، فإنّ المعرفة المُنتَجة في الأنظمة المعرفية القائمة ليست ثابتة، ولا كوْنية. إضافة إلى ذلك، فهي غير حيادية، إنما تعمل على إعادة إنتاج علاقات القوى – الجندريّة – القائمة (Sutton, 1988).

أن نعتمد المقاربة الجندرية يعني أن نتنبّه إلى كوْن العالم خاضعًا لأحكام الجندر ((Howard and Hollander, 1997: 11. ففي التحليل للظواهر المجتمعية، تُبرز المقاربة الجندرية المعاني الكامنة خلف ظاهرة معيّنة، والقيم الملحقة بهذه المعاني التي تعمل، أساسًا، على تثبيت سيطرة القوى المهيمنة فيها، وتعزيز أركان البنى المجتمعية القائمة؛ وذلك بالعمل على إلغاء الوعي بالاستغلال وبالتناقضات الناجمة عن الظروف المادية المحيطة بالنساء والرجال، وما ينجم عنها من «تطبيع» للّامساواة الجندرية لتبدو العلاقات القائمة بين النساء والرجال وكأنّها «طبيعية»، بل ضرورية لبقاء الجنس البشري ورفاهه، ولتصبح المصالحُ الفئوية للرجال مصالحَ عامّةً، بحيث تَستدخِل النساء (الفئة المستغَلة) مصالح الرجال (الفئة المهيمِنة) وتتبنّى رغباتهم التي لا تلبث أن تصبح «رغبات نسائية» (Wetherell, 1997).

من جهة ثانية، فإنّ للأشخاص أصحاب السلطة في المجتمع مصلحة في المحافظة على الفهم الشائع للواقع الاجتماعي؛ بينما الأقلّ حظوة والمنشغلون بضرورات البقاء، يتبنّون نظرتَين للعالم: نظرتهم هم المتناسبة مع اختباراتهم المعيشة – أيّ نظرة مهمّشة عن التيّار الأوسع (Mainstream). ولأنهم مضطرون إلى استيعاب نظرة ذوي السلطة، فهم مرشّحون لحيازة «منظر» أكثر اكتمالًا، وأصدق، للواقع الاجتماعي من هؤلاء. إلى ذلك، فإنّ توسّل الباحثة النسوية للمقاربة الجندرية، لا يستبعد أهمّية المقاربات الأخرى لأنّها تتحفظ على حسبان أيّ منها سلطة معرفية مطلقة، رفضًا لهيمنة أيّ من المقاربات المحتملة على أخرى، وتحسبًا لإعادة إنتاج وضعية الهيمنة التي تدّعي المقاربة الجندرية مناهضتها (Thompson, 1992).

2 – المقاربة الجندرية والطرائق

نتساءل: هل إنّ المقاربة الجندرية تتضمّن اللجوء إلى طرائق للبحث في العلوم الاجتماعية خاصّة بها؟ إزاء هذه المسألة هناك اتّجاهان:

الاتّجاه الأوّل: يرى أنّ الطرائق المستخدمة في العلوم الاجتماعية تمحورت حول الرجل، لذا ينبغي البحث عن طرائق يسعها التقاط تفاصيل حيوات النساء والاصغاء إليهن، بعد أن جرى إسكاتُهن لمدة طويلة. بل إنّ نواحي من حيوات الرجال[4] أيضًا تمّ إسكاتُها. نتكلّم عن النواحي الانفعالية والعاطفية والعلائقية، مثلًا. لذا فإنّ الطريقة الكفيلة بالتقاط نواح من حيوات النساء يسعها كذلك التقاط متجاهلة من حيوات الرجال. والدراسات التي تناولت الهوية الجندرية الرجالية، مثلًا، والذكورات عمومًا، لم تستوِ ميدانًا فرعيًا في الدراسات الجندرية إلا بعد انطلاق الحركة النسوية في موجتها الثانية (بيضون، 2007: 29-49).

ينطلق هذا الاتّجاه من موقف يجعل المعرفة المنتجة مُشبعة بمواضيع المعرفة – الناس، أكثر من العارِفين – العلماء – أي، وفي حالة البحث، مثلًا، تجري إزاحة مركز السلطة من الباحث إلى المبحوث. التأويل الجيّد، وفق هذا الاتّجاه، هو الذي ينطلق من المبحوث ويتريّث حتى تنبثق المعاني منه، فلا يُفرض عليها من «رأس» الباحث. التأويلات التي يعوّل على صحتها تتأسس على المبحوث، أمّا السيئة منها فهي تلك التي تحوي الكثير من «العارف» والقليل من «موضوع المعرفة». إلى ذلك، فإنّ المعرفة هنا لا «تُكتشف»، (أي أنّها ليست موجودة وقائمة موضوعيًا و«تنتظر» من يتعرّف إليها)، إنما تُبنى بالتفاعل بين العارف وبين موضوع المعرفة، وتتكون من خلال العلاقة التي تقوم بين الباحث وبين المبحوث، بين ذاتيتين (Subjectivities) متفاعلتين يُنشئانِها معًا، في سياق معيّن. وينطوي ذلك على إعادة الاعتبار لـ«الذات»، ولمحوريتها في إنشاء المعرفة (Belenky [et al.], 1997: 98).

وينحاز المحبّذون لهذا الاتّجاه إلى الطرائق النوعية لأنّها تُحسِن، برأيهم، جلاء غنى اختبارات النساء الحياتية وتشعُّبِها في سياقاتها الاجتماعية والثقافية؛ كما يسعها إبراز الانفعالات والمعاني الرمزية التي ترافقها. صحيح أنّ الطرائق الكمية تفيد في رصد الشروط الهيكلية المحيطة بالنساء، لكنها غير قادرة على التعامل مع التعبيرات الجندرية المضمرة والملتبسة والمتناقضة في وضعيات بعينها، كالوضعية الأسرية ذات الأهمية الخاصة للنساء، مثالًا (Thompson, 1992).

وقد طوّرت الباحثات، وانسجامًا مع اتّجاهاتهن المذكورة والتي يمكن إدراجها تحت شعار «الشخصي هو سياسي» (The Personal is Political) موادَّ ومواضيع للدراسة لم تكن «محترمة» تمامًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ نذكر منها، مثلًا، السِيَر الذاتية والشهادات الشخصية والمذكرات والروايات والتاريخ المروي شفويًا، والأرشيفات ذات الصلة باختبارات النساء، كعقود الزواج والطلاق ووثائق المحاكم الأسرية والمدنية ومختلف المنتجات الحرفية الثقافية (Cultural Artefacts) Sutton, 1988)).

ومن الوسائل البحثية المفضلة، وفق هذا الاتّجاه: المقابلات الفردية غير المقيّدة، والمجموعات البؤرية غير المنبنية؛ وفيها يتخذ الباحث موقعًا متواضعًا، لكن ناشطًا، في المشاركة مع المبحوث في إنتاج المعاني؛ ففي وضعية المقابلة، مثلًا، يُعلن عن سلطة الباحث، لكن بهدف إعادة توزيعها على المبحوثين (جماعيًا)، أو تقاسمِها (مع المبحوث في المقابلة الفردية). وبخلاف «الفتوى» السائدة القائلة بوجوب التجرّد وتحقيق الموضوعية في الاستقصاء في العلوم الاجتماعية، فإنّ المقابلة غير المقيّدة تسمح للمعاني وللفرضيات بالتشكّل والتحقق في إطار الإصغاء المتعاطف والمعيش المشترك للطرفَين. هكذا، يصبح المبحوث مشاركًا في إنتاج المعرفة، لا موضوعًا لها (Robinowitz and Martin, 2001; Oakly, 1982).

الاتّجاه الثاني: ومفاده أنّ توسّل منهج معيّن لا يستبعد أهمّية المناهج الأخرى، فلا تُسبغ على أيّ منها سلطة معرفية استبعادية. ولا تُسبغ طريقة معيّنة للبحث على مقاربة بعينها صفة الجندرية، كما أنّ طريقة أخرى لا تَسلب المقاربة صفة الجندرية عنها؛ فـ«في أيدٍ أمينة»، يسع أيّة طريقة أن تكون «أمينة» في وصف الواقع الاجتماعي. والباحثات اللواتي يعتمدن الطرائق الإمبيريقية، مثلًا، يصرّحن بأنّ الطريقة لا تجعل الباحثة نسوية. إذ يسَع الباحث الذي يعتمد الطرائق النوعية أن يكون متعصّبًا جنسيًا، والعكس بالعكس. وفي إطار هذا الاتّجاه، توسّل الباحثون والباحثات الطرائق المختلفة السائدة في العلوم الاجتماعية، دون تحفّظ. بل إنّ هؤلاء يتحفّظون حيال التبنّي الحصري لطرق دون أخرى، ويطلقون على من يفعل ذلك صفة «المتعبّد للطريقة» (Methodolatory). ومنهم من يتوسّل أكثر من طريقة في البحث نفسه، أو يعالج مسألة بالطرق الكمية وأخرى بالطرق النوعية. هؤلاء لا يخفون انحيازاتهم النسوية، ويعبّرون عن رفضهم لحيادية العلم المزعومة. أيّ أنّهم، بدل اعتماد طريقة بعينها، يعلنون مواقفهم النسوية، ويعَبّر عن مقاربتهم الجندرية في المنطلقات والمعايير والقيم والأخلاقيات النسوية: في التأويل والاستنتاج والتطبيق، في كلّ مكوّنات البحث ومساراته (Unger, 1983).

ومن المهام التي يطرحها هؤلاء على أنفسهم، ردم الفجوة الجندرية في المعرفة؛ إمّا بجعل النساء مواضيع أبحاثهم في مجالات لم تشملهن سابقًا (القيادة النسائية، مثلًا)، أو بمعالجة مواضيع لصيقة بحيوات النساء لم تلقَ، سابقًا، اهتمامًا (العنف القائم على الجندر، مثلًا). وذلك، بدءًا بتسمية مواضيع باسمها (الاغتصاب الزوجي، مثلًا)؛ فالنسويات يَرِين، في هذا الصدد، أنّنا بحاجة إلى إعادة تسمية العالم، عبر صَوْغ مصطلحات وتعابير تصف معيش النساء. فمن لا يملك سلطة التسمية، لا يسعه البحث في المسمّى. والسلوك الذي لا يحمل اسمًا لا تمكن ملاحظتُه Crawford, 2001)).

ويدعو بعضُهم إلى اللجوء إلى وسائل وسبل متعددة من أجل «محاصرة» المسألة المدروسة من أكثر من جانب: فتعدد الوسائل، و»مزجها» معًا، ينطويان على قناعة مفادها أنّ كلَّ واحدة من هذه الوسائل تضيء تفصيلًا مرحبًّا به إلى الصورة الكلّية. ويصحّ هذا القول في الدراسات الجندرية، الحديثة زمنيًا، لضرورة التعرّف إلى تعقيدات تجليات الجندر، بكلّ الوسائل المتاحة. من هذه الدراسات، مثلًا، الدراسات المسحية الكمية التي يجري تنفيذُها كي تكون نتائجها عَوْنًا لصانعي القرار في صوغ السياسات المفضية إلى تحسين أوضاع المرأة (الصحّية أو التعليمية أو القانونية إلخ)، وحيث إنّ تنفيذَها يتطلب الامتثال الصارِم للقواعد المقبولة في الممارسات العلمية السائدة في الميدان قيد البحث (Rabinowitz and Martin, 2001). ويصحّ هذا القول، مثلًا، في مجتمعاتنا العربية حين تطالب النساء بجعل المعطيات الناجمة عن المسوحات الإحصائية الشاملة أو الجزئية مصنّفةً بحسب الجنس (Disaggregated by Sex)، من أجل تعيين الفجوة الجندرية، سبيلًا إلى تضييقها عبر اتخاذ التدابير المفضية إلى المساواة الجندرية في كلّ المجالات.

ثانيًا: المقاربات البحثية في أبحاث نسوية لبنانية هادفة

 

1 – عيّنة الدراسة

تتشكّل العيّنة المدروسة في هذه الورقة من مجمل الدراسات الميدانية المنشورة، في السنتَين 2016-2017، من جانب المنظّمات غير الحكومية الآتية أسماؤها[5]: التجمّع النسائي الديمقراطي؛ منظّمة كفى عنفًا واستغلالًا للنساء والأطفال؛ أبعاد: مركز الموارد للمساواة بين الجنسين؛ الهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة؛ صوت النسوة؛ منظّمة «دعم لبنان»؛  مجموعة الأبحاث والتدريب للعمل التنموي؛ مجموعة في- مال (Fe-Male).

هذه عيّنة مقصودة (Convenient)، فإذا كانت العيّنة الممثِّلة تعريفًا تعني أنّ كلّ مفردة في المجتمع المدروس (Research Population) لها الحظّ نفسه كي تتمثّل في العيّنة المدروسة، فهذا ليس حال هذه العيّنة. هذا التعريف يفترض توافر المجتمع المدروس مشتملًا على كلّ مفرداته. في هذه الحالة تحديدًا يُفترض، مثلًا، وجود موقع إلكتروني، معلنٍ عنه، جامعٍ لكلّ الدراسات والأبحاث الصادرة عن المنظّمات النسائية عندنا عبر السنوات. في غياب هذا الموقع لا حيلة[6] للباحث سوى اختيار عيّنة مقصودة مترافقًا مع تسويغ أسباب اختيارها، دون غيرها. هذا يعني أنّ النتائج التي ستحصّلها هذه الدراسة لا تصلح للتعميم بشأن الموضوع المدروس، كما الحال في كلّ الدراسات التي تتوسّل عيّنة كهذه. لا يفوت القارئ أنّ هناك نقاشًا مستمرًّا حول جدوى تنفيذ أبحاث في العلوم الاجتماعية باللجوء إلى عينات غير ممثّلة، أو إلى دراسات الحالات أو غيرها من الوسائل البحثية التي لا تسمح نتائجها واستنتاجاتها بالتعميم[7]. سوف يلمس القارئ هذه المشكلة لدى الباحثات والباحثين في العيّنة المدروسة.

أشير إلى مسألتَين يواجههما الباحث في الدراسات الجندرية عندنا في صدد اختيار عيّنة بحثه: الأولى، أنّ النتائج المحصّلة في البحث تكون قابلة للتعميم على مجتمع البحث إذا كانت عيّنة البحث ممثِّلة لذلك المجتمع. ونحن الباحثات والباحثين نفتقد في مجتمعاتنا، غالبًا، الشرط الشارط والبديهي لتشكيل عيّنة ممثّلة وهو إتاحة مجتمع البحث نفسه! إنّ جعل وجوب التعميم المذكور شرطًا ضروريًا للحكم على أهلية البحث للانتماء إلى حقل الدراسات الجندريّة، مثلًا، هو بمثابة «حظر» على تنفيذ معظم هذه الأبحاث عندنا.  والثانية، هي أنّ إجراء بحوث في حقل الدراسات الجندرية هو مسألة حرِجة للنشاط النسوي عندنا؛ وذلك لأنّ المعلومات والحجج الحاملة للخطاب النسوي القائمة على الدراسات والأبحاث، وإن جزئية، تمثّل قاعدة لا غنى عنها لمقارعة الخطاب المناهض لها على الساحة الثقافية العامة. كما أنّ غياب هذه المعلومات وتلك الحجج بمثابة إخلاء الساحة لكلّ الأفكار والمعتقدات والمنمّطات الجندرية. لقد برهنت مواجهة المشرِّع اللبناني، مثلًا، بمعارف قائمة على دراسات[8]، وإن جزئية، أنّها أجدى من مواجهته بمعتقدات أو بمنطق أو حتى بمصالح فئات يمثلها.

إلى ذلك، فإنّ مسوّغ اختيار عيّنة هذه الدراسة قائم على أمرَين: أولّهما أنّ المنظّمات المختارة تدّعي في قانونها الأساسي أنّها نسوية، وهي الأكثر نشاطًا على الساحة العامّة عندنا. والأمر الثاني الذي اعتمدناه هو دعوتها في غضون السنتين (2016 و2017)، إلى لقاء عامّ من أجل إطلاق دراسات تناولت مواضيع[9] من شواغل الحركة النسائية عندنا.

والأسئلة التي تطرحها هذه الورقة هي التالية: المقاربات البحثية التي تعتمدها المنظّمات النسوية عندنا: هل يمكن وصفها بـ «الجندرية»؟ أين تتقاطع هذه المقاربات مع تلك التي رسمت ملامحها الباحثات النسويات عامّة؟ كيف تمثّل هذا التقاطع في الطرائق والوسائل التي اعتمدت في إطار هذه المقاربات؟

في ما يلي، محاولة للإجابة.

إذ تصرّح منظّمة غير حكومية بأنّها نسوية، فهي تعلن عن كوْنها غير حيادية؛ وحين تنفِّذ بحثًا في الواقع المعيش للنساء وللرجال أو في شروطه، فإنّما تفعل ذلك لأنّها ترغب في تعيين نقاط تدخّلها في ذلك الواقع كي تعمل على تغييره. ووجهة التغيير واضحة ومآله محدّد الملامح. فسعي هذه المنظّمات للتغيير يتمثل لدى معظم هذه المنظّمات بالسعي للوصول إلى المساواة التامة في المواطنة، في الحقوق والواجبات، بين النساء والرجال؛ وذلك في ما يطول، أساسًا، إلى الفرص التي يتيحها المجتمع في أنشطته كافة، ولا تقبل بأقلّ من العدالة الجندرية أمام القانون الذي ينظّم عيش أفراده. هذا ما تعلنه المنظّمات النسوية من التيّار الأوسع. هذا، بينما تسعى مجموعات نسوية – وأكثر عضواتها شابات – إلى إعلان الحرب على «النظام الأبوي القاتل[10]» ورفض كلّ مؤسّساته، الأكاديمية ضمنًا. هذه المجموعات تقع خارج التيّار المذكور.

2 – خارج التيّار الأوسع: مجموعة «صوت النسوة»[11]

سأبدأ بالمنظّمة «الأشد» نسوية، وهي مجموعة «صوت النسوة»، كما هو اسم نشرتها الإلكترونية وأستعرض، في ما يلي، المقاربة التي تتسم بها النصوص التي نشرت فيها. أبدأ بنصّ لـ سارة أبو غزال بعنوان «حتمية البوح»، يتصدّره قول يصف «صوت النسوة» منذ أن نشأت بأنها «الفضاء الذي يؤمن بأنّ الكتابة نجاة، وبأنّ قصصنا وآراءنا هامّة، وأنّ فعل الكتابة النسوية لا يرتبط بالمعرفة الأكاديمية، بل هو فعل مقاوِم لها ولسلطتها غير المحقّة والمتحيّزة على ما يمكن أن يكون معرفة شرعية، وما لا يمكن أن يكون».

ويتجسّد ما تقوله غزال في عدد خاصّ من النشرة المذكورة، مثلًا، تحت عنوان «فلنسترجع الخطاب عن الصحّة النفسية» حيث تعلن المجموعة «…أنّها تشترك مع مجموعة أخرى في بيروت تعملان على إنتاج المعرفة النسوية»، وذلك عبر «استعادة القصص والممارسات المتعلّقة بحياتنا واجسادنا من البنية الأبوية»، غير الخاضعة لنظام الطب النفسي المعتمد على تعريفاته الخاصة لما هو «طبيعي»، وتبعًا لما يعتبره تهديدًا للبنية الاقتصادية والاجتماعية الراهنة. في هذه النشرة إفساح في المجال أمام المهمّشات من النساء لسرد قصصهن غير المنضوية في الخطاب العام والتي يمكن أن توصم، بسبب ذلك، باللاسواء النفسي.

لا يخفى على الكاتبة أنّها ستواجه أبوية.. « تفترض أنّ عمل النساء وخطابهن بحاجة …لاكتساب شرعية ما». وأن ذلك ناجمٌ عن تسلّط ذكوري يفترض «شعورًا بالأحقية entitlement في أن تفرض رأيك وحاجتك على الآخرين»، الأمر الذي يتطلّب «شجاعة في مواجهة هذا التسلّط» وطاقة على الاستمرار. هكذا، فإنّ مقاربة هذه المجموعة لا تكتفي بإعمال العقل سبيلًا إلى المعرفة، بل تشتمل على اتّجاه ات الكاتبة النسوية المتمثّلة بالشجاعة ودحر الخوف، سواء في مواجهة المجهول (بسبب غموض ملامح الطريق المختارة)، أو التمرّد على سطوة السلطة المعرفية السائدة والإيمان بوجود الطاقة على المتابعة في مواجهة تلك الأبوية غير المعترفة بشرعية عمل النساء وخطابهن.

تقول الكاتبة إنّها مدركة أن مقاومة السلطة الأكاديمية يُدخل المجموعة في «نفق مجهول… لكنّنا نحب المجهول وندخله قادرات عليه ومتحكمات به ولا يخيفنا لأنّنا نوجد الأشياء بالإيمان بأصوات النساء..». وإذ تشير إلى عوائق تضعها القوى المتسلّطة على النهج النسوي في الكتابة، تجد ضرورة في «أن نكتب ونستمر في الكتابة..» لأنّ في ذلك «استمرارية للحركة النسوية وتجدّدا في المحتوى المعرفي المطلوب توفيره دائمًا»، وحيث إنّ البوْح حتمي في سياق العمل النسوي، لأنّ «ما كان محرمًا علينا التفوّه به (سابقًا) أصبح أحاديث جدّية». وعناوين النصوص المثبتة في صوت النسوة أمثلة على «ما كان محرّمًا على النساء التفوه به». من هذه مثلًا تحدّي المفهوم الطبّي للصحّة النفسية، تحدّي السائد لمفهوم الجمال، للتحرّش، للجنسانية إلى ما هنالك من مسائل.

وتعترف الكاتبة في النصّ نفسه أنّه ربّما «ليس لدينا حاليًا الأدوات التي تمكنّنا من التخلّص من الأدوات الأبوية، لكنّني أعرف أنّها أمور تصغي الناس إليها وتراها». وهي كتبت هذا النص لا لتضع قواعد للكتابة في نشرة «صوت النسوة» الإلكترونية، وإنما لتصف أحوال هذه الكتابة فيها؛ فما حوته هذه النشرة، في السنوات التي سبقت، هو أساسًا بوحٌ اتّخذ أشكالًا متخلفة: كان شهادات أو آراء أو قصصًا شخصية؛ ونادرة هي النصوص التي تموضعت كاتبتها خارج الموضوع أو تقدّمت بما يمكن وصفه بـ«معلومات»، أو قراءة لحالة ما، تتجاوز الاختبار الشخصي للموضوع الذي تعالجه. ويرافق جهرُ الكاتبات في «صوت النسوة» بنسويتهن جهرهن برفض الحيادية المزعومة في الأبحاث الاجتماعية.

كتبت النساء في «صوت النسوة»، باللغة التي يسعهن التعبير فيها بدون قيد، فكانت كتاباتهن بالإنكليزية أو العربية الفصحى أو العامية اللبنانية. هن كتبن غالبًا بلهجة «البوْح»، بسرد تجربة شخصية (كما في حال التحرّش مثلًا أو في اختبارهن أجسادهن)، أو سرد لتاريخ شخصي (سعيًا لإبراز تداخل النواحي الجندرية في كلّ خيط نسج روايتها) لكن أحيانًا في شكل تأمّل، أو إعلان موقف، أو استدراج لنقاش، أو تقرير حول حالة، أو حتى طرح أسئلة لا يبدو من صوغها أنّها تستدرج إجابات من أحد.

وتكتب ديمة قائدبيه قائلةً إنّ «صوت النسوة» كانت «فضاء سمح لها باختبار الكتابة… وتجريب طرق مختلفة للتعبير عما نحن ومن أين أتينا». هو اختبار يحاول ألا ينشد الكمال، ويقبل باقتراف الأخطاء، وهفوات في السرديات. وهي إذ وصفت «البوْح» – بالكتابة وإعلاء الصوت، فهي ترى أنّ «الشجاعة تتجلّى أيضًا بالتساؤل والإصغاء وتصديق أقوال الأخريات وقصصهن» المروية حول معيشهن.

 

3 – صوت مختلف

في ما سبق، تكلّمتُ ببعض التفصيل، عن تصوّر «صوت النسوة» للكتابة والبحث، بما هي سعي صريح إلى إنتاج معرفة نسوية غير مقيّدة بالأساليب الأكاديمية بل مناهضة لها، صراحة. هذه المجموعة تنتهج مقاربة في إنتاج معرفة لا تعترف بالحياد وتعلن التحيّز للنساء، والانتصار لـ«بوْحهن» ولرواياتهن وشهاداتهن، والركون إلى اختباراتهن في تعريف الأمور وفي وصفها وتحليل أصولها؛ وذلك في محاولة حثيثة لجعل النساء وقولِهن، لا مصدرًا لـ«المعطيات» الناجمة عن الوضعية المتناولة في النص فحسب، وإنّما أيضًا حجّة لفهم الديناميات التي تحكمها. هذا الفهم يُرجى منه الوصول إلى تكوين معرفة يجري صوغها من منظور اختبارات النساء ومعيشهن لها، ووفق «مصلحتهن»، كأفراد وكفئة اجتماعية يعمل المجتمع الأبوي على إخضاعها لمنظومته الجندرية ولمعاييره العاملة على تثبيت أركان هذا المجتمع وضمان ديمومته. هو تعبير عن كوْن هؤلاء النساء، لا مناهِضات صاخِبات ضد المنظومة الجندرية الأبوية فحسب، إنّما عاملات على استبدالها عبر الجهر بأصواتهن واختباراتهن لتكون مرجعًا في صوغ ملامحها.

«صوت النسوة» ليست فريدة؛ هي واحدة من مجموعات نسوية صغيرة العدد، بدأت بالتشكّل والتفكّك[12] – كما هي حال المجموعات المدنية في فضائنا المدني، غير الحكومي. هذه المجموعة تنتج ناشطاتها أبحاثًا في مواقع أكاديمية وغير أكاديمية متفرّقة، لكن نتاجها البحثي – كمجموعة – لا يزال في بداياته. وهل من ضرورة للقول إنّ هذه المجموعة (ترفض أن تدعو نفسها منظّمة) تدعو إلى اعتماد طرق بحثية تتناغم مع التيّار الأوّل الموصوف؟

4 – المنظّمات النسوية من التيّار الأوسع

أ – تمهيد

مجموعة «صوت النسوة» لا تشبه أيًّا من المنظّمات غير الحكومية السبع الأخرى في العيّنة المختارة لهذه الورقة؛ هذه المنظّمات المنخرطة في التيّار الأوسع تُنتج أبحاثًا، ميدانية أساسًا، تعتمد مقاربات بحثية مألوفة في المجتمعات البحثية الأكاديمية، فلا تراها تتعصّب لأيٍّ منها.

انظر، في ما يلي، إلى هذه الأبحاث وفي مسارها في مراحله المختلفة؛ التيقّظ المنهجي الذي أشرتُ إليه في مطلع ورقتي يفترض فيه مواكبة الأبحاث في كلّ موقع في مسار تنفيذها: في تعيين منفّذيها؛ صوغ أهدافها وأسئلتها؛ تحديد منطلقاتها النظرية؛ المراجع التي تستند إليها؛ ومن ثمّ تعيين مجتمعات الدراسات وعيّناتها؛ والأسباب الموجبة لاختيار وسائل بحث بعينها؛ وصولًا إلى المنطق الحامل لتحليل النتائج والأسس والمبادئ الحاملة للاستنتاجات والاقتراحات – التضمينات العملية لاستنتاجات الدراسة، صريحة كانت هذه كلّها، أم مضمرة.

في ما يلي، محاولة لتفحّص هذه المواقع، واحدًا تلو الآخر، لرصد ملامح لمقاربة جندرية في الأبحاث التي نفّذتها المنظّمات غير الحكومية النسويّة في السنتَين 2016-2017 عندنا.

ب – من ينفِّذ هذه الأبحاث؟

نفّذ الأبحاث في العيّنة المدروسة جهات متنوّعة من مواقع واختصاصات مختلفة. لا يفوت المتابع للأبحاث التي تنتجها المنظّمات غير الحكومية على امتداد العقدين الماضيين[13] توجّه مستجدّ يتمثّل بلجوء هذه المنظّمات إلى فريق بحثي، وذلك بدل تكليف باحث وحيد، يكون، غالبًا وليس حصرًا، أستاذة (أو أستاذًا) جامعية. وفي حالات أخرى، شارك الأستاذ الجامعي، الباحث الرئيسي، ناشطة/باحثة من المنظّمة راعية البحث، كما هي حال التجمع النسائي الديمقراطي، مثلًا. وفي معظم الحالات، شارك فريق من الباحثات المساعدات الباحث الرئيسي في مهمّته. أشير إلى أنّ هذه المنظّمات لا تعلن عن تراجع «ثقتها» بالباحثين الأكاديميين، لكنّ إشراك الناشطات والناشطين في المهام البحثية بمثابة تعبير عن توجّه جديد يتمثّل بالاعتراف بكفاءة هؤلاء في مجال إنتاج المعرفة المتوخاة، وتراجع «الانبهار» بأهليّة الأكاديميا في هذا المضمار.

وإذ تتّجه المنظّمة إلى المزيد من التركيز على مسألة بعينها في مسار نشاطها، يكون الباحث المكلّف أكثر تخصّصًا في تلك المسألة. ففي حالة منظّمة «كفى..»، مثلًا، نجد أنّ انشغالها، في السنوات الأخيرة، بالأثر الذي أحدثه القانون 293/ 2014، المعروف بـ«قانون حماية النساء وسائر أفرد الأسرة من العنف الأسري» عاملًا محدّدًا لمواضيع أبحاثها، ولمنفّذيها، تاليًا. هذه المنظّمة كلّفت محاميًا لإجراء «جردة حساب بعد مرور سنتين على تطبيق القانون»، وكلّفت محاميةً للبحث الدقيق في مسار اللجوء إلى القانون ونتائج تطبيقه وفعالية القضاء والمؤسسات المنفذة في حماية المرأة حمايةً مستدامة، لا ظرفيةً فحسب. إضافة إلى ذلك، تولّت «كفى..» مهمّة كان على المشرّع في الدولة اللبنانية تولّي القيام به! أتكلّم عن دراسة مسحية أجريت بعد سنتيَن من إقرار القانون تقيس درجة الوعي للعنف الأسري في المجتمع اللبناني. وتخدم هذه الدراسات جميعها سعي «كفى..» لتنزيه القانون المذكور من الشوائب التي أدخلها المشرّع على مشروع القانون الذي تقدّم به «التآلف الوطني لتشريع حماية المرأة من العنف الأسري» بقيادة «كفى…» في عام 2012.

بخلاف اللجوء إلى باحث/«خبير» في الموضوع المعالج، تنحو منظّمة «أبعاد»، مثلًا، لاعتماد فريق، لا باحثٍ وحيدٍ، للدراسات التي تنفّذها. هذه المنظّمة جعلت بعض انشغالها، في السنتيَن الأخيرتَين، موضوع النازحين واللاجئين إلى لبنان، وفي الداخل السوري. ولعلّ اعتمادها اللجوء إلى فريق بحثي ناجم عن ضمور الاهتمام بالموضوع قبل اللجوء السوري، فلا يوجد موقع بحثي في الجامعات أو مراكز الأبحاث اللبنانية، مثلًا، يعلن عن اهتمامه بالموضوع ليكون أشخاصه/ الباحثون فيه مرجعًا لها، يسعها تكليفه بدراسة الموضوع. فكان أن شكّلت فريقًا بحثيًا في دراسات ثلاث لها من أصل أربع.

في عيّنتنا، لم تكن الباحثات أكثر عددًا من الباحثين، منفردات أم شريكات أم في فريق بحثي: في العيّنة خمس باحثات منفردات وأربعة باحثين منفردين، وثلاثة باحثين تشاركوا في إجراء بحث واحد. أيّ إنّ المنظّمات النسوية عندنا لا تُبدي تفضيلًا للنساء الباحثات على الرجال الباحثين. وبعض هذه المنظّمات اتخذت قياداتها موقفًا بشمل الرجال في engaging men برامجها، الأمر الذي جعل بعض أنشطتها تستهدف الرجال، بل وتدعوهم للانتساب إليها، والمشاركة في نشاطاتها، وفي إجراء البحوث ضمنًا.

ج – مواضيع الدراسات وأهدافها

تخدم الدراسات التي تنفّذها المنظّمات النسويّة غير الحكومية نقاط تدخّلها وتستهدف فئات اجتماعية تتنوّع تبعًا لحاجات مستمرّة. في العيّنة المدروسة تنوّعت مجتمعات البحث، وفي ما يلي أمثلة عنها:

اسم المنظّمة الراعية  للبحث«كفى..»«أبعاد»،«دعم لبنان»،Fe- MaleCRTD-Aالتجمع النسائي الديمقراطيالهيئة اللبنانية لمناهضة العنف ضد المرأة
موضوع البحثالمجتمع اللبناني برمتهنازحون سوريون من الجنسينمنظّمات غير حكومية فاعلة في مجال الجندر برامج تلفزيونية وتحقيقات صحافية في الإعلام اللبنانيالأدبيات المنشورة في لبنان حول عمل المرأةناجيات/ طالبات المساعدة من منظّمات غير حكوميةنساء من طبقات اجتماعية متواضعة
مجموعة أحكام قضائيةمنتجات وسائل الإعلام المرئي والمكتوبمجموعة مواد في قانون العقوبات اللبناني

 

هكذا، تتوزّع مجتمعات الدراسات في العيّنة بين دائرتين: الأشخاص المستهدَفين، أو المعنيين بنشاط المنظّمات النسوية، من جهة، والمؤسّسات المجتمعية والبيئة الاجتماعية الثقافية المؤثّرة في حيوات هؤلاء الأشخاص، كالقانون والقضاء والإعلام وشبكات الأمان، من جهة أخرى… وكلّها يستجيب لانشغالات تتمحور حول تمكين النساء إمّا مباشرة، أو لجعل بيئتهن الاجتماعية تمكينية.

 وهذه العناوين إعلان صريح عن انشغالات نسوية.

5 – العيّنة بين الواقع والمرتجى

في أكثر الدراسات التي نفّذتها المنظّمات غير الحكومية منذ أواسط التسعينيات، وحتى أيامنا هذه، يلمس القارئ توقًا لتعميم نتائجها وأسفًا لعدم تمكنها من ذلك. وذلك لصعوبة ذات صلة بندرة التوثيق وبعدم إتاحة المعلومات للباحثين لأجل سحب عيّنات ممثّلة للمجتمعات المدروسة، تسمح للباحث أن يثق، بدرجة مقبولة، بعمومية نتائج بحثه.

في عيّنتنا تبرز الدراسة المسحية التي أجرتها شركة «إيبسوس» العالمية لصالح منظّمة «كفى..» فريدة. إذ إنّ عيّنة هذه الدراسة عشوائية، وممثّلة للشعب اللبناني بفئاته الجندرية والعمرية والجهوية، فضلًا عن الانتماء الديني والطبقي للمستجيبين. وهو أمر باعث على الاطمئنان لدى الناشطات والناشطين في هذا المجال لأنّها تدعم خطابهم بمعرفة أكثر اقترابًا من الواقع. ففي المجال الحقوقي، مثلًا، يسع هؤلاء أن يبرزوا أمام المشرّع إثباتًا موثوقًا به يسمح لهم بالدعوة إلى تخويل العناية بأحوال الناس الأسرية والشخصية إلى المحاكم المدنية، بدل الدينية، لأنّ أكثرية اللبنانيين أبدوا ثقة بالأولى، أكثر من الثانية. أو يسع الناشطات في مناهضة العنف ضد النساء بذل جهود أكبر لتعميم المعرفة بالقانون 293/ 2014، لتوسيع دائرة معرفة النساء به في المناطق الطرفية من لبنان… إلى ما هنالك من تضمينات للأرقام والنسب الناجمة عن هذه الدراسة (إيبسوس، 2016).

إلى ذلك، تحاول بعض الدراسات جعل عيّناتها شاملة لكلّ مفردات المجتمع المنوي دراسته. في عيّنتنا، مثلًا، دراستان تناولتا منظّمات غير حكومية تنشط في مجالات محدّدة. وقد جرى الاتّصال، وفق ما أثبت في النص الذي يصف هاتَين الدراستَين، بهذه المنظّمات كلّها عبر الإيميل والسكايب والاتصال الشخصي وجهًا لوجه، ووزّعت الاستمارات عليها؛ لكنّ عددًا منها لم يستجب؛ فأسقطت من العيّنة المدروسة، بعد تكرار محاولة شمْلها فيها لتصبح، بذلك، عيّنة الدراسة هذه «مناسبة، لا شاملة، وفق ما كان مأمولًا» (فريق بحثي من «دعم لبنان»، 2016؛ شحادة، 2016).

إنّ مراجعة الأبحاث الميدانية التي أنتجتها المنظّمات غير الحكومية، عبر السنوات، تسمح بالتأكيد أنّ أكثريتها تناولت عيّنات مناسبة؛ ويوفّر بعضها تعليلًا لذلك مفاده ندرة توافر مواقع عامّة تتمركز فيها وثائق بمعلومات تشمل كلّ مفردات المجتمع المنوي دراسته فتستحيل، إذًا، عشوأة عيّنات دراساتهم[14]. وفي حال وجد ذلك الموقع، فإنّ مفرداته غير مصنّفة بحسب متغيّرات مطلوبة[15]. هم يعملون على استقطاب مفردات عيّناتهم من الأشخاص، مثلًا، من أماكن تجمعهم، أو بالوصول إلى عدد من الأشخاص لا يلبثون أن يتناسلوا حين يستقطب واحد منهم شخصًا آخر يشبهه، وهذا الأخير يستقطب، بدوره، شخصًا آخر عبر عملية تعرف بالتكثير، وتشبّه بعملية تكبير كرة الثلج المتدحرجة (فريق من منظّمة «أبعاد»، 2016 أ وب). في حال الوثائق، مثلًا، يلجأ الباحثون إلى تضييق رقعة المجتمع المدروس؛ فبدل أن تُدرس الأحكام الصادرة عن المحاكم الجزائية في لبنان، مثلًا، «يختزل» لبنان بـ«جبل لبنان»، حيث الأحكام متاحة للباحثة/ المحامية بسبب تعاون موظفي المحاكم في هذه المحافظة، ربما. أو يُحصر عدد الوثائق الإعلامية مثلًا، بأرشيف ثلاث صحف وثلاث محطات تلفزيونية لبنانية في العامين 2015 و2016.

وفي الأبحاث التي بين أيدينا، وصف دقيق للعيّنات المدروسة. هناك تدقيق في السمات الديمغرافية إن كانت مفرداتها أشخاصًا، أفرادًا من المجتمع اللبناني، مستفيدات من خدمات منظّمات غير حكومية، نازحين ونازحات، ممارسين صحيين- نفسانيين. وهناك تعيين للحدود الزمانية والمكانية لتواجد مفردات العيّنة حين تكون وثائق مكتوبة أو مرئية أو مسموعة: مختارات من منتجات إعلامية، موادّ قانونية، أحكامًا قضائية. وذلك في محاولة، على الأرجح، للإعلان عن حدود صحّة النتائج المحصّلة.

أ – الطرائق والمناهج: تعريف وإغفال

يقتصد الباحثون في عيّنتنا في استخدام مصطلحات «المنهج» أو «المنهجية» أو «الطرائق». بعضهم يعلن بسرعة، ودون تعليل، أنّ المنهجية المعتمدة هي «نوعية»؛ كما جاء في العنوان الفرعي لإحدى الدراسات التي نفذّها فريق من منظّمة «أبعاد»: «دراسة نوعية حول الحرب والهويات الجندرية للرجال» (فريق بحثي من منظّمة «أبعاد»، 2016 أ)؛ أو أخرى نفّذتها المنظّمة نفسها بالتعاون مع باحثين سوريين، واعتمدت «التقييم التشاركي السريع» معلنة أنه ترجمة لـ Participatory Rapid Assessment (PRA)، (منظّمة «أبعاد» وشركاؤها، 2016 ب)، أو كما جاء في مطلع دراسة غندور وزملائه، إذ كتبوا أنّ المنهجيّة المتبعة هي «التحليل النوعي للمحتوى»، ملحق بترجمة للتعبير بالإنكليزية qualitative content analysis  (غندور [وآخرون]، 2017) . ويعلن الباحثان القاق وسكّر في مطلع دراستهما عن كوْنها «نوعية» أيضًا (القاق وسكّر، 2016). أو تعلن شركة «إيبسوس» أن الدراسة هي مسحية/كمية تهدف إلى قياس الوعي، والسلوك والمواقف (إيبسوس، 2016). وفي محاولة لتفادي كلمة «منهج» تستخدم الباحثة الجامعية تعبير «المسار البحثي» (القادري، 2015)، ويلجأ القاضي في تعريفه للمنهجية إلى كلمة «آليّة» (صاري، 2017).

وفي دراسة لمنظّمة «دعم لبنان» عن «الأطراف الفاعلة في مجال الجندر…»، مثلًا، تصريح معلن في مطلع التقرير، عن المنهجية المعتمدة (التعبير للمنظّمة). وهذا يشتمل على المسح الإلكتروني لـ 36 منظّمة غير حكومية، المقابلة المعمّقة مع جهات فاعلة في هذه المنظّمات، ثلاث طاولات مستديرة، استعراض مكتبي للأدبيات المنتجة من قبل المنظّمات. (فريق عمل من منظّمة «دعم لبنان»، 2016).

بعض الباحثات والباحثين يعرّفون أو يصفون المنهجية التي اعتمدوها، لكنّ الأكثرية يكتفون بذكرها دون الانشغال بالتدقيق بتعريفها. إلى ذلك، لا يجد القارئ لهذه الأبحاث صلة بين هذا التصريح وذلك التدقيق والجهة التي نفّذت البحث. قد يكون المصرّح أستاذًا جامعيًا، مثلًا، أو لا يكون، منفردًا أو فريقًا بحثيًا إلى ما هنالك. ففي البحث الذي أجراه غندور وزملاؤه (صحافيون) حول «تغطية وسائل الإعلام المرئي والمكتوب لقضايا النساء اللاجئات في لبنان…»، عرّف الباحثون قصدهم بالمنهجية بوصفها بـ«التحليل النوعي للمحتوى» ويفسّرون المقصود بقولهم هكذا: «… أخذت عيّنة من المقالات والتقارير لأبرز الصحف والجرائد والتلفزيونات، لتحلّل بهدف تحديد الكيفية التي صوّر بها اللاجئون عمومًا واللاجئات خصوصًا في الإعلام اللبناني»… وعليه، «فقد ارتكزت وحدة التحليل على المقالات التي تناولت الوضع اللبناني حصرًا عامدة إلى تحليل كلّ من الصور والنصوص المرفقة بالمقالات». واختار الباحثون محاور عديدة تسمح بتحديد تواتر التغطية في «الصحافتين المكتوبة والمرئية»، تبعًا لمحاور مختارة (غندور [وآخرون]، 2017).

ووصفت الباحثة الجامعية المنهج الذي تعتمده بـ«المسار البحثي»؛ ويتمثّل بخطوات تبدأها باستعراض ما خلصت إليه دراسات أنجزتها الكاتبة سابقًا «بخصوص الحضور الجندريّ في نشرات الأخبار، البرامج الحوارية المتلفزة والإعلانات والدراما»، ومن ثمّ متابعة ما آل إليه الحضور الجندري في الإعلام اللبناني المتلفز في الفترة الراهنة العنيفة وتفلّت الأخلاقيات الإعلامية (القادري، 2016).

ولعلّ تعبير «محاصرة الموضوع من أكثر من زاوية» يصحّ في وصف المنهجية المعتمدة في أكثر هذه الدراسات، فلا نجدهم يتعصّبون لواحدة منها حصرًا؛ وذلك لأنّ معظم هذه الدراسات توسّلت أكثر من طريقة بحثية. وكأن الباحثين غير واثقين أنّ وسيلة بحثية يسعها، منفردة، جلاء ما يحاولون دراسته. ففي دراسة نفّذها فريق من «أبعاد» تناولت الرجولة، مثلًا، جاء في عنوانها أنّها نوعية؛ وقد اعتمد في تنفيذها وسائل متعددة شملت قراءة في الأدبيات حول الموضوع، مقابلات فردية، وأخرى جماعية، مع نساء ورجال والاستماع إلى قصصهم – إذا كانت لديهم قصص – حول العنف الجنسي، والعنف القائم على الجندر/ كمرتكبين أو كضحايا، أو قصص أخرى تشير إلى انحرافات سلوكية في هذا الإطار. المنظّمة نفسها، وفي دراستها حول حاجات ممارسي العلاج في سورية، لجأ فريقها البحثي إلى توزيع استمارة على أفراد العينة، وأجريت مقابلات عبر السكايب مع قسم من هؤلاء المستجيبين، وعُقد سيمبوزيوم مع مختصّين بالصحة النفسية أثناء النزاعات، وعُقدت لقاءات مع مجموعات بؤرية من مراهقين سوريين من الجنسَين (فريق بحثي من منظّمة «أبعاد»، 2016 ب).

لا تصف «المحاصرة» المذكورة الدراسات في العيّنة المدروسة حصرًا. هو نهج اتّبعته معظم الدراسات الهادفة التي نفّذتها المنظّمات غير الحكومية منذ منتصف التسعينيات وحتى أيّامنا هذه and Usta, 2011) (Wetheridge.

ب – الوسائل والتقنيات

مقابل الاقتصاد في الكلام عن «المنهجية»، نجد انشغالًا عظيمًا، أحيانًا، بالتدقيق في الوسائل – وتدعى نادرًا تقنيات – المستخدمة في مسعى حثيث لمحاولة جعلها صادقة في قياس ما تدّعي قياسه/رصده/ إلقاء الضوء عليه (بحسب العبارة المستخدمة). ففي البحث في «العنف الجنسي ضد النساء في لبنان…»، يعلن الكاتبان في مستهلّ البحث عن المنهجية المتبعة. هي نوعية تتوسّل الاستمارة «شبه المقيّدة»؛ وهذه الأخيرة حُضّرت بعناية، إذ دقَّقت بنودها خبيرات في الموضوع واختصاصيات في العمل الاجتماعي في إطار مجموعتَين بؤريتَين. الأمر الذي أضفى على هذه البنود ما يدعي بـ«الصدق الثقافي» (Cultural Validity). هكذا، بدل اللجوء إلى ترجمة استمارة جاهزة من الأبحاث الأجنبية الكثيرة المثبتة في مراجع الدراسة، جرت تبْيئة تعريف العنف الجنسي، ورُصدت اختبارات عيشه من الضحية والعوامل التي سهّلت حدوثه، الاتّجاهات حياله والسلوك المرافق لذلك العيش، أسلوب مواجهته، الموقف تجاهه من الأهل والمجتمع، دور المجتمع اللبناني والممارسات الدينية عندنا في التسويغ له، أثاره العميقة على ضحاياه وتصورهن لشبكات الدعم والحماية منه، وتوقعاتهن من الأهل، الأصدقاء، المنظّمات غير الحكومية. ويجد القارئ معلومات حول المحقِّقات/العاملات الاجتماعيات اللواتي أجرين المقابلات غير المقيّدة للعيّنة المدروسة وعن تفاصيل تدريبهن للقيام بالمهمة (القاق وسكر، 2016).

ولو أخذنا المسح الإحصائي الذي نفّذته شركة «إيبسوس»، مثلًا، فإنّنا نجد أنّ الشركة لم توزّع الاستمارات على المستجيبين ولم تطلب إليهم الاجابة عن بنودها، بل درّبت محقّقين قاموا بمقابلة هؤلاء وجهًا لوجه، فردًا فردًا. فيصحّ القول إنّ الوسيلة المعتمدة كانت مقابلة مقيّدة؛ ولعلّ اللجوء إلى مقابلة المستجيبين وجهًا لوجه، بدل التوزيع بالبريد أو حتى المقابلة بالتلفون، كما هي حال الوسائل المستخدمة في المسوحات العامة، ناجم عن تصوّر لأسلوب المستجيبين على الاستمارات، عندنا، غير واثق بقدرتهم على الإجابة عن استمارة دون مساعدة محقّق يتولّى طرح الأسئلة وتدوين الإجابات، هو بنفسه، عليها! (إيبسوس، 2016).

إلى ذلك، فإنّ أداة البحث في الدراسات الميدانية، كانت متاحة للقارئ في ملحق لها، سواء كانت هذه استمارة مغلقة (شحادة، 2016؛إيبسوس، 2016)، أم مقابلة مفتوحة (فريق من منظّمة «أبعاد»، 2016 أ وب) ؛ أمّا الأبحاث التي توسّلت «تحليل المضمون» لنصوص كلامية أو صورية، فقد صرّحت، في تقريرها عن البحث، بالمحاور أو القضايا التي تنوي رصدها وإبرازها (فريق من الباحثين في «دعم لبنان»، 2016؛ القادري، 2015؛ غندور [وآخرون]، 2017).

وتحت عنوان «الطرائق»، أثبت الفريق البحثي في إحدى الدراسات ملحقًا بالأداة بمثابة دليل للمحقّق يحوي أسئلة مفتوحة وأخرى موجهة في المقابلات؛ هذا الدليل تفصيلي يكاد لا يسمح بمبادرة الميسّر، ولا توليد أسئلة من إجابات المستجيبين (فريق بحثي من منظّمة «أبعاد»، 2016 ب).

6 – المراجع بين الإثبات والإهمال

تبدو الأهداف من الدراسات التي تنفّذها المنظّمات غير الحكومية في عيّنتنا منشغلةً بالرصد والاستكشاف وإلقاء الضوء وتقديم «لمحة عن»… مواضيع دراساتها.

وهذه تشير إلى شعور الباحثين – وربما المنظّمات غير الحكومية التي ترعى هذه الدراسات – بالحاجة إلى المزيد من البحث من أجل جلاء أوفر للمواضيع التي تتناولها دراساتهم. بعضهم مدركون لوجود جهود سابقة لجهودهم، وبأنّ عملهم حلقة من سلسلة من الأبحاث السابقة والمستقبلية في مهمّة الجلاء المذكورة؛ ويتجلّى ذلك في الإحالات في متن دراساتهم وفي هوامشها، (زلزل، 2016 أ؛ زلزل، 2016 ب؛ القاق وسكّر، 2016؛ غصوب، 2016؛ Wallace, 2016).

نشير إلى أنّ هناك ثلاث دراسات في عيّنتنا لا تحوي ثبتًا بالمراجع (صاري، 2017؛ القادري، 2015، شحادة، 2016)، وبعضها الآخر لم يثبت إحالة واحدة إلى دراسة لبنانية سابقة. نشير أيضًا إلى أنّ المراجع البحثية المثبتة في الهوامش وفي أواخر النصوص في عيّنتنا فقيرة (وأحيانًا هي خالية منها تماما) بالمراجع اللبنانية، بل والعربية، أصلًا؛ (فريق بحثي من »أبعاد»، 2016 أ وب؛ القاق وسكر، 2016). بخلاف ذلك، فإن الباحثة غير العربية بذلت جهدًا يستحق التقدير لتجميع ببليوغرافيا لهذه الدراسات، بلغاتها الثلاث المعتمدة في لبنان، مقدّمة توليفًا لها سمح بتقديم اقتراحات عملانية منبثقة من الاستنتاجات التي توصّلت إليها الباحثة في مراجعتها للأدبيات اللبنانية حول الموضوع، (Wallace, 2016).

7 – اللغة والقارئ المحتمل

أن تكتب باحثة أجنبية باللغة الإنكليزية أمرٌ متوقّع؛ لكنّ إغفال ترجمة بحثها – وهو هادف –  إلى اللغة العربية أمر باعث على التساؤل، وبخاصّة حين يسع هذا البحث أن يكون مرجعًا؛ إذ عملت الكاتبة على توليف النتائج التي توصّلت إليها الدراسات المختلفة الأجنبية والعربية واللبنانية وقدّمت، إذًا، معلومات مهمّة وشاملة للمهتمين في موضوع عمل المرأة من منظور نسوي- تنموي؛ أكان هؤلاء المهتمّون ناشطين في العمل الاجتماعي أو النسوي أو التنموي، أو كانوا من صانعي القرار في المواقع الاقتصادية والسياسية والتشريعية. والاقتراحات/ التوصيات، ذات الصلة المباشرة بالنتائج التي توصّلت إليها، توجّهت إلى هؤلاء الأفرقاء جميعًا. ولا ننسَ الفائدة التي تجنيها فئة الباحثين اللبنانيّين في الموضوع. هؤلاء يسعهم الانطلاق من القاعدة التوليفية التي جهدت الباحثة في صوغها بناء على دراسات سابقة. وهو جهد قلّما نعرفه في الأدبيات النسوية عندنا – حيث يجري، في كثير من الأحيان، إهمال دراسات سابقة تناولت الموضوع نفسه. الأمر الذي يفضي، أحيانًا، إلى تكرار[16] لا طائل له. هكذا، فإنّ أسئلةً تطرح نفسها: لماذا لم يترجم هذا الكتاب إلى العربية كي يكون في متناول الأفرقاء المعنيين به كلّهم؟ لمن كتب وكيف استخدمت نتائجه؟ هل وزّع على المعنيين بالموضوع من منظّمات حكومية أو غير حكومية ودوليّة معنيّة بموضوع عمل المرأة في منطقتنا؟

إلى ذلك، فإنّ بعض المنظّمات غير الحكومية المعنية بالشأن النسوي نشرت أبحاثها باللغتين العربية والإنكليزية، إمّا في كتاب واحد كما هي الحال في (القاق وسكر، 2016، فريق بحثي من «دعم لبنان»، 2016) من العيّنة المدروسة، أو في كتابَين منفردَين، (فريق بحثي من منظّمة «أبعاد»، 2016). لكنّ أكثر الدراسات في العيّنة المدروسة جاءت بالعربية.

إنّ الاهتمام باللغة التي تنشر فيها هذه الأبحاث الهادفة متضمّن في المقاربة الجندرية للأبحاث الهادفة؛ هذه لا تتوقف عند نشر التقرير حوله، بل تتجاوز ذلك إلى توفير نشره، وضمان انتشاره على المعنيين به – وأكثرهم بلسان عربي. من المعروف أن المنظّمات غير الحكومية مسؤولة أمام الجهات المانحة لإقامة البرهان على تنفيذ البحث المدعوم ماليًّا من جانبها، الأمر الذي يلقي عليها مهمّة توفيره باللغة الأجنبية، الإنكليزية، غالبًا.

8 – معالجة المعطيات: النتائج والاستنتاجات

في متابعة قريبة لمسارات البحوث التي أنتجتها المنظّمات غير الحكومية في العقدَين الماضيَين، يقع القارئ أحيانًا على إرباك في معالجة المعطيات، الإحصائية منها بخاصّة. ومن لجأ إلى الاستقصاء الكمّي من أجل «رصد» ظاهرة ما، اكتفى غالبًا باستعراض نتائجه في شكلها الخام بثَبْت جداول أو رسومات بيانية غير ذات دلالة إلا في حالة وحيدة: حين كانت العيّنة ممثّلة للمجتمع المدروس. وهذه لم تكن متوافرة. ونادرًا ما استثمرت الإحصاءات المحصّلة في هذه الدراسات في رصد وجود، أو غياب، صلات ارتباطية تسمح بجلاء أوفر للديناميات التي تحكم العلاقات القائمة بين هذه العناصر. هذا الاستثمار لا يزال غائبًا حتى في الدراسة المسحية التي نفذتها شركة «إيبسوس»، مثلًا، لصالح «كفى..» . الأمر الذي ينعكس على الاستنتاجات وعلى تضميناتها العملية. وتتخلّى المنظّمات غير الحكومية تدريجيًا عن الطرائق التي تنتج معطيات إحصائية وتلجأ، أكثر فأكثر، إلى الأبحاث النوعية (بحسب وصفهم)، والتي تنتج أفكارًا واتّجاهات وأوصافًا لسلوكات يسع الباحث(ة)، أو فريق البحث، تصنيفها تحت عناوين ومحاور تنبثق من المخزون الكلامي الناتج من المقابلات غير المقيّدة، أو عن سرديّات مكتوبة أو مرئية… إلخ. بحسب طبيعة العيّنة المدروسة.

9 – تلخيصًا: في دائرة السائد/ الاتّجاه الثاني

باستثناء عناوين وأهداف الدراسات، عيّنة هذا البحث، فإنّ مكوّنات البحوث ومسارات تنفيذها التي سلف عرضها، متآلفة تمامًا مع الدراسات الاجتماعية الأخرى التي تنتهج مقاربات كمّية أو نوعية لدراسة مواضيعها. فلم تُستدعَ الباحثات/النساء حصرًا، كما سبق وبينّا، لتنفيذ أبحاث تستقصي أحوال النساء. كما أنّ الوسائل والتقنيات المستخدمة هي السائدة والمعروفة في العلوم الاجتماعية. وتُكتب التقارير والكتب التي تحتوي هذه الدراسات وفق ترتيب وتراتب يحترم، إلى حدّ كبير، تصميم الكتابات المحدّدة في العلوم الاجتماعية، بعامة. بدءًا بالتصريح عن أهداف البحث ومسوّغات القيام به، قاعدته المعرفية، المنهجية المتبعة (ضمنًا أو صراحة)؛ ومن ثمّ توصف عيّناته ووسائل البحث المعتمدة، مسار إجراء البحث والتعريف بمنفّذي الشق الميداني منه، أو المحاور والمواضيع المنوي رصدها في النصوص المدروسة، يتبعها نتائج البحث المحصّلة من معالجة المعطيات، متبوعة بالاستنتاجات. ولما كانت هذه الأبحاث هادفة وتطبيقية، فإنّ التوصيات للمعنيين بالنتائج والاستنتاجات هي إضافة ضرورية. وتثبت الملاحق والمراجع والوثائق، أو نماذج عنها، في حال وجودها، في نهاية التقرير عن الدراسة.

وتغلب في أبحاث المنظّمات غير الحكومية الميدانية المقابلة الفردية والجماعية، كما يغلب التحليل النوعي للخطاب في دراسات النصوص، على ما عداها. نشير إلى أنّ هذه الطرائق والوسائل المعتمدة لم تكن دائمًا خيارًا أوليًا (القاق وسكّر، 2016)، ولم يكن اعتمادها التزامًا معلنًا بـ«منهج نسوي»، يعلي هذه الوسائل على غيرها، كما سبق وبيّنا. كان اللجوء إليها محكومًا بما هو «ممكن ومتاح» في ظروفنا ومواردنا والحيثيات الواقعية التي يقوم عليها إنتاج البحوث في مجتمعاتنا التي ما تزال تتجاهل توثيق المعلومات في أكثر المجالات، كما ذكرنا، وقلّما تنشئ مواقع مركزية أو مراصد[17] تعمل على متابعة تطوّر هذه المعلومات وتجميعها وتصنيفها (بحسب الجندر مثلًا) وجعلها متاحة للباحثات والباحثين دون عوائق. فإذا قامت بذلك فهي قلّما تعلن[18] عن إنشائها. هكذا يصعب إجراء بحوث مسحية جندرية تكون عيّناتها ممثّلة للمجتمع المنوي دراسته بشكل موثوق به، وإن بهامش خطأ محدّد. لذا، فإنّ الدراسات الجندرية عندنا تعلن، غالبًا، عن محدودية نتائجها واستنتاجاتها، وأنّ الأسئلة التي طُرحت في مطلعها أجيب عنها جزئيًا، وظرفيًا، ريثما يتاح الوصول إلى إجابات أكثر موثوقية.

صحيح أنّ الأبحاث في عيّنتنا بقيت مناهجها وطرائقها في إطار السائد في العلوم الاجتماعية، لكنّنا رصدنا أحيانًا ميلًا في بعضها لإعلاء قول النساء المبحوثات على قول الباحث عبر الفسح في المجال أمامهن لاحتلال مساحة الكلام كلّه دون تدخّل الباحث. يحصل ذلك حين تترك شهادات المهمّشات من النساء وبوحهن دون تعليق (مشترك، 2016)، أو حين يثبت كلام المبحوثات الناجيات من العنف الجنسي عن تفاصيل عيشهن، بتدخّل نادر من الباحث أو الباحثة (القاق وسكّر، 2016)[19].

الإعلاء من بوح النساء (والرجال)، وإيلاؤه أهمّية في محاولة فهم ظاهرة ما، ملمح من ملامح التوجّه النسوي الأوّل لإجراء البحوث – كما بينّا في مطلع هذه الورقة.

 

ثالثًا: المقاربات المعتمدة: هل هي جندرية؟

 

تمهيد

من المنظّمات غير الحكومية الثماني في عيّنتنا، تقف «صوت النسوة» منفردة في رؤيتها لما ينبغي أن يكون عليه إنتاج المعرفة النسوية؛ وما تطرحه هذه المجموعة النسوية أقرب إلى أن يصنّف تحت «الاتّجاه الأول» المذكور للطرائق المعتمدة في المقاربة الجندرية للأبحاث، والذي يمكن إدراجه في سياق ما يُدعى في أدبيات التنمية البشرية بـ«الحاجات الجندرية الاستراتيجية». بينما اختارت المنظّمات من التيّار الأوسع أن تؤجّل الصدام المباشر مع النظام الأبوي «مهادِنةً» إيّاه تارة، ومواجِهةً إيّاه تارة أخرى، رافعةً شعار تمكين النساء، سواء باستهداف النساء مباشرةً، أو بالعمل على جعل البيئة المحيطة بهن «تمكينية»، وذلك في سياق تلبية «الحاجات الجندرية الآنية». نذكر من هذه الحاجات، مثلًا، «كسر الصمت» حول التمييز والعنف القائمَين على الجندر، وضرورة مناهضتهما في مختلف شرائح المجتمع ومؤسّساته، واللوبينغ مع المشرّع وصانعي القرار لرسم السياسات وصوغ القوانين واتخاذ القرارات المنصفة جندريًا، إضافةً إلى توفير الخدمات التي أحدث الحاجة إليها التمييز والعنف المذكورَين[20]، إلى ما هنالك من مهامّ في مسارٍ متدرّجٍ يتعامل مع المشاكل المطروحة «الآن وهنا».

هذه المنظّمات لا تجهر، كما فعلت «صوت النسوة»، بوصف النظام الأبوي بأنّه «قاتل»، لكنّها ترى إلى المنظومة الجندرية الأبوية حاملة لكلّ التمييز والعنف ضدّ النساء ومسوّغاتهما في مجمل حيواتهن. وينعكس تأجيل الصدام المباشر مع «النظام الأبوي القاتل»، كما هو متوقّع، على المقاربات المعتمدة لدى هؤلاء للأبحاث الهادفة المُنتجة، في إطار النظام المعرفي السائد والمعترف به في مؤسّسات «النظام الأبوي»، ووفق قواعده، وبتوسّل المتاح من أدواته.

1 – تعدّد المناهج ومزجها معًا

لعلّ العنوان الأشمل الذي يظلّل المقاربات البحثية في عيّنتنا يتوافق مع ما يسمى المنهج المتعدد، أو ربما، ما يمكن إدراجه تحت عنوان تعدّدية المنهجيات (Methodological Pluralism) . من هنا فإنّ اختيار مقاربةٍ بعينِها جاء مناسبًا للسؤال أو الأسئلة التي تفيد الإجابة عنها في جلاء الموضوع ذي الصلة بنشاط المنظّمة غير الحكومية… هذا الاختيار لا يخضع لمبدأ صارم تفترضه رؤى ومبادئ للنسوية متبنّاة (كما هي حال «صوت النسوة»، مثلًا)، بل إنّ خياره انتقائي (Electic) متناسب مع الاستراتيجية المعتمدة في هذه المنظّمات. فالمهامّ المطروحة على المنظّمات التي تُشهر نسويّتها في خطابها، وفي أسلوب تلبيتها للحاجات الجندريّة الآنيّة، تجعلها غير متعصّبة لمنهجياتٍ بحثيّة بعينها، فلا تستبعد أيًّا منها. وهي تبعًا لذلك تتوسّل أيًّا من الطرائق المعتمدة في العلوم الاجتماعية. قد تلجأ الواحدة منها – كما سبق وبيّنا – إلى المسوحات العامّة أو إلى المقابلة المعمّقة غير المبنية، الفردية أو الجماعية؛ قد تعتمد تحليل النصّ الكمّي أو النّوعي؛ قد تنشئ استمارةً مقفلة أو نصف مقفلة، مقابلةً مقيّدة أو غير مقيّدة، وقد تمزج عددًا من هذه الطرائق في الدراسة الواحدة، أو لا تفعل، وذلك بحسب ما ترتئي أنّه صائب ومتاح في الوضعيّة المدروسة.

لكن هذا التوجّه يفترض إشهار موقع الباحث السياسي والفكري، منطلقاته ومسلّماته، اتّجاهاته ومواقفه؛ أي، إشهار لاحياديتِه تجاه موضوع بحثه. وذلك تأكيدًا لموقفٍ نسويّ يتمثّل بنفي الحيادية عن البحوث الاجتماعية، بل البحوث عامّة. وهو ما كان صريحًا، في أحيان قليلة، أو مضمرًا غالبًا في محاولات الباحثات والباحثين في عيّنتنا. هو صريح حين يشار إلى المرجعية السياسية صراحةً كما هي الحال، مثلًا، حين تبرز الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بالمرأة، أو الطروحات النسوية العالمية خلفيّة للحكم على ممارسات أو على غياب أخرى. وهو مضمر حين يجري، على خلفيّة هذه الطروحات وتلك الاتفاقيات، سبر أبعاد الممارسات المجتمعية، تشريعية أو قضائية أو أسرية، أو أخرى ذات صلة بسياسات الدولة وأدوارها المتوخّاة. ويلمس القارئ اللاحياديّة المذكورة في مواقع رئيسية من البحوث في عيّنتنا جميعًا؛ وهذه تتمثّل في عناوينها وأهدافها (مواضيع انشغالاتها)، مجتمعاتها الإنسانية؛ لكنّها بارزة، أساسًا وبشكل خاصّ، في الحساسية الجندرية التي تخترق قراءة معطياتها واستنتاجاتها، وصولًا إلى التوصيات الناجمة عنها.

2 – الحساسية الجندرية

ما يميّز هذه الأبحاث جميعها، تقريبًا، هو الحساسية الجندرية. يعلن غندور وزملاؤه، مثلًا، أنّه «سيعمل على تحليل جنوسي (Gender Analysis) عددي للموادّ المختارة» التي شكّلت عيّنات دراسته (غندور [وآخرون]، 2017). ويعبّر عنها، أيضًا، في أهداف الدراسة التي تسعى إلى «متابعة ما آل إليه الحضور الجندري في الإعلام اللبناني المتلفز في الفترة الراهنة العنيفة وتفلّت الأخلاقيات…» (القادري، 2015).

هذا، وتتظلّل البحوث جميعها بشرعة حقوق الإنسان والاتفاقيات الدولية التي أبرمها لبنان والتي تنطوي على السعي للمساواة الجندرية في المجالات كافة. وتجري الإحالة على هذه الاتفاقيات في هذه البحوث، إن في منطلقاتها أو في منعطفات مساراتها. ويذكّر الحقوقيون، بخاصّة، باشتمال الدستور اللبناني على هذه الاتفاقيات وبكونها أعلى درجة من القوانين المحلية، وبأنّه يتعيّن على المشرّع اللبناني السعي لمراجعة هذه القوانين لتكون متناغمة مع تلك الاتفاقيات (غصوب، 2016؛ صاري، 2017). كما يتعيّن على مؤسّسات الدولة والمنظّمات غير الحكومية رسم السياسات العامة والتفصيلية لتكون مستجيبة للحاجات الجندرية للنساء والرجال. وهو ما تنتهي إليه توصيات[21] هذه الأبحاث. هذه الإحالة هي صريحة غالبًا. لكن ما هو أكثر أهمّية تجسيدها في منطلقات ومسلّمات، بل مواقف وأحكام، مبثوثة في ثنايا معالجات المواضيع. ويتجلّى ذلك، أحيانا، برصد غياب ممارسات أو سياسات أو قوانين، أو غير ذلك على خلفية الخطاب الدولي والعالمي بشأن المرأة.

فحين تستنتج القادري «أنّ الحساسية الجندرية مفقودة في معالجات الإعلام اللبناني لقضايا النساء تحديدًا»، فهي تصرّح ضمنًا أنه من المتوقّع أن تكون هذه الحساسية موجودة، تبعًا لإعلان الدولة اللبنانية عن تبنّيها إدماج الجندر في نشاطاتها التنموية (القادري، 2015). كذلك، فإنّ والاس التي أجرت مراجعة للأدبيات التي تناولت عمل المرأة اللبناني، لاحظت ضمور الاهتمام بعمل المرأة في مجالَين، كانت الحركة النسائية العالمية قد أعادت لهما «الاعتبار المغيّب في النشاط الاقتصادي للمجتمع: العمل غير الرسمي وعمل العناية» (Wallace, 2016) . وفي الدراسة بعنوان «لمحة عن الأطراف الفاعلة في مجالات الجندر..»، يتكرر الحكم على هذه المنظّمات من منطلق تحديد تتقدّم به في بداية الدراسة ومفاده عدم التسامح مع « سلب معنى «الجندر» السياسي لدى تبيئته» (دعم لبنان، 2016).

نشير، في هذا الصدد، إلى أنّ كلّ بحث أجراه فريق من الباحثين أبدى حساسية جندرية ملحوظة. والباحثات المنفردات أبدين حساسية جندرية عالية، بالمقارنة مع الباحثين الرجال. ويبدو أن توجّه المنظّمات غير الحكومية، عامّة، لتكليف فريق بحثي، بدل باحث وحيد، هو عامل مساعد في التنبّه لفعل الجندر وأثره في تشكيل الظواهر قيد المعالجة في البحوث الاجتماعية.

3 – … مضمرة وغير مهادنة

ولعلّ دراسة زلزل ذات العنوان «الحماية القانونية للنساء والفتيات …» الأكثر تعبيرًا عن التزام غير مهادن، لا يتوانى عن إعلان انحيازه للعدالة الجندرية؛ ففي ثنايا التحليل «الموضوعي» للأحكام القانونية لا يفوت القارئ مواقف الكاتبة اللاحيادية. وهذه تتمثّل بما يلي:

مناصرة المرأة ضد «المجتمع»/ القبيلة حين تتناقض مصلحة الطرفَين، حماية المرأة من العنف (الجنسي خاصّة) حقّ مشروع وهو من موجبات الدولة، مناصرة وتبنّ صريحَين للمنظّمات النسوية ولمشاريع القوانين التي تقدمت بها هذه المنظّمات إلى المشرّع، لا مهادنة مع قوانين أحوال شخصية/ عائلية حين تنطوي على تمييز جندري، حسبان المرأة الإنسان/ الفرد لا الدور في الأسرة، إعلاء أمن المرأة وأمانها على «شرف» الأقرباء ومصالحهم، رفض «استحضار «الأخلاق» من أجل تبرير الجريمة الجنسية»،  الإعلان بوجوب «إزالة مسبّبات العنف الجنسي – أي التمييز الجنسي- شرطًا ضروريًا لإزالته»، حساسية متنبّهة للتمييز الجندري في الممارسات وفي قصور التدابير والإجراءات القانونية عن الاستجابة لخصوصيات العنف الجنسي ضد النساء، وحمايتهن منه. وتنهي الباحثة نصها بتساؤلات تظهّر غضبًا / احتجاجًا على تعسّف القوانين وانحيازها الجندري (زلزل، 2016 ب).

لكن ما هو أكثر إثارة للاهتمام، هو الحضور الطاغي للحساسية الجندرية مرافقًا للعملية البحثية في جميع مراحلها، دون الإعلان عن ذلك. ونقدّم مثلًا على ذلك في بحث نوعي للمحامية زلزل نفّذته بطلب من منظّمة «كفى..»، حيث تعمل على تفحّص سرديّات المحاكمات (في المحاكم الجزائية في جبل لبنان حيث المدّعيات نساء) من أجل «تعيين مدى كوْنها مستجيبة للحاجات الجندرية المباشرة والاستراتيجية للنساء». وذلك بتفكيك منهجي ودقيق وتفصيلي للأحكام الصادرة في المدة الزمنية المعيّنة ولسبل تطبيقها متتبّعة نتائج ذلك التطبيق. هي تقوم بذلك في ضوء معايير معلنة فلا تكتفي بتفحص القانون نفسه، بل تجدّ من أجل تعيين موقع بنوده في الحقل القانوني/ الحقوقي برمته؛ وذلك بسبر التفاعل بين بنوده وبين بنود القوانين المرعية الإجراء التي سبقته: قانون العقوبات وقوانين الأحوال الشخصية اللذين يعملان على الحدّ من فعالية القانون، إن لم يخرّباه تمامًا.

لم تفرد الباحثة عنوانًا مستقلًا للمنظومة الجندرية المحدّدة لعلاقات القوى الجندرية ذات التأثير الأعظم في صوغ القوانين الوضعية والدينية وفي استقرارها، وفي سبل تطبيقها؛ لكن التيقّظ النبيه لذلك التأثير كان المصدر الأهم لـ«الإضاءة» – هدف هذه الدراسة – والذي رافق كلّ خطوات التفكيك المذكور سابقًا، فلم يترك تفصيلًا واحدًا متواريًا خلف أحكام تبدو لمنطقها الشكلي «صحيحة»، أو ممارسات تبدو بسبب شيوعها «عادلة».

تصلح هذه الدراسة لأن تكون مثالًا على المقاربة الجندرية لدراسة ما تدّعي دراسته. الباحثة لم تهمل إيجابيات القانون[22]. لكنها لم تنبهر، في المقابل، بـ«بريق» إصداره ولا بالإحصاءات ذات الصلة بتوسّع دائرة تطبيقه. بل هي تفحّصت عن قرب تفاصيل تطبيقاته بدءًا من التبليغ، وانتهاء بتبِعات الحكم الصادر بموجبه بعدسة جندرية تبحث عن الشوائب التي اعترته، وقصوره عن الإحاطة بأوضاع النساء الفعلية، الاجتماعية والنفسية، لا المادية فحسب، وعن التعبيرات التفصيلية في الحالات المحدّدة التي تتجلّى فيها محاصرة تطبيق القانون 203/2014 بقانون عقوبات متقادم (Outmoded)، وبقوانين أحوال شخصية متطفّلة عليه، وقادرة على تعطيل بعض بنوده، وبذهنية تقليدية سمتها الأساسية التنميط الجندري وتضميناته العنيفة، كما الاستحواذ على حيوات النساء وعزلهن عن عيون المجتمع الأعمّ والدولة – القضاء تحديدًا.

وإذ تتابع الباحثة، عبر دراسة الحالات/ المحاكمات ومآلاتها وسلوك المدّعيات، والمدّعى عليهم، لأجل دراسة أكثر اشتمالًا لهذا القانون ولتطبيقاته، فهي تصرّح ضمنًا أنّ النظام الأبوي، وإن «اعترف» قولًا بحق النساء في مواطنتهن، يحتفظ بسبُلٍ يسعها أن تكون مؤثرة في سلب النساء باليسرى ما «أعطاهن» باليمنى. النصّ بمثابة كشف هذه السبل وتعريتها. وأهمية هذا الكشف متأتية من كوْنه، لا يقوم على «المنطق» وحده، إنّما يستند على تفاصيل سلوكية استخرجتها الباحثة من نصوص المحاكمات في رؤيتها الثاقبة التي تتجاوز السطح إلى الطبقات التي يغطيها (زلزل، 2016 أ)

النصّ، ولدى تيقّظه النبيه لفعل المنظومة الجندرية الأبوية، أو لتأثير أحكامها وقيمها على القانون 293/2014، وعلى التحدّيات التي تواجه مسار تطبيقه في كل مراحل ذلك التطبيق، يوفّر مثالًا عن كوْن المقاربة الجندرية لموضوع بعيْنه، لا يسعها إلا أن تكون دائمة التنبّه لأي تفصيل يتسرّب إليه تحت مسمّى «طبيعي» أو «منطقي» أو «شائع» في مفردات الخطاب العام، أو في الأيديولوجيا السائدة في ثقافاتنا الاجتماعية.

4 – السعي إلى تحقيق الصدقية

يقابل اللاحيادية، المعلنة أو المضمرة، سعيٌ حثيث للالتزام بـالدقّة في المعالجة البحثية. هذه الدقّة لمسنا تعبيراتها في الجهد المبذول لضمان صدق الوسائل البحثية المستخدمة، مثلًا، (الصدق الظاهري والثقافي Face and Cultural Validity)) أو العمل على ضمان حسن تطبيقها، كما في الحذر من تعميم النتائج، حين لا يجوز ذلك. أي أنّ الانحياز إلى النساء وقضاياهن، جعل السعي إلى تحقيق الصدقية في الأبحاث ممارسة مرغوبًا بها. وذلك أمر متوقّع؛ فالجهر باللاحيادية يجعل البحث، والباحث، في موقع «المساءلة. هذا الجهر بمثابة استفزاز للقارئ/ الشاهد على البحث ونتائجه، وتحريضٍ له على شحذ ملَكَته النقدية. ولا ضرورة للتأكيد أنّ هذا الجهر يتعرّض لـ«ادّعاء» الالتزام بالحيادية/ الموضوعية في البحوث العلمية. فإذا كانت مواضيع الأبحاث، والاتّجاهات المتبنّاة في منطلقاتها، اللاحيادية أساسًا تجاه مواضيع البحث، وكانت هذه جميعها مخالفة لليقينيات وللمألوف والشائع، فإنّ مثالب تعتور «المنهج» أو «الوسائل»، أو وجود هفوات في مسار التطبيق أو في طرق معالجة المعطيات، أو ضعف في الاستدلال المنطقي لدى صوْغ الاستنتاجات والاقتراحات، إلى ما هنالك من نقاط من مسار البحث… هذه كلّها، (المثالب والهفوات أو الضعف)، تنعكس سلبًا على صدقية البحث وعلى صوغ الاستنتاجات والأحكام والتوصيات؛ فهذه جميعها الغاية من إجراء أبحاث هادفة لدى هذه المنظّمات.

وطالما لم تُعلِ الأبحاث في العيّنة المدروسة طريقة بعينها على الطرائق البحثية المعروفة، فإنّ الالتزام بما تمليه هذه الطرائق، على اختلافها، أمر بديهي الضرورة. وضرورة الالتزام هذه حرِجة في البحوث الجندرية تحديدًا، لأنّها بمثابة تعبيد للطريق الوعر الذي يصل بين منظومتَين جندريّتَين: الأولى هي المنظومة الأبوية وتبِعاتها على مجمل نواحي حيواتنا. والثانية هي المنظومة الجندرية قيد التشكّل، والأكثر تعبيرًا عن أحوال النساء والرجال في عالمنا الراهن. هذه الثانية تتّضح ملامحها، تباعًا، مع عملية تفكيك المركّبات التي يقوم عليها بنيان المنظومة الجندرية الأبوية، وعبر السعي إلى إنشاء بدائل لها تستظلّ بالمبادئ العالمية، المتمثّلة أساسًا بشرعة حقوق الإنسان وتضميناتها المصوغة بالتفصيل في الاتفاقات الدولية ذات الصلة بالمرأة، خاصّة.

أي، إنّ السعي إلى الدقّة في الالتزام المذكور يُسبغ على هذه الأبحاث وعلى نتائجها واستنتاجاتها صفة الصدقية؛ الأمر الذي يُسبغ، بدوره، المشروعية على دعوة القارئ إلى التأمّل في ما هو شائع و«طبيعيّ» وراسخ في المنظومة الجندرية الأبوية. وتوفّر هذه الأبحاث، إضافة إلى ذلك، حججًا تخاطب عقل القارئ ووجدانه من أجل «حثّه» على الاستعاضة عمّا هو «شائع وطبيعي وراسخ» من المعاني والقيم الملحقة بالنساء والرجال، بأخرى أكثر تعبيرًا عمّا آلت إليه الأحوال الراهنة للنساء والرجال؛ وذلك وفق ما بيّنتها، ولا تزال تعمل على جلاء ملامحها، الأبحاث والدراسات النسوية. وهو ما تصبو إليه الناشطات في المنظّمات النسوية حين تدعم أو تجري بحثًا: الحصول على معلومات تكون طرائق الحصول عليها موثوقة لكي يسع ناشطيها الاتكاء عليها في صوغ حججهم، وتحسين أدائهم، في نضال المنظّمة غير الحكومية. وذلك في سعيهم إلى مواءمة واقع النساء والرجال مع المثال المأمول والغايات المرسومة للمجتمع وناسه، حين يتأخر ذلك الواقع عن اللحاق بهذا المثال، من جهة أولى، ومواءمة التعبيرات الثقافية مع واقع النساء والرجال الراهن حين تخاتل هذه التعبيرات حقيقة واقعهم، من جهة ثانية.

5 – ذات بعد جندري

أشير إلى ما يمكن حسبانه إخفاقًا في الالتزام بالمقاربة الجندرية في بعض الأبحاث المدروسة. أتكلّم عن تضمينات إغفال بعض الباحثات والباحثين الذين لم يقدّموا ثبتًا بالمراجع، أو لم يحيلوا كلامهم، في متن نصّهم، إلى دراسات سابقة تناولت الموضوع نفسه، أو بعضه. حين تتجاهل باحثة، مثلًا، أعمال زميلاتها وزملائها المنشورة في الموضوع نفسه، فذلك بيان على القفز عن مرحلة تُعدّ، في البحوث الاجتماعية، ضرورية في مسارها. فـ«الدراسات السابقة» تمدّ الباحث، دائمًا، وكيفما جرى تقييم «جودتها»، بقاعدة لا غنى عنها، في المباشرة ببحثه.

إلى ذلك، فإنّ أكثر من بحث في عيّنتنا تجاهل تمامًا الأبحاث العربية، واللبنانية ضمنًا! وهو ما يتجاهل مبدأً أساسيًا في المقاربة الجندرية. أتكلّم عن الاعتراف بأنّ ما توصّل إليه الباحث هو حلقة في سلسلة معرفية بدأت مع باحثات وباحثين قبله، وبأنّ نتائج بحثه واستنتاجاته ليست بداية البحث في الموضوع، ولا نهايته. فيستوي بذلك ثبت الدراسات السابقة في المراجع، أو الإحالة إليها، لا تواضعًا علميًا مطلوبًا من الباحث فحسب، بل تعبيرًا عن اجتهاد مقرون باتّجاه نسوي يؤكد نسبية المعرفة المُنتجة وظرفيتها. هو توجّه «أخلاقيّ» أساسي في المقاربة الجندرية؛ وخلاف ذلك، أي تجاهل الأبحاث السابقة، هو سلوك «استبعاديّ»، وهو إذًا «ذكوريّ» المنحى، وينطوي على «خيلاء». الاثنان (الاستبعاد والخيلاء) غير مرغوب فيهما في المقاربات الجندرية.

6 – تلخيصًا

رافقَت التقارير والكتابات المعنية بالشأن النسائي وقضايا المرأة انطلاقة النشاط النسائي عندنا في أواسط التسعينيات من القرن الماضي – في الفترة التي تلَتْ توقّف الأعمال الحربية والانشغال بالتحضير لمؤتمر المرأة العالمي الرابع. وبدا أنّ هناك طلبًا على هذه الدراسات جعل بعض الأكاديميات – حتى من كنّ يجاهرن بـ«لانسويتهن» – مطلوبات لإجراء بحوث في المجالات التي تناولتها مقرّرات المؤتمر المذكور. فكان أن تفاوتت الحساسية الجندرية لهذه الكتابات، وتلك التقارير؛ لكنها كانت، مع ذلك، تمهيدًا مرحّبًا به للدراسات النسوية التالية. ولدى متابعة هذه الدراسات عبر السنوات، يُلاحظ تطوّر في المقاربات البحثية المعتمدة في تنفيذها؛ إذ أصبحت، تباعًا، أكثر مراعاة لقواعد البحوث الاجتماعية ومقرونة، غالبًا، بالتصريح بالتزام نسوي عامّ، قوامه الاتفاقات الدولية ذات الصلة بالنساء، ومترتّباتها المعبّر عنها في السياسات الرسمية للدولة اللبنانية ووزاراتها[23].

في بحوث العيّنة المدروسة، يمكن القول إنّ الأبحاث التي تنتجها هذه المنظّمات أكثر «احتّرامًا» لقرائها من سابقاتها[24]، وأكثر جهرًا بالتزامها قضايا النساء، وإن مال بعض الكتّاب إلى إدراج القضية في إطار الحقوق الإنسانية عامّة (صاري، 2017؛ غصوب، 2016). ويبدو أنّ ذلك التطوّر جاء مترافقًا مع اندراج قضايا النساء في الخطاب العام عندنا، في مختلف أبعاده السياسية والتشريعية والقضائية والدينية والاجتماعية، ومع توسّع دائرة المهتمين بها، تاليًا؛ ففي حين كانت بعض البحوث في الشأن النسائي تنفَّذ بـ«خفّة»[25]، مفتِرضًا منفِّذها أنّ دائرة قرائها تُختصر بـ«مؤمنين ومؤمنات»، أصبحت تتوجّه إلى قرّاء طالبي معرفة موثوقة، وإذًا نقديين، فيتعيّن على القائمين بها مخاطبة عقول هؤلاء واتّجاهاتهم الجندرية، أكانت هذه مساواتية(Egalitarian)  أم تمييزية.

في المقابل، فإنّ المجموعة النسوية «صوت النسوة»، ومثيلاتها من المجموعات النسوية الصغيرة الأخرى في مجتمعاتنا[26]، تشغلهن همومًا ومسائل يحتاج البحث فيها مقاربات بحثية مخالفة للسائد. من هذه الهموم والمسائل، مثلًا، الإساءة الجنسية على أنواعها (والتحرّش الجنسي ضمنًا)، التمييز ضد النساء غير المواطِنات (العاملات المهاجرات، أساسًا)، التمييز ضد النساء غير الملتزِمات بالمعايير الجمالية المفروضة (السمينات، مثلًا)، التهميش الذي تعيشه النساء ذوات الهويات الجندرية المغايرة (المِثليات، مثلًا)، معايير الصحّة النفسية المصوغة في النظام الطبي الذكري المنحى، الشعور بالوحدة لدى النساء المهمّشات (ذوات الحاجات الخاصة، مثلًا)، الخلافات بين النساء التي تخرّب تضامنهن ودوام تجمّعاتهن، إلى ما هنالك من أمور تَصِم النساء المعنيات بها، وتشعرهن بالغربة والتهميش. الوصمة والغربة والتهميش تفترض، جميعها، مقاربة بحثية مختلفة تقترحها «صوت النسوة» للإضاءة على أحوال نساء يمثِّلن نسبة «ضئيلة» إحصائيًا، لأجل جعل قضاياهن مرئية وفي دائرة الاهتمام البحثي.

 ختامًا

إنّ مجمل المراجع التي جرت الإحالة عليها في الجزء الأول من هذه الورقة كانت غير عربية. والحال أنّنا قلّما نجد إسهامًا في الموضوع لدى الباحثات العربيات. نقرأ لدى باحثة عربية، مثلًا، تساؤلًا حول إمكانية إنتاج معرفة بـ«الأنثوي» و«رسم معالمه… في إطار ثقافي يتحكم نسقه المضمر(الذكوري) في صناعة التصوّر… عن الأنوثة»، الأمر الذي يضع، برأيها، عوائق ثقافية أمام أفق الدراسات النسوية تتعلّق «بتكوين الباحثة وذهنيتها وخضوعها لنسق ثقافي يجعلها تستبطن أشكال القمع والتابوهات الثقافية/ الاجتماعية/ السياسية ويؤثّر في طبيعة الدراسات النسوية» (بيومي، 2012). ونقرأ لدى باحثة ثانية أنّه من «الضروري مراجعة استراتيجياتنا البحثية بصورة دائمة، ومساءلة النظريات والمفاهيم، واعتماد مقاربات نوعية تتعامل مع الظواهر المعقّدة بتمايزاتها وسياقاتها، بعيدًا عن المسلّمات، والتعميمات»، مُستنتجة إثر مراجعتها لأبحاث في مجالات مختلفة وجود «ترهيب فكري» استبطنته الباحثات، ومن تعبيراته، مثلًا، «الوقوع في فخ التنميط الجندري» (القادري، 2012).

هذان المثلان بيان على أنّ الباحثات عندنا لسن غافلات عن أهمّية المقاربات البحثية في إنتاج معرفة حساسة لمعيش النساء. لكننا لا نلمس تراكمًا لإسهامات بارزة تعبيرًا عن انشغال منهجي بالموضوع. فلو أخذنا، مثلًا، مدارات (Themes) مؤتمرَين أقيما في صيف وخريف 2019، تناول الأوّل[27] «رصد وتوثيق تجارب الدراسات الجندرية في الجامعات والمراكز البحثية العربية»، فإنّ الجامعات، ولدى الكلام عن المناهج الدراسية في الأقسام المعنية بالدراسات الجندرية لم تخصّص أرصدة(Courses)  للمقاربات والمناهج البحثية. المراكز البحثية، من جهتها، ولدى استعراض مُخرجاتها، لم تبرز نتاجًا خاصًّا بتلك المناهج. ويمكن تكرار الكلام نفسه في وصف المؤتمر الثاني[28]، وعنوانه «أوضاع الدراسات الجندرية وأولوياتها في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا»؛ إذ لم تُلقَ ورقة واحدة من أصل عشرات الأوراق[29] في موضوع المقاربات البحثية في الدراسات الجندرية! فإذا كانت مؤتمرات معنيّة بتقديم جردة باهتمامات مراكز الأبحاث الجندرية، وبأوضاع الدراسات الجندرية حاليًا وأولوياتها في الوطن العربي، فإنّ غياب موضوع «المقاربات البحثية» عن مؤتمرَين عقدا حديثًا عن الجندر، يمكن حسبانه خفوتًا في الانشغال بذلك الموضوع، عامّة، مقارنة بالمواضيع الأخرى ذات الصلة بالبحوث الجندرية. في هذَين المؤتمرَين لم تكن المنظّمات غير الحكومية غائبة عن المشهد، فيصحّ ما نقوله عنها، كما عن الأكاديميا بالسوية نفسها.

الدراسات التي أنتجتها منظّمات غير حكومية في التيّار الأوسع تحاول الإجابة عن أسئلة محدّدة ذات تطبيقات عملية (أطلقنا عيها في هذه الدراسة صفة «هادفة»)، وهي نفِّذت في إطار نظرية عنوانها «المقاربة الجندرية للتنمية»، وتتناول الحاجات الجندرية الآنية، تحديدًا. وهذه صاغت طروحاتها منظّمات الأمم المتحدة المعنية بالشأن النسائي أساسًا، وجرى تبنِّيها – شرط تبَيْئِتها – على نطاق واسع عندنا، كما لدى غيرنا من المجتمعات. وبسبب هذا الشيوع، استقرّت المقاربات البحثية المعتمدة في هذه الدراسات في السائد، فلا يعثر القارئ على «قلق» يسائل أهلية تلك المقاربات لجلاء أوضاع الفئات النسائية المستهدفة، والوضعيات المحيطة بهن.

مجموعة «صوت النسوة، أسوة بالمجموعات النسوية الشابة عندنا، لا يرين إلى النساء بوصفهن كتلة متجانسة؛ ويولّين اهتمامًا خاصًّا بفئات نسائية «مهمّشة» اجتماعيًا، وفي حقل الدراسات النسائية تاليًا. هذه المجموعة تقترح مقاربة بديلة لتناول الشؤون والقضايا النسائية تتمثّل بتراجع الباحثة (أو الباحث) أمام المبحوثة، لتستوي الأولى مجرّد شاهدة على قول هذه الأخيرة، ومُصغية لبوْحها، ومسجّلة لقصة حياتها؛ لتكون، بذلك، مستمِعة متلقّية ريثما تبتدع، مع المبحوثة، طرائق مخالِفة للطرائق «الذكورية والأكاديمية المتسلّطة دون حق». هذه المجموعة، تقترح أفرادها، واقعًا، إزاحة بؤرة ممارسة سائدة في البحوث الاجتماعية: ففي حين كانت الباحثة (أو فريق البحث) تحتل موقعًا رئيسيًا ومبادرًا في مسار العملية البحثية، فهي ستضع نفسها في الهامش مخلّية موقعها لمواضيع بحثها، جاعلة إياهنّ مصدر المعرفة المرغوبٌ جلاؤها بالإصغاء إلى قولهن ومتابعة تتالي تقلّبات إيقاعاته.

إزاء مسألة المقاربات البحثية في الدراسات النسائية التي تنفِّذها المنظمات والمجموعات النسوية عندنا هناك، إذًا، توجّهان: السائد، المطمئِن والمستقر، من جهة، والآخر القلِق و«المغامر في المجهول»، من جهة ثانية. وكما هي الحال في المقاربات الجندرية للأبحاث النسائية، فإنّ التوجّهَين يتجاوران بـ«سلام»، فلا نجد مظاهر صراع يسعى من خلاله إلى استنابة واحدهما للآخر، ولا نقدًا بنّاء لأجل استمالة واحدهما للآخر، في الفسحات الثقافية المتاحة عندنا.

من نافل القول إنّ تطوّر الأبحاث النسائية، إن في الأكاديميا أو على ضفافها (في المنظمات النسوية، مثلًا) يستوجب اللقاء والتفاعل بين التوجّهَين المذكورَين؛ هذا الوجوب متضمّن في المقاربات الجندرية، عامّة. هناك محاولة خجولة، محتاجة للتطوير، للتبادل بين باحثات من التيّار الأوسع ومن المجموعات النسوية الشابّة، عندنا، تمثّلت بمبادرة كلٍّ من الطرفَين لمشاركة الآخر في نشاطاته الثقافية/البحثية[30]. الأمر الذي يعبِّر عن «رغبة ما» في التبادل، ويجعل التفاعل بين الفئتَين محتمل الوقوع، ومحتاجًا تحقيقه لمبادرة يسعها تفعيل هذه الرغبة لتصبح واقعة حبلى بإمكانات تستحقّ «المغامرة»، وتجعل تحقيقها لا يقع في دائرة «المجهول».

 

قد يهمكم أيضاً  تمثلات الجندر عند الشباب العربي: بين الاجتماعي والأكاديمي

#مركز_دراسات_الوحدة_العربية #المقاربة_الجندرية #المقاربة_الجندرية_في_الأبحاث_النسوية #النسوية #الجندر #النوع_الاجتماعي #الدراسات_الهادفة #منظمات_نسوية #دراسات_المنظمات_النسوية #المنظمات_النسوية_اللبنانية #المرأة